لجريدة عمان:
2025-05-11@15:50:07 GMT

ذكريات نائمة

تاريخ النشر: 2nd, April 2024 GMT

ذكريات نائمة

مع كل كتاب جديد له، أقول لنفسي: يكفي ما قرأته لباتريك موديانو إلى الآن. فالكاتب الفرنسي يرافقني منذ عام 1984 حين اكتشفته للمرة الأولى، عبر عمله «دفتر العائلة». وفي كلّ مرة، «أخون» وعدي، وأعود إلى أدبه ثانية (وربما عاشرة)؛ كأنني لم أكتف بعد. كأن ثمة شيئا يجرني دوما، لأعود وأقرأ... وأكتب عنه. لا يمثل الأمر اكتشافا جديدا بالطبع، بل هي الرحلة التي تأبى أن تتوقف وترغب في أن تستمر مع كل كتاب له.

ما يأخذني إليه هذه المرة، الترجمة العربية الصادرة حديثا عن «دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات في القاهرة» لروايته «ذكريات نائمة» (نقلها إلى العربية لطفي السيد منصور) وفيها نقع مجددا على كلّ «التوابل» التي شكلت عوالم أدب حائز نوبل للآداب عام 2014، وأقصد تلك المناخات التي لا يتوقف عن الرجوع إليها: شوارع باريس ومقاهيها وبعض تفاصيل حياتها الصغيرة، المستلّة من ذاكرة الكاتب، لحظتي الطفولة والشباب. وعبر هذه اللحظات، يعيد ترميم صور أشخاص وذكراهم وربما ذاكرتهم أيضا.

بهذا المعنى، يمكن لنا أن نقول: إن ليس مارسيل بروست فقط، من حاول البحث عن الزمن الضائع. موديانو أيضا، ينتمي إلى هذه الفئة من الكتّاب الذين يرفضون موت الماضي، فيما لو جاز القول؛ إذ إن رواياته بأسرها ليست سوى هذا البحث عن ذاك الزمن الذي مضى، ذاك الزمن الضائع في ثنايا الذاكرة؛ من هنا تأتي الكتابة، وكأنها تحاول انتشالها من الموت، أي من النسيان، وكأن النسيان هو صنو للموت، إن فقدنا الذاكرة. كل كتب باتريك موديانو مليئة بهذه الذاكرة التي تهمس له، وبالتالي لنا، لا لكي يلاحقها وحده، بل لكي نلاحقها معه أيضا. فالذكريات ليست استثناءً. الذكريات التي تهرب، تعود إلى الظهور، وتترك عند الكائن أمرا مزعجًا بسبب عدم اكتمالها؛ هل لذلك يعود الكاتب إليها، وكتابتها، كي يحاول أن يجد لها اكتمالا ما؟

من دون شك، يثير عنوان «ذكريات نائمة»، الكثير من... الذكريات! غالبا ما تنام الذكريات بخفة؛ يتمّ إيقاظها، إحياؤها من دون أي شيء تقريبًا: لقاء قصير عابر، رائحة ما، محطة مترو تعيدنا إلى الماضي الذي يندمج في سديم الزمن.

في تجواله في شوارع باريس، يجد الكاتب الفرصة مع «ذكرياته النائمة» ليحاول أن يتذكر تلك اللقاءات الحقيقية -كما تلك التي فاتته- مع بعض النساء اللاتي سبق وأن التقى بهن في حياته؛ نساء لا يستطيع نسيانهن، وهذا خطأ الذاكرة التي لا تحتفظ إلا ببعض الشظايا الصغيرة، والتي تأخذه، بشكل خاص، إلى أيام طفولته الماضية، إلى حياته كشاب بالغ في فترة العقدين اللذين تليا الحرب العالمية الثانية، إلى الزمن الذي لم يكشف فيه والداه -الحاضران/ الغائبان في الوقت عينه في جميع كتبه لابنهما، عن أي سرّ من أسرارهما، ما ولّد عنده، وإلى الأبد، ومن دون أي لحظة شكوكية، بحثا لا نهاية له، عن هوية ضائعة.

«كان والداي غائبين، فوالدي كان مشغولا بأعماله، بينما كانت والدتي تؤدي مسرحية في مسرح بيجال»... وبعد أسطر قليلة يضيف: (كنت أنتظر ابنة ستيوبا على الرصيف، أمام البناية التي تقيم بها، دون معرفتها.... كنت أتمنى أن تعطيني توضيحات ربما تساعدني على فهم والدي بشكل أفضل، وهو شخص مجهول يسير بجانبي في صمت، على طول ممرات متنزه «غابة بولونيا»... وكنت على يقين من أنها تعرف أكثر قليلا مما أعرفه)...

من خلال نماذج تلك النساء اللاتي يبحث عنهن، يدخل موديانو أيضا في عملية البحث عن والديه. لذلك يبدو وكأن هوسا ما يرافقه ويدفعه إلى العثور على نفسه -بالدرجة الأولى- من خلال ذكرياته؛ وهذا ما يجعله يبدو وكأنه يعيد كتابة الكتاب نفسه مرارًا وتكرارًا. بيد أن تجواله وسعيه في كلّ مرة يتخذ مسارات مختلفة، كما هو الحال هنا، ذكرى النساء اللاتي التقى بهن، ليقدم وجهات نظر مختلفة، تقع ما بين الحلم والواقع؛ هي أيضا، وجهات نظر عن مدينة باريس ولكنها لا تزال مجهولة، للقارئ وله بطبيعة الحال، وهذا ما يخلق بالتالي مع مرور الوقت، عبر عملية هذه العودة الاستبطانية الأبدية، عملا فريدا وجميلا.

«ذكريات نائمة»، ليست فقط عملية بحث عن أشخاص، بل هناك بحث عن كتاب مفقود، نافد، لم يكن يجد نسخة منه، قبل أن ينجح في مساعيه: «في هذه المكتبة وجدت هذا الكتاب الذي جعلني أفكر كثيرا»: «العود الأبدي لنفس الشيء».... مع كل صفحة كنت أقول لنفسي: لو أمكننا أن نعيش الأوقات نفسها، وفي الأماكن نفسها، وفي الظروف نفسها التي مررنا بها من قبل، ولكن نعيش بشكل أفضل بكثير من المرة الأولى، من دون الأخطاء والعقبات والعوائق... سيكون الأمر أشبه بنسخ مخطوطة مغطاة بالشطب»...

ربما تختصر هذه الجملة مشروع الذاكرة عند موديانو: العودة إلى الماضي من أجل «تنظيفه» من الأخطاء، من أجل «شطب» كل ما أحاله إلى ماض متسخ. (علينا أن لا ننسى طفولته والحرب العالمية الثانية، وباريس تحت الاحتلال النازي وما نتج عن ذلك من أمور عديدة).

أمام ذلك كله لا بدّ أن نسأل: هل ما يكتبه موديانو هو تاريخ عام؟ أم استحضار واستدعاء لتاريخ شخصي؟ أم ثمة شهادة يرغب في تركها لقارئه؟ كلّ الأجوبة محتملة في هذا النص الصغير (60 صفحة) الذي سيترك عندنا متعة الفوز بسعي الراوي ومسعاه لإيجاد ماضيه، لا بالقصة والشخصيات. كذلك من خلال كتابته بأسلوب بسيط، يلعب دوره في خدمة ذاكرة الراوي الفاشلة لدرجة أن القارئ لا يمكنه إلا أن يسمح لنفسه بالانجراف في القراءة مع المتعة.

هذه المتعة التي تشبه الموسيقى، تلك التي أسماها ذات يوم الروائي الإيطالي أليسندرو باريكو «الموسيقى البيضاء» (حين وصف روايته «حرير»). هي فعلا وقبل أي شيء هذه الموسيقى الصغيرة الناعمة المنسابة التي تهدهدنا والتي «تصف» جيدا باريس الستينيات (من القرن الماضي).

في لحظة من الرواية يقول الراوي ما معناه أنه سجل بدقة، في دفتر ملحوظاته الاجتماعات التي لا مستقبل لها، وحدد الموقع الدقيق لهؤلاء الأشخاص المجهولين والمظهر الجسدي لهم. وبالتالي فإن باريس مليئة بالنقاط العصبية والأشكال المتعددة التي يمكن أن تتخذها حياتنا.

فعلًا، فما يفعله الكاتب هنا، هو هذه الدقة، في كتابة كل شيء بحبر أزرق في دفتر ملحوظاته، ليأخذ بحثه عن الوقت مظهر شهادة الحياة.

باختصار، نحن أمام شذرات صغيرة من حياة، مثل أوراق متناثرة على مكتب من دون أن نتمكن حقًا من فهم الراوي والقبض عليه، لأنه يبدو غير مبالٍ بحاضره.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من دون

إقرأ أيضاً:

شغب في باريس يعكر فرحة تأهل سان جيرمان فكيف علق مغردون؟

وجدد سان جيرمان فوزه على أرسنال الإنجليزي في مباراة الإياب -التي احتضنها ملعب "حديقة الأمراء" مساء الأربعاء- ليتأهل إلى الموقعة الختامية في البطولة الأوروبية بمجموع المواجهتين (3-1).

وخلال الاحتفالات، أُصيب 3 أشخاص بجروح متفاوتة، واعتقلت الشرطة 43 شخصا بتهم الإخلال بالنظام، وإلحاق أضرار بالممتلكات العامة، وحيازة مواد محظورة.

تنديد واسع

ورصد برنامج "شبكات" -في حلقته بتاريخ (2025/5/8)- جانبا من التعليقات التي تفاعلت مع هذه الفوضى وأعمال التخريب في قلب باريس احتفالا بالتأهل القاري.

ومن بين تلك التعليقات، قال أورلان في تغريدته إن فرحة التأهل "لا تعني أن نحول شوارع باريس إلى ساحة فوضى. نحن نحب سان جيرمان، لكننا نحب مدينتنا أكثر. أعمال الشغب لا تشرّف أحدا".

واستهجن مايل أحداث ما بعد المباراة القارية متسائلا: "كيف يُعقل أن تنتهي ليلة احتفال بإصابات واعتقالات؟ أين الاحترام؟"، وأضاف "هذا ليس دعما للفريق، بل عبث بسمعة باريس أمام العالم".

واستبعد كلير أن يكون جماهير الفريق الباريسي وراء أعمال الشغب والفوضى، إذ قال: "مجرد مشاغبين استغلوا الاحتفالات كغطاء للتكسير والتخريب. ليسوا من مشجعي باريس سان جيرمان"، معربا عن أمله في ألا تتكرر هذه الأحداث في المباراة المقبلة.

إعلان

أما محمد فحاول -من وجهة نظره- توصيف ما يحدث مع جماهير الكرة عندما تحتفل بانتصارات فرقها الحاسمة أو تتوج بألقاب محلية وقارية.

وقال محمد: "هناك ظاهرة اسمها السلوك الجماعي وقت الاحتفال، تشعر أن الناس يخرجون من وعيهم بسبب الفرحة ويصيرون في حالة بدائية وهمجية تدفعهم للتخريب والحرق والتدمير"، مضيفا "الظاهرة منتشرة بشكل كبير مع مشجعي كرة القدم".

يشار إلى أن سان جيرمان سيواجه إنتر ميلان الإيطالي في نهائي دوري أبطال أوروبا، بعدما أقصى الأخير نادي برشلونة الإسباني في مواجهة كروية مثيرة.

8/5/2025

مقالات مشابهة

  • باريس تقول إن العلاقات مع الجزائر مجمدة تماما
  • مؤسس عايز حقي: قانون الإيجار القديم عفا عليه الزمن
  • باريس قلقة بعد إسقاط مقاتلات رافال في مواجهة الهند وباكستان
  • الأمراض التي قد يشير إليها الطفح الذي يصيب أكبر عضو في الجسم
  • بالصورة.. فنانة سودانية شهيرة تهنئ زوجها وتبارك له الخطوبة بعد عزمه على الزواج والجمهور يتفاعل: (المرأة الصاح في الزمن الغلط وبنت أصول وربنا يكبرك بعقلك)
  • حمد الله: رفضت التنازل لبنزيمة عن الرقم 9 فأنا أيضا لاعب كبير
  • هنا الزاهد تتألق في أحدث جلسة تصوير لها من العاصمة الفرنسية باريس | صور
  • بين حائك السجاد والتاجر.. منهج إيران والأميركيين في التفاوض
  • شغب في باريس يعكر فرحة تأهل سان جيرمان
  • شغب في باريس يعكر فرحة تأهل سان جيرمان فكيف علق مغردون؟