نظام أين أبي؟ الإسرائيلي أباد عائلات بأكملها في غزة بمساعدة الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 9th, April 2024 GMT
تؤكد التقارير الصادمة التي تتوالى من غزة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في ارتكاب مجازر وعمليات إبادة ممنهجة في مخالفة لجميع المواثيق والأعراف، ويشكل هذا منعطفا خطيرا في مجال حقوق الإنسان واستخدام التكنولوجيا في القتل، وتكشف أيضا لغز اختفاء عائلات بأكملها من السجل المدني.
كشف موقعا "+972" ولوكال كول (Local Call) الإسرائيليان كيف استخدم الجيش الإسرائيلي برنامج ذكاء اصطناعي يعرف باسم لافندر لتطوير "قائمة قتل" في غزة تضم ما يصل إلى 37 ألف فلسطيني تم استهدافهم بالاغتيال دون أن يكون هناك أي إشراف بشري يذكر للتحقق من دقة المعلومات.
وليس نظام لافندر فحسب الذي استخدم الذكاء الاصطناعي بل كان هناك نظام ثانٍ يعرف باسم "أين أبي؟" (Where’s Daddy) أخطر من لافندر وصمم لمساعدة إسرائيل على استهداف الأفراد عندما يكونون في المنزل ليلا مع عائلاتهم.
أدى استخدام نظام "أين أبي؟"، بالإضافة إلى سياسة القصف "المتسامحة للغاية" في الجيش الإسرائيلي، إلى "إبادة عائلات فلسطينية بأكملها داخل منازلها"، كما يقول يوفال أبراهام، وهو صحفي إسرائيلي كشف القصة بعد أن تحدث مع 6 من ضباط المخابرات الإسرائيلية الذين شاركوا بشكل مباشر في نظام الذكاء الاصطناعي.
واستضافت إيمي غودمان من موقع ديموكراسي ناو (democracynow) أبراهام في مقابلة تحدث من خلالها عن بعض ما وجد في تقريره حول التكنولوجيا المستخدمة في الحرب على غزة، وكيف أن استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي العسكرية تشكل "خطراً على الإنسانية"، وأن "الحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي تسمح للناس بالهروب من المساءلة."
فنظام الذكاء الاصطناعي الذي يُعرف باسم "أين أبي؟" مصمم لتعقب الرجال الفلسطينيين. وقد تم تصميمه عمدا لمساعدة إسرائيل على استهداف الأفراد عندما يكونون في منازلهم ليلا مع عائلاتهم كما ذكر إبراهام في المقابلة.
وقال أحد ضباط المخابرات لأبراهام: "لم نكن مهتمين بقتل العناصر فقط عندما يكونون في مبنى عسكري أو حين يشاركون في نشاط عسكري. على العكس من ذلك، قصَف الجيش الإسرائيلي بيوتهم دون تردد، كخيار أول. من الأسهل بكثير قصف منزل العائلة. وقالوا إن النظام مصمم للبحث عنهم في هذه المواقف".
يقول يوفال أبراهام حول بحثه عن هذا النظام الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي إن الغرض منه، عندما تم تصميمه، هو تمييز الناشطين ذوي الرتب الدنيا في الجناح العسكري لحماس والجهاد الإسلامي.
وبحسب إبراهام كان هذا هو القصد، فإسرائيل قدرت أن هناك ما بين 30 إلى 40 ألفا من نشطاء حماس، وهو عدد كبير جدا. وقد أدركوا أن الطريقة الوحيدة بالنسبة لهم لتحديد هؤلاء الأشخاص هي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. وكان هذا هو المقصود من استخدام "أين أبي؟".
ويتابع أبراهام أن ما أخبرتني به المصادر هو أنه بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اتخذ الجيش قرارا بالموافقة على أن يتم السماح باستهداف كل هؤلاء الآلاف من الأشخاص داخل منازلهم، مما لا يعني قتلهم فقط ولكن قتل كل من معهم في المبنى بما فيهم الأطفال والعائلات.
وقد فهموا أنه من أجل محاولة القيام بذلك، سيتعين عليهم الاعتماد على آلة الذكاء الاصطناعي مع الحد الأدنى من الإشراف البشري. يقول أبراهام إن أحد المصادر قال إنه شعر أن ذلك كان بمثابة ختم بالموافقة المسبقة على قرارات الآلة.
كيف يعمل "أين أبي؟"يشرح أبراهام كيفية عمل برنامج "أين أبي؟" والذي يقوم بمسح معلومات عن 90% من سكان غزة على الأرجح. لذلك نحن نتحدث عن أكثر من مليون شخص. ويمنح كل فرد تقييما يتراوح بين واحد إلى 100، وهو تقييم يستند على طريقة تفكير الآلة وهو عبارة عن احتمالات قائمة على معلومات صغيرة تتجمع لتكون احتمالية بأن ذلك الفرد هو عضو في الأجنحة العسكرية لحماس أو الجهاد الإسلامي.
ويقول أبراهام إن مصادره أخبروه أن الجيش كان يعلم أن ما يقرب من 10٪ من الأشخاص الذين حددتهم الآلة على أنهم سيُقتلون ليسوا من مقاتلي حماس. ولم يكونوا كذلك، فبعضهم كان على علاقة بعيدة بحماس، والبعض الآخر لم يكن له أي صلة على الإطلاق بحماس.
فعلى سبيل المثال قال أحد المصادر إن الآلة كانت تجلب أشخاصا لديهم نفس الاسم واللقب وتصنفهم كعنصر في حماس، أوالأشخاص الذين لديهم ملفات تعريف اتصالات مماثلة.
مثلا، يمكن أن يكون هؤلاء عمال الدفاع المدني، أوضباط شرطة في غزة، وقال أحد المصادر إنه قضى 20 ثانية من وقته لكل هدف للتأكد منه قبل أن يأذن بقصف مقاتل حماس ذي الرتبة المنخفضة -وغالباً ما كان من الممكن أن يكون مدنيا- مما أسفر عن مقتل هؤلاء الأشخاص داخل منازلهم، بحسب أبراهام.
ويقول أبراهام إن الطريقة التي تم بها تصميم النظام هي أن هناك مفهوما في أنظمة المراقبة الجماعية يسمى "الارتباط".
فعندما تريد أتمتة -الأتمتة هي التشغيل الآلي- هذه الأنظمة، فأنت تريد أن تقوم هذه الآلة بعمل المهام بسرعة كبيرة دون النظر لاعتبارات أخرى، ولهذا تحتاج لمعرف ارتباط معين وفي هذه الحالة، المعرف هو "العلاقة مع حماس" وجهاز حاسوب وخوارزمية قادرة بسرعة كبيرة على ربط هذا المعرف بأشياء أخرى بحسب أبراهام.
هذا النظام يتغلب على مشاكل العنصر البشري التي تحتاج أن تتحقق في هويات الأهداف للتأكد قبل ضربها حتى لا يتم ملاحقتهم كمجرمي حرب في حالة حدوث خطأ في تعريف الهدف، لذلك فالأسهل أن تجعل الآلة المسؤولة عن هذه الأخطاء.
وللتأكيد على أن هذه العقلية هي وراء استخدام هذا النظام ذكر أبراهام حادثة ألقى فيها مسؤول عسكري إسرائيلي رفيع المستوى، وهو رئيس مركز الذكاء الاصطناعي التابع للوحدة 8200، محاضرة في جامعة تل أبيب العام الماضي، حيث قال في تلك المحاضرة: "إن نظام الذكاء الاصطناعي الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي في عام 2021 للعثور على الإرهابيين، يساعد الجيش على الخروج من عنق الزجاجة" والمراد بعنق الزجاجة هنا كمية المعلومات التي تحتاج التأكد منها والوقت الذي يحتاجه متخذ القرار البشرى لإصدار أمر القتل.
Yossi Sariel and his book pic.twitter.com/cKmWtS77EO
— Suppressed Nws. (@SuppressedNws) April 5, 2024
هل يمكن اعتبار هذه التكنولوجيا مسؤولة عن ظاهرة محو العائلات من السجل المدني؟يعتقد أبراهام أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي هنا لتحديد تلك الأهداف، والطريقة المميتة التي تحدث بها الضباط عن كيفية استخدامهم للآلة، يمكن أن يكون جزءا من أسباب أنه بعد 6 أسابيع من السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت إحدى السمات الرئيسية للحرب على غزة هي ظاهرة إبادة عائلات فلسطينية بأكملها داخل منازلها.
ويقول أبراهام في لقائه مع أيمي: "إذا نظرت إلى إحصائيات الأمم المتحدة، فإن أكثر من 50% من الضحايا، أكثر من 6 آلاف شخص في ذلك الوقت، كانوا عبارة عن مجموعة عائلات صغيرة قتلوا في قصف مركز، إنه شكل من أشكال تدمير وحدة الأسرة. وأعتقد أن تلك الآلة وطريقة استخدامها أدت إلى ذلك وقد اعتبروا "أضرارا جانبية".
كم يجب أن يقتل من عوائل من تصنفهم الآلة بمنتسبي حماس والجهاد الإسلامي؟يقول يوفال أبراهام ردا على سؤال حول طريقة استهداف منتسبي حماس والجهاد:" ما أخبرتني به المصادر هو أنه خلال تلك الأسابيع الأولى بعد شهر أكتوبر/تشرين الأول، بالنسبة للمسلحين ذوي الرتب المنخفضة في حماس، والذين تم تمييز الكثير منهم بعلامة خاصة تصنفهم على أنهم "المسلحون المزعومون" الذين تم تمييزهم بواسطة الآلة فإن أقسام القانون الدولي بالجيش أخبرت ضباط المخابرات، أنه مقابل كل هدف منخفض الرتبة تحدده الآلة، يسمح لهم بقتل ما يصل إلى 20 مدنيا، مقابل أي ناشط في حماس، وذلك بغض النظر عن رتبته أو أهميته".
وقال أحد المصادر لأبراهام إن هناك أيضا قاصرين تم وضع علامة عليهم –ليس الكثير منهم، لكنه قال إن هذا احتمال، وإنه لا يوجد حد أقصى للعمر. وقال مصدر آخر إن الحد الأقصى يصل إلى 15 مدنيا للمسلحين ذوي الرتب المنخفضة.
أما بالنسبة لكبار قادة حماس، مثل قادة الألوية أو الفرق أو الكتائب فقد كانت الأرقام، ولأول مرة في تاريخ الجيش الإسرائيلي، في خانة الـ3 أرقام، وفقا للمصادر.
لذلك، على سبيل المثال، أيمن نوفل، الذي كان قائد اللواء المركزي في حماس، قال مصدر شارك في الضربة ضد ذلك الشخص إن الجيش سمح بقتل 300 مدني فلسطيني إلى جانب ذلك الشخص.
ويقول أبراهام إنهم في موقع "+972" ولوكال كول تحدثوا مع فلسطينيين كانوا شهودا على تلك الغارة، وتحدث الشهود عن 4 مبانٍ سكنية كبيرة جدا تم قصفها في ذلك اليوم، وقصفت شقق بأكملها مليئة بالعائلات.
ويأكد أبراهام لموقع "ديموكراسي ناو" أن المصدر أكد له أن عدد المدنيين الـ300 كان معروفا مسبقا للجيش الإسرائيلي، وقال أحد المصادر له إنه خلال تلك الأسابيع في البداية، لم يكن مبدأ التناسب بين القيمة لعنصر حماس مع الأضرار الجانبية، كما يسمونها بموجب القانون الدولي،"موجودًا".
هل الجيش الأميركي أو التكنولوجيا الأميركية لديهما دور في هذه الأنظمة المصممة للقتل؟يقول يوفال أبراهام في إجابته عنما إذا كان للجيش الأميركي أو التكنولوجيا الأميركية يد في هذه المجازر: "لا أعرف. وهناك بعض المعلومات التي لا أستطيع مشاركتها بشكل كامل، مثل هذه اللحظة. أنا أحقق، كما تعلمون، فيمن يشارك في تطوير هذه الأنظمة".
ويتابع أبراهام:"ما يمكنني قوله لكم هو، بناء على الخبرة السابقة لحرب 2014 وحرب 2021، عندما تنتهي الحروب، يتم بعد ذلك بيع هذه الأنظمة للجيوش في جميع أنحاء العالم. وأعتقد، بغض النظر عن النتائج والعواقب المروعة لهذه الأنظمة في غزة، أعتقد حقا أن هناك خطرا على الإنسانية".
ويضيف: "فمثل هذه الحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي تسمح للناس بالهروب من المساءلة. إنه يسمح بتحديد أهداف، في الواقع، على نطاق واسع – كما تعلمون، تم تحديد الآلاف، 37 ألف شخص لاحتمال اغتيالهم. وهو يسمح بفعل ذلك والحفاظ على نوع من حدود القانون الدولي، لأن لديك آلة تجعلك هدفا مع أضرار جانبية مقبولة لكن هذا يفقد القانون كل معنى".
كيفية تفاعل أنظمة الذكاء الاصطناعي مع الطائرات الهجومية المسيرة؟يوفال أبراهام تحدث عن تكامل الأنظمة والأسلحة العسكرية مع الذكاء الاصطناعي: "كما تعلمون، لا أستطيع أن أتحدث عن كل شيء، لأننا نوعا ما –علينا دائما أن نفكر في الرقابة العسكرية في إسرائيل. كصحفيين إسرائيليين، نحن ملتزمون جدًا بذلك".
وتابع: "لكن الأنظمة تتكامل مع بعضها. وكما تعلمون، إذا تم وضع علامة على شخص ما بأنه سيُقتل بواسطة الذكاء الاصطناعي، فيمكن أن يُقتل هذا الشخص بواسطة طائرة حربية، ويمكن أن يُقتل بواسطة طائرة مسيرة، ويمكن أن يقتل بواسطة دبابة على الأرض. هناك نوع من سياسة تبادل المعلومات الاستخبارية بين مختلف الوحدات. نعم، وحدات مختلفة ومشغلو أسلحة مختلفون".
يظهر التحقيق الذي قام به يوفال أبراهام أن الحرب الجارية في غزة ربما تشكل منعطفا خطيرا في استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل غير أخلاقي في الوقت الذي تثار حول هذه التقنية واستخداماتها الكثير من المخاوف عالميا.
إن استخدام هذه التكنولوجيا في حرب غزة كحقل تجارب غير خاضع لسلطة القانون يجب أن يجعل العالم يقف على أرجله، خصوصا أنها تستحضر حادثة إلقاء قنبلة "الرجل البدين" على هيروشيما وناغازاكي في منتصف القرن الماضي والتي تسببت بقتل آلاف اليابانيين دون تمييز.
ومع تشابه أهداف قنبلة "الرجل البدين" الأميركية ونظام "أين أبي؟" الإسرائيلي وهو القتل دون تمييز إلا أن هناك اختلافا واضحا يجعل الجيش الإسرائيلي بحربه على غزة يفوز بجائزة أقذر إبادة جماعية عرفتها البشرية، ويجعل نظام "أين أبي؟" يفوز بجائزة أغبى سلاح عسكري.
فالرجل البدين من اسمه قنبلة غبية لم تستخدم أي تقنية سوى تقنية التدمير العشوائي وإلحاق الضرر بأكبر عدد من المدنيين بغض النظر عن انتماءاتهم، أما "أين أبي؟" ومن اسمِه أيضا فيظهر هدف مخفي قذر يقوم على إلحاق الأذى النفسي واستهداف الأسرة وليس الفرد، وكل ذلك باستخدام الذكاء الاصطناعي الذي من المفترض أن يُستخدم في تحديد أهدافه بدقة أكبر وهو مالم يحصل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات على الذکاء الاصطناعی الجیش الإسرائیلی ضباط المخابرات هذه الأنظمة وقال أحد فی حماس أن یکون أن هناک على غزة على أن فی هذه الذی ی فی غزة
إقرأ أيضاً:
“شبكة العنكبوت”: الحرب في عصر الذكاء الاصطناعي
في صورة تعكس لنا كيف أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي والمُسيرات قادرة على تغيير قواعد الحرب، تمكنت أوكرانيا باستخدام عشرات الدرونز زهيدة الثمن من تعطيل قاذفات استراتيجية تُقدّر قيمتها بمليارات الدولارات في قلب العمق الروسي، قاصدة قواعد تبعد آلاف الكيلومترات عن كييف فيما يُعرف بـ”التفوّق الجغرافي البديل”، حيث لا يهم أين يقع الهدف بقدر ما يهم هل يمكن الوصول إليه بأسلوب غير تقليدي. حدث ذلك دون الحاجة إلى إطلاق صواريخ بعيدة المدى أو استخدام طائرات ضخمة، فقط أكواخ خشبية بأسقف قابلة للفتح ذاتياً محملة على شاحنات، انطلقت منها عشرات المسيرات نحو أهدافها متجاوزة أنظمة الدفاع الجوي الروسي.
وعلى الرغم من تفوق روسيا كماً وكيفاً منذ بداية الحرب، وامتلاكها للصواريخ البالستية والفرط صوتية وللقاذفات الاستراتيجية؛ فإن هذه العملية تظهر كيف أن الدرونز والذكاء الاصطناعي قادر على ترجيح كفة الطرف الأضعف والأقل من حيث القوة التدميرية، بما يعيد تعريف مفهوم “الردع”، ليصبح القدرة على استهداف نقاط ضعف العدو بذكاء وتكلفة منخفضة، وليس فقط امتلاك القوة المماثلة؛ فقد أثبتت هذه الحادثة أن روسيا غير قادرة على حماية عمقها الاستراتيجي، رغم تفوقها العددي والتقني.
وراء هذا المشهد المعقد، يقف الذكاء الاصطناعي كمحرّك رئيسي غير مرئي، فبرمجة مسارات الطائرات وتفادي أنظمة الدفاع واستخدام أنظمة تمييز الأهداف داخل القواعد العسكرية، كل ذلك يشير إلى أن الخوارزميات أصبحت الآن جزءاً من مراكز اتخاذ القرار العسكري، لا مجرّد أداة للدعم.
عملية شبكة العنكبوت:
في عملية يُقال إنها استغرقت 18 شهراً من التحضير، تم تهريب عشرات الطائرات المسيّرة الصغيرة إلى داخل روسيا، حيث خُزّنت في مقصورات خاصة داخل شاحنات نقل، ثم نُقلت إلى ما لا يقل عن أربعة مواقع مختلفة، تفصل بينها آلاف الكيلومترات، لتُطلق لاحقاً عن بُعد من المسافة صفر باتجاه قواعد جوية قريبة، واستطاعت أن تدمر نحو 34% من حاملات صواريخ كروز الاستراتيجية حسب تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وقد استهدفت هذه المسيرات اثنتين من القواعد الجوية، فحسب بيان وزارة الدفاع الروسية: “أدى إطلاق طائرات مسيّرة انتحارية من مواقع قريبة جداً من مطارات منطقتي مورمانسك وإيركوتسك إلى اشتعال النيران في عدد من الطائرات”، وفي خطاب له قال زيلينسكي إن117 طائرة مسيّرة استُخدمت في الهجوم على القواعد الجوية الروسية.
وقد تمت عملية شبكة العنكبوت (Spider’s Web) – كما تمت تسميتها- على عدة مراحل، كانت المرحلة الأولى هي مرحلة تهريب الطائرات المسيّرة الصغيرة إلى العمق الروسي عبر مراحل زمنية متقطعة، بعيدة عن أي نمط يمكن رصده. ولتفادي أعين الرصد والمراقبة، تم إخفاء هذه الطائرات داخل هياكل خشبية بدائية الشكل على هيئة أكواخ صغيرة تم تحميلها على شاحنات نقل تجارية؛ ما منحها غطاءً لوجستياً يخفي غايتها العسكرية.
وما بدا للبعض أنه مجرد وحدات تخزين متنقلة، كان في الواقع منصات إطلاق هندسية دقيقة، جُهزت بأسقف معدنية يمكن فتحها عن بُعد، وعند لحظة الصفر، انفتحت هذه الهياكل تلقائياً، لتخرج منها الطائرات واحدة تلو الأخرى، وتنطلق نحو أهدافها دون أن تترك مجالاً لرد فعل استباقي. كان الهدف الأول هو مطار أولينيا، ويبعد نحو 1900 كيلومتر من أوكرانيا، والمطار الثاني هو بيلايا ويقع على بعد نحو 4300 كيلومتر من أوكرانيا.
أما الطائرات المسيرة ذاتها، فهي على الأرجح من طراز FPV (First Person View) وهي نماذج مسيّرة صغيرة الحجم، وخفيفة الوزن، ومجهّزة بكاميرات لبث مباشر، تُدار عن بُعد أو تُبرمج مسبقاً، وتُستخدم عادة في ضربات انتحارية محددة الأهداف؛ إذ تُزوّد غالباً برؤوس حربية صغيرة؛ لكنها كافية لإتلاف طائرات أو إشعال حرائق داخل منشآت عسكرية حساسة، ويتراوح مداها الجغرافي بين 5 و20 كيلومتراً؛ لذا فقد تم التغلب على هذا التحدي الجغرافي من خلالها تهريبها مسبقاً إلى قرب القواعد الجوية المستهدفة في الشاحنات.
وبحسب ما ورد في التقارير الإعلامية الأوكرانية، فإن الخسائر الواردة نتيجة عملية “شبكة العنكبوت” قد تكون كبيرة، وعلى الرغم من صعوبة التحقق من دقة حجم الخسائر؛ فإنها تشير إلى استهداف نحو 41 قاذفة استراتيجية من أصل نحو 120 تمتلكها روسيا، منها Tu-95 وهي قاذفة استراتيجية تستخدم في الهجمات بعيدة المدى، وTu-22 وهي قاذفة قادرة على ضرب أهداف برية وبحرية، وطائرات رادار من طراز إيه-50. أما الخسارة الأكبر فتتمثل في القاذفة Tu-160 الأسرع من الصوت، وقد تم تدمير طائرتين منها، وهو ما وصفه أحد المعلقين الأوكرانيين بأنه “خسارة لوحدتين من أندر الطائرات، كأنها أحصنة وحيدة القرن وسط القطيع”، خاصة أن الطائرات Tu-160 وTu-95 لم تعد تُنتج؛ مما يجعل استبدالها شبه مستحيل . من جهته، أعلن جهاز الأمن الأوكراني (SBU) أن الخسائر تُقدّر قيمتها الإجمالية بنحو 7 مليارات دولار .
ومن المرجح أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد أسهمت في التخطيط لهذه العملية، بدافع الضغط على الرئيس الروسي للدخول في مفاوضات جادة لإنهاء الحرب. ففي أغسطس 2023 تحدثت كاثلين هيكس، نائبة وزير الدفاع الأمريكي، في خطاب بعنوان “الحاجة الملحة إلى الابتكار”The Urgency to Innovate أمام الجمعية الوطنية للصناعة الدفاعية، عن ضرورة تطوير نظم ذكية غير مأهولة ورخيصة نسبياً يمكنها القيام بعمليات عسكرية تكتيكية، وفي خطابها أعلنت عن مبادرة أطلقت عليها اسم “المستنسخ” Replicator، وهي استراتيجية تسعى من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية لتطوير تقنيات تعمل بالذكاء الاصطناعي يمكن التضحية بها، يشمل ذلك أساطيل من الأسلحة والمعدات غير المأهولة والذكية والرخيصة نسبياً. وقد وصفت هيكس، هذه الأسلحة والمعدات بأنها “قابلة للتضحية”؛ بمعنى أنها يمكن أن تتعرض للتدمير دون التأثير في سلامة المهمة، ودون تكبد خسائر مالية باهظة، وهو ما حدث بالفعل في عملية شبكة العنكبوت، حيث تم إطلاق العشرات من الطائرات المسيرة رخيصة التكلفة للقيام بمهام انتحارية، مكبدة الروس خسائر كبيرة دون تحمل تكلفة مالية كبيرة.
تغير قواعد الحرب:
في المنظورات التقليدية، كان توازن القوى يُقاس بعدد الدبابات والمقاتلات وحجم الميزانيات العسكرية. أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعي يُدخل عاملاً نوعياً جديداً يتمثل في القدرة على إنشاء جيوش آلية من مركبات غير مأهولة رخيصة التكلفة، فضلاً عن قدراته الأخرى التي تتمثل في اتخاذ القرار الأسرع والأدق بناءً على تحليل لحظي للبيانات؛ مما يعني أن الجيوش الأصغر حجماً تستطيع أن تُعادل أو تتفوّق على قوى أكبر إذا امتلكت أنظمة ذكية لتحليل الحركة، والتوجيه، وتحديد الأهداف؛ أي إن توازن القوة لم يعد مرهوناً بمن يمتلك أكثر؛ بل بمن يفهم أسرع ويتصرف أذكى.
فلم تعد الأفضلية في التفوق النوعي وحده؛ بل بات العدد الكبير من الوسائل الذكية والمنخفضة الكلفة يشكل بحد ذاته سلاحاً نوعياً يعجز الخصم التقليدي أحياناً عن احتوائه، فتحولت المُسيرات إلى “صواريخ كروز” الطرف الضعيف، فهي رخيصة ومتوفرة بكثرة مقارنةً بنظم الدفاع الجوي الكفيلة بإسقاطها أو مقارنة بالأهداف القادرة على إصابتها، فإسقاط طائرة مسيّرة تجارية زهيدة الثمن لا يتعدى ثمنها بضعة آلاف من الدولارات باستخدام صاروخ باتريوت بقيمة 3.4 مليون دولار هو معركة استنزاف، وإن لم تسقط فهي قادرة على تخريب مقاتلات وقاذفات استراتيجية ثمنها عشرات الملايين من الدولارات.
هذا الاختلال الصارخ بين “تكلفة التهديد” و”تكلفة الرد عليه” يكشف عن معضلة استراتيجية لم تجد الجيوش الكبرى بعد حلاً جذرياً لها: كيف يمكن مواجهة سلاح بسيط ومنتشر، دون الإفراط في استخدام وسائل دفاع باهظة وغير مستدامة. ومن هنا، يتّضح أن الحرب لم تعد تُخاض فقط على أساس من يمتلك السلاح الأقوى؛ بل أيضاً على من يستطيع الإنهاك بأقل تكلفة وأكبر مرونة، وهو بالضبط ما يجعل الطائرات المسيّرة، حين تقترن بالخوارزميات، سلاح المرحلة المقبلة.
هذا التطور يُعيد تعريف مفهوم “التفوق” من خلال “الكم” و”الضخامة” إلى التفوق النوعي، فحينما يمتلك الخصم المزيد من السفن والمزيد من الصواريخ والمزيد من المقاتلين، في مقابل محدودية الأسلحة والأفراد التي يمتلكها الطرف الآخر؛ تصبح الأسلحة القابلة للتضحية في هذه الحالة فعالة أمام الكتل الضخمة مرتفعة التكلفة. وفي هذه الحالة تستطيع الجيوش الصغيرة زيادة فاعليتها وتأثيرها أمام الجيوش الضخمة عبر أدوات ذكية ورخيصة، وبالمثل تستطيع الحركات المسلحة والجماعات الإرهابية أن تمتلك ميزة نسبية من خلال هذه التقنيات في مواجهة الجيوش النظامية؛ مما يغير من معادلة التفوق العسكري.
كما أن المفهوم التقليدي للردع تأثر أيضاً بتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ إذ لم يعد بمقدور أي خصم أن يعرف على وجه اليقين ما الذي يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تنفّذه وما هي قادرة عليه، فهي تقنيات مربكة لساحة المعركة ولأدوات القتال التقليدية، كما أنها قللت من فاعلية الردع التقليدي؛ لأنها جعلت كلفة الهجوم منخفضة، فحين تتاح وسائل الضرب بتكلفة زهيدة يصبح من السهل المبادرة فيسقط معها الردع؛ ومن ثم أصبحنا أمام بيئة ردعية جديدة، لم تعد تقوم على وضوح العقوبة؛ بل على ضبابية القدرة وتعدّد سيناريوهات التهديد، حيث الخوف لا يأتي مما نعرفه؛ بل مما لا نستطيع التنبؤ به.
وما حدث في عملية شبكة العنكبوت أثبت مفهوم “شبكية” الحرب؛ أي لامركزيتها، فمجموعة من المسيرات، التي قد يتم تجميعها محلياً، تتحكم فيها مجموعة من الخوارزميات، وتنطلق من شاحنات قد تكون ذاتية القيادة في مناطق متفرقة من الدولة، وتتوجه لضرب قواعد عسكرية شديدة التأمين أو حتى بنية تحتية حرجة أو اغتيال قادة سياسيين وعسكريين، دون الحاجة إلى وجود مقاتلين على الأرض أو إرسال صواريخ عبر الحدود، وبعد كل ذلك قد لا يتبنى هذه العملية أحد ويظل المتهم الرئيسي هو “الذكاء الاصطناعي”.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”