تحدّثت سابقا عن البدايات الأولى للدخول في كتابة الرواية في الخليج العربي، وهي بداياتٌ أجمع الباحثون على أنّها محاولاتٌ أولى داخلةٌ في تجارب بدائيّة هي أقرب إلى المواعظ أو التقاط لحظات من التاريخ تُرْوى، ولم تبلغ الرواية في مراحل النشأة الأولى منزلة فنيّة مهمّة، ولذلك، عادة ما لا أتحدّث على هذه التجارب إلّا على سبيل الإشارة إلى النوى الأوَل فحسب، وإلى الانتباه العربيّ إلى ضرورة تغيير وسائط الحكاية، وبداية الخروج عن أشكال القصص القديمة القائمة أساسا على العناية الفائقة باللفظ والصياغة المراعية لمختلف صنوف الجناس والسجع والتوازن في العبارة، فالنثر العربيّ بقي موصولا بالبديع إلى أواسط القرن العشرين، وأحيانا إلى أواخر القرن العشرين في بعض بلاد الخليج العربيّ، فقد تأخّر في منطقة الخليج العربي التخلّص من صنوف الكتابة النثريّة القائمة على البديع، ولذلك فقد تواصلت كتابة المقامات واعتماد النثر الفنّي إلى حدود الثمانينيّات من القرن العشرين، فقد كان الارتباط بالعربيّة والتراث الأدبيّ أقوى بحكم إيمان سكّان أهل الخليج أنّهم الورثة الشرعيّون للجاحظ والحريري وامرئ القيس وأبي تمّام، وغيرهم من رؤوس الأدب العربيّ، وبسببٍ من ذلك شهدت مرحلة النزاع بين حديث الكتابة الأدبيّة وقديمها استدعاءً لثنائيّات، الدخيل والأصيل، الإسلام والكفر، وارتبطت الحداثة في قسم مهمّ من التصوّر المرتبط بالتراث إعادةً واستدعاءً بالخروج عن الملّة، ومخالفة الأصول القبليّة والقوميّة والدينيّة أحيانا، وهو المُحتوى الذي أحْسن إظهاره عبد القدوس الأنصاري في رواية «التوْأم»، ولقد كان لظهور النفط في منطقة الخليج أثرٌ بالغ في تنشيط حركة الرواية وتسريع بلوغها منزلة في أدبنا المُعاصِر.
كما كان للتصوّرات القبلية المشرقيّة والمغربيّة الأثر البالغ في الإعراض عن هذا النشاط الروائيّ، وسنفصّل ذلك لاحقا. لقد حمل التغيّر الاجتماعي الذي فرضه التمتّع بخيرات النفط في منطقة الخليج نوى لتغيّر ثقافيّ بدا جليّا في حركة المسرح والسينما والشعر والرواية والصحافة، فأموال النفط دفعت إلى تكثيف المؤسّسات التعليميّة والاستثمار في التعليم والثقافة، وتنشيط الصحافة والعمل على بناء سينما خاصّة، ولكنّ الأصل في كلّ ذلك، راجعٌ إلى التعليم أساسا، فالتعليم لم يُسْهم فحسب في ظهور جيل من الكتّاب مطلع على التجارب الروائيّة العربيّة والكونيّة، وعلى دراية بالتاريخ والتراث، بل ساهم في خلْق أجيالٍ قارئة، تُتابِعُ ما يُكتَبُ في الملاحق الثقافيّة من أعمالٍ أدبيّة حادثة، وتُتَابع الحداثة في الكتابة الأدبيّة، هذا الجيل القارئ له أرضيّة معرفيّة قادرة على تبيّن الممجوج من الجديد، والنافع الصالح من الغث البالي، وقد بانت ملامح هذا الجيل قراءةً وإنتاجا في حدود الثمانينيّات من القرن العشرين، وسيتمّ تشكّله وبُروزه في مطلع القرن الحادي والعشرين ليتصدّر الفنّ الخليجي مسرحا وسينما وصحافة وإذاعة منزلة من المشهد الثقافي العربيّ، ومنه تتّخذ الرواية سبيلها إلى التصدّر والدخول بشكل بطيء إلى الساحة العربيّة نقدا واعتبارا، مع عَمَلٍ دؤوب لجيل من كُتّاب الرواية الذين عملوا جاهدين على حكايةِ حكايتهم، حكاية تختلف كما بيّنت ذلك سابقا عن الحكاية العربيّة، هذه الحكاية واجهها مركز شرقيّ قويّ اجتهد في تهميشها، وردّها إلى «رواية الثراء» أو «رواية البترو دولار» أو «رواية الترف». لقد استعمل الروائي الهندي أميتاف غوش مصطلح «البترو مخيّلة» متسائلا عن علّة إعْراض الأدب الغربي عن تصوير «الاشتباك بين الرواية والنفط»، متحدّثا على أنّ من عاشوا مرحلة التحوّل النفطيّ في الخليج العربيّ من الأجانب، عربا وعجما، لم يكتبوا روايات دالّة على عُمق هذا التحوّل الاجتماعيّ، وإنّما آثروا عدم الخوض في ذلك، ومن الأسباب المهمّة التي يذكرها أنّ هؤلاء الأجانب عاشوا في مجتمعات منفصلة هُيّئت لهم، توفّر فيها ما يُشابه مجتمعاتهم، يقول: «بالنتيجة نفهم أنّ ما كُتب عن اشتباك النفط شحيحٌ في كلّ مكان، فهذا الصمت يتعدّى العربيّة والإنجليزيّة. ففي البنغالية مثلا، حيث أدب الرحلات من أبرز الأنواع الأدبيّة، تصدر كلّ عامّ عشرات من كتب الرحلات عن أمريكا وأوروبا والصين، بالإضافة إلى القصص والروايات التي يكتبها المهاجرون عن نيوجرسي وكاليفورنيا وشتّى أجزاء أوروبا، بينما لم تأت المئات المؤلّفة من متحدّثي البنغالية في مملكات النفط بأي نصّ ذي قيمة أدبيّة، أو بقيمة من أيّ نوع حتّى».
ورؤيته فيها من الصواب عينه جانب، وفيها ممّا يُجانب الصواب جوانب، فالنفط لم يكوّن في حدّ ذاته مخيّلة سرديّة، وإنّما المخيّلة السرديّة كامنة في هذه الربوع في حاجة إلى إخراجها إلى النور، وهو الأمر الذي اضطلع به جيل التسعينيّات بشكل فاعل. لقد كانت الرواية عينا راصدة مهمّة لهذا التحوّل التاريخيّ في بنية المجتمع الخليجي، عبر موسوعة فتّحت الأبواب المغلَّقة بإحكامٍ، وأبانت أنّ التخييل في هذه البيئة يحتاج عاملا محفّزا فقط، هذه الموسوعة هي «مدن الملح» التي كتبها الروائيّ المتنازَع عليه، الذي تتشكّل فيه الوحدة العربيّة، منشأً وانتسابا وتحوّلا وحياةً، وهو عبد الرحمن منيف، الكفّة المُوازنة لهيمنة نجيب محفوظ على البساط الروائيّ. لقد كتب منيف الرواية الأساس التي تؤرّخ لتمصير الأمصار، ولتغيّر بنية الإنسان، ولتحوّل المجتمع الخليجي، الرواية المُخيّلة لهذا التحوّل الجذري في بنية الإنسان أوّلا نفسيّا واجتماعيّا وفي بنية المجتمع ثانيا، وفي منزلة الدُوَل ثالثا، هي رواية «مُدن الملح»، هي الموسوعة العربيّة التي كتبها خليجيّ، يمتلك آليّات التخييل، ومفاتيح القراءة العالمة لمقبل المنطقة، فإذا كان النفط هو علّة العلل، فإنّ منيف يمتهن هذه العلّة، وقضّى قسما من حياته عاملا فيها، وتمكّن بمخيّلته الروائيّة من تفحّص التاريخ ومن استشراف المقبل. منيف هو حجر الأساس في رصد ما لم يُرصَد، وسأعتبره من النوى المؤسّسة للرواية في الخليج، انتسابا عرقيّا، وانتسابا روائيّا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القرن العشرین الخلیج العربی ة العربی ة التحو ل
إقرأ أيضاً:
السيدة ذات الخواتم.. شاهد صامت على كارثة فيزوف المدمرة| إيه الحكاية؟
تُعد "السيدة ذات الخواتم" واحدة من أكثر الاكتشافات إثارة في مدينة هيركولانيوم الرومانية القديمة، والتي طمرها ثوران جبل فيزوف الكارثي عام 79 ميلاديًا، وكما هو حال جارتها الأشهر بومبي، فقد حُفظت هيركولانيوم تحت طبقات سميكة من المواد البركانية، مما وفر للعلماء نافذة فريدة للتعرف على تفاصيل الحياة اليومية والموت المفاجئ في الإمبراطورية الرومانية، وذلك وفقًا لما نشره موقع صحيفة (greekreporter).
عُثر على بقايا "السيدة ذات الخواتم" عام 1982، أثناء الحفريات الأثرية التي كشفت عن هياكل عظمية لحوالي 300 شخص على طول الواجهة البحرية للمدينة، تم تسميتها بهذا اللقب نظرًا لكمية الخواتم الذهبية والمجوهرات التي كانت لا تزال تزيّن جسدها عند اكتشافها، مما يُشير إلى أنها كانت امرأة ذات مكانة اجتماعية مرموقة، ربما من النخبة الرومانية الثرية.
مأوى تحوّل إلى فخ قاتلفي لحظة الكارثة، سعى سكان هيركولانيوم إلى الاحتماء في المراكب الحجرية على الشاطئ، على أمل النجاة من الثوران، لكنهم واجهوا تدفقات بركانية فتاتية بلغت حرارتها نحو 500 درجة مئوية، ما أدى إلى موتهم على الفور واحتراق أجسادهم بشكل شبه كامل، وعلى عكس بومبي، حيث دفن الرماد الجثث وحافظ على ملامحها، فإن ضحايا هيركولانيوم تعرضوا لحرارة شديدة أدت إلى تفحم المواد العضوية، تاركة وراءها هياكل عظمية محترقة.
محاولات نجاة أم تشبث بالمكانة؟وبحسب موقع صحيفة (greekreporter ) فقد تكون "السيدة ذات الخواتم" قد حاولت الفرار بثروتها، أو اعتقدت بإمكانية النجاة، حيث رأى بعض علماء الآثار أن مجوهراتها دليلاً على الرغبة في الحفاظ على المقتنيات الثمينة، أو قد تكون مجرد تمسك رمزي بمظاهر المكانة الاجتماعية حتى في لحظات النهاية.
ماذا تقول عظامها؟بناءً على تحليل هيكلها العظمي، يُقدر أن عمرها وقت الوفاة كان بين 45 و50 عامًا، ورغم وجود دلائل على التهاب مفاصل بسيط مرتبط بمنتصف العمر، فإنها كانت تتمتع بصحة جيدة نسبيًا، هذا يعزز من الصورة العامة عن نمط الحياة الذي عاشته، والذي اتسم بالراحة والوفرة.
انعكاس للحياة الرومانية الطبقيةتُقدم قصة هذه السيدة لمحةً نادرة عن سلوك الطبقات العليا في لحظات الأزمة، فحتى وسط الفوضى والموت، ظلت الزينة والمجوهرات حاضرة، شاهدة على براعة الحرفيين الرومان، وعلى البعد الرمزي العميق للذهب والمكانة في المجتمع الروماني.
هيركولانيوم.. مدينة ثرية أقل شهرة من بومبيكانت هيركولانيوم مدينة مزدهرة تقع على طول خليج نابولي، أقل شهرة من بومبي، لكنها لا تقل أهمية منها من الناحية الأثرية، وتُظهر المكتشفات فيها من (منازل فاخرة، وكتب، وأدوات) تفاصيل دقيقة عن الحياة الرومانية.
ومن أبرز الاكتشافات الحديثة في هيركولانيوم، مخطوطة يونانية قديمة تضررت أثناء الكارثة، نجح فريق من الطلاب المدعومين بالذكاء الاصطناعي في فك رموز أكثر من 2000 حرف منها، مما يعكس التقدم المتسارع في توظيف التكنولوجيا لخدمة علم الآثار.