الصابرون يطوون صفحة كالحة من تاريخ ضائع
تاريخ النشر: 18th, February 2024 GMT
بعد أن ظهرت حقيقة وحجم ما حدث في 7 تشرين الأول، أكتوبر (طوفان الأقصى) سارعت أمريكا/ الغرب بعد الإدانة بالطبع؛ إلى التحذير الفوري لكل دول المنطقة، بعدم استغلال الوضع الذي نشأ بعد الطوفان والتدخل في المعركة، وكان تحذيرا نهائيا، وأكدته بقدوم حاملات الطائرات (فورد وآيزنهاور) إلى المنطقة لتؤكد أنها جادة في تحذيرها.
والمشكلة التي قدرتها أمريكا وحلفاؤها؛ لم تكن فقط في الجبهات الساخنة التي كان يُحسب حسابها (إيران ولبنان والعراق واليمن)، بل من الجميع في دول المركز الشرق أوسطي، التي يختلف الموقف الرسمي فيها كثيرا عن الموقف الشعبي، فالتداعيات في هذه الأوقات تخرج عن كل التوقعات والتقديرات، والبجعة السوداء تظهر أحيانا وبما يفاجئ الجميع..
* * *
والأهم، أن الفراغ العميق يملأ المنطقة كلها، وفراغا من كل نوع في حقيقة الأمر، وبطريقة الإعصار الاستراتيجي، فمن المحتمل جدا أن تجد المنطقة كلها في لحظة (10 حزيران/ يونيو 1916م) ولكن بالطريقة العكسية.
المشكلة التي قدرتها أمريكا وحلفاؤها؛ لم تكن فقط في الجبهات الساخنة التي كان يُحسب حسابها (إيران ولبنان والعراق واليمن)، بل من الجميع في دول المركز الشرق أوسطي، التي يختلف الموقف الرسمي فيها كثيرا عن الموقف الشعبي، فالتداعيات في هذه الأوقات تخرج عن كل التوقعات والتقديرات
وهو اليوم الذي اندلعت فيه "الثورة العربية الكبرى" ضد الخلافة العثمانية، بتحريض الغرب الاستعماري، تمهيدا لفرض الخريطة العربية الجديدة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1918م)، الخريطة التي يحميها الغرب الاستعماري الآن بإسرائيل، والتي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو في 3 كانون الثاني/ يناير 1916م، والتي هي في الواقع الحالي المتململ المهتز تعتبر منتهية الصلاحية تقريبا (108 سنة)، لكنهم إلى الآن في حيرة عما يمكن أن تؤول اليه هذه الخريطة.
* * *
وكلنا نتذكر نصيحة فيلسوفهم الخطير برنارد لويس (ت: 2018) بضرورة الإسراع في التقسيم والتفتيت لكل المنطقة، وكذب على نفسه وعلى الأمانة العلمية والتاريخية، وقال: من يقول إن هذه المنطقة تجمعها جوامع استراتيجية واحدة (اللغة والتاريخ والدين والجغرافيا) فهو كاذب.. برنارد كذب كذبته تلك ومات.
لكن فكرة التقسيم والتقطيع والتجزيء بدا من مقاربتها للواقع أنها قد تكون غير قابلة للاستمرار الطويل، فهذا ضد واقع الأمور التي تحكمها سنن تاريخية وحضارية ثابته، وتجربة جنوب السودان رغم افتعالها؛ تجربة هشة.
وسوريا والعراق وليبيا حالات لا تبدو قابلة للتقسيم، حتى الآن على الأقل، بل من الممكن أن تأخذهم حروبهم الداخلية إلى الدخول في "كتلة تاريخية" تحمي اختلافهم في صلب وحدتهم، بعدما شعر الجميع بعبثية القتال الأهلي.
لكن الغرب بالطبع، وبالتعاون مع "العملاء الحضاريين" له كما سماهم المفكر القبطي العروبي د. أنور عبد الملك (ت: 2012م)، أو الصهاينة العرب كما سماهم الناس بعد "طوفان الأقصى".. سيمنع تكون تلك الحالة..
* * *
كما أن الدور الشعبي الغائب لن يطول غيابه، بل سيكون هو الرقم الصعب في الحالة الواعدة الصاعدة بعد الطوفان، وهو الأمر الذي يحاول الجميع السيطرة عليه وإحكام غلق أي باب يفتح من ناحيته، دينيا كان هذا الباب أم إنسانيا وأخلاقيا.. فلا مكان لربط أحداث غزة بالمسجد الأقصى، ولا مكان لربطها بنخوة الشعور الإنساني المجرد والخالي من أي علائق تاريخية وحضارية، كما رأينا حتى في دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول الأوروبية، ناهيك عن الخطوة الواسعة التي اتخذتها دولة كجنوب أفريقيا فأقامت الدنيا وملأتها بأصوات لم يعتد سماعها أحد من قبل.
إذن فالأمر لدى دهاقنة السياسة وسدنة المعبد الغربي العتيق لن يخرج عن حلين: إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، أو توفيق الأمور وضبطها على مصالحهم.
لكن المفكر المغربي د. عابد الجابري (ت: 2010م) تساءل في مقال مهم له قبل وفاته: "لمن سيسلم الأمريكان السلطة غدا؟". وأضاف: من صاغ الشرق الأوسط الحالي؟ أوروبا في صراعاتها الداخلية، والتي كان الشرق الأوسط موضوعها الأساسي، أي الاستعمار البريطاني والفرنسي والذي غرز إسرائيل في خاصرته.
لكن أمريكا كما يقول لنا، تختلف مصالحها، مع مصالح أوروبا التي شكلت الشرق الأوسط الحالي، وهذا ما نسمعه الآن -مثلا- على لسان جوزيب بوريل، المنسق الأعلى للشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبي.. والذي اندهش من تصريح الرئيس الأمريكي بأن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة "تجاوز الحد"، فقال ساخرا: حسنا، إذا كنت تعتقد أن عددا كبيرا جدا من الناس يُقتلون، ربما يجب عليك إرسال أسلحة أقل من أجل منع قتل هذا العدد الكبير من الناس..!!
حين تأكد الغرب وفي القلب منه أمريكا، أن ما كان يحذره ويخافه لن يحدث، على الأقل الآن، سُحبت فورا حاملات الطائرات، وبدأ التلاعب ذات اليمين وذات الشمال، بغرض الانفراد بالحالة "الطوفانية" وكسرها مبكرا، وهي الحالة التي أعطت اللحظة التاريخية ما كان ينقصها
سننتبه أن روسيا والصين تنظران إلى المسألة نظرة ذاتية، مركبة وبعيدة، نظرة لا تخلو من الدهشة والتساؤل.
وماذا عن إيران في هذا الذي يجري وجرت هي معه؟ ولماذا منعت حلفاءها من الدخول المباشر في "طوفان الأقصى"؟
* * *
حين تأكد الغرب وفي القلب منه أمريكا، أن ما كان يحذره ويخافه لن يحدث، على الأقل الآن، سُحبت فورا حاملات الطائرات، وبدأ التلاعب ذات اليمين وذات الشمال، بغرض الانفراد بالحالة "الطوفانية" وكسرها مبكرا، وهي الحالة التي أعطت اللحظة التاريخية ما كان ينقصها "الإسلام/ المبادرة/ القدرة/ الجرأة". لكنها لم تنكسر! ومهما اجتمعت خيوط التآمر وتلاقت، في هذا الوقت الضائع، فالجميع يعلم أن أهلنا في غزة لن يغادروا، فقد مضت تلك الأيام وأنقضت.
شهود القرن الصابرون الصادقون على دراية تامة بما يجرى ويحدث ويتشكل ويتكون، وربما من اليوم الأول للطوفان، وهم بصبرهم وثباتهم يطوون صفحة كالحة من صفحات تاريخهم وتاريخنا الذي كُتب يوما ما، بعيدا عن أعيننا وأيدينا. وهم يعلمون قبل الجميع، أنها الآن مرحلة الثبات الصلب وكسر العظام، فلا مجال إطلاقا لما كان من قبل، فليكن إذن ذلك.
twitter.com/helhamamy
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة امريكا غزة المقاومة الإستعمار مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرق الأوسط ما کان
إقرأ أيضاً:
لماذا قلق الجميع من بلير؟
تنفس العديد من الأطراف المشاركين في مفاوضات إنهاء الحرب الإسرائيلية الإبادية على غزة وبداية إعادة إعمارها، الصعداء جماعيا، عند الإعلان عن استبعاد رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير- أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في الدبلوماسية الدولية- من "مجلس السلام الانتقالي" المقترح الذي كان من المقرر أن يشرف على المرحلة الانتقالية في قطاع غزة.
جاء الإعلان في لحظة شديدة الحساسية، تزامنا مع دخول المفاوضات مرحلتها الثانية، والتي تركز على الترتيبات الأمنية والاقتصادية الضرورية لاستقرار القطاع وبدء جهود إعادة الإعمار.
فقد نص قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2803، الذي أُقر في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، والمنسجم مع مقترح "السلام في غزة" الذي قدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على تفويض دولي بتشكيل مجلس سلام انتقالي، ونشر قوة استقرار، ووضع إطار زمني يمتد حتى نهاية عام 2027. وفي خضم بناء هذا الهيكل الانتقالي الجديد، سرعان ما ظهرت التوقعات بدور بلير كمصدر قلق عميق لكثير من الجهات المعنية.
لماذا كان وجود بلير مصدر قلق؟منذ أن بدأت إدارة ترامب في الانخراط بمحاولات إنهاء الحرب، طُرحت عدة خطط. ومع ذلك، بدا أن الخطة المنسوبة إلى بلير الأقرب إلى تفكير ترامب، بل وربما أثرت في بعض العناصر الأساسية لرؤيته التي كشف عنها في أواخر سبتمبر/أيلول. وهذا وحده أعاد إشعال الجدل: لماذا يُعد تعيين بلير في هذا المنصب المهم خطأ جسيما؟
يحمل بلير إرثا سياسيا ثقيلا، متجذرا فيما يعتبره الكثيرون أسوأ قرار في السياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين: غزو العراق عام 2003، والذي قاده إلى جانب الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش، بناء على ذريعة كاذبة تتعلق بأسلحة الدمار الشامل (كما أكد لاحقا تحقيق تشيلكوت البريطاني).
لقد دمرت الحرب العراق، وأشعلت صراعات طائفية، وفتحت الأبواب لتدخلات أجنبية طويلة الأمد، وأودت بحياة مئات الآلاف من العراقيين. وأصبح بلير، بالنسبة لكثيرين في المنطقة وخارجها، رمزا للقوة غير الخاضعة للمساءلة، والقرارات الكارثية.
إعلان سجل بلير في السياق الفلسطيني والعربيفي السياق الفلسطيني والعربي، يُعتبر سجل بلير أكثر إثارة للقلق. فقد شغل منصب مبعوث اللجنة الرباعية لعملية السلام في الشرق الأوسط بين عامي 2007 و2015، لكنه اتُهم على نطاق واسع بتعزيز السياسات الإسرائيلية، والمساهمة في ترسيخ الحصار على غزة، والسماح لإسرائيل بالإفلات من التزاماتها ضمن الأطر التفاوضية.
وعلى الرغم من أن تفويض اللجنة الرباعية كان يهدف إلى دعم المفاوضات، وتعزيز التنمية الاقتصادية، والتحضير لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المستقبلية، فإن أيا من هذه الأهداف لم يتحقق بشكل ملموس خلال فترة بلير. بل على العكس، تسارعت وتيرة الاستيطان الإسرائيلي غير القانوني، وازدادت وطأة الاحتلال.
وكان من أبرز القرارات الكارثية للجنة الرباعية في عهده، فرض عقوبات سياسية واقتصادية شاملة على حكومة حماس المنتخبة ديمقراطيا بعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006.
وقد اشترطت اللجنة على حماس الاعتراف بإسرائيل ونبذ المقاومة المسلحة كشرط لرفع الحصار، ما أدى فعليا إلى عزل غزة لعقود، وألحق أضرارا جسيمة بالوحدة السياسية الفلسطينية، وهي نتائج لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.
وخلال فترة تولي بلير منصبه، تعرضت غزة لأربعة اعتداءات إسرائيلية مدمرة، من بينها عملية "الرصاص المصبوب" (2008-2009)، والتي تُعد من أعنف الحملات العسكرية في تاريخ القطاع. ومع ذلك، لم يحقق بلير أي اختراق سياسي يُذكر.
وبدلا من ذلك، كشفت تحقيقات صحفية بريطانية عن تضارب كبير في المصالح، إذ إنه استخدم موقعه كمبعوث للرباعية في تسهيل صفقات تجارية أفادت شركات لها صلات به، وحققت له ملايين الجنيهات الإسترلينية، رغم غياب أي إنجازات دبلوماسية ملموسة.
وتشير تقارير عديدة إلى أنه لم يكن متفرغا تماما لمهامه كمبعوث، بل كان يخصص وقتا كبيرا لأعماله الاستشارية الخاصة، ومحاضراته المدفوعة الأجر.
وفي عام 2011، عارض بلير علنا مسعى فلسطين لنيل عضوية كاملة في الأمم المتحدة، واصفا الخطوة بأنها "مواجهة خطيرة"، بل ويُقال إنه ضغط على حكومة بلاده لعدم دعمها.
ثم، في عام 2017، اعترف بلير بأن فرض المقاطعة الفورية على حماس بعد فوزها الانتخابي كان خطأ من قبل القادة العالميين، وهو اعتراف جاء متأخرا، وبعد أن تكبدت غزة ثمنا باهظا لذلك القرار.
بلير ليس رجل المرحلة، بل هو عبء عليهالهذه الأسباب مجتمعة، نظر الفلسطينيون، والدول العربية، والعديد من الدول المانحة بعين الريبة إلى دور بلير المحتمل في "مجلس السلام" المقترح. فبالنظر إلى سجله السياسي، واصطفافه العلني مع المواقف الإسرائيلية، والاتهامات غير المحسومة بتضارب المصالح، لم يُنظر إلى بلير كمصلح محايد، بل كعبء قد يقوض الثقة الهشة اللازمة لأي مرحلة انتقالية ناجحة.
لذلك، فإن استبعاده يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها غير كافية بحد ذاتها. فالمعيار الحقيقي هو ما إذا كانت شركته الاستشارية الخاصة وشبكاته المرتبطة بها ستُستثنى أيضا، أم إن خروجه كان مجرد خطوة رمزية.
فإذا غادر بلير بالاسم فقط، بينما يستمر تأثيره المؤسسي من وراء الكواليس، فإن المخاطر المحدقة بعملية السلام ستظل قائمة.
غزة لا تحتمل الرمزية، بل تتطلب نزاهة حقيقيةلا تحتمل غزة في مرحلتها المقبلة أي إيماءات رمزية أو حلول مجتزأة. فالتحديات المقبلة، من استعادة الحوكمة، وإعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب، وإحياء أمل حل الدولتين، تتطلب شخصيات ذات مصداقية، وشفافية، وسجل سياسي نقي.
إعلانولا تنطبق هذه المواصفات على توني بلير.
وإذا ما كان استبعاده حقيقيا، فإن ذلك لا يُعد مجرد تعديل إداري، بل يعد تصحيحا ضروريا لسنوات من الفشل، وسوء الإدارة، والدبلوماسية العرجاء، والقرارات التي دفع ثمنها الفلسطينيون أكثر من أي شعب آخر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline