نجح الإضراب العالمي من أجل غزة، وبنسب يمكن القول؛ إنها أكثر من عالية، قياسًا إلى مبادرات تضامن سابقة مماثلة. يشعر الفلسطينيون في غزة بأنهم وحدهم، وهم ليسوا كذلك، فالشعوب التي ترفض السياسات الرسمية تتفاعل في حراك لم يسبق له مثيل عالميًا.

لفلسطينيي غزة الحق في ذلك الشعور بالخِذلان؛ في ظل غياب التحرك الرسمي من أجل استخدام أدوات تملكها الحكومات، وتستطيع تفعيلها من أجل وقف العدوان، لكنّ العجز السياسي- في مقابل الفاعلية الشعبية- يبدو من تجليات قديمة جديدة لإقليم يعاني من الاستعمار القائم فعليًا بوجود القاعدة الدولية المتقدمة المتمثلة بإسرائيل، لكنه إقليم يصارع من أجل الاستقلال بكل الأحوال.

المقاطعة سلوك فاعل

تشكل الاستجابات الفريدة فواعل مهمة في جوانب التأطير والتنظيم، وهي تعتبر أمرًا جوهريًا في عملية إنتاج الفاعلية العامة، والموقف السياسي في مستويات أعلى.

فالإضراب الذي دعا له نشطاء أفراد – واستجابت له الشرائح الاقتصادية التي تمثل الوجه المباشر للسوق – هو في حد ذاته تعبير متكامل عن أثر الفاعلية الفردية في تشكيل رأي عام أوسع، يشمل النخبة المجتمعية، سواء سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فنية، أو غير ذلك من جوانب لا تزال تتفاعل مع الحدث الفلسطيني بشكل كبير.

من جوانب الاستجابات الفردية الفاعلة – التي ترددت آثارها في مستويات فوق فردية- كانت فكرة المقاطعة، التي ترتفع كل يوم لتشكل أعظم سلوك تضامني فردي، متجاوزًا إطار العجز الذي يقيّد فاعلية التضامن من التأثير في السياسات العامة للدولة أو للمنظمات الكبرى؛ بفعل مواقف صنّاع السياسة المنحازة لإسرائيل، أو الخائفة من تداعيات مناهضتها.

لقد كانت المقاطعة من العناوين التي تشكلت في الوعي الجمعي لحركة التضامن العالمية، وانعكست كسلوك ملموس في هذه الحرب، وفي الشارع العربي على وجه الخصوص. حجم الاستجابات الفردية انعكس على سلوك المؤسسات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة التي قاطعت المزودين من الشركات الكبرى، وأصبح طبيعيًا أن تدخل بعض المطاعم أو المقاهي أو محلات البقالة لتجد سلوك المقاطعة قد سبقك بخطوة؛ نتيجة فراغ الرفوف وقوائم الطلبات من المنتجات التي استهدفتها حملة المقاطعة.

تجاوزت المقاطعة في هذه الحرب الإجراء العقابي بحق الشركات المتورطة بدعم الاحتلال، إلى تبلورها كالتزام أخلاقي يصبح تجاوزه مكلفًا على صعيد السمعة لأي فرد أو مؤسسة اقتصادية ذات تفاعل مباشر مع المستهلك.

التزام أخلاقي

قلة من الشركات الاقتصادية في المناطق العربية، ذات الزخم التضامني، قادرة على تحمّل موقف المستهلك، وهو يرى منتجات المقاطعة على الرفوف. وقلة من المستهلكين يمكنهم تجاوز وجود منتجات ارتسمت في المخيلة كقطع سلاح على الرفوف دون تفاعل ما.

هذا التطور الحالي بانتقال سلوك المقاطعة إلى المستويات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، وتبلور المفهوم كالتزام أخلاقي، مسألةٌ غاية في الأهمية عند الحديث عن فاعلية الاستجابة الفردية في تشكيل إطار، لا يُنظِّم فقط المتفاعلين والمتضامنين، وإنما استجابة تفرض نفسها كقيد سلوكي وأخلاقي لا يمكن تجاوزه حتى لو وُجدت الرغبة بذلك.

هذا التطور من شأنه أن يمهّد الطريق لانخراط أوسع على مستويات مؤسسية أعلى، خاصة عندما تدفع الاستجابة الفردية ذات الصلة المباشرة معها من أجل تكوين رأي وسلوك عام. فربما لم يقتنع بعض أصحاب المحلات التجارية بفكرة الإضراب، وقد شهدت صفحات السوشيال ميديا نقاشًا ليس جديدًا حول الجدوى من هكذا مبادرات، لكن الالتزام كان عامًا وشمل الغالبية الساحقة في شوارع المدن ذات الحضور التضامني العميق، مثل: عمّان وإسطنبول، وغيرهما من مدن اعتادت أن تحتضن زخم الحراكات الشعبية مع فلسطين.

الفكرة الأساسية التي تطرح نفسها هنا، أن الفرد وسلوكه واستجابته للمبادرات التضامنية، هي الأساس، وبدون ذلك لا يمكن توقع مشاركات ذات مستويات أعلى، بما فيها استجابات في الجانب السياسي.

مواقف سياسية لافتة

لقد خرجت مظاهرات في جميع أنحاء العالم، والزخم الحاصل من هذه المظاهرات في بعض العواصم حفّز صانع السياسات من أجل تطوير مواقف سياسية تنأى بنفسها عن المذبحة، ولو عن غير رغبة أو اصطفافٍ في جانب الضحايا.

لقد تبنّت فرنسا موقفًا مبكرًا يدعو لوقف إطلاق النار، مخالفةً بذلك إجماعًا غربيًا على رأسه الولايات المتحدة الأميركية. ولم يبدُ لكثيرين أن الموقف الفرنسي منسجمٌ مع سجل طويل- من العلاقة المضطربة بين فرنسا والإسلام- كان طَوال السنوات الماضية الأكثر إثارة للجدل.

هذا الموقف كان في الغالب متأثرًا بالقوة الدافعة للشارع الفرنسي الذي تتزايد فيه نسبة الدعم للفلسطينيين بشكل كبير، والذي يُصنف – حسب استطلاعات رأي مرموقة – على أنه الأعلى في أوروبا، بنسبة تتجاوز 47% قبل الحرب.

كما أن أمثلة التأثر والتأثير باستجابات الأفراد وتراكمها على المستويات السياسية، باتت أكثر من أن تُحصى، مثل الاعتراض الجماعي داخل الجهاز البيروقراطي لدوائر صناعة القرار في الغرب، منها داخل هيئات الاتحاد الأوروبي، ووزارة الخارجية والكونغرس الأميركيين.

خسائر موجعة

لقد كانت خسائر "ستاربكس" مثالًا فريدًا لأثر المقاطعة في هذه الحرب، حيث أُعلن عن خسائر تجاوزت 11 مليار دولار، هي الأولى من نوعها منذ تأسيس الشركة. وقد عزت مجلة "نيوزويك" الأميركية سبب هذه الخسائر للاضطرابات التي شهدتها الشركة في ظل مقاطعة واسعة النطاق، بعد قيام الشركة بمقاضاة نقابة عمّالها؛ إثر نشر الأخيرة عبارة تضامنية مع الفلسطينيين في بدايات الحرب على حسابها في منصة "X".

لقد قامت شركة "ستاربكس" في الشرق الأوسط بإصدار بيان للنأي بنفسها عن الشركة الأم في الولايات المتحدة. وفعلت كذلك قبلها فروع مطاعم "ماكدونالدز" في المنطقة، بعد حملة مقاطعةٍ واسعة بسبب تبرع مطاعم "ماكدونالدز" الإسرائيلية بوجبات مجانية للجنود الذين ينفذون حملة الإبادة بحق السكان المدنيين في غزة.

ومثال غير حصري على تفاعل المستويات المؤسسية مع استجابات الأفراد ذات الصلة، كانت نقابة العاملين في الجامعات والكليات في بريطانيا، التي طلبت من إدارة الاستثمار لديها تجنب استثمار صندوقها التقاعدي- الذي تبلغ قيمته حوالي 19 مليار دولار- في أي شركات متورطة في دعم الاعتداءات على غزة أو في دعم الاستيطان غير القانوني في الضفة الغربية.

مفاهيم جديدة

مثل هذا الاتجاه لم يكن ممكنًا بدون رأي عام تشكّل ابتداءً من أعضاء النقابة، والتطور اللافت لسقوط رواية الاحتلال في الأوساط الأكاديمية، التي باتت تتعرض لحملات تقييد وتضييق لا تشبه إلا تلك المحكومة بفروع أمن السلطة الدكتاتورية. والمثال الصارخ الأخير كان إجبار رئيسة جامعة بنسلفانيا الأميركية على الاستقالة؛ بسبب موقفها الذي أثار جدلًا حول ما يمكن اعتباره معاداةً للسامية في تعبيرات التضامن مع فلسطين داخل حرم الجامعات.

كانت هذه الحادثة غير مسبوقة، ليس بسبب الاستقالة، وإنما بسبب تدخل المتبرعين في حملة الضغط، حيث أوقف مانحون كبار تبرعاتِهم في سابقة حول التدخل المباشر للمتبرعين في تحديد مواقف المؤسسات الأكاديمية في الغرب.

نقف بكل المقاييس أمام مشهد يقوم بإنتاج مفاهيم جديدة، ويعيد تعريف القيم ومعاييرها. حرب غزة لم تصنع تضامنًا عاديًا مع فلسطين، وإنما أشعلت حركة عالمية عمادها جمهور عريض ومؤسسات مجتمع مدني وجدت نفسها داخل مطحنة الاستقطاب بين النخبة السياسية والرأسمالية المتحكّمة، وبين أخلاق وقيم الرأي العام، وهي مطحنة تقول قواعد الميكانيك: إن اشتداد رحاها لن ينتج إلا طحينًا أكثر نقاءً.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: من أجل

إقرأ أيضاً:

يدني سويني تكشف تفاصيل عن موجات الكراهية التي طالتها على السوشيال ميديا

شاركت الممثلة الأمريكية سيدني سويني تجربة صادمة من حياتها المهنية خلال مشاركتها في سلسلة فيديوهات اختبار كشف الكذب التي نشرتها مجلة فانيتي فير. وظهرت سويني إلى جانب الممثلة أماندا سيفريد في حلقة كشفت عن جوانب غير معروفة من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حياتها اليومية ومسيرتها الفنية.

كشفت سويني سيطرة المحتوى السلبي على حسابها العام

أوضحت سيدني سويني خلال الجلسة أن صفحتها على تطبيق تيك توك اختلفت بشكل كبير باختلاف الحساب المستخدم. 

وأكدت أن حسابها الشخصي عرض محتوى ثقافي وتعليمي مثل الحقائق التاريخية والفنون والحرف اليدوية. بينما امتلأت صفحة حسابها العام المخصص للظهور الجماهيري بمحتوى سلبي وتعليقات تحريضية استهدفتها بشكل مباشر.

علقت سيفريد على التجربة برد فعل غاضب

تفاعلت أماندا سيفريد مع حديث زميلتها بطريقة عفوية وغاضبة. وانتقدت التطبيق نفسه معتبرة أن الخوارزميات ساهمت في تضخيم الخطاب السلبي. 

وعكست هذه اللحظة تعاطفاً واضحاً بين الممثلتين وسلطت الضوء على التحديات النفسية التي تواجهها النجمات في الفضاء الرقمي.

واجهت سويني حملات انتقاد متكررة عبر الإنترنت

تعرضت سيدني سويني على مدار مسيرتها المهنية لسلسلة من حملات الكراهية الإلكترونية. وتصدرت عناوين الأخبار هذا العام بعد إطلاق حملة إعلانية لعلامة أمريكان إيجل الخاصة بالجينز. 

وأثارت الحملة جدلاً واسعاً بسبب الشعار المستخدم الذي فسّره البعض على أنه يحمل دلالات عنصرية وتمجيداً لمعايير جمالية إقصائية.

أوضحت سويني موقفها من الجدل الإعلامي

صرحت سويني في مقابلة لاحقة مع مجلة PEOPLE بأنها شاركت في الحملة بدافع حبها للمنتج والعلامة التجارية فقط.

 ونفت تبنيها لأي دلالات أيديولوجية أو عنصرية ربطها بها بعض المتابعين. وأكدت أن كثيراً من الاتهامات التي وُجهت إليها افتقرت إلى الأساس الواقعي.

اعترفت سويني بتغيير أسلوب تعاملها مع الانتقادات

أقرت الممثلة الأمريكية بأنها اعتمدت سابقاً سياسة الصمت تجاه التغطيات الإعلامية سواء كانت إيجابية أو سلبية، لكنها أدركت لاحقاً أن هذا الصمت ساهم في توسيع فجوة سوء الفهم. وأعلنت نيتها اعتماد خطاب أكثر وضوحاً يركز على التقارب ونبذ الكراهية والانقسام.

عكست تصريحاتها وعياً بتأثير المنصات الرقمية

عكست تجربة سيدني سويني وعياً متزايداً بتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الخطاب العام والصحة النفسية. 

وأبرزت تصريحاتها أهمية استعادة الصوت الشخصي في مواجهة حملات التشويه الرقمية. 

وأكدت أن رسالتها المستقبلية ستركز على ما يوحد الناس بدلاً مما يفرقهم.

ارتبط ظهورها الإعلامي بأعمال فنية جديدة

تزامن هذا الظهور مع اقتراب عرض فيلمها الجديد الخادمة في دور السينما. ومن المتوقع أن يشكل العمل محطة جديدة في مسيرتها الفنية التي واصلت من خلالها جذب اهتمام النقاد والجمهور على حد سواء.

مقالات مشابهة

  • جوتيريش: الهجمات التي تستهدف قوات حفظ السلام في جنوب كردفان ترقى إلى جرائم حرب
  • كانديس أوينز.. اليمينية السوداء التي ناصرت فلسطين وعادت الصهيونية
  • طارق الشناوي: السوشيال ميديا حالة مرضية ولا تُمثل الرأي العام
  • يدني سويني تكشف تفاصيل عن موجات الكراهية التي طالتها على السوشيال ميديا
  • نائب وزير الدفاع البريطاني يعترف بسعي لندن إلى "عسكرة" الرأي العام في البلاد
  • 9 مرشحين فازو إلى الآن.. الوفد يحصد أول مقاعده الفردية بانتخابات النواب
  • تشكيل منتخب فلسطين لمواجهة السعودية في ربع نهائي كأس العرب
  • تشكيل السعودية لمواجهة فلسطين في ربع نهائي كأس العرب
  • كأس العرب 2025.. تشكيل المنتخب السعودي لمواجهة فلسطين
  • سالم الدوسري يقود تشكيل السعودية الرسمي لمواجهة فلسطين في كأس العرب 2025