المستعمر وطرق الملاحة في البحر الأحمر
تاريخ النشر: 2nd, February 2024 GMT
العالم اليوم يموج مضطرباً وقد بدأت الثورات التحررية تجتاح الشعوب، وبدأت الصحوة تعم البلدان وبدأ النظام الرأسمالي ينحسر شيئاً فشيئاً، وبدأت الشعوب تعرف عدوها من صديقها، ولذلك يتوجب على أحرار العالم الضرب بيد من حديد حلم عودة المستعمر إلى البلدان ليعيث فيها فسادا، كما كان عليه الحال في سالف عهده.
فمنذ تفجرت الأوضاع في المنطقة العربية، وفق ما يسمى باستراتيجية راند لعام 2007م، منذ مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة، تماوجت الأحداث وسارت السفن بما لا يشتهي العالم الرأسمالي الذي تديره الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، فرأينا الثورات المضادة في أكثر من مكان تبزغ حاملة حنين التحرر والاستقلال، إذ بزغت ثورة مضادة في اليمن، وقبل ذلك ثورة مضادة لما يسمى الربيع العربي في مصر، ثم خرجت تونس من تحت عباءة الاخوان بطريقة سلسة ومرنة ولا تزال تعاني من تبعات ذلك، ثم خرجت ثورة مضادة في ليبيا ولا تزال تدير الصراع في ليبيا إلى اللحظة، ومع بزوغ الثورات المضادة لثورات الربيع العربي التي قادها الاخوان بتوافق مع الأمريكان والنظام الرأسمالي العالمي في كل المنطقة العربية، كنا نلاحظ أنياب المستعمر القديم تبرز من جديد ,فقد كشر المستعمر عن نابه في اليمن، فرأيناه يدير الصراع في الجنوب المحتل ويحتال على الملف السياسي من خلال المبعوث الأممي الذي جاء كي ينفذ أجندات المستعمر البريطاني في جنوب اليمن، وحاولت فرنسا أن تلعب دوراً محورياً في تونس، وعادت إيطاليا إلى ليبيا تحت لافتات السلام أو مبادرة السلام، وهكذا دواليك رأينا المستعمر القديم يكشّر عن نابه ويعود إلى المناطق التي كان يديرها عبر السفارات وبكادر وطني لا يكاد يحيد عن المصالح الكبرى للدول المستعمرة قديماً.
وخلال العام 2023م، حدثت انقلابات في القارة السمراء، فرأينا كيف استنفرت الدول الاستعمارية نفسها، وكمثال رأينا فرنسا وقد خرجت تتهدد النيجر بالاجتياح العسكري، وترفض مغادرة سفيرها للنيجر، والنيجر كانت مستعمرة فرنسية منذ مطلع القرن العشرين ونالت استقلالها في زمن الثورات التحررية في المنطقة العربية مطلع العقد السادس من القرن العشرين، ولم يَرُق للمستعمر استقلال النيجر، بل حاول السيطرة على مقاليد البلاد عبر القوة الناعمة التي تدير مصالحه في ظل الشعور بالسيادة والاستقلال الظاهر شكلاً والغائب مضموناً، ومع تأثير الواقع العربي على الأوضاع في النيجر وبروز الصراع الدولي بين الدول الكبرى، مثل الصراع العسكري في أوكرانيا بين الروس والغرب وأمريكا والصراع الاقتصادي بين الغرب والصين وخوف أمريكا من فقدانها زمام المبادرة في إدارة العالم بنظام القطب الواحد، وتفكك النظام الدولي, ورغبة الكثير من الدول في إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، كل ذلك ساهم بشكل مباشر وغير مباشر على الوضع في أفريقيا، باعتبار القارة السمراء أرضاً بكر تُستغل ثرواتها من قبل المستعمر القديم / الجديد دون أن ينعكس ذلك على الشعوب الفقيرة هناك، ولا على التنمية، مجرد استغلال وغَبن تمارسه الدول الاستعمارية الكبرى على الدول الفقيرة، حيث تستغل الثروات عبر الشركات الكبرى دون أي صحوة من الشعوب التي تقع تحت نير التخلف والجهل والفقر، ولذلك ترى الدول الاستعمارية أن انقلاب النيجر جرس إنذار قد يهدد مصالحها، فاستنفرت كل الإمكانات إلى درجة تهديد أمريكا بالاجتياح العسكري للنيجر، بعد أن طالب المجلس العسكري القوات الفرنسية المرابطة في النيجر بالمغادرة، وطلب مغادرة السفير الفرنسي باعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، وفق الأعراف الدبلوماسية الدولية، لكن فرنسا تُصر على بقاء سفيرها وترى أن ذلك يمس سيادتها وكرامتها السياسية، وهي لم تدرك بعد أن النيجر دولة مستقلة ذات سيادة، نالت استقلالها عام 1960م، فتجاوزت كل المعطيات الشكلية التي كانت تخدع بها العالم لتكشف عن وجهها الاستعماري القبيح .
ما حدث في النيجر ليس غريبا، بل هو إعلان واضح عن جوهر الأشياء في ظل النظام الدولي ذي القطب الواحد الذي يستغل مقدرات الشعوب ويفرض سيطرته على حريتها واستقلالها، وهو كذلك في كل المنطقة العربية التي كانت تحت نير استعماره خلال القرن العشرين، ولذلك نجده يقاوم كل حركات التحرر والاستقلال في أي مكان كان في العالم طالما وهي تهدد مصالحه .
ويبدو لي أن دخول الاتحاد الأوروبي في موضوع الملاحة في البحر الأحمر بيان واضح لرغبة المستعمر القديم في حلم العودة وممارسة الغوايات الاستعمارية القديمة، لكن الوضع اليوم أكثر تغيراً وتبدلاً من ذي قبل، فالسلام لن يكون سلاماً بالبارجات وحاملات الطائرات وبعسكرة المياه الدولية في البحر الأحمر.
فالإعلان الرسمي للاتحاد الأوروبي يقول إنه يريد تكثيف حضوره في البحر الأحمر حمايةً للملاحة الدولية والاقتصاد العالمي الذي يهدده شبح الانهيار بسبب الاضطرابات في البحر الأحمر، وقال إنه لن يشارك في الهجمات على الحوثيين ولكن مهمته حماية الملاحة الدولية، والمعنى الصريح للإعلان هو تدويل المعركة في البحر حتى تتسع إلى مدى غير معلوم الأبعاد والغايات، فالدول التي لها مصالح متضادة مع دول الاتحاد الأوروبي ومع أمريكا وبريطانيا ستعمل على إرسال البارجات والكاسحات وحاملات الطائرات حمايةً لمصالحها وبمثل ذلك ربما بدأت المعركة العالمية الثالثة التي يتوقع الكثيرون حدوثها .
نحن على مشارف متغير دولي وإقليمي، ربما كانت البداية من طوفان الأقصى وهو طوفان سوف يغيَّر وجه العالم، وربما نشهد متغيرات كثيرة في قابل أيامنا، كما تدل رموز الواقع ومؤشراته، والتعامل مع الزمن الجديد يحتاج عقلاً سياسياً مرناً ومتزناً وقادراً على الوصول إلى أهدافه بأقل التكاليف والخسائر، فالقليل قد يوصلنا إلى الكل، كما أن إرادة الكل قد تفقدنا القليل .
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
العمليات اليمنية لإسناد غزة (2-2) فعالية التكتيك، ودروس الإنجاز
استراتيجية اليمن البحرية – من الدفاع إلى الهجومأعلنت صنعاء بوضوح دعمها العسكري للمقاومة الفلسطينية من خلال منع السفن المرتبطة بالكيان من عبور البحر الأحمر، وهو ما أدى فعليًا إلى إغلاق ميناء أم الرشراس الإسرائيلي، وحرمان العدو الصهيوني من أحد منافذه البحرية الحيوية. هذه الخطوة لم تكن فقط رمزية، بل أحدثت آثارًا اقتصادية مباشرة على التجارة الإسرائيلية، وأسهمت في تحويل البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة مفتوحة.
لم تكن تلك العمليات ضربات استعراضية، بل سلسلة هجمات دقيقة باستخدام صواريخ مضادة للسفن، وطائرات مسيّرة، وحتى قوارب انتحارية، في تكرار لتكتيكات الحروب غير المتماثلة التي أظهرت فعاليتها في المواجهة مع أساطيل بحرية مدججة.
عندما قررت الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وبعض الدول الأوروبية تشكيل تحالف بحري لمواجهة تهديدات اليمن، كانت تتوقع صراعًا خاطفًا ينتهي بإخماد "التمرد اليمني". غير أن ما حدث كان العكس تمامًا: دخلت واشنطن وحلفاؤها في أطول مواجهة بحرية غير تقليدية منذ الحرب العالمية الثانية تقريبًا، دامت أكثر من عام ونصف.
أطلقت القوات اليمنية سلسلة من العمليات النوعية ضد القطع البحرية الأمريكية، بل وتجرأت على مهاجمة حاملات طائرات أمريكية في البحر الأحمر، وهو ما لم يحدث منذ عقود. أظهر ذلك تحول اليمن إلى فاعل قادر على كسر هيبة القوة البحرية الأمريكية في واحدة من أهم نقاط التجارة العالمية.
وبينما حاولت الدول الأوروبية الظهور بمظهر الحليف القوي، فإن غالبية السفن الحربية الأوروبية انسحبت من البحر الأحمر خلال الأشهر الأولى من المواجهة، بعد أن تبين ضعف قدراتها الدفاعية في مواجهة الهجمات اليمنية. هذا الانسحاب لم يكن تكتيكيًا، بل كاشفًا لمدى هشاشة الجيوش الغربية أمام حرب غير تقليدية تدار من ساحل فقير، لكنه مليء بالإرادة والابتكار العسكري.
المعركة كشفت أن التفوق التكنولوجي لا يضمن النصر في الحروب الحديثة، خاصة حين تواجه قوى تمتلك الإرادة والتكتيك المناسب. تعرض السفن الغربية لهجمات متكررة دون ردع حاسم أبرز ضعف أنظمة الدفاع البحري الغربية أمام صواريخ دقيقة وطائرات مسيّرة فعالة.
ولم يكن حال القوات البحرية الأمريكية بأحسن من حال البحرية الأوروبية التي انخرطت في البحر الأحمر، مبتعدة مسافة عن البحرية الأمريكية وتحالف الازدهار، واختارت لنفسها أن تبقى في خطوة للخلف، تحت مسمى تحالف أسبيدس، لكن المعركة البحرية كشفت هشاشة تلك القوة أيضا، حيث انسحبت السفن الأوروبية واحدة تلو الأخرى، تحت ضغط النيران التي وصفها قائد الفرقاطة الفرنسية بأنها غير مسبوقة.
وقد تعرضت عدة سفن حربية أوروبية لهجمات مباشرة، ما كشف عن نقاط ضعف في القدرات الدفاعية لتلك السفن:
الفرقاطة الفرنسية "أكيتان": تعرضت لهجمات بطائرات مسيرة وصواريخ، ما أدى إلى انسحابها من المنطقة بعد تقييم التهديدات الأمنية، فأعلنت انسحابها بعد 71 يوما فقط، لأسباب تتعلق بنفاد الأسلحة والذخائر، وفقا لقائدها جيروم هنري، الذي أكد بدوره في مقابلة مع صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، أن البحرية الفرنسية لم تتعامل مع هذا المستوى من التسلح والعنف، مؤكدا أن التهديد الذي واجهوه في البحر الأحمر، أكبر بكثير.
الفرقاطة الدنماركية "إيفر هويتفيلد -وقد جاء انسحابها بعد فضيحة عملياتية خطيرة- فشلت في التصدي لهجوم بطائرات مسيرة يمنية، وتقول التقارير حينها، إن الأنظمة الدفاعية للسفينة تعطلت وانفجرت قذائفها الدفاعية مباشرة بعد إطلاقها؛ الأمر الذي شكِّل خطرًا على طاقهما، ودفع وزير الدفاع الدنماركي إلى إقالة رئيس الأركان في البلاد؛ لأَنَّه لم يبلِّغْ بهذا التعطل.
السفينة البريطانية HMS Diamond، وهي مدمرة من طراز Type 45، عملت الى جانب البحرية الأمريكية خلال الفترة من ديسمبر 2023 حتى يوليو 2024، في إطار عملية "حارس الازدهار"، لكنها غادرت إلى جبل طارق لإجراء الصيانة، وإعادة التسليح، قبل أن تغادر نهائيا في يوليو 2024، تحت ضغط ماتسميه التقارير الغربية: "التحديات اللوجستية التي تواجه البحرية الغربية في مثل هذه البيئات عالية التهديد"، وهو تعبير واضح عن عدم قدرة هذه السفينة على مواجهة النيران اليمنية.
الفرقاطة الألمانية "هيسن": كانت ثاني سفينة تغادر البحر الأحمر، بعد تعرضها لهجمات مماثلة، ما أظهر تحديات كبيرة في مواجهة التهديدات غير التقليدية.
وفي تعليقه عقب مغادرة السفينة الحربية البريطانية ريتشموند، ومن ثم السفينة الحربية الدنماركية إيفر هويتفيلدت، قال عضو المجلس السياسي الاعلى محمد علي الحوثي: “بعد انسحاب مدمرة (البيض) البريطانية ريتشموند من الأحمر تنسحب فرقاطة (الزبدة) الدنماركية إيفر هويتفيلدت أيضًا، لتبقى قصص البحر الأحمر شاهدةً على طغيان دول الاستكبار ضد غزة، ولتسطّر لقواتنا المسلحة اليمنية مواقف النصرة والمساندة في وجدان الأحرار بإذن الله بأحرف الإنجازات المشرقة”.
في تحول غير متوقع، أعلنت الولايات المتحدة وقف إطلاق النار مع اليمن في 2025، بعد أن فشلت كل محاولاتها في تحقيق الردع عسكريًا، ووسط تزايد الضغوط الداخلية لإنهاء الاستنزاف في البحر الأحمر، وإبعاد الولايات المتحدة عن التورط في حرب طويلة، هذا الإعلان لم يكن مجرد نهاية لمرحلة صراع، بل اعتراف ضمني بمكانة اليمن الجديدة بكونها قوة إقليمية بحرية فاعلة، قادرة على فرض شروطها في ملفات الأمن الإقليمي، وإعادة تعريف النفوذ في القرن الإفريقي وممرات الطاقة العالمية.
المفاوضات غير المباشرة التي سبقت وقف النار شهدت - بحسب تقارير متقاطعة - مطالب يمنية تضمنت تخفيف الحصار على اليمن، وضمانات لحرية الملاحة اليمنية، ورفع اسم أنصار الله من قوائم الإرهاب. هذا ما جعل من إعلان الهدنة انتصارًا دبلوماسيًا يعادل الانتصار العسكري.
وبعد ايام من إعلان ترامب وقف النار، وقف نائبه "جي دي فانس" أمام حفل تخرج دفعة بحرية، وأعلن صراحة عن انتهاء عصر الهيمنة الأمريكية، على خلفية المعركة البحرية مع القوات المسحلة اليمنية.
في تعليقها على ذلك قالت صحيفة ذا هيل الأمريكية إن وقف النار بين اليمن والولايات المتحدة يُنظر إليه على نطاق أوسع، ليس سلامًا بقدر ما هو إرهاق في البحرية الأمريكية، وأن أكثر من مليار دولار غرقت في الرمال دون أي مكسب استراتيجي ملموس، مضيفة أن ترامب، المُروّج الدائم لشعار "أمريكا أولاً"، قد أدرك أن عوائد الاستثمار العسكري في اليمن معدومة. وأكدت أن الحملة الأمريكية لم تفشل في تحييد "الحوثيين" فحسب، بل ربما عززت مكانتهم إقليميًا ورمزيًا.
استطاعت اليمن، رغم الحصار والحرب العدوانية، منذ العام 2015، أن تطور قدرات بحرية نوعية قائمة على الاستشعار الإلكتروني، الحرب السيبرانية، والضربات الدقيقة الموجهة. هذه القدرات حولت اليمن من "دولة منهكة" إلى "قوة مؤثرة" في أمن الممرات المائية الدولية.
اليمن التي كانت محاصرة قبل عقد، أصبحت الآن طرفًا يُحسب له ألف حساب في البحر الأحمر، وورقة أساسية في معادلات الأمن البحري العالمي. ومن خلال دعمها لغزة عبر الضغط العسكري البحري، لم تحقق فقط نصرة رمزية، بل غيّرت شكل الجغرافيا السياسية للمنطقة.
نجاح اليمن في فرض تحديات حقيقية على القوى البحرية الغربية أدى إلى تعزيز مكانتها الإقليمية حيث أصبحت اليمن لاعبًا مؤثرًا في أمن الملاحة الدولية. وساهمت في رسم التحالفات وتشكيلها في المنطقة، حيث أضعف الإسهام اليمني الفاعل في إسناد غزة من قدرات الولايات المتحدة في بناء تحالف يضم دولا في المنطقة، كالسعودية والإمارت ومصر، التي رفضت الانخراط في تحالف الازدهار، كما أن الدول الأوروبية هي الأخرى اختارت لنفسها أن تتموضع بعيدا عن التحالف العدواني الأمريكي البريطاني، وذهبت لتشكيل تحالف خاص، مفضلة عدم الانخراط بشكل أكثر عدائية، وبمجرد أن كانت سفنها تشتبك مع القوات اليمنية، كانت تشعر بالخطر، وتفضل سحب تلك السفن، حتى أصبح البحر الأحمر خاليا من أي تواجد عسكري أوروبي.
وبالمحصلة فإن العمليات التي بدأت كتضامن مع فلسطين، أسفرت مرة بعد أخرى، عن اعتراف عالمي بمكانة اليمن كقوة بحرية ناشئة. لم تعد صنعاء في الهامش، بل على طاولة التفاوض، بشروطها.