لجريدة عمان:
2024-06-15@02:42:41 GMT

حين يضجر الكاتب من الأدب

تاريخ النشر: 23rd, January 2024 GMT

حين يضجر الكاتب من الأدب

هل يمكننا الهروب من علّة (سبب) وجودنا، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالكتابة؟ هل يمكننا فهم جوهر الكائنات بمجرد مشاهدتها حيّة، والتعبير من خلال الكتابة، عن ماهيتها الحقيقية؟ هل يمكن للكاتب أن يشعر بالضجر من «مهنته» وأن يتخذ في «لحظة إشراقية» ربما قرار التوقف عن التأليف للبحث عن بديل آخر؟

هذه هي الأسئلة الأساسية التي تطرحها رواية الكاتب الإيطالي أليساندرو باريكو «مستر جوين» (نقلتها إلى العربية أماني فوزي حبشي، «منشورات الجمل») صحيح هي أسئلة «كلاسيكية»، مثلها مثل موضوعات الرواية كلها، إلا أنها تعكس بعمق اهتمامات باريكو، الذي يرسم ذلك عبر شخصية رئيسية خيالية ومحببة، شخصية منجذبة إلى التشويق اللذيذ تجعل من العمل ممتعًا للغاية وتحثنا على القراءة ليتبين لنا في النهاية أنها أقل طيشا بكثير ممّا كنّا نجدها عليه مع بداية الكتاب أو على الأقل كما تخيلنا ذلك.

تبدأ الرواية من اللحظة التي يقرر فيها الكاتب الإنجليزي جاسبر جوين البالغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا أن يتوقف عن الكتابة. كان سبق له أن نشر ثلاث روايات وكتاب ومقالات بحثية وقصتين قصيرتين أكسبته نجاحا شعبيا ونقديا كبيرا، ما جعله يبدو على «الموضة» في إنجلترا (وإن كان غير معروف كثيرًا في أي مكان آخر) ليتسابق عليه الجميع؛ ومع ذلك كان غير راضٍ عن حياته، إذ قد سئم من الكتابة، وأدرك «بوضوح مذهل» أن ما يفعله لم يعد يرضيه، لذا نشر مقالة (عبارة عن قائمة) في صحيفة الجارديان ذكر فيها اثنين وخمسين أمرًا وعد نفسه بأنه لن يفعلها بعد الآن، وآخر هذه الأمور: التوقف عن تأليف الكتب.

اعتبر وكيله الأدبي و«محرره» وصديقه، توم بروس شيبرد، هذا البيان بمثابة استفزاز؛ لم يأخذ كلامه على محمل الجد ولكن عندما اتصل بالكاتب، فهم أن الأمر لم يكن كذلك: كان جوين مصممًا تمامًا ولا رجعة عمّا قاله، بل أضاف صراحة بأن «الكتابة عن الأذى قد انتهت». يشعر المحرر بالمأزق والحيرة في كيفية أن يتعامل مع التقلبات المزاجية لواحد من كتّابه المفضلين، عندها يبدأ بممارسة الضغط عليه لثنيه عن هذا القرار، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل.

شيئًا فشيئًا، ومع هذا الشعور بالحرية الذي لفه، بدأ جوين يشعر بنوع من فراغ لا يمكن إدارته بسهولة. بدأ بالافتقاد إلى فعل الكتابة البسيط. شعر بعذاب الحنين إلى هذا الجهد اليومي لترتيب أفكاره في شكل جملة مستقيمة. ببساطة لم يكن يعرف ماذا سيفعل بعد ذلك؟ لماذا لا تُصبح مترجمًا أو دليل سفر؟ يقول له وكيله: لا. الإجابة الواضحة الوحيدة التي تتبادر إلى ذهنه هي أن يكون ناسخا، أي كتابة الصور الشخصية. نزل عليه «هذا الوحي» أثناء زيارة مرتجلة لمعرض تُعرض فيه الصور؛ لقد اتضح الأمر في ذهنه: سيكون ناسخًا، وسيرسم أيضًا صورًا، ولكن بأدواته التي هي الكلمات. صورا نهائية لعارضات أزياء عاريات في بيئة تجبرهن على الكشف عن أنفسهن...

خياره هذا كان بمثابة بحث عن وسائل جديدة للتعبير ولهذا الغرض، بحث عن ورشة عمل، واهتم بالإضاءة والصوت والديكور، ثم انطلق في البحث عن الموديلات. إنها بداية تجربة غير عادية ستضع الكاتب التائب تحت الاختبار القاسي. أعتقد أنه يتوجب عليّ أن أتوقف عن المزيد من الكشف عن تفاصيل الرواية، لكي نسمح لأنفسنا بقراءتها والشعور بالدهشة من خيال أليساندرو باريكو، ومن شخصياته غير المحتملة في كثير من الأحيان، التي تقترب أحيانًا من الرسوم الكاريكاتورية وذلك كي تساعدنا بشكل أفضل على اكتشاف حقيقة ما يرمي إليه في الختام: كيف «كلّ واحد منا هو صفحة كتاب» بل أنه كتاب «لم يكتبه أحد من قبل، والذي نبحث عنه عبثًا في رفوف عقولنا».

ما يلفت في هذه الرواية القصيرة مسار هذا الكاتب الذي يبحث عن «مهنة أخرى»، مسار يتميز بالبطء والأصالة في البحث عن صور فريدة من نوعها لن تصبح موضوعا لأي منشور، بل من أجل البحث عن هذه الحميمية الأصلية والتجريبية الموجودة في هؤلاء الأشخاص العشرة الذين يبحثون عن أنفسهم والذين يبحث المؤلف عنهم كي يرسم صورهم «بحرفية». هنا إطار القص العام وجوهر اللُحمة الذي يربط الكلام ببعضه البعض.

يقدم لنا باريكو في روايته هذه، غوصًا مثيرًا للاهتمام في أعمق أعماق الكاتب، الذي يجب عليه يومًا ما أن يفعل من منطلق الالتزام، وتحت الضغط، ما فرض نفسه عليه في البداية كضرورة. إنه أيضًا قبول القيود، وثمن النجاح، وصعوبة التعبير عن الذات في سجل آخر غير ذلك الذي يتوقعه الجمهور، وعدم الفهم... أن ينتهي الأمر بكراهية ما أردناه أكثر من كل شيء. أن ندرك أنه على الرغم من كل شيء، تظل الكتابة هي السبب الوحيد لوجودنا، وأنه يجب علينا إعادة اختراع هذه الممارسة.

في أي حال لا تشكل الرواية «رثاء» طفل مدلل. بل هي في الواقع بحث عن طرق جانبية، أكثر خطورة من الطرق المطروقة، وأكثر ثراءً أيضًا بالمشاعر الجديدة والتي تزيل قضبان سجن الملاءمة. نحن بعيدون عن جمع أسرار كاتب خائب الأمل، فالخيال خصب ينجذب القارئ رغم نفسه إلى هذه المغامرة التي تعرف كيف تتجنب الانتظار والمفاجأة عند مطلع الفصل؟

ما هو الفنان؟ يتساءل أليساندرو باريكو في هذه الرواية المثيرة والأنيقة بشكل كبير. للإجابة على هذا السؤال، يدعونا لمتابعة رحلة السيد جوين، التي هي في جزء منها عبارة عن لعبة متطورة، والجزء الآخر مغامرة كوميدية. وإذا أعطانا مفتاح لغز جوين، فمن الطبيعي أن تكون النتيجة غير متوقعة.

يتعامل أليساندرو باريكو مع قلمه بالشعر والمهارة ويغمرنا في رواية مثيرة للاهتمام ولكنها دقيقة على أقل تقدير. فهو يصور بذكاء مفاهيم الكتابة وسحر الكلمات، والفن بشكل عام، الوجود والظهور، وكذلك الحب والصداقة. هذه الرواية، النفاذة والخيالية والأعمق مما تبدو، لها سحر لا يمكن إنكاره وهي رسالة حب حقيقية للأدب، إذ تبدو وكأنها مكتوبة في لحظة خالصة من السعادة الأدبية.

يأخذنا باريكو إلى رحلة في التفكير في عمل الكاتب، من التشبع إلى قلة الإلهام إلى الانتحال. لذا تبدو شخصية السيد جوين وكأنها تبحث عن الكمال الذي قد لا يأتي إلا بالابتعاد عن سبب وجودنا لننخرط فيه بطريقة أخرى. وهنا مفارقة الفن العظيم في أحيان كثيرة.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

اللغة العربية وزمن الكتابة

صلة اللغة العربية بالكتابة صلة قديمة، وقد عرف الإنسان الكتابة على أدوات عديدة بسيطة بدائية قبل أن يصنع المصريون القدماء ورق البردى من نباته المعروف، هذه الأدوات البدائية هى: الطين، والصخور، واللخاف، وهو الحجارة البيض الرقيقة، والرقّ، وهو من جلود الحيوانات، والشمع (بعد وضعه داخل قوالب من الخشب يكتب عليه وهو ليّن، ثم يتْرك ليبْرد)، وقشور الشجر والاقتاب، أى أكتاف البعير، وقطع الأبنوس، والعاج، والقماش، وعظام الحيوانات، وشرائح الخيزران، أو البامبو، وألواح الخشب (يُحْفَر عليها بواسطة آلة مدببة)، والحرير، (يكتب عليه بأقلام من الغاب، أو وبر الجمل)، ويمتاز بمرونة ولمعان سطحه، ثم أضيف القباطى بعد فتح العرب لمصر، ثم كان اختراع الورق، حيث كان الرق من بين هذه الأدوات الكتابية، ويمتاز بسهولة استخدام الصفحة الواحدة للكتابة أكثر من مرة، حيث يمكن كشطها، وإعادة الكتابة عليها ثانية، كما يمكن الكتابة عليها من الوجهين، ولهذا كانت للرق منزلة أخذتْ تزداد حتى بلغت قمتها خلال القرن الخامس الميلادى، وتصْنع الرقوق عادة من جلود الماعز، أو الضأن، أو العجول، وتجهّز بإزالة شعرها والمواد الدهنية المصاحبة بواسطة ماء الجير (الكلس)، ثم تصْقل، ثم تقطع قطعًا مستطيلة، وأغلاها ثمنا النوع الشفاف المصنوع من جلود الحيوانات الصغيرة. كانت الرقوق أول مادة كتابية ينتجها العرب فى العصر الجاهلى. وقد كانت اتصالات محدودة بين عرب الجاهلية ومَنْ جاورهم من الفرس فى الشمال الشرقى، والروم البيزنطيين فى الشمال، وعرب الجنوب والأحباش وغيرهم من الأمم، ولم يكن عند العرب سجلات مدونة شائعة، اللهم إلا عرب الجنوب، حيث وجدت النقوش على الأحجار، وذلك بفعل الاعتماد على الذاكرة، حتى قيل إن أقدم نص معروف لدى عرب الجاهلية ينسب إلى عرب الشمال هو نص (النمارة) أو نقش النمارة الذى وجد مكتوباً على قبر امرئ القيس أحد ملوك كندة الذى أرّخ سنة 223 بتقويم بصرى، الموافق لكانون الأول (ديسمبر 328م)، ومن ذلك نقش فى زبد جنوب شرقي حلب،أرّخ سنة 512م، ونقش حران اللجا، وهو جنوبى دمشق سنة 568م. ومعنى هذا فى نظر المؤرخين أن الخط نشأ شمالىّ الحجاز، وقد أخذ صورته النهائية فى التطور أوائل القرن السادس الميلادى، إذْ تعددتْ الصلات بينهم وبين الحضارات المجاورة تجارياً.
وقد كتب العرب صحيفة قريش حين حاولوا مقاطعة النبى صلى الله عليه وسلم وآله، كذلك كتابة المعلقات حسب بعض الآراء التى ترى كتابتها، وتدور حكايات وأخبار بعضها واقعى، وبعضها قد يتجاوز الواقع عن الكتب والكتابة، فأخبار تقول، كما يذكر الجاحظ فى البيان والتبيين: إن أبا عمرو بن العلاء كان صاحب كتب قيل إنها ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف ثم تقرّأ فأحرقها، فلما رجع إلى عمله لم يجد ما يحفظه، ويذْكرون أنّ حمادًا الرواية كان من الشطّار والصعاليك، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله وفيه جزء من الشّعر، فقرأه وحفظه فبلغ من العلم ما بلغ، وسواء وافقْنا صاحب كتاب الأغانى على هذا الخبر أم لم نوافق فإن فى ذلك ما يشير إلى فكرة تسجيل التراث، وتوثيقه، ووجود الفكرة المكتبية فى حفظ الفكْر، وصناعة الكتاب. بل إن هناك من يذكر أن كتبًا تنوقلت بعد الإسلام على استنكار واستكراه مثل: مجلة لقمان، أو كتاب لقمان، وكتاب دانيال، كذلك كتابة العهود والمواثيق، والصحف، والصكوك، وأكثر من ذلك أن ابن النديم يذكر أن هيكلًا قديمًا ببلاد الروم فُتح فوجد القوم به كتباً قديمة حملت على ألف جمل.
انتشر الإسلام وعمّ الجزيرة العربية، ولم يكد يمر عقد واحد من السنين عقب انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى انتشر الإسلام فى بلاد الهلال الخصيب، ومصر، وغيرها من البقاع، وانتشر الإسلام من حدود فرنسا غربا إلى حدود الهند والصين شرقًا، واتخذت هذه الأمم دينًا ولغة فتوحّدت من بعد تفرق، وكان هذا أساس حضارة عريقة تؤدى دورها الإنسانى فى العصور الوسطى إلى يوم الدين مخلفة تراثا فكريا مخطوطا علّم البشرية. وأهم ما فى هذه الظاهرة الحضارية أن المسلمين قد اندمجوا مع شعوب هذه المناطق المفتوحة، واستوعبوا حضاراتهم وتراثهم الفكرى، ونموّا ما لاءم الدين الحنيف، وأضافوا إلى ذلك إبداعًا وتفوقًا بعد هضم الثقافات الأخرى وفهمها.
المصاحف المخطوطة:
هذا كتاب مصاحف المماليك لمؤلفه ديفيد جيمس المتخصص فى الفنون الإسلامية، والذى درس العربية فى جامعة دورهام، وعمل أمينا للمخطوطات الإسلامية فى مكتبة شيستربتى بدبلن، ونشر أدلة عديدة حول القرآن الكريم، وأغلفته ورسومه.

مقالات مشابهة

  • آخر ما نشره "نعم.. الموت حلو يا أولاد".. كتاب وفنانون ينعون فؤاد حميرة أحد أبرز كتاب الدراما السورية
  • اللغة العربية وزمن الكتابة
  • موقع بريطاني: الحرب الإسرائيلية على غزة تعيد إلى الأذهان أهوال الإبادة الجماعية في البوسنة
  • مليون صاروخ.. هل وصلت المواجهات بين حزب الله والاحتلال لحافة الحرب الشاملة؟
  • محمد مصطفى أبو شامة: حزب الله لا يمتلك قدرات عسكرية تمكنه من مواجهة إسرائيل
  • رهانات الحظ العاثر في مقامرة على شرف الليدي ميتسي
  • مصر… ندوة حوارية حول رواية “آرمان” للكاتبة السورية ريتا بربارة
  • رئيس مقاطعة بفاس يطلق إسم والده على شارع مكان يوسف بن تاشفين
  • رحلة الكاتب وبطل الرواية في التحول على مسرح روض الفرج
  • قنوات ART تنعي فاروق صبري: أعماله علامة من علامات تاريخنا الفني