لست مع تقديس الرجال وإنزالهم منازل لم ينزلهم الله بها، ولست مع الطاعة المطلقة لبشر سوى المعصوم صلى الله عليه وسلم، لكنني كذلك لست مع سوء الأدب وتشويه الآخرين بآفة تعميم الأحكام. أسوق هذه المقدمة توطئة للحديث عن ظاهرة تعيشها الأمة منذ عقود، وهي تشويه الدراما العربية لصورة علماء الشريعة، وخلط الحابل بالنابل، واتخاذ منهج صدامي مع علمائه.

لقد كان لمسلك التشويه الذي اتبعه القائمون على الأعمال الدرامية، لشخصية العالم أو الداعية، آثار وخيمة عمت المجتمع بأسره، ولعل من أبرز هذه النتائج:

أولا: تحطيم القدوات

فلكل مجتمع قدواته التي تجد مكانها في قلوب أهله، وتكون النموذج البراق الذي يحتذى به، ويتطلع النشء إلى الارتقاء لمنازل أولئك القدوات، وفي المجتمع الإسلامي تبرز أهمية رجال العلم كقدوات، انطلاقا من كون الإسلام يمثل هوية ذلك المجتمع. ومما يؤسف له أن نرى الغرب يبجل قدوات قد بزغوا في جانب واحد، بينما لهم وجوه عدة يندى لها الجبين، ويخرجون بها عن مصاف القدوات الحقيقيين، فعلى سبيل المثال يبجل الشعب الفرنسي نابليون بونابرت القائد العسكري الفذ، ويعتبرونه أحد أبرز رموزهم التاريخية، ويغضون الطرف عن وجهه الوحشي وإراقته للدماء. وفي المقابل نرى الدراما كمجال يعكس وجه نبض المجتمع، تشوه المنتصبين كقدوات من أهل العلم، وتلبسهم ثياب الجهل والنفاق والانحطاط والازدواجية والإرهاب كما أسلفنا، فماذا كانت النتيجة؟ توارت عظمة أولئك القدوات في النفوس مع ذلك الإصرار على النيل منهم، ما أدى إلى عزوف الأجيال وانصرافها عن اتباعهم. واهتزت ثقة الناس بحملة الشريعة فلم يعودوا يثقون بالكثيرين منهم، ونتج عن ذلك بحث الناس عن قدوات آخرين قد يكونون على غير الجادة.

ثانيًا: الاستخفاف بشعائر الإسلام

تجلى هذا الأثر بوضوح، فصرنا نرى من يتطاول مثلا على اللحية التي هي من سنن الأنبياء والمرسلين، وفي الحديث: (وفروا اللحى وأحفوا الشوارب).

ثالثا: تجرئة المتهورين على العلماء

فالمجتمع لا يخلو من الشخصيات المتهورة المندفعة، وعندما يتعرض هؤلاء للمواد التي تنال من أهل العلم، فإنهم يندفعون بهذا التهور لإيذائهم. ولئن كان المنحرفون في الماضي يرون تقصيرهم كلما نظروا إلى العلماء، إلا أنهم صاروا اليوم ينشدون ضالتهم في رؤية مثالب هذه الفئة في الأعمال الدرامية، فيريحهم ذلك من عناء الشعور بالتقصير، ويرون أنهم على الجادة طالما كان العلماء بهذا السوء، يؤول بهم الأمر إلى التعرض لهم بالإيذاء.

رابعًا: حرمان الاستفادة من العلماء

التطاول على أهل العلم يصنع حاجزا نفسيا بين المشاهد وبين تلك الشخصيات، ومن ثم فلا يستمع إلى نصائحهم ومواعظهم، فتفوته الاستفادة مما لديهم من الخير، ويصير عرضة لتلاعب المغرضين وأدعياء الإصلاح، والوقوع فريسة للأفكار الدخيلة، فلا عجب إذن أن يشرأب الإلحاد من جديد في مجتمعاتنا الإسلامية مع عزوف الشباب عن أهل العلم والدعوة نتيجة الخواء العلمي الذي تفرضه القطيعة مع تلك الفئة المؤثرة في المجتمع.

خامسًا: تفكيك اللحمة المجتمعية

فأهل العلم والدعوة والملتزمون بصفة عامة يمثلون شريحة كبيرة وقطاعا واسعا في المجتمع، وجزءًا أساسًا في تكوينه وتركيبته، وتشويه الرموز الدينية في الدراما العربية تخلق وتعمق من الهوة بينها وبين فئات الشعب الأخرى. والمتأمل في سور القرآن وآياته يدرك مدى حرص الإسلام على اللحمة الداخلية للمجتمع، وفي سبيل الوصول إلى ذلك اشتملت سورة الحجرات على سبيل المثال، على مجموعة من المنهيات من شأنها خلخلة الأواصر المجتمعية. فمن ذلك النهي عن السخرية والاستهزاء بالآخرين وهو ما تطفح به الأعمال الدرامية، وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}. كما نهى عن الطعن في الآخرين بقوله تعالى: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، أي: «لا يعب بعضكم على بعض، واللمز: بالقول، والهمز: بالفعل، وكلاهما منهي عنه حرام، متوعد عليه بالنار، ولا يخفى على مشاهد للدراما العربية حجم اللمز والغمز فيها. وكل هذه الأمور التي تفسد العلاقات الاجتماعية وتفكك لحمة المجتمع تزخر بها الدراما بما لا يمكن أن تخطئه عين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

إحسان الفقيه – الشرق القطرية

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: أهل العلم

إقرأ أيضاً:

درجات الحرارة العالمية لا تزال عند مستويات قياسية

باريس "أ.ف.ب": حافظت درجات الحرارة العالمية على مستويات مرتفعة قياسية في أبريل، لتستمر بذلك موجة حرّ غير مسبوقة تضرب الكوكب منذ سنتين تقريبا وتثير تساؤلات لدى الأوساط العلمية بشأن تسارع وتيرة الاحترار المناخي.

على الصعيد العالمي، احتل أبريل 2025 المرتبة الثانية كأكثر شهر حار بعد أبريل 2024، بحسب مرصد كوبرنيكوس الأوروبي الذي يعتمد على مليارات القياسات من الأقمار الاصطناعية ومحطات الأرصاد الجوية وأدوات أخرى.

وساهم الشهر الفائت في امتداد سلسلة من درجات الحرارة القياسية أو شبه القياسية يستمر تسجيلها منذ يوليو 2023، أي منذ نحو عامين.

مُذّاك، وباستثناء واحد، كانت كل الأشهر تسجّل احترارا بمقدار أقلّه 1,5 درجة مئوية مقارنة مرحلة ما قبل الثورة الصناعية (1850-1900).

ومع ذلك، توقع عدد كبير من العلماء أن 2023 و2024- وهما العامان الأكثر حرّا على الإطلاق المسجلان عالميا- ستتبعها فترة أقل سخونة، مع تلاشي الظروف الدافئة التي تتسبب بها ظاهرة ال نينيو.

وقال يوهان روكستروم، مدير معهد بوتسدام لتأثيرات المناخ في ألمانيا: "بحلول 2025، كان يُفترض أن يتباطأ هذا المعدل، ولكن بدلا من ذلك لا نزال في مرحلة الاحترار المتسارع".

ولاحظ عدد كبير من العلماء اقتراب بلوغ عتبة الاحترار البالغة 1,5 درجة مئوية بشكل مستقر، وهي الحد الأكثر طموحا لاتفاق باريس. وأكد كوبرنيكوس أن هذا الوضع قد يُصبح سائدا بحلول عام 2029.

لكن المناقشات والدراسات تتزايد لتحديد التأثير المناخي لتطور السحب، أو انخفاض التلوث الجوي، أو قدرة الأرض على تخزين الكربون في أحواض طبيعية مثل الغابات والمحيطات.

وتعود سجلات درجات الحرارة العالمية السنوية إلى عام 1850. لكن عينات الجليد، ورواسب قاع المحيط، وغيرها من "أرشيفات المناخ" تؤكد أن المناخ الحالي غير مسبوق منذ 120 ألف عام على الأقل.

مقالات مشابهة

  • الذكـاء الاصطناعـي «الخـارق» لـم يولـد بعـد!
  • نقابة الصحفيين السودانيين تعرب عن بالغ قلقها إزاء الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها وزارة الإعلام
  • تيم حسن يعلن عن عمل رمضاني جديد مع سامر البرقاوي.. مشروع ضخم يعيد رسم ملامح الدراما العربية
  • إعلان نتائج الأوزان الرسمية لبطولة “PFL MENA” التي تقام اليوم في جدة
  • مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين يدين الهجمات التي استهدفت المنشآت الحيوية والاستراتجية بالسودان
  • وزير الإعلام يبحث مع ممثلين عن عدد من شركات الإنتاج العربية والخليجية آفاق التعاون وفرص الاستثمار
  • درجات الحرارة العالمية لا تزال عند مستويات قياسية
  • د. شيماء الناصر تكتب: صورة المرأة المصرية في الدراما بين الترويج السلبي والإيجابية المفقودة
  • الرئيس الشرع: شهدنا مؤخراً أحداثاً مأساوية وتحركنا سريعاً لمواجهة الهجمات وشكلنا لجنة للتحقيق في الأحداث التي افتعلها مسلحون تابعون للنظام البائد في الساحل ورحب مجلس حقوق الإنسان بتشكيلها
  • أبوظبي تستضيف بطولة «كرة قدم العلم»