البصمة الكربونية لحرب غزة.. خطر بيئي يستلزم التدخل
تاريخ النشر: 7th, February 2024 GMT
عادة ما ينصرف الحديث عن التأثيرات البيئية للحروب إلى الإشارة لما تخلفه من مواد كيميائية سامة تلوث التربة والمياه لعقود من الزمن حتى بعد توقف القتال، ولكن الاهتمام العالمي مؤخرا بقضايا "تغير المناخ" -لاسيما بعد الأحداث المناخية المتطرفة التي وقعت خلال السنوات الخمس الماضية- ساهم في فتح "الصندوق الأسود" لمساهمات الحروب في انبعاثات الكربون، وتأثيراتها طويلة الأمد على المناخ.
وبينما وجد باحثون في الحرب الروسية الأوكرانية نموذجا عمليا لبيان حجم التأثير الذي تحدثه الحروب، وطالبوا قبل نحو عامين في تقرير أعدته "مبادرة حساب الغازات الدفيئة للحرب الروسية الأوكرانية" (رابطة لخبراء المناخ يقومون بتقدير تأثير الحرب على المناخ)، بإضافة بنود إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ تتضمن الانبعاثات العسكرية، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة التي أعقبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول، جاءت لتدعم هذا المطلب بعد أن كشفت دراسة حديثة لباحثين بريطانيين وأميركيين عن حجم هائل من الانبعاثات خلفته تلك الحرب في شهورها الأولى.
وخلفت الحرب الروسية الأوكرانية في سنتها الأولى 120 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون، وهذا يعادل تقريبا الانبعاثات السنوية لبلجيكا، وفق التقرير الذي أصدرته مبادرة حساب الغازات الدفيئة. بينما كشفت الدراسة بشأن حرب غزة التي نشرت بموقع ما قبل طباعة الأبحاث (سوشيال سيانس ريسيرش نيتورك) عن حجم هائل من الانبعاثات خلال الشهرين الأولين فقط يفوق البصمة الكربونية السنوية لأكثر من 20 دولة من أكثر دول العالم في الانبعاثات.
وعزت الدراسة الغالبية العظمى من الانبعاثات (99%) -من 281 ألف طن متري (الطن المتري يساوي 1000 كلغ) من ثاني أكسيد الكربون، تولدت في أول 60 يوما من الحرب- إلى القصف الجوي الإسرائيلي والغزو البري لغزة، وكان ما يقرب من نصفها بسبب طائرات الشحن الأميركية التي تنقل الإمدادات العسكرية إلى إسرائيل.
ووفقا للدراسة التي تعتمد على عدد قليل فقط من الأنشطة كثيفة الكربون، وبالتالي ربما تكون أقل من الواقع بشكل كبير، فإن كلفة المناخ خلال الأيام الـ60 الأولى من الهجوم العسكري الإسرائيلي كانت تعادل حرق ما لا يقل عن 150 ألف طن من الفحم.
وولدت الصواريخ التي أطلقتها حماس على إسرائيل في الفترة نفسها نحو 713 طنا من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يعادل حوالي 300 طن من الفحم، مما يؤكد عدم التماثل في آلية الحرب لدى كل جانب.
ويتضمن التحليل الذي نشرته الدراسة، ثاني أكسيد الكربون الناتج عن مهمات الطائرات والدبابات والوقود من المركبات الأخرى، بالإضافة إلى الانبعاثات الناتجة عن صنع وتفجير القنابل والمدفعية والصواريخ، ولا يشمل الغازات الأخرى المسببة للاحتباس الحراري مثل الميثان، لذلك فإن الدراسة لا تعطي سوى صورة جزئية لانبعاثات الكربون الهائلة والملوثات السامة الأوسع التي ستبقى لفترة طويلة بعد انتهاء القتال، كما يقول بنجامين نيمارك أحد كبار المحاضرين بجامعة كوين ماري البريطانية في تقرير نشرته صحيفة غارديان البريطانية في يناير/كانون الثاني الماضي.
وأوضح نيمارك الذي قاد الدراسة بمشاركة باحثين من جامعة لانكستر، ومشروع المناخ والمجتمع وهو مركز أبحاث لسياسات المناخ مقره الولايات المتحدة: أن "هذه الانبعاثات يجب ألا تمر دون مساءلة، وأن الاستثناء البيئي الذي تتمتع به الجيوش والذي يسمح لها بالتلوث مع الإفلات من العقاب يجب أن يتوقف".
ولفت نيمارك الانتباه إلى أن المساءلة الدولية عن هذه الانبعاثات، تأتي بعد أن يتم إضافة بنود واضحة لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ والانبعاثات العسكرية، والتي يجب أن تشمل أيضا الانبعاثات التي ستنتج عن إعادة الإعمار.
ويقدر البحث الجديد أن كلفة الكربون لإعادة بناء 100 ألف مبنى متضرر في غزة باستخدام تقنيات البناء المعاصرة؛ ستولد ما لا يقل عن 30 مليون طن متري من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وهذا يعادل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية في نيوزيلندا وأعلى من 135 دولة ومنطقة أخرى بما في ذلك سريلانكا ولبنان وأوروغواي.
ورغم اقتناع نيمارك وغيره من الباحثين -الذين درسوا البصمة الكربونية للحروب- بضرورة إدراج العواقب المناخية للحروب في الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ، فإن الخبير المصري والمنسق الوطني السابق لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ هشام عيسى، يوضح أن هذه المطالب، وإن كانت قد تجددت وأصبحت أكثر قوة بعد حرب غزة، فإنها ليست جديدة.
ويقول في حديث هاتفي مع "الجزيرة نت": "حرب غزة أكدت المطالب السابقة، ولكن الخبرة الماضية تشير إلى أن هناك صعوبات في تقدير البصمة الكربونية العسكرية، لذلك دائما ما تتجنب سكرتارية مؤتمرات الأطراف الخاصة باتفاقية المناخ إدراجها في المفاوضات، ويقتصر الحديث عنها في فعاليات يتم تنظيمها في المنطقتين الخضراء والزرقاء خلال القمة، وهما المخصصتان للأنشطة والندوات".
ووصف عيسى الحديث عن البصمة الكربونية للحروب بأنه "أمر عبثي" ومحاولة لدفع قضية الحروب لمنطقة هامشية، وتساءل ساخرا: "هل ستكون الحرب مقبولة عندما يتم قتل الناس بطريقة صديقة للبيئة".
وكان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، آثار هذه النقطة عندما علق في أحد خطاباته على مساعي إدارة الرئيس بايدن لجعل الآليات العسكرية تعمل بالطاقة النظيفة، حيث قال ساخرا: "الدبابات إذا كانت كهربائية، فإنها ستفجر الجحيم في البلد الذي تذهب إليه، لكن على الأقل ستقوم بذلك بطريقة صديقة للبيئة".
سبب إضافي لوقف الحربوعلى النقيض من الرأي السابق، يرى الأمين العام لاتحاد خبراء البيئة العرب مجدي علام، أن الحديث عن البصمة الكربونية لحرب غزة، هو سبب إضافي للدفع بضرورة وقفها.
وقال في حديث هاتفي مع "الجزيرة نت": "الحديث عن البصمة الكربونية لحرب غزة محاولة للفت انتباه الدول الأخرى بأن الآثار المدمرة لتلك الحرب ستصلكم عبر مساهمة انبعاثاتها في تغير المناخ العالمي".
ويحمّل علّام الولايات المتحدة مسؤولية إعاقة وضع البصمة الكربونية للحروب على جدول أعمال مفاوضات قمم المناخ، رغم أنها دائما ما تكون حاضرة في تصريحات رؤساء الوفود، وفي بعض الندوات والفعاليات في المنطقتين الزرقاء والخضراء بقمم المناخ.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، والعاهل الأردني الملك عبد الله، شددوا خلال قمة تغير المناخ الماضية في دبي (كوب 28)، على أن المناقشات بشأن تغير المناخ ينبغي ألا تستبعد تأثيرات القصف الإسرائيلي المستمر لغزة.
وقال وزير الموارد الطبيعية والبيئة وتغير المناخ الماليزي نيك نظمي في تصريحات صحفية على هامش مشاركته بالقمة، إنه يجب تناول التأثير المناخي والبيئي للهجوم الإسرائيلي على غزة.
ولفت علام الذي كان عضوا في فريق شكله برنامج الأمم المتحدة للبيئة لتقييم حجم الدمار البيئي الذي أحدثه الجيش الأميركي في العراق، إلى أنه رغم غياب البيانات الرسمية عن البصمة الكربونية للجيوش في التقارير التي تُقدمها سنويا لاتفاقية الأمم المتحدة للمناخ، إلا أنه صارت لدى الفرق البحثية المعنية بهذه القضية بعض الأدوات التي يمكن استخدامها وتعطي تقديرات تقريبية.
كيف تُحسب البصمة الكربونية للجيوش؟وفصل بنجامين نيمارك -الذي قاد دراسة البصمة الكربونية لحرب غزة- في الآلية التي تُستخدم لحساب البصمة الكربونية للجيوش في مقال نشره بموقع "ذا كونفرسيشن".
وأوضح نيمارك أنه توجد أربعة أنواع من الانبعاثات، ولكل نوع طريقة لحسابه، وهي:
أولا: انبعاثات النطاق 1؛ وتشمل الانبعاثات المباشرة المسببة للاحتباس الحراري والناتجة عن الطائرات والآليات العسكرية، ونستطيع مثلا إذا عرفنا كمية الوقود التي يستهلكها نوع معين من الطائرات النفاثة لكل كيلومتر، البدء بتقدير كمية الكربون المنبعثة من أسطول كامل من تلك الطائرات خلال كمية معينة من المهام. ثانيا: انبعاثات النطاق 2؛ وتشمل انبعاثات غازات الدفيئة غير المباشرة المرتبطة بتشغيل الكهرباء أو البخار أو الحرارة أو التبريد، فمثلا عن طريق حساب الانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز لإنتاج الكهرباء لإضاءة ثكنات عسكرية، نستطيع وضع تصور لحجم هذه الانبعاثات. ثالثا: انبعاثات النطاق 3؛ وتضم جميع الأنشطة غير الواردة في الأولى والثانية، وتشير إلى الانبعاثات في سلاسل التوريد العسكرية واسعة النطاق، وتتضمن الكربون المنبعث من أي شيء بدءا من تصنيع الأسلحة إلى تكنولوجيا المعلومات وغيرها من الخدمات اللوجستية. رابعا: انبعاثات النطاق 3 بلس؛ وتشمل كل شيء من الأضرار الناجمة عن الحرب إلى إعادة البناء في مرحلة ما بعد الصراع.ومن خلال تقدير حجم هذه الأنواع الأربعة من الانبعاثات، استطاع نيمارك وزملاءه تقدير حجم البصمة الكربونية لحرب غزة، مستعينين بخبراتهم السابقة في تحديد حجم البصمة الكربونية للحرب الروسية الأوكرانية والهجوم الأميركي على العراق.
وكانت "انبعاثات النطاق 3 بلس" حاضرة في بحث نشره نيمارك وزملاؤه، تناول استخدام الجيش الأميركي للخرسانة في العراق من عام 2003 إلى عام 2011.
ويشير هذا البحث إلى أنه "أثناء احتلال الجيش الأميركي لبغداد، قام ببناء مئات الأميال من الجدران كجزء من إستراتيجيته لمكافحة التمرد في المناطق الحضرية، واستخدمها للحماية من الأضرار الناجمة عن القنابل التي زرعها المتمردون، ولإدارة تحركات المدنيين والمتمردين داخل المدينة عن طريق توجيه السكان عبر الطرق ونقاط التفتيش المصرح بها، وكان لهذه الخرسانة بصمة كربونية هائلة، حيث مثلت ما يقرب من 7٪ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، وكانت الجدران الخرسانية في بغداد وحدها بطول 412 كيلومترا (256 ميلا)، أي أطول من المسافة من لندن إلى باريس، وتسببت بانبعاث ما يقدر بنحو 200 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون وما يعادله من الغازات الأخرى، وهو ما يعادل تقريبا إجمالي انبعاثات عادم السيارات السنوية في المملكة المتحدة، أو كامل الانبعاثات لدولة جزرية صغيرة".
وعلى ذلك يرى علام، أن الإشكال يكمن في طريقة عرض المشكلة، ويختم بالقول: "عرضها في إطار المقارنات كما تفعل هذه الدراسات يجعلنا ندرك خطورتها، فهي ليست ضررا هامشيا لحرب غزة، لكنها تقع في قلب الأضرار، ويحب تأكيد ضرورة فتح هذا الصندوق الأسود".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: من ثانی أکسید الکربون الروسیة الأوکرانیة بشأن تغیر المناخ من الانبعاثات الأمم المتحدة الحدیث عن حرب غزة إلى أن
إقرأ أيضاً:
مادة “تلتهم” ثاني أكسيد الكربون.. هل تصبح أساس بناء بيوت المستقبل؟
انضم إلى قناتنا على واتساب
شمسان بوست / متابعات:
لو سألت أي مهندس عمّا يبقي المدن واقفة، فستسمع كلمة واحدة تتكرر، إنها الخرسانة، المادة الأكثر استخدامًا في البناء على الكوكب، لكنها تحمل “فاتورة كربون” ثقيلة؛ إذ ترتبط صناعة الخرسانة والأسمنت بانبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون.
بل ويقدّر نصيب الخرسانة من انبعاثات هذا الغاز الضارة، بنحو قرابة 8% من الانبعاثات العالمية، وفق ما ورد في تصريحات فريق بحثي بجامعة ووستر بوليتكنك الأميركية.
وأخيرا، قدّم هؤلاء الباحثون مادة إنشائية جديدة اسمها “المادة الإنشائية الإنزيمية”، لا تَعِد فقط بتقليل الانبعاثات، بل تمتص ثاني أكسيد الكربون أثناء التصنيع وتحبسه على هيئة معادن صلبة، وتتماسك خلال ساعات بدلا من أسابيع.
الجوهر الكيميائي للفكرة مستوحى من الطبيعة، فكثير من الكائنات تبني أصدافها بتحويل الكربون الذائب إلى كربونات الكالسيوم (حجر جيري).
استعار فريق جامعة ووستر بوليتكنك المبدأ نفسه، لكن بدلا من النشاط الحيوي يستخدم إنزيما يسرّع تفاعلًا معروفًا في الكيمياء الحيوية، وهو تحويل ثاني أكسيد الكربون المذاب في الماء إلى “بيكربونات” أو “كربونات”، اللبنات التي تُسهِّل تكوين كربونات الكالسيوم كبلّورات صلبة.
الإنزيم المذكور في هذه الحالة هو “أنهيدراز الكربونيك”، وهو إنزيم يعتمد على الزنك ويشتهر بقدرته على تسريع ترطيب ثاني أكسيد الكربون في الماء.
إنزيم “سحري”
وتُظهر الاختبارات، التي أورد الباحثون نتائجها في دراستهم التي نشرت بدورية “ماتر”، على ملاطّات جيرية أن هذا الإنزيم يمكنه فعلا رفع سرعة تكوّن بلورات من كربونات الكالسيوم وتحسين القوة المبكرة لأن التفاعل يسير أسرع.
بعد ذلك، يستخدم الفريق تقنية تسمى “المعلّقات الشعرية”، وتتمثل في نظام ثلاثي (سائل-سائل-صلب) تُضاف إليه نُقطة من مادة غير ممتزجة لتكوين جسور شعرية بين الحبيبات، فتتشابك تلقائيا في شبكة قوية تشبه الجل.
وبحسب الدراسة، فإن كل متر مكعب من المادة الإنشائية الإنزيمية يمكن أن يحجز أكثر من 6 كيلوغرامات من ثاني أكسيد الكربون، في حين أن مترا مكعبا من الخرسانة التقليدية قد يرتبط بانبعاث نحو 330 كيلوغراما من ثاني أكسيد الكربون.
ومن ناحية القوة الميكانيكية، فإن المادة الإنشائية الإنزيمية حققت قوة ضغط في نطاق 25-28 ميغاباسكال، أي قريبة من الحد الأدنى لبعض خرسانات الاستخدام الإنشائي، مع امكانية مقاومة الماء.
تحديات ليست سهلة
هذه الأرقام واعدة، لكنها لا تُغلق النقاش، فالفرق بين “نموذج واعد” و”مادة تدخل كود البناء” يمر باختبارات طويلة للعمر التشغيلي، والتشققات، والدورات الحرارية، والتآكل الكيميائي، وسلوك المادة تحت أحمال متكررة، وهي خطوات عادة ما تكون أطول بكثير، وتطلب المزيد من البحث العلمي.
كما أن التحدي ليس علميًا فقط، بل اقتصادي وتنظيمي أيضا، فما تكلفة الإنزيم؟ وما مدى استقراره في خطوط إنتاج كبيرة؟ وكيف سيندمج في أكواد البناء الحالية؟ يتطلب ذلك أيضا المزيد من البحث.
لكن في النهاية، فإن البحث العلمي في هذا النطاق يسرّع الخطى، لحل واحدة من أكبر مشكلات الكوكب كله، وهي نفث ثاني أكسيد الكربون، والذي يتسبب في الاحتباس الحراري، بما له من أثر ضارب في العالم.