الجزيرة:
2025-06-04@16:19:19 GMT

وقائع ومناسبات سقطت فيها العاصمة العراقية بغداد

تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT

وقائع ومناسبات سقطت فيها العاصمة العراقية بغداد

بغداد المدينة التي أُطلق عليها "مدينة السلام"، كانت عرضة على مدى تاريخها الطويل للغزوات والحروب والهجمات الدامية، وتوالى سقوطها بأيدي الطامعين مرة تلو الأخرى، وكابدت وأهلها ويلات التدمير والتقتيل والتنكيل والتجويع. وهناك ما يزيد على 20 واقعة سقطت فيها بغداد بيد حكم أجنبي منذ إعادة تشييدها عام 762 للميلاد، في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور.

وكانت الوقائع التالية هي الأبرز والأعمق تأثيرا في تاريخ المدينة العريق:

هيمنة البويهيين عام 945

بدأ الضعف يدب في جسد الدولة العباسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي، وظهرت هيمنة الأتراك والقادة العسكريين على الخلفاء، وسيطروا على إدارة شؤون الدولة، وأصبح الخليفة رمزا روحيا مجردا من السلطة، ومعرضا للاغتيال والسجن والتعذيب.

وبحلول القرن العاشر تردت الأحوال، فاستنجد الخليفة المستكفي في بغداد بالبويهيين، وكانت الدولة البويهية الشيعية تحكم بلاد فارس، وسرعان ما استجاب "أحمد بن بويه"، فدخل بغداد عام 945، فاحتفى به الخليفة وأكرمه ولقبه "معز الدولة" وأمر أن يُخطب له على المنابر.

ولكن معز الدولة ما لبث أن حجر على الخليفة، ولم يطل المقام به حتى خلعه وسجنه، وعين بدلا منه "المطيع لله"، وهكذا سقطت بغداد في براثن البويهيين.

وعلى إثر ذلك، دخل ناصر الدولة بن حمدان، حاكم الموصل، بجيشه إلى بغداد، وانقسمت المدينة بينهما شطرين، ودارت معارك عنيفة استمرت أياما، نهب البويهيون خلالها المدينة، وفي آخر المطاف استطاعوا دحر ناصر الدولة، ولم تكد تمر سنة حتى اشتد الغلاء ببغداد، ولحقت بالناس المجاعة والأمراض.

وفي ظل الدولة البويهية التي سيطرت على بغداد نحو قرن ونيف، انتشر المذهب الشيعي، وجرى فيها مأتم لطم رسمي في يوم عاشوراء بأمر من المعز، وتحت حكم البويهيين زاد وضع الخلفاء سوءا، وعانت البلاد من ظروف سياسية واقتصادية متردية.

الخضوع للسلاجقة عام 1055

ضاق العباسيون ذرعا بالبويهين، فاستغاثوا بالسلاجقة الأتراك، القوة الإسلامية الصاعدة في المنطقة، وما كان من "طغرل بك" إلا أن دخل بجيشه بغداد، وقضى على الدولة البويهية عام 1055م، وحدثت يومذاك فتنة عظيمة احترقت فيها الأسواق وكثر النهب والقتل.

ومع ظهور سلاطين السلاجقة الأقوياء مثل ألب أرسلان وملك شاه وبركياروق وغيرهم، وجدت بغداد نفسها خاضعة بشكل كامل للحكم السلجوقي، الذي لم يستطع الخلفاء الانفكاك منه وعانى سكان المدينة بسبب الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من انتشار الأوبئة والمجاعات.

الاجتياح المغولي ونهاية الخلافة العباسية

وصلت جحافل المغول التي اجتاحت إيران إلى الحدود العراقية، وحينها أرسل هولاكو قائد جيش المغول رسالة إلى الخليفة العباسي "المستعصم بالله" يطلب منه الخضوع لحكم المغول وتسليم بغداد، وفي بداية الأمر لم يرغب المستعصم أن يذعن للتهديد المغولي، فرد بالرفض، فكان جواب هولاكو أن ضرب حصارا شديدا على بغداد لنحو أسبوعين، سقطت المدينة في أعقابهما عام 1258م.

بدأت جيوش هولاكو التي قُدرت بـ200 ألف رجل باجتياح المدينة، وكان جيش المسعتصم بقيادة مجاهد الدين أيبك أضعف من أن يقاوم تلك الجحافل، فتقهقر بعد بضعة اشتباكات مع المغول، وعندها رضخ الخليفة للأمر الواقع، وأعلن استسلامه لهولاكو، فأمره الأخير أن ينادي في الناس ليضعوا سلاحهم، وما أن استسلم أهل بغداد، حتى اكتسحت جيوش المغول المدينة 40 يوما، عاثت فيها فسادا وتخريبا وتقتيلا.

وقد استباح الغزاة القتل، الذي شمل الرجال والنساء والأطفال على حد سواء، وسالت الدماء حتى غطت الشوارع، وذهب ضحيتها معظم أهل بغداد، وبلغ عدد القتلى بحسب أقل التقديرات نحو 800 ألف، وبالغ بعضهم فأوصلها إلى ما يقارب مليوني شخص.

وخرب المغول المساجد والقصور، ودمروا السدود وأنظمة الري، وأتلفوا المكتبات العريقة وألقوا كثيرا من الكتب القيمة في مياه نهر دجلة حتى تغير لون مائه حسب ما تحكي بعض الروايات التاريخية، ولم يتركوا حجرا ولا شجرا إلا دمروه، ونهبوا وسلبوا كل ما وجدوه، حتى إذا ما انتهوا، أشعلوا النيران في المدينة كلها.

وقتل في تلك الواقعة المسعتصم بالله آخر خلفاء بني العباس، وسجّل سقوط بغداد ذاك نهاية الخلافة العباسية، التي حكمت العالم الإسلامي على مدى 5 قرون.

رسم تخيلي للقائد المغولي هولاكو الذي أسقط عاصمة الخلافة العباسية (الجزيرة) الاجتياح المغولي الثاني (تيمورلنك) عام 1393

اجتاح المغول للمرة الثانية العراق، فجهز حاكم بغداد السلطان أحمد بن أويس جيشا عظيما، لكنه لم يتمكن من الثبات أمام جحافل المغول بقيادة تيمورلنك، وحينها التجأ أحمد بن أويس إلى مصر، في الوقت الذي حاصر فيه تيمورلنك بغداد، التي سقطت للمرة الثانية بيد المغول وذلك عام 1393م.

قتل تيمورلنك وجنوده الناس ودمروا بيوت المدينة ومدارسها وجوامعها وقصورها وحماماتها، وسلبوا أموالها وذخائرها. وفي عام 1397م استعاد أحمد بن أويس المدينة، وأعاد بناءها على سالف عهدها، وفتك بجنود تيمورلنك وطائفة كبيرة من أعوانه، ولم تمض بضع سنوات حتى فر السلطان من جديد، لما سمع بعزم تيمورلنك على غزوهم.

وسقطت المدينة للمرة الثانية بأيدي تيمورلنك عام 1401، بعد أن أحكم عليها الحصار 40 يوما وقصفها بالمنجنيق، فلما دخلها أعمل سيفه في أهلها، وأمر جنوده بإبادتهم، حتى سالت الدماء أنهارا.

وبلغ عدد الضحايا ما بين 90 ألفا و100 ألف قتيل، وبنى المغول بجماجمهم عدة أبراج، ولم يسلم من أهل المدينة إلا القليل، كان مصيرهم البيع في أسواق النخاسة، وهدم تيمورلنك وجنوده المباني وأحرقوا الزرع والشجر، وجمعوا الأموال والمتاع وسلبوها، وتحللت الجثث المنثورة في المدينة وانتشرت على إثر ذلك الأمراض والأوبئة.

سيطرة القرة قوينلو عام 1411

في عام 1411م سقطت بغداد بيد شاه محمد بن قرة يوسف حاكم دولة "القرة قوينلو" التركمانية، وظل حاكما عليها إلى عام 1421م، إذ شن أخوه إسبان بن قرة يوسف هجوما واسعا على بغداد، ذبح فيه جميع القوات الموالية للحاكم وأعدمه، ثم استولى على المدينة واستقل بحكمها حتى توفي عام 1444م، وحينئذ هاجم جهان شاه حاكم إمارة القرة قوينلو المدينة لبسط نفوذه المباشر عليها، فحاصرها 6 أشهر ثم دخلها وخربها وألحقها بالإمارة وولى ابنه أميرا عليها.

وفي عام 1464م حاول بير بوداق الاستقلال بالمدينة، فسار والده جهان شاه بجيشه إلى بغداد فحاصرها ما يزيد على سنة، فافتقر الناس وجاعوا حتى اضطروا لأكل الجيف والقطط والكلاب، وتعرضت المدينة للخراب والتدمير.

وفي عام 1466 تمكن جهان شاه من دخول المدينة فأعدم ابنه، وقتل كثيرا من ذكور المدينة، ثم عاد إلى العاصمة، ووصف بعض المؤرخين حكم سلالة القرة قوينلو في بغداد بأنه عصر امتدت فيه الفتن وابتليت فيه البلاد بالحروب، وجلب الخراب لبغداد وسائر العراق.

تمثال للقائد تيمور لنك الذي قاد جيش المغول نحو بغداد عام 1393م (شترستوك) استيلاء الآق قوينلو عام 1469

سقطت بغداد بيد دولة الآق قوينلو التركمانية عام 1469م، واستقرت أمورها في ظل حكم مقصود بن حسن الطويل، ولما توفي عام 1477م، تتابعت حركات التمرد ومرت البلاد بسلسلة من الاضطرابات والحروب بسبب الصراع المستمر بين أمراء الأسرة على السلطة، إضافة إلى الخلافات مع الدول المجاورة، ونجم عن تلك النزاعات سفك الكثير من الدماء، واستنزاف خيرات البلاد، وعانت المدينة من الإهمال الحضاري، وكثر الفساد والمجاعات.

الغزو الصفوي عام 1508

هاجم الشاه إسماعيل ملك إيران بغداد عام 1508، إبّان ولاية الأمير مبارك (باريك)، آخر ولاة الآق قوينلو على المدينة، فحاصر قائد الصفويين حسين بك لاله المدينة، وانتصر على حاميتها، التي عجزت عن رد الاعتداء، وعندها سقطت بغداد بيد الصفويين، ولما دخلها الشاه إسماعيل عقب الانتصار، أمر قائده بتدمير المدينة وفتك بأهلها، ونكّل بأهل السنة وهدم مدارسهم ومساجدهم ونبش قبورهم، وعيّن نائبا له ثم عاد إلى إيران.

وقد استطاعت دولة الآق قوينلو تجهيز جيش في غضون سنتين والانقضاض على بغداد وانتزاعها من الصفويين، ولم يدم لهم الأمر طويلا، ففي عام 1514م سقطت بغداد للمرة الثانية بيد الشاه إسماعيل الصفوي، وأعمل سيفه آنذاك في السنة والنصارى، وأعلن المذهب الشيعي مذهبا رسميا في البلاد، وغالى في الانتصار له، واضطهاد السنة، مما حمل كثيرين على التشيع، وآخرين على الفرار من البلاد.

وبعد وفاة الشاه إسماعيل عام 1524 سقطت المدينة بيد الأمير ذي الفقار بن نخود سلطان، رئيس قبيلة موصلو الكردية، والتي لم تستطع الاحتفاظ بالحكم سوى 6 سنوات، بعدها سقطت المدينة للمرة الثالثة بيد الصفويين.

سليمان القانوني الذي تسبب بفرار الحاكم الصفوي وجنوده من المدينة عام 1534م (مواقع التواصل الاجتماعي) الحكم العثماني عام 1534

شكلت الدولة الصفوية تهديدا لاستقرار وأمن الإمبراطورية العثمانية، وكان أهل السنة قد راسلوا العثمانيين يستنجدون بهم لتخليصهم من الاضطهاد الذي كانوا يلقونه من قبل الصفويين، فقرر السلطان العثماني سليمان القانوني مهاجمة الصفويين في عقر دارهم، فخرج على رأس جيشه متجها نحو العراق.

وكان الحاكم الصفوي وجنوده قد فروا من المدينة، فدخل السلطان بغداد محفوفا بالترحيب والتكريم من أهلها، وكان ذلك في عام 1534م، وبقيت المدينة تحت حكم العثمانيين نحو 90 عاما.

وفي سنة 1623م سقطت بغداد للمرة الرابعة بيد الصفويين، على يد الشاه عباس الأول، الذي باشر بقتل الأتراك من عساكر وإداريين ورجال دين، وأعاد الكرة من جديد باضطهاد أهل السنة، وسفك جنوده الدماء. وفي عام 1638م استعاد السلطان العثماني مراد خان الرابع المدينة، التي بقيت تحت الحكم العثماني حتى عام 1917م.

الاستعمار البريطاني عام 1917

بعد معارك دامية بين العثمانيين والبريطانيين أثناء الحرب العالمية الأولى، سقطت بغداد بيد البريطانيين سنة 1917، وأجبر سكانها على البقاء في البيوت، والتخلي عن أسلحتهم، وأُغلقت الأسواق وتعرضت للنهب والحرق، وفتش المستعمرون البيوت، وفرضوا حظر تجوال في ساعات المساء، وعلقوا مشنقتين في ساحة عامة تحذيرا وتهديدا لكل من تسول له نفسه مقاومة الاحتلال.

وفي سنة 1920 وضعت بغداد مع ولايتي الموصل والبصرة تحت الانتداب البريطاني، وفي العام نفسه قامت ثورة شعبية ضد ممارسات المندوب السامي البريطاني "أرنولد ويلسون" والقادة والجنود البريطانيين، واستمرت الثورة أكثر من 6 أشهر، قامت على إثرها حكومة وطنية، وفي عام 1932 تخلص العراق من الانتداب البريطاني وانضم إلى عصبة الأمم.

الغزو الأميركي عام 2003

أجاز الكونغرس الأميركي عام 2002، استخدام القوة العسكرية ضد العراق، وادّعت أميركا أن بغداد تمتلك أسلحة دمار شامل، تهدد السلام العالمي، وفي مارس/آذار 2003 شنت الولايات المتحدة حربا على العراق، وقصفت الطائرات والسفن الحربية الأميركية بغداد بالقنابل والصواريخ، وخلفت الموت والهلاك والدمار لسكان المدينة ومعالمها.

وفي 9 أبريل/نيسان، دخل الأميركيون بغداد، وأسقطوا تمثال الرئيس العراقي حينها صدام حسين، الأمر الذي رمز إلى سقوط العاصمة العراقية بغداد والنظام الحاكم. وقد شاركت في الغزو بريطانيا وأستراليا وبولندا، ودعمتها إسبانيا وإيطاليا وعدد من دول أوروبا الشرقية.

وعانت البلاد جرّاء تلك الحرب من حالة من الفوضى العارمة وانعدام الأمان وتدمير البنى التحتية وتفكيك مؤسسات الدولة، وشيوع ظاهرة المليشيات المسلحة خارج نظام الدولة.

واندلعت أعمال العنف الطائفي وفي عام 2011، انسحبت القوات الأميركية من العراق، ولم تتمكن من العثور على أسلحة الدمار الشامل، ولكنها خلفت وراءها ركاما من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية المتردية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: للمرة الثانیة سقطت المدینة على بغداد وفی عام أحمد بن فی عام

إقرأ أيضاً:

أضواء على حرب الإسناد.. حين سقطت لعنة حزيران 1967 على حزب الله اللبناني

يمكن للأحداث التاريخية أن تتكرر أكثر من مرتين ـ مأساة ومسخرة كما قال ماركس ـ في صيغة واحدة أو في  أكثر من صيغة. هذا ما يمكن استنتاجه من هزيمة حزيران ـ يونيو عام 1967 في مصر وخسارة حزب الله لحرب غزة في لبنان في العامين 2023 ـ 2024. في الحالتين وقعت مأساة وفي الحالتين كانت فظيعة.

أعبر من هذا المدخل لتوجيه الأضواء نحو مشاركة حزب الله في هذه الحرب التي لم تتم فصولا بعد. هذه المشاركة تشبه إلى حد بعيد تجربة مصر في حرب الأيام الستة.

دخلت مصر حرب حزيران عام 1967 بقيادة جمال عبد الناصر الزعيم الكاريسماتي الذي كانت تدور حول خطبه الحركة السياسية في مصر وفي العالم العربي. وفي لبنان دخل حزب الله حرب غزة بقيادة السيد حسن نصر الله، الزعيم الكاريزماتي الذي قال عنه نتنياهو، إنه قائد محور الممانعة وليس الحزب اللبناني حصرا. وكانت خطبه تلهب شوارع بلدان المحور وشوارع خصومه.

في حرب العام 1967 دمرت إسرائيل بضربة مفاجئة قواعد الطيران الحربي المصري، واحتلت شبه جزيرة سيناء خلال ستة أيام. وفي لبنان تمكنت إسرائيل من تفجير أجهزة البيجر للتواصل اللاسلكي فقتلت وجرحت وعطلت آلاف المقاتلين والإداريين والحزبيين، ثم قتلت قيادة أركان الحزب وصولا إلى أمينه العام واحتلت مرتفعات استراتيجية تشرف على جنوب لبنان.

في حرب حزيران ـ يونيو 67 كانت إسرائيل قد اخترقت أجهزة الأمن المصرية، وصارت على علم بكل قرارات القيادة العسكرية وخططها وقدراتها، تساعدها أجهزة غربية وربما عربية. وفي لبنان تمكنت إسرائيل من فك كل شيفرات حزب الله ولاحقت وتلاحق قياداته وعناصره بمعرفة وبدقة تثير الحيرة، تساعدها أجهزة غربية وعربية.

في حرب العام 1967 دمرت إسرائيل بضربة مفاجئة قواعد الطيران الحربي المصري، واحتلت شبه جزيرة سيناء خلال ستة أيام. وفي لبنان تمكنت إسرائيل من تفجير أجهزة البيجر للتواصل اللاسلكي فقتلت وجرحت وعطلت آلاف المقاتلين والإداريين والحزبيين، ثم قتلت قيادة أركان الحزب وصولا إلى أمينه العام واحتلت مرتفعات استراتيجية تشرف على جنوب لبنان.حافة الهاوية

في حرب حزيران ـ يونيو 67 لعبت مصر لعبة الحرب على حافة الهاوية وكأنها تنتظر الضربة الأولى من تل أبيب، فكان أن اتخذت إسرائيل زمام المبادرة وحسمت الحرب في الوقت الملائم وبكلفة ضئيلة. وفي لبنان لعب حزب الله حرب الإسناد على حافة الهاوية الأمر الذي منح إسرائيل هامشا واسعا للمناورة بحيث تنتقل من غزة المدمرة الى لبنان لتدمره من دون أن يغير الحزب خططه وتكتيكاته او من دون ان تكون لديه القدرة على تغيير استراتيجيته.

في حرب حزيران ـ يونيو عام 1967 خرجت مصر من الحرب بقرار مهين لوقف النار تحت الحماية السوفييتية، بعد أن فقدت شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة. وفي لبنان خرج حزب الله من الحرب بقرار 1701 الأممي الذي لا تحترمه إسرائيل ويشرف على تنفيذه ضابط أمريكي، فضلا عن احتلال التلال الاستراتيجية التي تطل على عمق الأراضي الجنوبية اللبنانية.

في حرب حزيران ـ يونيو 67 كان الشارع العربي المعبأ بخطب ما قبل الحرب، يتطلع إلى إرجاع اليهود إلى بلدانهم الأصلية وتحرير فلسطين، فإذا بالهزيمة الفظيعة تنزل على الرؤوس نزول الصاعقة. وفي حرب غزة اللبنانية كان الراي العام المعبأ بخطط اجتياح الجليل ومعادلة الضاحية ـ تل أبيب يتطلع إلى تصفية الحساب مع "بيت العنكبوت"، فاذا به يسمع نتنياهو يقول متغطرسا: لن يردد أحدٌ عبارة "بيت العنكبوت" بعد اليوم.

وقف النار بشروط إسرائيلية

بعد حرب حزيران ـ يونيو 1967 أعاد ناصر بناء جيشه. وتابع السادات هذا البناء حتى انتصار أكتوبر 1973 المبتور، والذي أدى الى خروج مصر من الحرب مع الدولة العبرية، لقاء استرجاع شبه جزيرة سيناء المصرية وبقاء غزة الفلسطينية تحت الاحتلال، وهي كانت تحت السيادة المصرية قبل الحرب.

بعد وقف النار في لبنان عبر القرار الدولي 1701 احتفظت إسرائيل بأراض لبنانية، ولاحقت و تلاحق أعضاء الحزب ومقاتليه في جنوب لبنان وفي البقاع. وتدمر بعض مكاتبه ومراكزه في الضاحية الجنوبية. ويتعرض الحزب لضغوط لبنانية وعربية ودولية لتسليم سلاحه والخروج من الحرب مع الدولة العبرية، لا بل يجري حديث جدي عن التطبيع والسلام مع إسرائيل، فيما حزب الله يؤكد عبر خطب أمينه العام الجديد الشيخ نعيم قاسم على استمرار المقاومة التي" تقاوم أحيانا من دون سلاح. ذلك أن السلاح أداة وليس هدفا".

ملايين التشييع

بعد ثلاث سنوات من حرب حزيران ـ يونيو توفي الزعيم العربي جمال عبد الناصر فحزن عليه عشرات الملايين من المصريين والعرب. وبعد شهور من اغتيال السيد حسن نصر الله حضر أكثر من مليون لبناني وعربي ومسلم تشييعه ووداعه في لبنان، الذي لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة.

في الحالتين المصرية واللبنانية عبرّ المشيعون بخروجهم العفوي والعاطفي إلى الشوارع عن رغبتهم، بل إصرارهم على مواصلة المجابهة مع الاحتلال واعتبار ما حصل "نكسة" أو "هزيمة" يمكن أن تتعرض لها شعوب وقادة وجيوش في حروب مصيرية، وأن اغتيال الزعيم الشعبي لا يمكن أن يكون بأية صورة من الصور نهاية المطاف ونهاية المجابهة.

لكن كيف نقرأ ما حصل في لبنان بين 7 أكتوبر ـ تشرين الأول عام 2023 ـ وإعلان وقف النار في لبنان في أكتوبر ـ تشرين الأول عام 2024؟

لم يصدر تقييم بعد من قيادة الحزب الجديدة حول أسباب ونتائج مشاركة حزب الله في حرب " طوفان الأقصى" يمكن الاستناد اليه لمعرفة قراءتها لهذه الحرب. بالانتظار يمكن توجيه الأضواء نحو الخطوط العريضة التالية:

1 ـ خاض "حزب الله " حرب غزة تحت عنوان واحد هو اسناد القطاع. وربط توقف مشاركته في الحرب بوقف النار في غزة. كانت "حماس" تراهن على مشاركة واسعة للحزب في هذه الحرب من قبيل "اجتياح الجليل"، فتضطر إسرائيل للقتال على جبهتين كبيرتين يمكن أن يستدرجا جبهة ثالثة مهمة في الضفة الغربية. وان تم ذلك سيكون من الصعب على إسرائيل ان تستمر طويلا في الحرب، فتلجأ للتفاوض من أجل وقف القتال.

هل كان اجتياح الجليل سيؤدي إلى مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية في القتال المباشر إلى جانب إسرائيل؟ وهل امتنع الحزب عن تطبيق خططه المعدة مسبقا للحرب لهذا السبب، أو لأن إيران زعيمة محور الممانعة كانت تعتقد أن توسيع الحرب سيجرها نحو مجابهة دولية لا قدرة لها على تحمل نتائجها؟

بعد ثلاث سنوات من حرب حزيران ـ يونيو توفي الزعيم العربي جمال عبد الناصر فحزن عليه عشرات الملايين من المصريين والعرب. وبعد شهور من اغتيال السيد حسن نصر الله حضر أكثر من مليون لبناني وعربي ومسلم تشييعه ووداعه في لبنان، الذي لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة. إن ردود الفعل الغربية ومن بينها نشر الاساطيل وامداد إسرائيل بكل ما تحتاجه في وقت قياسي، كان ينطوي على مشاركة فعلية في القتال ان تم توسيع الحرب، وهذا يعني اشتراك إيران فيها، فتصبح حرب محاور في ميزان قوى شديد الاختلال لصالح المحور الغربي الإسرائيلي، وبالتالي من الصعب الرهان على انتصار للممانعة في هذه الحرب، بل يمكن من خلالها تدمير قدرات الجمهورية الاسلامية راس المحور.

لقد فرض تهديد إسرائيل والولايات المتحدة بضرب إيران مباشرة، ان اجتاح الحزب الجليل الأعلى، فرض حرب اسناد محدودة لقطاع غزة من لبنان وبقاء طهران بمنأى عن الاشتراك المباشر فيها وبالتالي اكمال الحرب بالشروط الإسرائيلية الامريكية وبزمام مبادرة مطلق للدولة العبرية.

 تقديرات خاطئة

2 ـ أخطأ حزب الله في قراءة ردود الفعل الإسرائيلية المحتملة على اشتراكه في الحرب. كانت حكومة نتنياهو مصممة على تغيير قواعد الاشتباك قبل "طوفان الأقصى"، وقد ورثت عن الحكومات السابقة التصميم نفسه الذي بدأ منذ نهاية حرب عام 2006. ولعل خطأ الحزب الأكبر ناجم في أحد وجوهه عن تأثره بالأعلام الإسرائيلي الذي كان يتعمد تضخيم قدرات الحزب إذ جعله الصهاينة أخطر حزب في العالم.

لقد بثّ الإعلام الإسرائيلي أوهاما عن قدرات الحزب الخارقة وخططه التي يصعب مواجهتها، حتى بدا وكأن الحزب سيهزم إسرائيل خلال أيام وأن الدولة العبرية لا تلوي على شيء تجاهه.

في هذا الوقت كان إعلام حزب الله قد ذهب بعيدا في خطاب "بيت العنكبوت" وفي الحديث عن قدراته وقدرات عدوه، وباتت وسائل الاعلام الإسرائيلية مرجعه ومصدرا لرفع معنويات جمهوره وعناصره، ذلك إلى حد أن أحد أنصار المقاومة روج سيناريو عبيطا لتدمير إسرائيل بقوله ".. الحزب قادر أن يربح الحرب بكبسة زر واحدة" وأوضح أنه سمع هذا التأكيد من كبار قادة حزب الله.

لقد بلغ تأثير الإعلام الإسرائيلي في صياغة المواد التعبوية الحزبية حدا بات معه من الصعب الانتباه إلى تحذيرات صدرت في لبنان ومن بينها تحذير نشره الأستاذ جهاد الزين في جريدة النهار البيروتية ونبه فيه إلى تكرار سيناريو حرب حزيران 67 المصري قبل أشهر من طوفان الأقصى. ولو طُرِحَ الاحتمال الذي ذكره الزين في "النهار" للنقاش في منابر الممانعة لجوبه من كتابها ومحلليها بالتشكيك بالكاتب وبالجريدة. ولا أستغرب إن عدتُ لتلك الفترة إن رأيت حملة على الكاتب من أحد "نجوم" جريدة الممانعة الأولى أو من محللي محطتها الأبرز.

والأخطر في هذا الاستبطان الحزبي أن الصورة التي كانت تشيعها إسرائيل عن قدرات الحزب حالت دون الانتباه إلى تسريبات إسرائيلية، ومن بينها تسريبٌ يقول إن إسرائيل باتت تعرف بدقة أين وكيف يتنقل ويستقر السيد حسن نصر الله وهو ما تأكد بعد اغتياله.

كبسة زر تكفي للانتصار

عندما يشعر طرف في صراع مع عدو أنه منتصر قبل الحرب بأثر من اعتراف عدوه بقدرته على الانتصار، يفقد مبررات الحذر والانتباه أو فلنقل تَضعفُ عنده دوافع الحذر، ويصبح هدفا سهلا يمكن اصطياده. هذا ما يمكن استنتاجه من ظروف شراء البيجر المتفجر ومن إهمال قيادة حزب الله وجوب الانتباه لقدرة الجيش الإسرائيلي على اصطياد مقاتلي وأعضاء الحزب في الجنوب بسهولة فائقة.

إن اغتيال صالح العاروري نائب رئيس حماس بدقة، في مكتبه في ضاحية بيروت الجنوبية، كان بمثابه إنذار خطير إلى ما سيأتي من بعد، لكن ذلك لم يدفع قيادة الحزب ولا أنصاره ولا محطاته الفضائية ولا مراكز أبحاثه وصحفه إلى الحذر من الخطر القادم وإلى وجوب تغيير الخطط المرسومة قبل الحرب واعتماد خطط بديلة.

ويبقى السؤال هل كان الحزب قادرا على استقبال مؤشرات الحذر وإعادة النظر بخططه وطرق عمله؟ الجواب لا، مع شديد الأسف، ذلك أن المحور بكامله كان طرفا بحملات إعلامية دفاعية ضد طابور محلي وعربي واسع يضم أجهزة إعلامية تطوف دولارات وخبراء وإعلاميين محترفين في فن التضليل والثورة المضادة ونشر الفوضى وتهشيم قيم العدالة والحرية الحقيقة ومقاومة المحتل.

لقد صنع هذا الطابور في منابره ثنائية ناجحة بين محترفي التحريض والأبلسة من جهة وعناصر من الممانعة من جهة أخرى، تتحدث بلهجة دفاعية خشبية تفتقر إلى الجاذبية وحسن المناورة وتغرق في البديهيات.

عندما تكون هذه الثنائية محرك النقاش اليومي حول المقاومة بوصفها نقيضا لـ "حب الحياة"، تنتفي الحاجة لمساحة إعلامية يحركها هم التساؤل حول الأنا والمحتل، أي خطط المحور والخطط المضادة، الخطب الإعلامية المعادية والخطب الصديقة، وطرح الأسئلة المصيرية والبحث عن إجابات لها.

ما يؤسف له أن الاستراتيجية الإعلامية التي اعتمدتها إسرائيل قبل حرب العام 1967 هي نفسها تقريبا التي اعتمدتها في مواجهة حزب الله. وهي نفسها التي استخدمها الغربيون في حربهم على صدام حسين، ومن قبل في الحرب على أفغانستان وجوهرها: تضخيم قدرات العدو، الذي لا يثق بإعلامه قدر ثقته بإعلام عدوه، وإيهامه بانه منتصر لا محالة ومن ثم الانقضاض عليه في اللحظة الملائمة.

3 ـ لم يكن قرار الحرب وصيغة الاشتراك فيها بيد حزب الله حصرا. كان على الحزب أن ينسق مع القيادة الإيرانية التي كانت تراهن على أن تتحول حرب غزة إلى حرب عربية إسرائيلية أو حرب إسرائيلية ـ إسلامية، أو أن يقع وقف لأطلاق النار خلال شهر أو شهرين. لكن شيئا من ذلك لم يتم. لذا قررت طهران التراجع والخروج من الحرب، وان يتراجع معها حزب الله. وهذا ما حصل ضمن ظروف ما كانت ملائمة للحزب.

بالمقابل كان نتنياهو يعرف شروط اللعبة لذا حذر أصدقاءه العرب المُعْلَنين والمستورين بقوله "اصمتوا أنتم ودعونا نعمل". لم يكن لدى إيران، ولدى المحور عموما، خطة باء فكان أن قادت إسرائيل الحرب بشروطها ووسائلها ومواقيتها.

4 ـ قيد حزب الله مشاركته في الحرب بوقف النار في غزة، فصار عليه أن يراهن على هزيمة إسرائيلية في الحرب من دون أن تكون متاحة، ومن دون وقوع انهيارات في التحالف الغربي المؤيد للدولة العبرية. لقد حرم الحزب نفسه من هامش واسع للمناورة، خصوصا أن خطابه القاطع قبل الحرب وبعدها كان مقفلا، فأصبح الحزب أشبه بكيس ملاكمة يتلقى الضربات من دون القدرة على الرد عليها بوزنها ومستواها.

الجبهة الداخلية عبء إضافي

5 ـ كانت الجبهة الداخلية اللبنانية عبئا على الحزب لمدة طويلة. فالقسم الأكبر من اللبنانيين لا يريد الحرب، ومن بينهم حليف الحزب المسيحي "التيار الوطني الحر" الذي خرج من تفاهم كنيسة مار مخايل الموقع في  ربيع العام 2006 . ناهيك عن الوضع الاقتصادي السيء الذي يعيشه لبنان ويمكن للحرب الواسعة أن تفاقمه الأمر الذي شكل ضغطا على الحزب وقلص من قدرته على توسيع إطار الحرب.

6 ـ تظاهر الحزب بأنفاقه الاستراتيجية خلال الحرب من دون أن ينتبه إلى أن إسرائيل يمكن أن تغير تكتيكاتها التي اعتمدتها في حرب العام 2006. ويمكن أن تطبق تكتيكات مختلفة تماما. لعل الحزب اكتشف ذلك بعد فوات الأوان.

لم يكن قرار الحرب وصيغة الاشتراك فيها بيد حزب الله حصرا. كان على الحزب أن ينسق مع القيادة الإيرانية التي كانت تراهن على أن تتحول حرب غزة إلى حرب عربية إسرائيلية أو حرب إسرائيلية ـ إسلامية، أو أن يقع وقف لأطلاق النار خلال شهر أو شهرين. لكن شيئا من ذلك لم يتم. لذا قررت طهران التراجع والخروج من الحرب، وان يتراجع معها حزب الله. وهذا ما حصل ضمن ظروف ما كانت ملائمة للحزب.7 ـ لقد وسع الحزب مشاركاته العسكرية في سورية ولبنان والعراق واليمن وصار لاعبا شرق أوسطيا، الأمر الذي أدى الى إضعاف سريته وانكشافه أكثر وبالتالي خسر أهم ورقة من أوراق انتصاره في حرب تموز 2006. المؤسف أن نرى الطيران الحربي الإسرائيلي يلاحق حتى الآن حزبيي القاعدة ويجهز عليهم.

8 ـ لعل الحزب أدرك متأخرا خلال الحرب أن إسرائيل تخلت عن تكتيك اعتمدته في العام 2006 ويتصل باستخدام القوات البرية على نطاق واسع عبر اجتياح المناطق اللبنانية. لقد بدا واضحا أن إسرائيل تخلت عن هذا التكتيك واعتمدت آلتها العسكرية التدميرية بحيث تتقدم بعد أن تمسح قرى بأكملها عن سطح الأرض وتدمر البنية التحتية للحزب وتسعى لحصاره المطلق، وتوجه الضربات القاتلة له وتحمله على الارتداد إلى الداخل اللبناني، ليقع في مواجهة مع خصومه الذين يطالبونه بكشف حساب عن حربه الفاشلة وعن نواياه المقبلة وعن مصير سلاحه وقدراته الاستراتيجية وتسليمها لجيش اللبناني. فهل يفعل وكيف ولماذا؟ هذا ما سنتناوله في النص المقبل.

مقالات مشابهة

  • سقطت في كفركلا... الجيش صادر طائرة درون إسرائيليّة
  • ارتكبا 4 وقائع مشابهة.. القبض على المتهمين بسرقة المواقع في بدر
  • جرائم سرقات متنوعة.. سقوط 9 لصوص في قبضة «أمن القاهرة»
  • مطرانية بيروت الكلدانية: نثمن زيارة الرئيس عون إلى مقر البطريركية في بغداد
  • القبض على تشكيل عصابى لاتهامه بسرقة مواقع تحت الإنشاء فى القاهرة
  • اعترافات تشكيل عصابى بتهمة سرقة السيارات فى دار السلام
  • إدارة المدينة الصناعية بحسياء تناقش مع مستثمرين واقع الكهرباء والطاقات المتجددة فيها
  • أضواء على حرب الإسناد.. حين سقطت لعنة حزيران 1967 على حزب الله اللبناني
  • الإطار الإيراني:نستخدم كل وسائل “التقية بما فيها نزع ملابسنا من أجل البقاء في السلطة”
  • دفن جثمان طفلة سقطت من الرابع في الهرم