بوح النساء.. هل تتخفى كاتبات السير الذاتية وراء سرد الرواية؟
تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT
لا بد بداية أن نسأل: هل كتابة السيرة الحياتية في العمل الأدبي تهمة؟
وهناك من يثير سؤالا آخر: لماذا تجد الكاتبات العربيات في الكتابة الروائية متسعا لتمرير بعض من سيرتهن بين ثنايا العمل في مقابل الاستغناء عن تقديم كتاب تحت مسمى "سيرة حياتية"؟
لكن ألا يعني ذلك تهميش كتابات الكاتبة العربية؟ خاصة أن هناك أجيالا من الكاتبات خاضت كتابة السيرة، مثل الروائية رضوى عاشور وكتابها "أثقل من رضوى"، والناقدة الروائية "حملة تفتيش"، والشاعرة "رحلة جبلية".
ربما يتطلب كتابة سيرة ذاتية بعض الجرأة والحذر في مجتمعات تضع كتابات المرأة في خانة المساءلة؛ لذلك يحاول المشاركون في هذا الاستطلاع أن يجعلوا الأدب إنسانيا عاما فحسب.
ميثاق الحقيقةتشير الروائية القطرية هدى النعيمي صاحبة كتاب السيرة "بوح النخيل" إلى أنها فضلت في هذا الكتاب أن تكون الراوي الصريح، والشفاف، واختارت البوح عنوانا للكتاب، حيث إنه "قد يكون البوح عنوانا جذابا للقارئ لما نتمتع به جميعا من فضول إنساني للمعرفة، والاقتراب من الأسرار، وإن هذا الفضول الإنساني المشروع هو ما يجعل كتب السيرة تشهد انتشارا واسعا خاصة في الغرب، وربما هذا ما جعل كتابي يلقى قبولا واستحسانا ممن قرأه حتى الآن"، وفق توصيف الروائية القطرية.
ويعني ذلك، بحسب النعيمي، أن أخذ قرار كتابة السيرة الذاتية، مغامرة تحتاج إلى مستوى من الجرأة.
وتضيف: "وجدت في نفسي تلك الشجاعة لخوض هذه التجربة، وقد كان بالفعل وقت كتابة تلك السيرة، وقتا جميلا، وكان الاسترسال في الكتابة، واستعادة صفحات من حياة، وذكريات هو الصفة التي صاحبتني أثناء الكتابة، حتى إنني كنت أكتب الكثير، ثم أقرر بعد أن أنتقي أي المشاهد الحياتية يمكن أن يتضمنها الكتاب الذي أظنه أقرب إلى الرواية الواقعية، باختصار لقد صاحبني شغف الكتابة الجميل، طوال الوقت".
في المقابل، تحدثت الروائية التونسية فتحية دبش عن كون كلّ الكتاب والكاتبات شرقا وغربا يستلهمون ويستلهمن من حيواتهم ومحليتهم في كتاباتهم وخاصّة في فن الرواية.
وتضيف دبش: "وجب أيضا الاعتراف للكاتبات العربيّات بقدرتهنّ على الكتابة الروائية سواء تم الاتكاء فيها على السيرة أو غيرها، خاصة أن كتابة الرواية أكثر تعقيدا من كتابة السيرة الذاتية من حيث تقنيات الكتابة. والكاتبات العربيات أثبتن أن الفارق بين كتاباتهنّ وكتابات الرجال ليس إلا فارقا كمّيا باعتبار وفرة إنتاج الكتّاب (الرجال) مقارنة بعدد الكاتبات".
وتضيف دبش: "أما عن كتابة السيرة الذاتية الصريحة فالأدب العربي لا يخلو منها حتى وإن كانت شحيحة سواء بالنسبة للكتاب أو الكاتبات وذلك يعود إلى عدّة أسباب منها الذاتي ومنها الموضوعي. حيث إنّ كتابة السيرة مشروع تام ومستقل بذاته ويحتاج إلى رؤية واضحة لماهيّة السيرة ومدى أهميّتها لتشكّل إضافة للكاتب وللمكتبة العربية. فإذا لم يتوفر هذا العنصر بطل حافز كتابة السيرة".
وتتابع: "أمّا الموضوعي، وهو الأهم بنظري؛ فيعود إلى عدم تصالح الإنسان العربي بصفة عامة رجلا كان أو امرأة، كاتبا كان أو غير ذلك، مع ثقافة الاعتراف والانكشاف والحقيقة؛ وهي ركيزة لا يمكن كتابة سيرة ذاتية أو غيرية بدون الوعي بها وبدون القدرة على مواجهة الحقيقة العارية. وأعتقد أنّ هذا السبب هو ما جعل الكتّاب العرب لا يلجؤون إلى كتابة السيرة الصريحة. بل وحتى بعض النّصوص "السير-ذاتية" التي وصلتنا لا تذعن لميثاق الحقيقة بل تسقط في معيار التمجيد للذات."
وبالمقابل ترى الروائية السودانية آن الصافي، أن الكاتب -سواء كان رجلا أم امرأة- يعي معطيات البيئات المحلية وثقافاتها.
وتتابع الصافي: "هذه الثقافات -بآلية تعاقبتها الأجيال- وضعت سياجا وخطوطا حمراء لا يُسمح بتجاوزها. على الرغم من أن هناك حقبات تاريخية سابقة كانت تضع الحديث في كل شيء ممكن كما ورد في الأثر من قصص محكية وقصائد ورسوم وكتابات من عصور سابقة".
وتستدرك فتقول إن الأمر لا يقتصر على المرأة بل الرجل أيضا؛ فلكي يعيش الكاتب بسلام ما أمكن؛ يتجنب أن يوصل دقائق وتفاصيل تخصه عبر سرده للسيرة الذاتية بشكل مباشر. ومحاسبة الكاتب أخلاقيا وشخصنة النقد قد تذهب بالأعمال الأدبية وكاتبها إلى أبعاد ليست في الحسبان. يبقى كيف للكاتب أن يعيش في هكذا مجتمعات؟!".
السيرة والروايةفي المقابل، تحدث الناقد المغربي محمد معتصم، عن تخفي المرأة الكاتبة وراء القضايا الكبرى السياسية والاجتماعية؛ حيث تدون ملاحظاتها ومذكراتها، مثلما فعلت الكاتبة المصرية هدى شعراوي وهي تكتب ذاتها من خلال التركيز على موضوعات سياسية عامة، لأن المذكرات ليست سوى نوع آخر من التعبير عن الذات الذي تميزت به كتابة السيرة الذاتية، والتي تحولت مع فيليب لوجون بعد "الميثاق الذاتي" إلى "كتابة الذات"، وتخفت المرأة مرة أخرى وراء الاسم المستعار مثال بنت الشاطئ، بنت البحر.
وقد عبرت عن هذا الاختيار القصري الكاتبة المغربية ليلى أبو زيد في مقدمة سيرتها الذاتية "رجوع إلى الطفولة" خوفا من الوسط الاجتماعي العائلي والأسري وزملاء العمل، الذي تتحكم فيه أحكام القيمة المميزة بالتعميم والتعتيم، والقائمة على حكم ثابت جَمْعي، أي "تمثل ذهني" راسخ في اللاوعي التقليدي الموروث، حول قصور عقل المرأة عن التفكير وبالتالي عن الإبداع والابتكار.
وترى هدى النعيمي أن لجوء الكاتبة العربية إلى الرواية كملاذ للبوح بسيرتها الحياتية عوضا عن تقديم كتاب تحت مسمى السيرة خدعة مشروعة في الكتابة، فهي تترك للقارئ مجال التفسير، وتسافر به بين الحقيقة والخيال، وبين (أنا الكاتب) وبين (أنا الشخصية) لتزيد أسئلته حول الرواية، والراوي، فيمكن للروائي أو الروائية الاحتماء وراء شخصية روائية مغايرة عن شخصيته الحقيقية، "ثم إنه خلف ستار تلك الشخصية، يمكن البوح بما لا يمكن البوح به على العلن، وبالتالي تبقى الرواية كما (القناع ) الذي تختفي وراءه السيرة الذاتية أو أجزاء منها، هذا ما أعتقده".
وإن كان هذا ينطبق على كلا الجنسين الرجل والمرأة، كما تقول النعيمي، فإنه بالفعل ينطبق على عالم الكاتبات العربيات بشكل أكثر كثافة من الرجال، "وأظن أن السبب لا يخفى على أحد، وهو حساسية وضع المرأة في مجتمعاتنا العربية، لكونها محافظة وتفضل التكتم على كل ما لا تنطبق عليه القيم العروبية، أو (الصح) المطلق، وهذا ما لا تأتي به الحياة عادة، فيكون مكان البوح الطبيعي هو الرواية، وهو أسلوب يفضله الكثير"، بحسب الروائية.
المباشرة والتواريوتعترف الروائية السودانية آن الصافي، أن هناك من يتخذ من المباشرة في الكتابة أمرا حتميا ويواجه المتلقي أيا كانت خلفيته ولا يكترث، وهناك من يفضل التواري خلف شخوص وقصص وحكايا الأعمال السردي والشعرية المقدمة.
وتضيف: "صدقا ما يهم هو جماليات العمل المقدم، من ناحية أخرى فليقدم الجميع سيرته الذاتية أيا كان وفي أي حقل وجد؛ فقط يلتزم الموضوعية والحياد إن أمكن، قد نشكك في ذلك، المهم أن يكون في الطرف الآخر القارئ، وأن يكون ذا قدرة على الاستفادة من هذه السير والتركيز على جوانبها الإنسانية بدون الغوص في ما قد يمس الكاتب ومن حوله بسوء. هل وصلنا في ثقافاتنا إلى هذا الحال؟!".
ويستدرك محمد معتصم: "الكاتبة العربية كتبت ذاتها بصور شتى وبأساليب مختلفة ومن بينها تضمين مواقفها وآرائها وحتى تجاربها الشخصية والميدانية في الخطاب الروائي المميز بقابلية امتصاص كل أنواع الخطابات الموجودة في الساحة الثقافية، كالخطاب الشعري والسياسي والحقوقي والإعلامي والسجال الفكري والشهادات والتحقيقات".
ويختم: "قد سمح هذا التعدد في أشكال التعبير وكذلك تضمين الكتابة الذات ضمن المتن السردي الروائي للنقاد والباحثين في آن واحد، من العثور على بنيات ثقافية وفكرية تحيل على الواقع المعيش وتدوين لكثير من الحالات الاجتماعية وكثير من القضايا السياسية والفكرية والعقدية التي شغلت الناس في مختلف المراحل التاريخية الحديثة والمعاصرة التي شكلت وجه العالم العربي وخطت رسومه وحدوده التي هو عليها اليوم. أما الآن فكثير من الكاتبات والكتاب في العالم العربي اعتادوا على تجنيس أعمالهم بدون رعب، تحت مسمى "السيرة الذاتية" العامة أو الجزئية".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: کتابة السیرة الذاتیة فی الکتابة
إقرأ أيضاً:
في العالم الرقمي.. لماذا يبقى تعلّم أطفالنا الكتابة اليدوية خطوة لا غنى عنها؟
أبوطبي (وكالات)
رغم انتشار الأجهزة الرقمية في حياة الأطفال اليومية، لا تزال الكتابة اليدوية تلعب دوراً محورياً في تطوير مهاراتهم الإدراكية والحركية. فالكتابة بالقلم والورقة تعزز الذاكرة، وتنمّي القدرة على التركيز، وتساعد في بناء التفكير المنطقي والقدرة على التعبير. وبينما تزداد بدائل الكتابة الرقمية، يبقى تعلّم الكتابة اليدوية أساساً لترسيخ التعلم وتنمية مهارات لا يمكن للتقنيات الحديثة تعويضها بالكامل.
يستغرق تعلم الكتابة بالورقة والقلم قدراً من الوقت، سواء كان ذلك من خلال الإمساك بالقلم بشكل صحيح أو التأكد من أن جميع الحروف مكتوبة بشكل مستقيم على سطر الكتابة نفسه. وفي هذه الأيام، يتعجب بعض الأطفال من الضرورة وراء تعلمهم الكتابة يدوياً، في حين أن كل شيء يكتب عادة على لوحة المفاتيح أو يملى على الهاتف. كما أن البالغين لديهم آراء مختلفة بشأن هذه المسألة في ظل استمرار العالم الرقمي في التطور.
أداة تشخيصية داعمة للإملاء
البروفيسور الفخري فريدريش شونفايس، قام بتطوير أداة تشخيصية وداعمة للإملاء في جامعة مونستر في ألمانيا. ويشرح الباحث التربوي والمعلم الإعلامي، سبب استمراره في اعتبار الكتابة اليدوية أمرا شديد الأهمية، ويقدم للآباء نصائح محددة بشأن كيفية دعم أطفالهم. وعما إذا كان تعلم الأطفال الكتابة بالورقة والقلم لا يزال ضرورة، يقول فريدريش شونفايس: "بالتأكيد، بل يجب أن يكون الأمر اعتياديا. كما أنه أمر لا غنى عنه حتى في عصر التكنولوجيا المتطورة. ومن السذاجة تجاهل الإمكانيات الجديدة الكثيرة التي توفرها لوحات المفاتيح والأجهزة اللوحية والإدخال الصوتي. ومع ذلك، لا يجب اعتبارها مجرد خيارات حديثة أو قديمة ويمكن الاستغناء عنها، ولكن هي مجرد خيارات إضافية جديدة".
ويؤكد: "يعد تعلم الكتابة بالقلم بشكل صحيح، شرطا أساسيا لا غنى عنه، من أجل التمكن من استخدام لوحة المفاتيح. وتظهر الدراسات مرارا أن ذلك يجب أن يتم يدويا، باستخدام الورقة والقلم. لا يمكن استخدام التكنولوجيا بشكل صحيح إلا من خلال تعلم الأحرف الفردية، وتطوير إدراك الفروق والتفاصيل الدقيقة، والتجميع السريع لمجموعات الحروف أو فك رموزها".
هل من الضروري تعلم الأطفال طريقة كتابة الحروف؟
أما عن ضرورة تعلم الأطفال طريقة كتابة الحروف المتصلة، يقول شونفايس: "نعم، يعد الانتقال إلى كتابة الحروف المتصلة ضروريا، لأن عنده فقط تكتمل عملية تعلم الكتابة... بمجرد أن يتقن الأطفال طريقة كتابة الحروف المتصلة، يمكنهم التركيز بشكل أفضل على محتوى عملية الكتابة أو نتائجها.نرى أن هذا ينعكس في مواد أخرى، مثل المسائل الكلامية في الرياضيات".
متى تكون الكتابة اليدوية "جيدة"؟
يقول شونفايس ردا على السؤال، "إن المعايير واضحة تماما: يجب على من يكتب ومن يقرأ أن يكون قادرا على تحديد النتيجة بوضوح في وقت لاحق. ويتطلب ذلك حركات آلية ومريحة وغير مصطنعة، وحروفا متكررة بشكل منتظم، وتمييزا واضحا بين الأحرف الكبيرة والصغيرة، وعدم الخلط بين الأحرف المتشابهة أو التي يسهل الخلط بينها... وبالطبع، يكون للثقة في تهجئة الكلمات، دور حاسم في سهولة القراءة".
وبشأن كيفية دعم الآباء لأطفالهم من أجل تعلم الكتابة، يقول شونفايس: "أولا، من المهم ألا يكتفي الأهل بمجرد ترك الأبناء يقومون بذلك بأنفسهم، بل يجب أن يدعموهم. كما أنه من المستحب أن يقوموا بذلك بالتشاور مع المعلم. ولكن يجب أن يمنحوا أنفسهم وأطفالهم وقتا كافيا".
نصائح لاتقان الكتابة اليدوية
البروفيسور الفخري فريدريش شونفايس ناصحاً الآباء: "خصصوا وقتا كافيا لاتقان خطوات الكتابة في المرحة الأولى، ولممارسة تمارين الكتابة. ركزوا في البداية على الحروف الفردية وشكلها المثالي فقط، واسمحوا لأطفالكم بإتقان الحركات".
ويوضح شونفايس: "عند قيام أطفالكم بمسك القلم، تأكدوا من أنهم يستخدمونه من خلال طريقة "الإحكام الثلاثي"، بحيث يكون الإبهام والسبابة ممسكين بالقلم والإصبع الأوسط داعم لهما. ويجب الإصرار على إمساك القلم بهذه الطريقة باستمرار. ومع ذلك، بمجرد أن يبدأ الطفل في الشعور بالتوتر، يجب أخذ قسط من الراحة ثم الانتباه من جديد لطريقة مسكه للقلم".
وينصح الباحث التربوي الآباء قائلا: "قوموا بممارسة بعض الطقوس الصغيرة - فيمكنكم مثلا دق الجرس بين الحين والآخر أثناء وقت زداء الواجبات المنزلية، وذلك لحث طفلكم على مراجعة وضعيته".
وقال الباحث: "اجعلوا الكتابة اليدوية جزءا من ممارساتكم اليومية، من خلال كتابة البطاقات البريدية، وقوائم التسوق، والرسائل القصيرة، وتقارير الأبحاث، والوصفات، وتعليمات الألعاب، وتقارير السفر، وما إلى ذلك". وعن إمكانية قيام الأهل بتحفيز أطفالهم، يقول شونفايس: "يمكن لجميع الآباء افتراض أن أطفالهم متحمسون منذ البداية، أو أنهم يمكن تحفيزهم إذا استوعبوا بصورة جيدة أنهم يستطيعون إتقان الهدف من وراء الجهد والتحدي. ومع ذلك، فإنه من المعتاد أن يزول هذا الفضول الأولي والرغبة في التعلم والتطوير المستمر". ويضيف: "يتعين على الآباء حينئذ أن يشرحوا لأطفالهم أنهم في النهاية يقومون بذلك من أجل أنفسهم، وأن تعلمهم للكتابة سوف يزيد من استقلاليتهم، وسيمكنهم من تبادل الأفكار مع الآخرين".