أكد وزير التجارة الطيب زيتوني، أن رفع القدرة الشرائية للمواطنين أمر من سمات الجزائريين والمتضامنين مع أبناء وطنهم، مشيرا إلى أن قدرتنا الشرائية لاباس بيها مقارنة ببعض الدول، خاصة الجارة.

وذكر الوزير، في ندوة اقتصادية لمجلس التجديد الإقتصادي الجزائري، بالإلتزام رقم 29 لرئيس الجمهورية، والذي يؤكد الدور الحيوي لحماية القدرة الشرائية.

مشيرا إلى أنهم اليوم ينخرطون في هذ المسعى في الحفاظ على القدرة الشرائية.

وأشاد الوزير، بموقف مجلس التجديد الإقتصادي، والدور الحيوي له في تعزيز الإستقرار الاقتصادي للبلاد. وتعزيز الثقة في المنتجات الجزائرية المحلية والصناعة الوطنية في الأسواق المحلية.

كما شكر زيتوني، جميع المنتجين المصنعين الجزائريين على انخراطهم الإرادي في هذا المسعى.

المصدر: النهار أونلاين

إقرأ أيضاً:

معجب الزهراني: نصف ما نحمله من تصورات يحتاج إلى زوال كي نستعيد قدرتنا على الإلهام

يدعو إلى عقلنة الخطاب وأنسنة الثقافة حوار - فيصل بن سعيد العلوي

لا يمكن مقاربة تجربة الدكتور معجب الزهراني من زاوية واحدة؛ فالرجل الذي وُلد في فضاء الريف الجبلي، وعاش طفولته بين قريتين في الجنوب السعودي قبل أن ينتقل إلى عوالم نجد ثم إلى باريس، راكم على مدى عقود رؤية فكرية تتجاوز حدود الجغرافيا إلى أفق الإنسان نفسه، حيث عمل أستاذا في جامعة الملك سعود لأكثر من سبع وعشرين سنة، واشتغل في موازاة ذلك ناقدا ومفكرا وكاتبا ومترجما، قبل أن يتولى إدارة معهد العالم العربي في باريس بين عامي 2016 و2022، جامعا بين خبرة الأكاديمي ووعي الممارس الثقافي، فحوّل المنصب إلى منبر للحوار بين الثقافات، وأعاد للمؤسسة حضورها الحيوي عبر تأسيس الكرسي الثقافي وإصدار مائة كتاب وكتاب وتكريم رموز عربية وفرنسية أسهمت في خدمة الثقافة. 

في كتاباته ومحاضراته يقدّم «الزهراني» قراءة عميقة لأسئلة الحداثة والهوية واللغة والإنسان، مؤمنا بأن الثقافة مشروع أخلاقي قبل أن تكون معرفيا أو جماليا، وبأن المثقف لا يكون مثقفا إلا بقدر انحيازه للعقل والضمير، وانشغاله الدائم بإنقاذ الإنسان من الغياب. في هذا الحوار يتحدث «الزهراني» عن تشظيات الواقع العربي، وعن غياب التوازن بين الموروث والمعاصر، وعن الحاجة إلى مصالحة لغوية وفكرية تفتح طريق التحديث، مؤكدا أن الزمن وحده قادر على تصفية تراث الخرافة واستبقاء ما يصلح لبناء الإنسان والوعي. 

 انطلقت دائما من فكرة أن تحرير الإنسان شرط لتحرير الخطاب، وأن الثقافة مشروع أخلاقي قبل أن تكون مشروعا جماليا أو معرفيا. كيف ترى اليوم موقع الإنسان في الثقافة العربية بين سلطة النص وسلطة الواقع؟ 

 أرى أن الحياة بالنسبة للكائن العاقل أو العارف لا يمكن أن يكون لها معنى إلا من خلال الإنسان ذاته، ومن خلال امتلاكه القدرة على الحديث والحوار، فبدون أن يكون الإنسان مركزا لأي خطاب معرفي أو فكري أو جمالي أو ديني تفقد الثقافة أحد أهم أبعادها وتتحول إلى نوع من أنواع اللغو أو إلى ثقافة بلا معنى، وأعتقد أننا الآن في ما يسمى بالفضاء العربي، سواء أسميناه الوطن العربي أو العالم العربي أو بأي تسمية أخرى ربما لم يعد لها الكثير من المبررات، نعيش واقع مليء بسلسلة من الرهانات والتحديات التي لم نكسبها بعد، فلم نستطع حتى أن نحقق الدولة الوطنية بالمعنى الحديث، وهذه النتيجة جاءت بعد قرون طويلة من التخلف التاريخي الذي لا يمكن تجاوزه بسهولة، فالإنسان عندنا في كثير من الأحيان مهمش لصالح مقولتين، وأرجو أن يسمح لي بالجرأة هنا، فكلما ذكرت الكائنات الغيبية يختفي الإنسان وراءها، وكلما ذكرت رموز السلطة يختفي الإنسان العادي وراء تلك الرموز، لذلك يمكن القول إن الإنسان لا يزال في صيرورة حضور وفعل، لكنه ليس حاضرا بعد، كما لو أننا نقول إن الإنسان في إسكندنافيا أو في بعض الفضاءات التي تدور حول ثقافة البشر والحياة يعيش حالة اكتمال نسبي، بينما نحن لا نزال مشغولين في قضايا لا تلتفت إلى الإنسان مع الأسف الشديد، تخيل الآن كم عدد الذين يفكرون في الموت وما بعد الموت، كثيرون جدا، الإنسان الغائب هنا هو الإنسان العاقل، لأننا لا نفكر في قضايانا من خلاله بل نفكر في أن نجادل حولها ونختصم، وأحيانا يعتقد البسطاء منا أن الجنة تخصهم وحدهم دون بقية العالم، وهذه ثقافة مؤنسنة بمعناها اللغوي لكنها ليست إنسانية في معناها العميق المتصل بالانشغالات اليومية بي وبك وبالطفل وبالمرأة، ولذلك أعتقد أننا لا نزال في مرحلة يمكن أن نعود فيها إلى ابن رشد وبعض الأصوات القديمة لنسميها مرحلة العقلنة والأنسنة، نحن الآن نراهن على عقلنة الثقافة وأنسنتها، وأرجو أن يكون الطريق مفتوح لذلك، وإن كنت لست متأكدا تماما من ذلك بعد. 

 بعد أكثر من نصف قرن من الجدل حول الحداثة، هل ترى أننا ما زلنا أسرى ثنائية «التراث والحداثة»، أم أن هناك ملامح حداثة عربية (بروحها الخاصة ووعيها المحلي) تتشكل من الداخل؟ 

 إذا ربطنا هذا الحديث بما سبق، يمكن القول إننا كما قال عبد الكبير الخطيبي دخلنا عالم الحداثة على ظهر جمل، وأنا أقول أحيانا حفاة وأحيانا على ظهور حمير وأحيانا على ظهر جمل، لأن ما نعيشه اليوم هو تداخل عميق في الآفاق الفكرية والمعرفية، إذ تجد في المدينة العربية كما في القرية أو البلدة المرجعيات العتيقة التي تعود إلى آلاف السنين، وهي ليست تقليدية بل ما قبل التقليدية، ومع ذلك لا تزال تعمل وتؤثر في وعينا وسلوكنا، وتجد إلى جوارها المرجعية العلمية الحديثة في المستشفى أو في المصنع، وتجد المرجعية الفكرية والمعرفية الجديدة في الجامعة أو المدرسة، لكن بجانبها مباشرة المرجعيات الخرافية والأسطورية التي يعتقد كثيرون أنها هي التي تؤسس العالم وتفسره، نحن ما زلنا نعيش هذا التنافر دون أن ندرك عمقه، ونتوهم أن هذه المرجعيات المتناقضة متصالحة فيما بينها بينما هي في الحقيقة تتصادم وتتناقض على نحو يومي في وعينا الجمعي والفردي، لذلك لا أعتقد أننا دخلنا في عصر الحداثة بشكل جدي، ولا نحن في عصر ما بعد الحداثة بالمعنى الذي تعرفه أوروبا أو أمريكا أو الصين أو كوريا، فاختلاط المرجعيات الفكرية والمعرفية حالة يومية يعيشها كل واحد منا، وأنا وأنت وغيرنا نختبرها باستمرار، نحن في مرحلة تشكل نحاول فيها فهم معطيات العالم الحديث وأدوات فكره ومفاهيمه ومصطلحاته، كما نحاول التعامل مع أدوات العمل والآلة، لكنها ما زالت مشوبة بعناصر السحر والغيبيات التي تتسلل إلى وعينا وتتحكم في تفسيرنا للأشياء، ولهذا لا أرى أن لدينا تمفصل واضح بين النهضة والحداثة وما بعد الحداثة، بل يمكن القول إننا جميعا متورطون فيها كما ذكرت سابقا، متورطون في اللغة التي نستخدمها ولكنها كثيرا لا تنتج معنى ولا تفتح أمامنا أفق للتفكير، لأن المرحلة بطبيعتها إشكالية لا مشكلة، والإشكالية هنا شبكة كبيرة من العناصر المتداخلة لا يحلها الأفراد ولا الجماعات من مفكرين أو سياسيين أو متنورين، فمشكلات المجتمعات العربية في مصر أو المغرب أو عمان أو السعودية لا تُحل بإرادة أشخاص أو نخب، بل يحلها التاريخ وحده مع مرور الزمن، لأن الزمن كفيل بأن يفسد بعض العناصر القديمة ويميت ما انتهى دورها ليحل محلها غيرها من عناصر جديدة قادرة على بناء توازن مختلف. 

 عاش المفكر العربي طويلا في توتر بين لغته وترجماته، وأنت كتبت ودرّست بالعربية والفرنسية معا، فهل اللغة بالنسبة لك وسيلة تفكير أم فضاء هوية.. وهل يمكن أن يولد فكر عربي جديد دون مصالحة لغوية؟

 الحديث هنا مرتبط تماما بالذي سبقه، فاللغة التي نتكلمها جميعا ليست خيارا، هي نتيجة الصدف الجغرافية والبيئية التي وُلد فيها الإنسان، أنا ولدت في فضاء لغوي عربي كما ولد شخص صيني في فضاء لغوي صيني أو أمريكي لاتيني في فضاء لغوي إسباني، وهذه اللغة إذا عدنا بها خمسين أو ستين سنة إلى الوراء نجد أن اللغة اليومية التي وُلدنا فيها أو في فضاءاتها ليست على صلة بالعالم الحديث، فلغة البدوي في الصحراء ليست على علاقة بالعصر الحديث، ولغة الفلاح في الجبل أو في الواحة ليست على علاقة بالعصر الحديث، هي لغة تتغنى بالمطر وتنشد للماء وتصلي للماء، وأستحضر هنا الروائي الجميل صديقنا زهران القاسمي الذي جسد ذلك خير تجسيد، تماما كما اشتغل إبراهيم الكوني على فضاء الصحراء، فهذه اللغة الأسطورية النبيلة والعميقة لا علاقة لها بالعصر الحديث، وكذلك لغة زهران القاسمي في حديثه عن الماء والعسل والصيد وغيرها من المفردات التي تشكل عالمه السردي، لكن هذه اللغة تغيرت مع المدرسة، لأن المدرسة علمتنا لغة أخرى هي اللغة الفصحى التي ليست لغة الأم بل لغة الأب، الأب الثقافي الذي نشأنا فيه وتعلمنا به ومارسنا به التفكير والتأمل في الحياة حتى المراحل المتقدمة في الجامعة وما بعدها، ثم تعلمنا اللغات الأجنبية، واللغة الفرنسية خصوصا منحتنا بعدا جديدا لشخصيتنا ولهويتنا، لأنها كما توصف بأنها لغة ديكارتية، اشتغل عليها الفرنسيون منذ ما قبل عصر التنوير، وديكارت نفسه ينتمي إلى عصر النهضة، وإذا دققت في اللغة الفرنسية فلن تجد فيها نسبة اللغو التي نسمعها اليوم في العالم العربي، إذ تتجه العبارات هناك نحو حالات وقضايا وموضوعات محددة، وبالتالي تمت ترقية اللغة لتصبح مطابقة بين الكلام وبين الواقع أو الفكرة أو القضية بمعناها الفلسفي، أما نحن فلم نصل إلى تلك المرحلة بعد، فأنا مثلا قد أتكلم بلهجة أمي وأبي الفلاحين الذين لم تكن لهم علاقة بالعصر الحديث، وقد أتكلم بلغة فصحى أقرأ بها الجاحظ وابن رشد وطه حسين، وقد أفكر في الوقت ذاته باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، لذلك نحن في العالم الثالث، العالم الذي يحاول التنمية، قد تجد في كل مستوى لغوي انتقالا من علاقة بالعالم الحديث إلى علاقة أخرى، فعندما أتحدث بلغة القرية القديمة لا يكون بيني وبين الجيل الجديد في السعودية علاقة كبيرة، وعندما أتكلم بالفصحى أستدعي تراثا عريقا ممتدا فيه تنوع وثراء، أما حين أتكلم بالفرنسية أو الإنجليزية فأنا على يقين أنني أدخل في حوار مباشر مع العصر الحديث، وأعطي مثالا بسيطا يوضح الفكرة النظرية، وهو تجربة أرامكو أو أي شركة نفط أو مصنع حديث في الخليج، ففي داخل هذه الفضاءات الحديثة أنت مجبر على أن تتحدث بلغة مطابقة لما حولك من أدوات وأشياء، لكنك حين تخرج من هذا الفضاء إلى البيت أو المسجد أو الصحراء تعود إلى لغتك الخاصة، اللغة الحميمة الجميلة التي تغنيها وتشعر بها، لكنها ليست اللغة التي تحاور بها العالم. 

 كيف ترى اليوم دور الترجمة في إعادة تشكيل الوعي العربي، وإمكان تحولها من التبعية للمشاريع الغربية إلى فعل تأسيسي لمشروع ثقافي عربي إنساني الطابع؟ 

 أرى بكل تأكيد أن الترجمة تأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد البعثات التعليمية، فهذه البعثات التي بدأت قبل قرنين من الزمان تقريبا، حين انطلقت من مصر إلى فرنسا ثم أخذت في التوسع إلى يومنا هذا، كانت ولا تزال تشكل صيرورة متواصلة في مسار بناء المعرفة، والشيء نفسه ينطبق على الترجمة التي تمثل جسورا أساسية للحوار بين الثقافات، جسورا ذات اتجاهين فيها ذهاب وعودة لأنها ليست حركة في مسار واحد بل فعل متبادل فيه الأخذ والعطاء، ومع ذلك فإن الترجمة إذا لم تكن مدروسة ومنظمة فقد تتحول إلى مصدر فوضى في الفكر والذوق، وقد اشتغلت على هذا الموضوع في إحدى دراساتي الأكاديمية، إذ لاحظت أن الترجمة العشوائية غير المنظمة من قبل مؤسسات محددة أو ضمن مشاريع واضحة تخلق نوع من الفوضى لأن كل مترجم يترجم ما يروق له، وهذه الفوضى على الرغم من سلبياتها قد تكون فوضى خلاقة لأنها تفتح آفاق جديدة وتحرك المياه الراكدة، ومع ذلك تبقى الترجمة عملا جوهريا وأساسيا في بناء الوعي، بل إن أثرها في الثقافة العربية لا يوازيه إلا أثر البعثات التعليمية، والمفارقة أن اللغات الأوروبية الحديثة التي عاصرت النهضة والحداثة وما بعدها تترجم اليوم أكثر منا، فهي حين ترجمت الروايات القادمة من أفريقيا أو من أمريكا اللاتينية أو من آسيا لم تكتف بنقل النصوص بل ساهمت في تطوير لغاتها نفسها، فاللغة الفرنسية على سبيل المثال تغيرت مع أمين معلوف والطاهر بن جلون وسينغور، لأن الترجمة هناك كانت عملية تفاعلية تغني اللغة وتوسع آفاقها، ولهذا أرى أن الترجمة في عالمنا العربي ليست ترفا ثقافيا بل ضرورة حضارية لا تقل أهمية عن التعليم ذاته. 

 كيف انعكست الازدواجية بين ثقافة الصحراء وروح أوروبا، التي عشتها بين الرياض وباريس، على رؤيتك للهوية ولإمكان الحوار مع الآخر خارج منطق الهيمنة الثقافية؟ 

 عشت ما يقارب أربع عشرة سنة من حياتي في الريف، والريف عندنا فضاء جبلي فيه أمطار وخضرة وفلاحة وامتداد طبيعي يفيض بالحياة، ولم أر الصحراء إلا عندما كنت في الطريق إلى الرياض وعمري نحو خمس عشرة سنة، فلم أكن أعرف الصحراء ولا البحر قبل تلك المرحلة، ولهذا يمكن القول إن حياتي تشكلت في ثلاثة عوالم أساسية، عالم القرية وعالم الريف وفي جبال السنوات وهو مناخ متوسطي يشبه بعض الفضاءات في اليمن وفي عمان وفي شمال أفريقيا من شمال المغرب إلى بلاد الشام، ثم جاءت البيئات الصحراوية التي انتقلت إليها في سن معينة، وهي بيئات لها عالمها وخصوصياتها المناخية والجغرافية والإنسانية، ثم لاحقا عالم باريس الذي وصلت إليه وأنا في الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين من عمري، هذه العوالم الثلاثة القرية والصحراء وباريس كانت تتفاعل داخلي أحيانا في حوار مرح وفعال وخلاق، وأحيانا في صدام حاد وصعب؛ لأن كل عالم منها يجرني إلى شبكة من العلامات والمنظومات القيمية والفكرية والجمالية الخاصة به، فلا أستطيع مثلا أن أقارن بين منظومة الطعام التي أحبها في القرية وبين منظومة الطعام التي عرفتها في نجد أو تلك التي تعودت عليها في باريس طوال سبع عشرة سنة من العيش، فكل واحدة منها لها ذوقها الخاص وإيقاعها الثقافي المختلف، ومع أن هذه العوالم تتصادم داخلنا إلا أنني أراها صدامات إيجابية بشرط أن نعيها ونتحملها ونتعامل معها بوعي، لأنها تخلق توازنا داخليا وتمنحنا طاقة على الفهم والمصالحة، فأنا مثلا بعد أن أعيش تجربة المتاحف والموسيقى في باريس أجد نفسي أمارس العرضة في قريتي، وفيها نوع من الوحشية واستعراض القوة لكنها أيضا مشحونة بالمحبة وبالبهجة وبشيء من السخرية، فيها جانب تراجيدي وآخر ساخر في الوقت نفسه، وهذا المزج بين المتنافرات أراه جميلا لأنه يعكس تعدد التجارب داخل الإنسان الواحد، ويؤكد أن الحوار بين الثقافات لا يحدث في الكتب فقط بل في الذات أيضا، في تلك المصادفات العبثية المرحة التي تجمع بين المتناقضات وتصنع منها معنى إنسانيا جديدا. 

 كيف شكلت تجربتك في إدارة معهد العالم العربي في باريس اختبارا لتمثيل الثقافة العربية في السياق الغربي وتحديا في إيصال صورتها إلى الوعي الأوروبي؟ 

 أعتبر نفسي محظوظا لأنني توليت مسؤولية إدارة المعهد بعد مسيرة طويلة امتدت سبعا وعشرين سنة من العمل الأكاديمي في جامعة الملك سعود ثم في جامعة أخرى، حيث اشتغلت خلال تلك السنوات في الجانب المعرفي ونشرت ما تيسر من البحوث والدراسات، وكنت حين ذهبت إلى باريس أعرفها معرفة دقيقة لأنني عشت فيها واشتغلت بها صحفيا ومراسلا ثقافيا فترة طويلة وأنا طالب، هذه التجربة الطويلة مع العدة الفكرية التي امتلكتها جعلتني أعود إلى العمل في معهد العالم العربي وأنا أمتلك استعدادا مختلفا ووعيا متقدما بطبيعة المكان ووظيفته، وقد ذكرت في مذكراتي «مكتب على السين» أنني كنت أشعر أنني أملك ثقافة لا أريد أن أقول إنها أفضل من ثقافة الآخرين، لكنها بالتأكيد أعمق من ثقافة كثير من الفرنسيين الذين عملت معهم لأنهم في الغالب كانوا متخصصين في جوانب إدارية أو مالية أو فنية محددة، بينما أنا كنت أدرس وأفكر وأشتغل في الحقل المعرفي، ولذلك لم تكن عندي عقدة نقص تجاههم، لكن الصدمة الكبرى جاءت عندما دخلت في نظام المعهد واكتشفت أنه يكاد يكون فرنسيا بالكامل، فهو يخدم الثقافة العربية الإسلامية دون شك لكنه في النهاية يخضع في قراراته وتوجهاته الأساسية لإدارة فرنسية، إذ إن رئيس المعهد يجب أن يكون فرنسيا بدرجة وزير ويُعين من قبل قصر الإليزيه مباشرة، أما المدير العام العربي الذي ترشحه دولته وتوافق عليه الجامعة العربية فقد تحول بعد سلسلة من التعديلات إلى منصب أقرب إلى الشكل البروتوكولي، ولولا أنني ذهبت كما قلت لك بتجربة سابقة ووعي واضح بما أريد تحقيقه، وأنشأت ما سميته بالكرسي الثقافي لمعهد العالم العربي، ربما لم أكن سأستمر في العمل هناك، هذا الكرسي أتاح لي فرصة التشارك مع مؤسسات فكرية مثل مؤسسة محمد شحرور من جهة، وجائزة الملك فيصل من جهة أخرى، وبفضله تمكنا من إصدار مائة كتاب وكتاب، وكرمنا مجموعة كبيرة من المستعربين الفرنسيين ومن المفكرين العرب الفرنكفونيين من المغرب إلى لبنان، أما أنا شخصيا فقد أصدرت ثلاثة كتب وأعدت نشر رسالتي للدكتوراه، فكانت التجربة مثمرة لأنها حولت المصادفة إلى رهان، فأنا لا أؤمن بما يسمى الفرصة السعيدة أو الحظ، فالفرصة حين تأتي إما أن تدرك أهميتها وتحوّلها إلى إنجاز وإلا تضيع سدى، ولم أجد لأي مدير عام عربي قبلي أثرا مؤسسيا حقيقيا في المعهد، لذلك حرصت على أن أترك وثيقة رسمية أهديتها لأي مدير عربي يأتي بعدي، حتى يحضر في هذا المكان حضور فاعل وخلاق وحواري، بعيدا عن أي تصادم أو صراع غير منتج. 

 في عالم الأيديولوجيا وتشابكها بالثقافة، كيف يوازن المثقف بين استقلاله وحيوية الثقافة في ظل اقترابها من السلطة أو ابتعادها عنها؟ 

 هذه مسألة كُتب فيها الكثير وقيل فيها الكثير، ولذلك أرى أن من المهم أن نميز بين معنيين للإيديولوجيا، المعنى الأول هو الإيديولوجيا بالمعنى النضالي أو الفكري العام، فهي موجودة في كل ما نقول وما نفعل، والمعنى الثاني هو الإيديولوجيا بالمعنى الخاص، أي الخيارات الثقافية والفكرية والسياسية المحددة التي يتبناها الفرد أو الجماعة، وهنا يدخل سؤالك ويأخذ بعده الحقيقي؛ لأن المثقف الحديث في العالم العربي كله يعاني من مشكلة عميقة مع ما يسمى بالخطاب السائد، فلا معنى أن يسمى أحد مثقفا إذا لم يكن في موقع المعارضة الثقافية، وليس المقصود هنا أنه معارض لأنه بطل أو مشاكس أو خصم لنظام بلده، وإنما لأنه يرى الخلل ويرصد الفجوات والنواقص أكثر من غيره، وهذا الوعي النقدي الذي يجعله يرى العيوب هو ما يولد لديه التوتر، ومن ثمّ يصبح في موقع مزدوج، إذ يمتلك نوعا من الانتماء أو التصالح مع الإيديولوجيا العامة الجامعة، لكنه من الداخل يظل معارضا ثقافيا في كل لحظة؛ لأن غياب هذا التوتر يعني غياب المعنى الحقيقي للمثقف، فالشخص الذي لا يحمل فكرا نقديا حديثا ولا يمتلك مقصدية الإصلاح أو التطور أو التقدم لا يمكن أن يكون مثقفا بالمعنى الحقيقي للكلمة، قد يكون أستاذا جامعيا كبيرا أو طبيبا أو مهندسا أو أكاديميا ناجحا، لكنه لا يكون مثقفا؛ لأن مفهوم المثقف كما تبلور منذ أيام سارتر ومدرسة فرانكفورت وإدوارد سعيد يقوم على فكرة الالتزام الإنساني، ويعجبني قول إدوارد سعيد إن المثقف كأنه محام عن الإنسان العادي في المجتمع دون أن يطلب منه أحد ذلك، فهو مسكون بقيم ومبادئ ومواقف تدفعه إلى التوتر مع الخطاب السائد، ومن هنا تتولد عنده الإيديولوجيا، لكنها ليست إيديولوجيا حزبية أو سياسية ضيقة، بل هي إيديولوجيا ثقافية نابعة من حسه النقدي ورغبته في الدفاع عن الإنسان العادي وعن القيم التي تحفظ كرامته ووعيه. 

 قلتَ مرة إن المثقف لا يمكن أن يكون محايدا... ما شكل الانحياز الذي تراه اليوم أخلاقيا وضروريا للمثقف العربي في سعيه للموازنة بين الحلم النقدي والواقع السياسي؟ 

 لا أظن أن المثقف الذي يحترم نفسه ويعي معنى المثقف يمكن أن يكون حياديا، فالفكرة بالنسبة لي بعيدة تماما عن التصور، لماذا يا صديقي؟ لأن المثقف إذا اختار الحياد بقرار واع منه فإنه يخون ذاته قبل أن يخون ضميره، والمثقف الذي يدرك قيمة صوته لا يمكن أن يختار الصمت أو التوازن المصطنع؛ لأن هذا النموذج في المجتمعات الحديثة كلها نموذج حي وفاعل، والمثقف الحقيقي إذا حاول أن يضع نفسه خارج الصراع أو يكتفي بالمراقبة فإنه يفقد جوهر وجوده، وأنا أستشهد دائما بتعريف قديم يعود إلى نحو مائتين أو ثلاثمائة سنة قيل في المفكر، والمفكر هنا هو أعلى رتبة من المثقف، لأنه يحمل طموحات فكرية وفلسفية تأخذ الخطاب الإنساني خطوة إلى الأمام، كان التعريف يقول إن المفكر يجب أن يكون إنسانا عاديا يعيش مثل أي شخص آخر لكنه حينما يكتب أو يتكلم لا ينصت إلا لصوت عقله وضميره، تخيل معي حجم هذه المسؤولية في العالم العربي والإسلامي، حيث الضغوط متعددة والمغريات كثيرة، لذلك أقول إنني حين أكتب أو أتكلم لا أنصت إلا لصوت العقل والضمير، ونحن نحاول أن نسدد ونقارب لأن احترام منطق العقل في كل شيء ليس سهلا، لكن الخيانة الحقيقية هي أن يتنازل الإنسان عن فكره وعن ضميره في مقامات الحياة اليومية أكثر مما ينبغي، ولهذا لا أرى الحياد فضيلة بل أراه تخل عن جوهر الوعي، لأن المثقف حين يصمت أمام ما يجب أن يُقال يكون قد غادر موقعه الطبيعي في المجتمع. 

 كنت من أوائل الأصوات التي طالبت بقراءة نسوية منفتحة وغير صدامية، كيف تنظر اليوم إلى تطور الكتابة النسائية العربية؟ وهل تجاوزت مرحلة التمثيل الرمزي إلى وعي نقدي جديد؟

 دعني أقول أولا إن الفضل في هذا الاهتمام يعود إلى دراستي عن «صورة الغرب في الرواية العربية» في القصص العربي الحديث، فحينما اشتغلت على هذا الموضوع اكتشفت أن هناك مجموعة من الكاتبات العربيات لم يدخلن في المتن النقدي ولم يُلتفت إليهن بما يكفي، ومن بينهن سالمة بنت سعيد التي أعدّها رائدة الكتابة في المنفى في الأدب العربي الحديث، ومن هنا بدأت اهتمامي بالموضوع، رغبة في تدارك النقص واستكمال ما طرحته في أطروحتي التي ناقشتها في جامعة السوربون عام 1989، والتي أكدت فيها أن المرأة تمتلك رؤية تختلف عن رؤية الرجل الكاتب، وكان أول نص اشتغلت عليه وألقيت حوله مجموعة محاضرات وكتبت عنه دراسة هو نص سالمة بنت سعيد، وبالصدفة شاركت وأنا في باريس وفي معهد العالم العربي في فعالية تناولت تجربتها، ووجدت أن وجهة نظر المرأة أكثر إنسانية ومرونة وانفتاحا من وجهة نظر الرجل، حتى عندما تدخل في المجادلة أو ما أسميته بالتغريبة المتأخرة، لأن أغلب الروائيين العرب الكبار في ذلك الوقت كانوا يقدمون صورة فيها قدر من «تجسيد العلاقات» أو «جنسنتها»، أي اختزال العلاقة بين عالمين أو بين حضارتين أو ثقافتين عبر العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة، أما المرأة العربية التي كتبت عن تجربتها فلم يكن لديها هذا الهاجس، بل كانت تكتب محاولة الخلاص من وضعية غير مسالمة، وضعية لم تكن عطوفة أو شفوقة تجاه المرأة، ومن ثمّ جاءت كتابتها كنوع من التحرر والدخول إلى فضاءات أكثر رحابة، الحرية عندها ليست حرية جسد بل حرية وجود ورؤية، فهي ترى جسدها جزءا من الحياة وتعايش ذاتها وتتصالح معها، وانشغالي بهذا الجانب في تلك المرحلة، في التسعينيات حينما عدت من باريس، كان له صدى جيد في منطقة الخليج، واليوم لحسن الحظ نرى عشرات بل مئات الأسماء من الكاتبات العربيات اللواتي لم يتجاوزن الإشكالية بالضرورة لكنهن نقلنها إلى مدى أعمق وأكثر وعيا، فصارت النساء في كل بلد عربي يكتبن عن العلاقة بالآخر وعن الحوار مع الثقافات المختلفة لا بلسان الرجل كما كان يفعل الطيب صالح أو إدوارد سعيد، بل بلسانهن الخاص، بلسان سالمة بنت سعيد وحميدة نعنع وغادة السمان وغيرهن من الكاتبات العربيات في مختلف بلدان العالم العربي، وهذه نقلة جوهرية في الوعي وفي تمثيل الذات الأنثوية في الأدب العربي الحديث. 

 ما الذي تحتاجه الثقافة العربية لتستعيد قدرتها على الإلهام وتعيد للمثقف دوره الفاعل في زمن التحولات؟

 الثقافة العربية في رأيي تحتاج أن يموت نصفها أو يتلاشى نصفها، بمعنى أن نتوقف عن الانشغال بالقضايا التي لم يعد يطرحها علينا العصر، لكي ننقذ ما تبقى من حيوية الفكر ونوفر طاقاتنا للحديث عما نعيشه ونتعامل معه يوميا، لكن التحدي الأكبر هو كيف يمكن أن ننزع الأساطير من أذهان الجماعات المليونية التي تتعايش عليها وتبني وجودها الثقافي والرمزي حولها؛ فالمجتمعات العربية إذا نزعت منها ثلاثة أو أربعة مفاهيم أساسية قد تنهار صورتها عن العالم، لأن هذه المفاهيم تمثل بنية الوعي الجماعي وصورة الإنسان عن ذاته، لذلك لا بد أن نكون أكثر تواضعا وصبرا، وأن نتعامل مع التحولات بعقلانية وصرامة معقولة، لأن كثيرا من التصورات التي نتمسك بها لم يعد لها معنى في العالم الحديث ولا تقدم نفعا لأحد، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن نطالب الجميع بالتفكير كما يفكر المفكر أو الكاتب أو المثقف، فالمسألة تحتاج زمنا طويلا وقدرا من الصبر على الصدمات، لأن مصير الثقافة العربية في هذه المرحلة مصير تراجيدي لا مفر منه، علينا أن نمر به بوعي لا باليأس، وأن نحوله من مأساة إلى لحظة نضج جديدة تعيد للثقافة معناها وللمثقف قدرته على الفعل والتأثير. 

مقالات مشابهة

  • ملتزمون بقرار وزير صحة مصر.. جوستاف روسي يعلق على بيان الوزير بشأن رسوم الكشف
  • الغرفة التجارية بالبحيرة تشارك في المنتدى الإقتصادي العربي اليوناني
  • معجب الزهراني: نصف ما نحمله من تصورات يحتاج إلى زوال كي نستعيد قدرتنا على الإلهام
  • وزير التجارة والصناعة القطري يزور جناح مصر بـ معرض QTM 2025
  • مساعد وزير التجارة والصناعة: مصر تواجه تحديات
  • وزير الخارجية يدعو الشركات الباكستانية للاستثمار في مصر وزيادة حجم التبادل التجاري
  • وزير الخارجية يلتقي قيادات غرف التجارة والصناعة ومسؤولي كبرى الشركات الباكستانية
  • وزير الخارجية يلتقي قيادات غرف التجارة والصناعة ومسئولي كبرى الشركات الباكستانية
  • وزير قطاع الأعمال يلتقي وزيري الصناعة الصيدلانية والصحة الجزائريين لبحث توسيع التعاون الدوائي
  • زيتوني تهدي إسطبلات الوثبة لقب السيدات في «الاتحاد للقدرة»