ضرورة التصدي للحرب النفسية على السودانيين ومحاولات الحط من قيمهم
تاريخ النشر: 15th, December 2023 GMT
ندرك تماماً ما أصاب منظومة قيمنا في العهود الأخيرة، لكننا لا نصدق أبداً السردية المرافقة للحرب التي تريد أن تجعلنا عراةً حفاةً من الأخلاق!
عشرات البوستات والتسجيلات الصوتية تترى يومياً لتنزع عنا الأمانة والكرم والنزاهة. وكل ذلك هراء وعبث، ويشكل جزءاً من هذه الحرب العبثية الدائرة. جزء كبير من أهداف هذه الحرب يستقصد القيم، وإلحاق الهزيمة النفسية بنا، ودفعنا إلى الإحباط والتخلي عن بلدنا.
نعم، لدينا جنجويد بالآلاف، ومليشيات وحركات مسلحة، وطغمة عسكرية فاسدة تستأثر بنحو ٨٢ في المائة من موارد الدولة، ولدينا كيزان وأشباه كيزان نحو نصف المليون، وآلاف من "النهّابة والنهّابات" الذين اعتدوا على البيوت بعد أن نزح عنها أهلها، ولدينا فوق ذلك حرامية وسماسرة واستغلاليون وكذابون كذا مليون. لكن كل هؤلاء ليسوا أنت، وليسوا أنا.
احفظوا ذلك: هؤلاء ليسوا أنت، وليسوا أنا.
والأسواق ليست كلها أسواق "دقلو".
قالوا لنا: في مدينة كذا بلغ الجشع والاستغلال بالناس درجة أنّ إيجار الشقة وصل إلى مليار جنيه. وترى الكل يجلد نفسه والكل يبكي!
ولم يسأل أحد عن عدد الشقق وعدد البيوت التي استئجِرت بهذه المبالغ!
نصدق هذا الهراء وكأن مدن شندي وكوستي ومدني ومروي والفاشر والضعين بها مئات الأبراج السكنية وفي كل برج مئات الشقق المعروضة للإيجار!
كل هذه الهيلمانة لا تتعدى عشرات الشقق ومئات البيوت!
وإذا أحصينا نسبة الذين استأجروا شققاً وبيوتا من النازحين إلى الأقاليم، نجد أنها لا تتعدى الواحد في المائة!
أما السواد الأعظم من النازحين، أي أكثر من ٩٠ في المائة، فهم "ساكنين مِلٍح" في بيوت الأقرباء والمعارف، لا يدفعون قرشاً ولا تعريفة!
سألت ابني أنس الذي نزح من أركويت إلى جبرة لمدة أسبوعين ثم إلى اللعوتة في الجزيرة لمدة شهر، ثم إلى القضارف في طريقه مع أمه إلى الحبشة:
كم كان عددكم في المنزل؟ تلاتين!
هل دفعتم إيجارا عندما حولوكم إلى بيت فارغ؟ لا يابا، ملح ساااكت!
هل دفعتم حق الأكل؟ لا يا بابا، ديل كانوا بغسلوا لينا ملابسنا!
وذكرت لي الدكتورة ف. ع. ز. أنها شاهدت وعايشت ما يجعل القلب يرتجف فرحاً. فأهالي المنطقة جميعا يتقاسمون الأسرّة والأفرشة وكبابي الشاي والحِلل والصحون والملايات والثياب مع النازحين من سكان الخرطوم. بل ترك بعض أهل المنطقة منازلهم الخاصة بفراشها وانضموا لمنزل الأسرة الكبيرة حتى يتمكنوا من استضافة النازحين في منازلهم. وسارع أصحاب البيوت التي تحت التشييد إلى أكمال النواقص من أبواب وشبابيك لاستخدامها في إيواء النازحين. وتمضي الدكتورة قائلة: في وقت الغروب ترى المزارعين يأتون فرادى وجماعات يوزعون اللبن والخضروات من مزارعهم على بيوت الوافدين الذين هم لا تربطهم بهم أي صلة قرابة أو معرفة.
أيها السادة والسيدات، الغافلون والغافلات، عليكم أن تعلموا أن معظم النازحين، في الأقاليم أو في المناطق الآمنة في العاصمة، "مُمَلِّحين"، لا يدفعون إيجارا ولا يشترون قوتا!
عليكم أن تعلموا أن عدد سكان البيت الواحد في الأقاليم والمناطق الآمنة في العاصمة قد تضاعف من ثلاثة إلى عشرة أضعاف!
على سبيل المثال، الساكنون في بيت ط. م. في كوستي أكثر من خمسين!
والساكنون في بيت الموظف البسيط أ. م. في ربك ارتفع من خمسة أشخاص إلى ثلاثين!
نعم، أصبح من المألوف أن تجد ثلاثين أو أربعين رجلا وامرأة وطفلا في البيت الواحد!
ولكننا نغمض أعيننا عن كل هذا ونركز على شقتين أو ثلاثين شقة أو مائة شقة وصل إيجارها إلى مليار جنيه!
فلنسأل أنفسنا: هل هؤلاء النازحون الذين نجوا بجلودهم من حرب الخرطوم ونيالا خرجوا وهم يحملون المليارات؟
وهل جميع المغتربين قادرون على دفع إيجارات لأقرابهم بالمليارات؟
ثم السؤال البدهي: هل هناك شقف فارغة أصلا لاستيعاب النازحين، أم أن هناك فقط عشرات الشقق والبيوت المعروضة للإيجار في كل مدينة؟
لا توجد شقق، ولا بيوت فارغة للإيجار، ولكن توجد بيوت وحيشان ودواوين حدادي مدادي لاستقبال الزوار "مِلِح".
وفوق ذلك توجد قلوب تسع جميع الأهل مهما كان عددهم.
نحن نعيش على قيمنا أيها الناس!
قيمنا في التضامن، واقتسام النبقة، هي كنزنا الحقيقي!
لقد بقيت قيمُنا فبقينا!
ولولا هذه القيم لفنينا!
فطالما بقيت القيم، فإن البيوت والمصانع والشوارع والبنية التحتية لم تتهدم في الحقيقة.
وفي حالة الإحباط الناتجة عن صدمة الحرب، يجب ألا نصدق أؤلئك الذين يريدون نزع الثقة من نفوسنا، وإلحاق هزيمة معنوية بنا قبل الهزيمة العسكرية، بل يجب أن نكون على ثقة تامة بأننا لا نزال على قدر عظيم من القيم الإنسانية التي يندر وجودها في عالم اليوم.
يكفينا اعتزازاً (فنحن لا نفتخر) أننا في ظل هذه الحرب تمكنا من البقاء بفضل قيمة التضامن الإجتماعي لدينا: أقل من عشرة في المائة من السكان أعالوا أكثر من ٩٠ في المائة.
وهذا مما لا مثيل له في أي مكان.
في أحياء الثورة لم يعد لمعظم السكان رواتب ولا مصدر لكسب العيش. فكيف يأكل الناس، وكيف يتعالجون، وليس هناك أمم متحدة ولا منظمات إغاثة؟
كل هؤلاء يعيشون بفضل قلةٍ قليلة مستطيعة في الداخل وبفضل المغتربين والمهاجرين.
ما من مغترب في الخليج أو مهاجر في أوروبا أو أمريكا إلا وقد سخر موارده بالكامل ليس فقط لأسرته وأقاربه، بل أيضا للجيران والأصدقاء والمعارف، ولأشخاص لا يعرفهم.
ليس لدينا مؤسسات تهتم بالإحصاء، ولكني أمضي إلى القول بلا تردد: إن كل سوداني وسودانية قد سخر كل ما لديه لمواجهة احتياجات أهله ومعارفه وأصدقائه ولأعمال الخير عامة. وهناك كثيرون دخلوا في ديون من أجل سد احتياجات أهليهم!
ومن الإشراقات الجميلة أن خدمة بنكك قد استمرت طوال الحرب، وساهمت مساهمة عظيمة في إغاثة الناس. وفي هذا الصدد، دعا أحد الأصدقاء إلى المطالبة بمنح خدمة بنكك جائزة نوبل للسلام!
وعلى صعيد المطالبات، لا نبالغ أيضا إن طالبنا اليونسكو باعتبار قيمة التضامن الاجتماعي في السودان تراثاً إنسانياٍ عالميا ينبغي صونه والمحافظة عليه من أجل البشرية! إن قيمنا في التضامن الإجتماعي تمثل إستراتيجية تكيف مع الأوضاع الصعبة ما أحوج عالمنا إليها.
elrayahabdelgadir@gmail.com
///////////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی المائة
إقرأ أيضاً:
منبر الضمير.. من القيم إلى الفضائح
حين ماتت الرسالة واختفى الضمير تحت عجلات «اللايك» والمشاهدات، في زمنٍ صار فيه «الترند» هو الإله، ومؤشرات المشاهدة هي المعيار الأعلى، انحرفت بوصلة الإعلام عن مسارها الأخلاقي، وضاعت هيبة الكلمة بين هتافات الإثارة الرخيصة وركام الفضائح.
الإعلام الذي خُلق ليكون ضمير الشعوب ولسان الحق، أصبح اليوم منصة لتفريغ الخصوصيات، وتلميع الزيف على حساب القيم والمبادئ أحيانًا كثيرة، فهل انتهى عصر الإعلامي الذي يحمل همّ الناس؟ وهل ماتت مهنة كانت تُشبه رسالة الأنبياء؟
الرسالة التي ضاعت.. الإعلام ليس مهنة بل موقفلم يكن الإعلام يومًا وظيفة تُؤدى داخل الاستوديوهات فقط، بل كان صوتًا حيًا في الشارع، نبضًا في قلب الأزمات، ضوءًا يُضيء عتمة الجهل، ويدًا تمتد لتربّت على كتف المظلوم.
الإعلام الحقيقي هو الميثاق الأخلاقي للضمير الذي يرفض التزييف والتلميع على حساب المظلوم، هو الإعلام الذي يُحرّم التشهير، ويُلزم بالتحقيق الدقيق كي يرفع الحق وينصر المظلوم ويدافع بشرف عن أي قضية تقلق الجمهور.
هو من يفتح الملفات المسكوت عنها، لا من يتاجر في مشاعر الناس وحياتهم الخاصة، نشتاق لأيام أحمد سمير ووقاره، ولحكمة مفيد فوزي حين يسأل، ولرصانة طارق حبيب، ولثقل ليلى رستم حين تنظر بعين المثقف لا بعين الصيّاد.
من صالة التحرير إلى حلبة السيركصار بعض الإعلام اليوم أقرب إلى السيرك منه إلى منصة الوعي، نرى صراخًا لا نقاشًا، ودموعًا مصطنعة لا مشاعر، وموضوعاتٍ تافهة تحصد ملايين المشاهدات، بينما تُهمّش القضايا الحقيقية التي تحرق قلوب الناس.
تُعرض مشاجرات الأزواج على الهواء، وتُفتح ملفات الخيانة وكأننا في ساحة انتقام لا شاشة وطن، وبدل أن نُربي جيلًا يُفكر، نُقدّم له وجبة "ترفيه سامة" تجعله يستهلك لا يفكر، يتابع لا يشارك.
سقوط أخلاقي تحت اسم «الجمهور عايز كده»«الجمهور عايز كده» أصبحت الشمّاعة التي تُعلّق عليها كل الخطايا المهنية، لكن الحقيقة أن الجمهور ليس غبيًا، بل هو ضحية إعلام يُغذّيه بما يُريد هو، لا بما يحتاجه الناس، الجمهور كان وما زال يُحب الحقيقة، يُقدّر الصدق، ويشتاق لإعلامي جريء يُسائل، لا مهرّج يُصفّق.
أين ذهب ميثاق الشرف؟في الماضي، كان الإعلامي يعرف أنه يقف أمام الكاميرا وكأنها محكمة ضمير، يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسب الآخرين.
الميثاق الأخلاقي للإعلام.. يرفض التزييف، ويُحرّم التشهير، ويُلزم بالتحقق من المصدر.
أما اليوم، فالكثير لا يبحث إلا عن لقطة مثيرة تُقطع وتُوزّع على السوشيال ميديا، تُشعل الجدل ولو كانت كاذبة، وتُحطّم سمعة إنسان ولو كان بريئًا.
قيمة الكلمة.. الإعلامي الذي كانت كلمته سيفًافي زمن حمدي قنديل، لم تكن الكلمة مجرد جملة تُقال، بل كانت قنبلة وعي تُفجّر الصمت، حين كان يقول: "أقول لكم.. .لا"، كانت كلمته تُربك، تُحاسب، تُحرّك الرأي العام.
أما اليوم، فالكلمة أصبحت مفرّغة من معناها، تُقال بلا إحساس، وتُنسى بمجرد انتهاء الحلقة.
الفرق ليس فقط في الأشخاص، بل في الإحساس بالرسالة.
الإعلام الجديد.. فرصة ذهبية أم خنجر في الظهر؟لا شك أن المنصات الرقمية فتحت الباب للجميع، وأتاحت الفرصة لمواهب حقيقية أن تظهر، ولكنها أيضًا منحت المايكروفون لمن لا يستحق، والكاميرا لمن لا يعرف أبجديات المهنة، هناك من الشباب من بدأ يُعيد الأمل، ويُنتج محتوى نقيًا، ويُقدّم طرحًا ناضجًا، لكنهم يُدفنون تحت زحام التفاهة، في سوق تُسيطر عليه حسابات التسويق لا حسابات الضمير.
حين يسقط الإعلام.. .تسقط الأممالإعلام هو العمود الفقري لأي مجتمع، وإذا انكسر هذا العمود، انحنت الأوطان، وضاعت الحقيقة بين صخب الأكاذيب.
لسنا بحاجة لإعلام يُصفّق، بل لإعلام يُراقب، يُحاسب، يُنير العقول لا يُطفئها، فليت الإعلامي يسأل نفسه قبل أن يبدأ البث: «هل سأُخرج بحلقتي هذه إنسانًا أكثر وعيًا أم أكثر تيهًا؟ هل أُرضي ضميري أم أُرضي مؤشرات المشاهدة؟»
الإعلام ليس مهنة لمن لا ضمير له، الإعلام ساحة شرف، لا ساحة ترند.
الإعلامي الحقيقي.. تطهير الذات قبل تصدير الرسالةفي وسط هذا الانحدار، لا بد للإعلامي الحقيقي أن يبدأ معركته من الداخل: تطهير النفس من شوائب المصلحة، وتنقية الرسالة من دنس الاستعراض، الإعلامي الذي يؤمن بقدسية الكلمة، عليه أن يتطهّر من الانجراف وراء اللايك والترند، ويعود إلى ميدان الشرف والكلمة الحرة.
بلادنا اليوم لا تحتاج إلى مُعلّقين يُجيدون الصراخ، بل تحتاج إلى إعلاميين يُجيدون البناء، الإعلامي يجب أن يكون شريكًا في نهضة الأمة، لا عائقًا أمامها، حافرًا في الصخر لنشر الوعي، لا ناقلًا للفضائح باسم الترفيه، لقد جاءت لحظة الحقيقة، وعلى الإعلامي أن يختار: إمّا أن يكون لسانًا لنهضة وطن، أو أداة في هدم ضميره وضمير أمّته.