الدراما العربية والطعن في العلماء.. نتائج وآثار
تاريخ النشر: 26th, January 2024 GMT
لست مع تقديس الرجال وإنزالهم منازل لم ينزلهم الله بها، ولست مع الطاعة المطلقة لبشر سوى المعصوم صلى الله عليه وسلم، لكنني كذلك لست مع سوء الأدب وتشويه الآخرين بآفة تعميم الأحكام. أسوق هذه المقدمة توطئة للحديث عن ظاهرة تعيشها الأمة منذ عقود، وهي تشويه الدراما العربية لصورة علماء الشريعة، وخلط الحابل بالنابل، واتخاذ منهج صدامي مع علمائه.
أولا: تحطيم القدوات
فلكل مجتمع قدواته التي تجد مكانها في قلوب أهله، وتكون النموذج البراق الذي يحتذى به، ويتطلع النشء إلى الارتقاء لمنازل أولئك القدوات، وفي المجتمع الإسلامي تبرز أهمية رجال العلم كقدوات، انطلاقا من كون الإسلام يمثل هوية ذلك المجتمع. ومما يؤسف له أن نرى الغرب يبجل قدوات قد بزغوا في جانب واحد، بينما لهم وجوه عدة يندى لها الجبين، ويخرجون بها عن مصاف القدوات الحقيقيين، فعلى سبيل المثال يبجل الشعب الفرنسي نابليون بونابرت القائد العسكري الفذ، ويعتبرونه أحد أبرز رموزهم التاريخية، ويغضون الطرف عن وجهه الوحشي وإراقته للدماء. وفي المقابل نرى الدراما كمجال يعكس وجه نبض المجتمع، تشوه المنتصبين كقدوات من أهل العلم، وتلبسهم ثياب الجهل والنفاق والانحطاط والازدواجية والإرهاب كما أسلفنا، فماذا كانت النتيجة؟ توارت عظمة أولئك القدوات في النفوس مع ذلك الإصرار على النيل منهم، ما أدى إلى عزوف الأجيال وانصرافها عن اتباعهم. واهتزت ثقة الناس بحملة الشريعة فلم يعودوا يثقون بالكثيرين منهم، ونتج عن ذلك بحث الناس عن قدوات آخرين قد يكونون على غير الجادة.
ثانيًا: الاستخفاف بشعائر الإسلام
تجلى هذا الأثر بوضوح، فصرنا نرى من يتطاول مثلا على اللحية التي هي من سنن الأنبياء والمرسلين، وفي الحديث: (وفروا اللحى وأحفوا الشوارب).
ثالثا: تجرئة المتهورين على العلماء
فالمجتمع لا يخلو من الشخصيات المتهورة المندفعة، وعندما يتعرض هؤلاء للمواد التي تنال من أهل العلم، فإنهم يندفعون بهذا التهور لإيذائهم. ولئن كان المنحرفون في الماضي يرون تقصيرهم كلما نظروا إلى العلماء، إلا أنهم صاروا اليوم ينشدون ضالتهم في رؤية مثالب هذه الفئة في الأعمال الدرامية، فيريحهم ذلك من عناء الشعور بالتقصير، ويرون أنهم على الجادة طالما كان العلماء بهذا السوء، يؤول بهم الأمر إلى التعرض لهم بالإيذاء.
رابعًا: حرمان الاستفادة من العلماء
التطاول على أهل العلم يصنع حاجزا نفسيا بين المشاهد وبين تلك الشخصيات، ومن ثم فلا يستمع إلى نصائحهم ومواعظهم، فتفوته الاستفادة مما لديهم من الخير، ويصير عرضة لتلاعب المغرضين وأدعياء الإصلاح، والوقوع فريسة للأفكار الدخيلة، فلا عجب إذن أن يشرأب الإلحاد من جديد في مجتمعاتنا الإسلامية مع عزوف الشباب عن أهل العلم والدعوة نتيجة الخواء العلمي الذي تفرضه القطيعة مع تلك الفئة المؤثرة في المجتمع.
خامسًا: تفكيك اللحمة المجتمعية
فأهل العلم والدعوة والملتزمون بصفة عامة يمثلون شريحة كبيرة وقطاعا واسعا في المجتمع، وجزءًا أساسًا في تكوينه وتركيبته، وتشويه الرموز الدينية في الدراما العربية تخلق وتعمق من الهوة بينها وبين فئات الشعب الأخرى. والمتأمل في سور القرآن وآياته يدرك مدى حرص الإسلام على اللحمة الداخلية للمجتمع، وفي سبيل الوصول إلى ذلك اشتملت سورة الحجرات على سبيل المثال، على مجموعة من المنهيات من شأنها خلخلة الأواصر المجتمعية. فمن ذلك النهي عن السخرية والاستهزاء بالآخرين وهو ما تطفح به الأعمال الدرامية، وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}. كما نهى عن الطعن في الآخرين بقوله تعالى: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، أي: «لا يعب بعضكم على بعض، واللمز: بالقول، والهمز: بالفعل، وكلاهما منهي عنه حرام، متوعد عليه بالنار، ولا يخفى على مشاهد للدراما العربية حجم اللمز والغمز فيها. وكل هذه الأمور التي تفسد العلاقات الاجتماعية وتفكك لحمة المجتمع تزخر بها الدراما بما لا يمكن أن تخطئه عين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
إحسان الفقيه – الشرق القطرية
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: أهل العلم
إقرأ أيضاً:
من العار إلى وجع الفراق.. «موت الأب».. تراجيديا أبدية في عالم الدراما
«في حياة كل إنسان لحظة لا تعود الحياة بعدها كما كانت قبلها».. .هكذا قال العراب الراحل أحمد خالد توفيق، وما نظنها إلا اللحظة التي يغيب فيها عن الحياة مَن كان سببًا في مجيئنا إليها، فلا لحظة أقسى من «وفاة الأب».. يتغير بعدها شكل الحياة للأبد، هي لحظة لا تتكرر في حياة الإنسان أبدًا، تحدث مرة واحدة فقط، تشق قلبه نصفين، فتمتد آثار وجعها حتى آخر العمر، لحظة توقّف الشريط «في وضع ثابت»، ليتسمّر الإنسان أمام هيبة الموت، وأي موت؟ أهم مخلوق، أهم «فاعل» أتم بـ«فعله» الجملة المفيدة، أهم «مبتدأ» صنع الخبر الوحيد، ليسأل أحدنا نفسه كما سألها الشاعر نزار قباني: »أمات أبوك؟ ضلالٌ أنا لا يموت أبي.. ففي البيت منه روائح رب.. وذكرى نبي»، وتنهمر الأسئلة: كيف مات ومَن حقًّا مات؟ ليجيب الشاعر «أحمد شوقي»: «أنا مَن مات ومَن مات أنا.. لقي الموت كلانا مرتين»، والتفسير عند صلاح عبد الصبور: «ثم جمعت حياتي.. وهي بعض من أبي».
في إحدى صباحات الأسبوع الماضي، على خشبة مسرح مهرجان القاهرة السينمائي، وقفت الصبية جميلة، ذات الـ 14 عامًا، تنعى والدها المخرج سامح عبد العزيز، وتتذكر تاريخه الفني، وبجوارها الفنان خالد الصاوي لم يتمالك دموعه حزنًا على رفيق عمره، دوى تصفيق حار من الجمهور عقب عرض فيلم قصير أخرجته الصبية الجميلة (بنت أبيها)، عنوانه«وجع الفراق»، يا للوجع، ويا للفراق، ويا للكلام العاجز، أي وصف يمكنه أن يقال عن الروح حين تنشطر لرحيل الأب؟
بعد مشهد جميلة سامح عبد العزيز، ظهرت الممثلة الشابة ياسمينا العبد، مع الإعلامي الإماراتي أنس بوخش، وهي تخفي قناديل دموعها المشتعلة على ضفاف عينيها، كانت تتحدث عن أبيها مريض الأورامالذي لا تتعدى نسبة نجاته 2%، وحكت أنها دائمة التصوير معه، لدرجة أنه لو أجريت أشعةعلى قلبها ستنطبع صورة أبيها، يا لها من شاعرية الألم، ومجاز الحزن الغائر في أعماقها، قبل أن تبلغ العشرين من عمرها، وهي التي وقفت بشموخ 7 آلاف سنة، وزلزلت الملايين بكلماتها الهادرة على خشبة مسرح افتتاح المتحف المصري الكبير!
ومنذ أيام، أعلن صناع فيلم «السادة الأفاضل» المعروض حاليًا في دور العرض، تجاوز إيراداته 60 مليون جنيه، وتنطلق أحداثه من العقدة الدرامية الأهم في السينما المصرية، لحظة وفاة الأب، وبعيدًا عن المعالجة الهزلية للفيلم، والتي تأتي أحياناً حيلة دفاعية ضد الصدمات، يدرك صناع الدراما أن وفاة الأب هو بداية الحكاية، وليست نهايتها، ليس لكونهم يبحثون عن حزن سريع ومضمون، ولكنها الحياة تبدأ حينما يهتز كل ما كنا نعتبره ثابتًا، رحيل الأب كسقوط شجرة معمرة ترتجّ الأرض من تحتها، فيستيقظ الجميع، ويعلو ضجيج الفزع، وتتساقط الأقنعة، ويهرب الجبناء، وتنكشف الصراعات المختبئة في الصدور، وكما يقولون عمود البيت الذي يقع ليظهر كل شيء على حقيقته، فالبيت بلا أب كمدينة بلا قاضٍ: كل مَن فيه يظن نفسه صاحب الحق، وهو المرآة النفسية التي إذا انكسرت يتشظى الأبناء، ويظهرون على حقيقتهم المجردة، ينكشف ضعفهم أمام أعينهم وأعين الجميع، يموت الأب تاركًاً وراءه سؤالاً وجودياً يصرخ بداخل كل ابن: «مَن أكون أنا بعد أبي؟».
تلك الصرخة كانت مستهل العقدة الدرامية لعشرات الأفلام والمسلسلات، منذ زمن الأبيض والأسود، وحتى الآن، لم يجرِ عليها مجريات التقنيات، ولا الذكاء الاصطناعي، بقيت حقيقة شامخة راسخة عبر الأزمنة، ذاك الفراغ الذي يتركه رحيل الأب، يظل فارغًا، هوّة عميقة تذكّر الابن أنه أصبح وحيدًا، يتلمس ذكريات أبيه حين تلمع فجأة لتسحب الروح نحو سرداب مظلم، فينكتب الحاضر والمستقبل بمداد الفقد، فقد مرسى السفينة، وظل الحماية الذي تلاشى فارتعشت الأقدام وتعثرت في الطريق الوعر، وحين يموت الأب في الدراما، لا يموت كشخص، بل كفكرة تسقط معها منظومة كاملة من القيم، والحدود والقوانين والمشاعر، في لحظة درامية لا تُستخدم لإثارة البكاء فقط، ولكن لتغيير مصائر الشخصيات، فتنفتح بوابات لم تكن تُفتح إلا بانهيار الأساس: موت الأب!
سلسلة طويلة من أعمال درامية انطلقت من تلك اللحظة الكشفية، ففي «بداية ونهاية» مات الأب فانهارت الأسرة وانحرفت الابنة لتلقى حتفها بأيدي شقيقها، وفي «الطريق» ظل البطل تائهًا يبحث عن ظل الأب المفقود، وفي «العار» انفضح الأبناء نفسياً وظهر الانتهازي والتائه والجبان ليواجهوا فاجعة المصير، وفي «الجزيرة» انحنى ظهر الابن بثقل العبء الدموي بعد انتقال سلطة أبيه إليه، وفي «حين ميسرة» ضاع الأب فبدأت سلسلة جهنمية من الفقر والضياع.
وفي التليفزيون، ظل مسلسل وفاة الأب نقطة صراع رئيسية لا تموت عبر عشرات الحلقات، فهو الحاضر دائمًا رغم الغياب، محرك الأحداث من تحت التراب، المؤسسة التي انهارت فأسقطت دولة الاستقرار، وانفلتت بعده فرامل الأخلاق، وانفضحت الأسرار، وبُرّزت الوصايا والخطايا، وانكشفت طبقات الخير والشر في نفوس الأبناء، وانطلقت شهواتهم المكبوتة، وتصارع الجميع على المال أو السلطة أو النفوذ أو الهوية، وانفتحت أبواب الحكايات لفصول أكثر تعقيداً، منذ ثمانينيات الشهد والدموع، عصفور النار، وتسعينيات المال والبنون، مرورًا بالألفية الجديدة مع ولي العهد، جراند أوتيل، سقوط حر، والأب الروحي، ثم البرنس، مسار إجباري، بيت الرفاعي، وأخيرًا فهد البطل.
الأب هو الظهر، والستر، الذي نتعرى بعد رحيله، وموته هو موت شيء أعمق من شخص، هو موت الأمان نفسه، تصدُّع الروح، واختبار الزمن، لذلك ستظل السينما والدراما تعود لهذه اللحظة مرة بعد مرة، كأعمق تيمة درامية، وأسطورة متكررة، وبوابة تراجيديا أبدية تعبرها الشخصيات لتخرج عارية بين الضعف والانهيار، أو القوة والنضج، لحظة موت الأب ليست مجرد صدمة درامية تطفئ الحكاية، وإنما تبدأها وتشعلها، هي لحظة رفع الستار عن كل شيء، باختصار، ليس موت الأب مجرد فصل درامي أو محور للأحداث، ولكنه الجرح الذي يكتب الفن نفسه من خلاله، دون تمثيل، لأنها الحقيقة التي يعيشها كل إنسان، ويهرب منها كل فنان، ويعود إليها كل عمل درامي، في أي زمان ومكان.
اقرأ أيضاًإيرادات الأفلام.. «السادة الأفاضل» يحتفظ بالمركز الثالث في شباك التذاكر
ياسمينا العبد تتصدر التريند بعد دخولها في نوبة بكاء بسبب والدها.. ما القصة؟
نور النبوي وياسمينا العبد في صدارة التريند بسبب تصوير «كان ياما كان»