كيبوتسات إسرائيل.. تجمعات استيطانية يتدرب سكانها على الزراعة والسلاح
تاريخ النشر: 16th, May 2024 GMT
من أهم المؤسسات الاستيطانية الإسرائيلية التي استند إليها الاستعمار في فلسطين، يُنظر إليها باعتبارها مؤسسات نموذجية لتوليد جماعة وظيفية شبه عسكرية. فاختيار موقعها يكون لاعتبارات عسكرية بالدرجة الأولى، ثم لاعتبارات زراعية، وأعضاؤها لا يتدربون على الزراعة فحسب، بل على حمل السلاح أيضا.
والكيبوتس كلمة عبرية تعني "تجمّع"، وكان الهدف من هذه التسمية جمع يهود العالم في فلسطين.
تأسس أول كيبوتس عام 1910 على ضفاف بحيرة طبريا، أطلق عليه اسم "دغانيا"، وأصبح نموذجا لحركة الكيبوتسات اللاحقة، أقام فيه المهاجرون الجدد القادمون من ألمانيا وبولندا وروسيا إلى الأراضي الفلسطينية.
تكون العضوية في الكيبوتس بالاختيار الحر من قبل العضو بعد استجابته للمعايير والمقاييس المطلوبة. وكانت الكيبوتسات تنظم الهجرة غير الشرعية إلى فلسطين منذ عام 1934، واستمرت حتى بعد تأسيس منظمة خاصة للهجرة اليهودية عام 1939.
توسع دور الكيبوتسات بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، فكانت لهذه المؤسسات الاستيطانية إسهامات كبيرة من الناحية الاقتصادية، منها توفير فرص عمل للمهاجرين الجدد، مما خفف من الأعباء القائمة على الهستدروت (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية). وكان لها أيضا دور عسكري في الحروب التي خاضتها إسرائيل.
ومن الناحية السياسية، كان أعضاء الكيبوتس فاعلين في الانتخابات الإسرائيلية، فكانت لديهم القوة لترجيح كفة مرشح على آخر، وعملت الحكومات على توطيد فكرة الكيبوتسات ودعمها.
كما حاولت الحكومات الإسرائيلية تقديم نظام الكيبوتس للعالم على أنه النموذج الذهبي الذي لا مثيل له، باعتباره يمثل نمط الحياة الاشتراكية المثالية في الدولة الرأسمالية.
أصبح يعيش في الكيبوتسات بحلول عام 1950 حوالي 67 ألف إسرائيلي، أي ما يعادل 7.5% من السكان حينها. وبلغت نسبتهم ذروتها عام 1989، إذ بلغ عدد سكان الكيبوتسات حوالي 129 ألف شخص في 270 كيبوتسا تقع غالبتها في أطراف إسرائيل بهدف الدفاع عنها.
ومن أعضاء الكيبوتسات الذين أصبحوا قيادات سياسية في إسرائيل ديفد بن غوريون وموشيه ديان وشمعون بيريز وغيرهم، كما كان ثُلث الوزراء الإسرائيليين في الفترة بين 1949 و1967 ممن عاشوا في الكيبوتسات، ثم إن 40% من إنتاج إسرائيل الزراعي و7% من صادراتها من إنتاج الكيبوتسات، و8% من إنتاجها الصناعي.
بنية الكيبوتس الداخليةتعد الحياة داخل الكيبوتس جماعية إلى أقصى حد، فملكية الأرض والمباني والأدوات، بل أحيانا الملابس الشخصية، ملكية جماعية، وتنعدم أشكال التعبير الفردية في الحكم.
عندما ينضم عضو للكيبوتس فهو لا يشتري شيئا لأنه لن يمتلك شيئا، وعندما يترك الكيبوتس فإنه لا يبيع شيئا ولا يأخذ معه أي شيء.
يحصل أعضاء الكيبوتس على كل احتياجاتهم الأساسية دون مقابل مثل الطعام والمسكن والملبس، وأحيانا إصلاح الملابس وغسلها، والرعاية الطبية ورعاية الأطفال والتعليم.
أما احتياجات الفرد الأخرى مثل شراء بعض السلع الاستهلاكية أو قطع الملابس الكمالية وتكاليف الإجازات التي يقضيها خارج الكيبوتس فيدفع تكاليفها بنفسه من مصروف جيبه الشهري الذي يعطى له، وإن تبقى معه أي مبلغ فعليه أن يعيده لصندوق الكيبوتس، وكان يحظر على الأعضاء أن يكون لهم حساب خاص في البنك.
نساء يعملن في حراثة الأرض بأحد كيبوتسات إسرائيل (غيتي)يتناول الأعضاء في الكيبوتس الطعام بشكل جماعي، ومن يرفض ذلك يُعد متمردا وخارجا عن الجماعة.
معظم الشبان من أعضاء الكيبوتسات (ذكورا كانوا أم إناثا) يكونون رهن الإشارة في الخدمة العسكرية، كما تشكل بعض الكيبوتسات مواقع لتخزين السلاح وصناعة الذخائر.
يقوم أعضاء الكيبوتس بأشق المهام العسكرية وأخطرها، وأيضا بالمهام السرية في الداخل والخارج، كما يوجد العديد منهم في الوحدات الخاصة مثل وحدة المظليين ووحدة الضفادع البشرية.
يُحظر على اليهود المهاجرين من دول عربية الانضمام لهذه الكيبوتسات، فهي مؤسسات خاصة باليهود الأشكناز المهاجرين من دول غربية.
التنشئة الاجتماعية في الكيبوتسيضعف الكيبوتس الروابط الأسرية لحساب الروابط القومية والولاء للدولة، وحسب التصور الذي يقوم عليه هذا النوع من التجمعات، فإن الشخص الذي يعيش حياة فردية من دون روابط بأي أشخاص آخرين هو القادر على الانتماء بسهولة ويسر إلى جماعته الوظيفية، ويكون قادرا على تكريس ذاته لوظيفته.
يعيش الأطفال في الكيبوتسات بعيدا عن والديهم، ولا يزورونهم إلا بعض الوقت بعد الدراسة وبعد استكمال ساعات العمل المطلوبة منهم.
يحافظ الكيبوتس على مبدأ الجماعة ويدعمها، فالجماعة هي التي تقرر كل شيء، بداية من الموسيقى التي يسمعها الفرد إلى الوحدة العسكرية التي سيخدم فيها.
وإذا رفض أحد الأعضاء التطوع في الجيش يتعرض للضغط والتحريض والتخوين داخل "الأسرة الكيبوتسية".
تصميم الكيبوتستُظهر طريقة الإسكان في الكيبوتس مدى الحياة الجماعية فيه، إذ تُقسَّم المباني إلى قسمين: المساكن والمباني الأخرى. أما المساكن فهي عادة وحدات متقاربة يتكون كل منها من طابق واحد، تقع بين مجموعة من الأشجار، وكل وحدة سكنية مقسمة إلى شقتين أو ثلاث، وتتكون كل شقة من غرفة صغيرة يقطنها رجل وامرأة.
ويكون تنظيف الثياب وكيّها في بيت الغسيل العام، وأثاث المنازل بسيط لأبعد الحدود، وإن وُجد تلفزيون أو جهاز ستيريو فيوضع عادةً في غرفة المعيشة الجماعية.
ويضم الكيبوتس أيضا عدة مبان منها: مبنى الثقافة، ومبنى الاجتماعات، ومكان مخصص للرياضة. وعلى مقربة من المجموعة السكنية من المباني، توجد المجموعة الإنتاجية، التي تضم حظائر الحيوانات والمصانع والمزارع، وهي في العادة تكون محيطة بالمباني بشكل كلي.
الكيبوتس والمرأةيتخذ الكيبوتس مبدأ المساواة المتطرفة بين الرجل والمرأة، فيقوم الجميع بالأعمال اليدوية نفسها، شاقة كانت أم هينة، ويعتبر القائمون على الكيبوتسات ذلك أحد سبل إعداد النساء للعمل في الجيش الإسرائيلي.
حاولت بعض الكيبوتسات إلغاء الفرق بين الرجل والمرأة بهدف "تحرير المرأة تحريرا كاملا"، لذلك لا يوزع العمل بين أعضاء الكيبوتس على الأساس الجنسي، ومما ساعد على هذا الاتجاه تنشئة الأطفال الجماعية بعيدا عن نفوذ الوالدين، الأمر الذي يعفي المرأة من واجب الأمومة.
لكن بعض الفترات الاستثنائية في حياة المرأة مثل فترة الحمل أو الإرضاع تكسر هذه القاعدة، وتصبح النساء غير قادرات على القيام بالأعمال الشاقة، وكثيرا ما يتركن وظائفهن وتضيع منهن، ونتيجة لهذه الظروف وجدت المرأة نفسها تعمل غالبا في قطاع الخدمات، وهو قطاع يزدريه أعضاء الكيبوتس لأنه قطاع غير إنتاجي.
صورة جماعية لمستوطنين يهود بأحد الكيبوتسات في فلسطين ما بين 1920 و1936 (شترستوك) اتخاذ القراريتخذ الكيبوتس مبدأ الديمقراطية والمساواة بين الأعضاء في كل شيء، فتكون السلطة العليا هي المؤتمر العام للكيبوتس، الذي يضم جميع الأعضاء ويكون عبارة عن اجتماع أسبوعي عادة ما يعقد يوم السبت.
وتوكل القرارات الأساسية المتعلقة بإدارة مزارع الكيبوتس وتحديد سياستها الإنتاجية والاقتصادية إلى أمانة اتحادات مزارع الكيبوتس.
وتوضع هذه القرارات موضع التنفيذ داخل الكيبوتس من خلال فئة صغيرة من الأفراد يتناوبون على المراكز القيادية، فتتركز السلطة في يد السكرتير العام للمؤتمر والمدير الاقتصادي.
تطورات الكيبوتساتفي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، تطورت الكيبوتسات فلم تعد مزارع جماعية، بل أصبحت مجموعة من المشروعات الصناعية الضخمة، وقد وصف مراسل "واشنطن بوست" كيبوتس دجانيا بأنه "كيبوتس يديره مصنع".
وفي عام 1960 كان 30% من أعضاء الكيبوتسات يعملون في الصناعة، وفي عام 1970 بلغت نسبتهم 45%، وزادت النسبة لاحقا إلى أكثر من 50%.
التقشف سمة أساسية من سمات الحياة داخل الكيبوتس باعتباره مؤسسة عسكرية، ويظهر هذا التقشف أيضا في أسلوب الحياة نفسها، إذ يحرم على الأعضاء من تناول الطعام على انفراد، ولكن لاحقا بدأت تظهر حياة الأسر وحمامات ومطابخ مستقلة لكل أسرة، ومساكن مؤثثة تأثيثا فاخرا بأدوات تعد ترفا، وذلك نتيجة النشاط الاقتصادي الذي رفع مستوى المعيشة.
إسرائيليون يزيلون غابات البردي من مستنقعات الحولة عام 1940 بجانب كيبوتس أمير قرب بحيرة طبريا (غيتي)وتوجد في الكيبوتسات أيضا سيارات تنقل الأعضاء إلى المدينة، وبإمكان العضو حجز سيارة ليستخدمها بمفرده.
ومن أبرز التطورات التي يرى مؤسسو الكيبوتسات أنها سلبية المسكن المستقل، وانضمام كثير من الأطفال إلى ذويهم وقضائهم معظم أوقات فراغهم في وحداتهم السكنية المستقلة.
وبدأت أيضا بعض الكيبوتسات إنشاء مساكن تشبه شقق الطبقات المتوسطة في أي بلد غربي حديث، وانتشر تناول الطعام على انفراد بعد تحول الصالات الملحقة بالمنازل إلى غرف للطعام.
كما أصبح الفنانون يقيمون في الكيبوتسات، إذ وجدوا أن أسلوب الحياة في هذه المزارع الجماعية يوفر لهم الراحة والأمان المالي. وبعضهم ليسوا أعضاء في الكيبوتسات، وهذا في حد ذاته يُعد تطورا عميقا، إذ لم يكن يسمح لمُستوطن العيش داخل الكيبوتس دون أن يكون عضوا فيه.
المشكلات المترتبة على التطورأضعف الانتقال من الزراعة إلى الصناعة تماسك الكيبوتسات، وولَّد داخلها توترات أثرت في درجة فعاليتها ومدى إسهامها في البناء المجتمعي الإسرائيلي. ومن بعض المشكلات التي ظهرت مع هذا التطور ما يلي:
نظرا لانصراف عدد كبير من أعضاء الكيبوتسات إلى الأعمال الصناعية بدأت العمالة العربية الأجيرة تظهر مرة أخرى داخل الكيبوتس للقيام بالأعمال الزراعية، وهذا يُعَدُّ -من وجهة نظر إسرائيلية- ضربة في الصميم لمفهوم العمل الإسرائيلي. انقسم العاملون في الكيبوتسات إلى فريقين، أحدهما يعمل بالزراعة والآخر يعمل بالصناعة، مما خلق كثيرا من الانقسامات. المشروع الصناعي، على عكس المشروع الزراعي، يجب أن يكون حجمه كبيرا، والكيبوتس من المفترض أن يظل حجمه صغيرا حتى يتسم بالدينامية وتسهل إدارته. الإدارة الذاتية للكيبوتسات أصبحت تزداد صعوبة بعد تنامي القطاع الصناعي داخلها، لأن القضايا التي يواجهها أعضاء الكيبوتس تتطلب خبرة المتخصصين، وهذا أمر غير متاح للأعضاء العاديين الذين لم يتلقوا تدريبا أو تعليما خاصا.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات فی الکیبوتس
إقرأ أيضاً:
ما هي الأسلحة المحرمة التي تمتلكها إسرائيل؟
في حروب إسرائيل ضد لبنان وقطاع غزة المتكررة منذ قرابة عقدين، ظهرت مؤشرات عديدة على استخدامها أنواعا من الأسلحة التي توصف بأنها "محرمة دوليا" لكونها تُحدث أضرارا بالغة بين المدنيين، والتي بات من غير المقبول دوليًا استخدامها في الحروب الحديثة، مهما كانت شدة الحرب وضراوتها.
لكن "توحش" إسرائيل كان دائما مختلفا، فعلى سبيل المثال؛ في الفترة ما بين ديسمبر/كانون الأول 2008 ويناير/كانون الثاني 2009، أثناء العملية العسكرية في قطاع غزة، التي أسمتها إسرائيل "الرصاص المصبوب"، رُصدت ميدانيا العديد من الإصابات غير المعتادة، مثل الجثث المتفحمة حرقا على نحو يشير إلى إصابتها بأسلحة غير تقليدية، وأطراف مقطوعة تاركة جروحا تشبه الحروق، يَعرف الأطباء والمتخصصون أنها ليست ناتجة عن إصابات عادية. على إثر ذلك، اتهمت مؤسسات دولية جيش الاحتلال الإسرائيلي باستخدام أسلحة محرمة دولياً ضد المدنيين في القطاع.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الطبيب النفسي الغربي الذي قتل أرواحناlist 2 of 2لماذا امتنعت إسرائيل عن ضرب المنشآت النووية والنفطية الإيرانية؟end of listوبشكل خاص، عادة ما يتم التركيز على القنابل الفسفورية كأداة تستخدمها القوات الإسرائيلية بكثافة في معاركها الأخيرة، وهي أسلحة حارقة تحتوي على الفسفور الأبيض كحمولة أساسية، جرى تصميمها لتوليد حرارة شديدة تبلغ قرابة 1000 درجة مئوية، إلى جانب قوتها التدميرية.
بيد أن هذا ليس السلاح "المحرم" الوحيد الذي تستخدمه إسرائيل، فثمة طبقات لا تنتهي يجري اكتشافها تباعا من توحش دولة الاحتلال في استخدام هذه الأنواع من الأسلحة، مما يستدعي التساؤل حول أنواع الأسلحة المحرمة دوليا التي استخدمتها إسرائيل بالفعل، بما فيها الفسفور الأبيض، ومتى ظهرت مؤشرات استخدامها؟
الفسفور الأبيض.. دمار فوق التخيليسبب الفسفور الأبيض حروقاً مؤلمة جداً قد تكون من الدرجة الثانية إلى الدرجة الثالثة، خاصة أنه يذوب بسهولة في الدهون السطحية، وقد يُمتص مباشرة عبر الجلد، ومن ثم ينتشر في باقي الجسد، حيث يُلحق أضرارا خطيرة بالكلى والكبد والقلب، يمكن أن تؤدي إلى الوفاة.
تخيّل معنا المشهد التالي؛ عندما تنفجر القنبلة في الجو، يُطلِق نظام الإشعال حمولة الفسفور الأبيض إلى خارجها، فتنتشر الحمولة ويتفاعل الفسفور بسرعة مع الأكسجين الموجود في الهواء ويبدأ في الاحتراق بشدة.
ينتج عن ذلك سحابة كثيفة من الدخان والجزيئات المشتعلة تُمطر على مساحة من الأرض تبلغ عدة مئات من الأمتار المربعة، وتحدث دمارا هائلا عند ملامستها أي مواد قابلة للاحتراق، ومنها أجساد البشر والمركبات والنباتات والحيوانات. وبالإضافة إلى خصائصه الحارقة، ينتج الفسفور الأبيض دخانًا كثيفًا، عادة ما يُستخدم لأغراض تكتيكية، مثل حجب الرؤية.
مما سبق، يمكنك أن تفهم لماذا هو محرم دوليًا، فهو أداة عمياء، والآثار الناتجة عن هذه القنابل لن تفرق بين عسكريين ومدنيين، ولا نساء أو أطفال أو رجال، وهذا بالفعل ما يحصل في حالة غزة.
في يونيو/حزيران الماضي، قالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن القوات الإسرائيلية استخدمت ذخائر الفسفور الأبيض في 17 بلدة على الأقل في جنوب لبنان منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، بما فيها 5 بلدات استخدمت فيها ذخائر تنفجر في الهواء بشكل غير قانوني فوق مناطق سكنية مأهولة.
كان هذا بعدما استخدم الجيش الإسرائيلي الفسفور الأبيض ضد الفلسطينيين في غزة أيضا، فبحسب منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أكد مختبر الأدلة أن الوحدات العسكرية الإسرائيلية المشاركة في الحرب على القطاع كانت مجهزة بقذائف مدفعية تحتوي على الفسفور الأبيض.
وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2023، رصد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن جيش الاحتلال شنّ أكثر من 1000 قصف مدفعي على مناطق مكتظة بالسكان، وبشكل عشوائي. كما كشفت الشهادات التي تلقاها فريق المرصد، أنه في غضون 40 دقيقة فقط، تلقت ساحة سكنية مكتظة في بلدة بيت لاهيا شمالي غزة؛ أكثر من 300 قصف بالفسفور الأبيض في 15 نوفمبر/تشرين الثاني.
قنابل فراغية أيضاليس الفسفور الأبيض فقط.. إليك واحدة أخرى من صور التوحش الإسرائيلي.. المرصد السابق نفسه وثق في أبريل/نيسان 2024 مستوى جديدا مروعا من القتل في قطاع غزة.. ضحايا يبدو أن أجسادهم تبخرت أو ذابت نتيجة قصف إسرائيلي للمنازل السكنية. هذه الملاحظات دفعت المرصد للقول بأنه "يجب إطلاق تحقيق دولي في استخدام إسرائيل المحتمل للأسلحة المحظورة دوليًا، بما فيها القنابل الفراغية". فما هي القنبلة الفراغية؟
هي نوع من المتفجرات يُحدث انفجارًا عالي الحرارة والضغط، ويولد قوة اندفاعية عالية تصل إلى مساحة كبيرة. وعلى عكس المتفجرات التقليدية التي تعتمد على تفاعل كيميائي لإحداث الانفجار، تعمل الأسلحة الحرارية عبر إطلاق سحابة من جزيئات الوقود ثم إشعالها. وينتج عن هذا موجةُ انفجار شديدة وكمية كبيرة من الحرارة، يمكن أن يكون لها آثار مدمرة في الأماكن الضيقة.
تبدأ هذه القنابل بتفجير أولي يوزع سحابة من الوقود (عادةً في صورة قطرات سائلة أو مسحوق ناعم) على مساحة كبيرة، وتختلط بالأكسجين في الهواء قبل التفجير، ثم تحترق هذه السحابة بسرعة، مما يخلق ضغطًا هائلاً وحرارة بالغة الشدة يمكن أن تصل إلى 3000 درجة مئوية.
وفقًا للكاتب في "ذا وار زون"، توماس نيوديك، فإن صورة نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي للقوات الجوية الإسرائيلية تُبيّن ذخيرة محمولة على إحدى طائرات الأباتشي تحتوي على شرائط حمراء، بما يشير -بحسب شفرة الذخائر الأميركية- أنها كانت نسخة فراغية من صواريخ "هيلفاير"، ولاحقا أزال جيش الاحتلال الصورة بعد تصاعد الجدل حول احتمالية استخدام تلك القنابل في غزة.
يحتوي صاروخ هيلفاير من نوع "أي.جي.أم-114 أن" على رأس حربي حراري، مصمم خصيصًا لزيادة القوة القاتلة في الأماكن الضيقة، مثل المخابئ والكهوف والبيئات الحضرية. وعلى عكس الرؤوس الحربية التقليدية التي تعتمد فقط على الانفجار والتفتت، فإن صاروخ هيلفاير الحراري يخلق موجة ضغط شديدة ودرجات حرارة عالية لزيادة الضرر إلى أقصى حد داخل منطقة مغلقة.
ويَستخدم هذا الصاروخ شحنة معدنية متفجرة معززة، تشتت مزيج الوقود والهواء ثم تشعله. وينتج عن هذا انفجار ثانوي أكبر يعزز بشكل كبير من الضغط والتأثيرات الحرارية.
في النهاية، لم تكن تلك هي المرة الأولى ولا الأخيرة التي يُشتبه فيها في استخدام إسرائيل أسلحة من هذا النوع، ففي حملتها ضد حزب الله عام 2006، ورد أن إسرائيل استخدمت قنابل فراغية في لبنان، وانتقدت منظمة العفو الدولية استخدام القنابل الحرارية، مشيرة إلى أن "القدرات التدميرية الكبيرة لهذه الأسلحة تثير مخاوف من أنها تؤدي غالبا إلى القتل العشوائي".
ومن الأمثلة المروعة على الخسائر التي لحقت بالمدنيين بسبب هذه الأسلحة، هو ما حصل في عام 1982، بحسب المنظمة، أثناء حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت. فقد أسقطت القوات الجوية الإسرائيلية قنبلة فراغية على مبنى سكني اعتقدوا أنه كان يختبئ فيه ياسر عرفات. وقيل إن نحو 200 شخص لقوا حتفهم في ذلك الهجوم.
إلى جانب ذلك، وجدت عدة تقارير أن إسرائيل استخدمت أيضا ما يسمى "المتفجرات المعدنية الخاملة الكثيفة" في غزة، سواء بإسقاطها جوا عبر الطائرات المسيرة أو تركيبها كرأس حربي للصواريخ. والمتفجرات المعدنية الخاملة الكثيفة تُحدث انفجارا نصفُ قطره محدود نسبيًا، لكنه فعال وقاتل للغاية.
وتُصنع تلك المتفجرات عن طريق ضبط خليط متجانس من مادة متفجرة مع جزيئات صغيرة من مادة خاملة كيميائيا مثل "تنغستن" (Tungsten)، الذي يضاف إلى المواد المتفجرة لتصنع شظايا دقيقة لا يمكن أن تنتشر إلا لبضعة أمتار، لذلك أُطلق على بعض أنواع هذه القنابل اسم "الذخيرة المميتة المركزة" (FLM).
تتسبب هذه النوعية من القنابل في تمزيق الأنسجة البشرية بشكل مختلف تمامًا عن الشظايا المعروفة بشكل عادة ما يؤدي إلى بتر الأطراف السفلية، وكان عدد من العلماء الإيطاليين المنتسبين إلى لجنة مراقبة أبحاث الأسلحة الجديدة قد أعلنوا أن جروح هذه النوعية من القنابل غير قابلة للعلاج، لأن مسحوق "تنغستن" لا يمكن إزالته جراحيًا.
كل هذا ولم نتحدث عن التأثيرات المسببة للسرطان لسبائك "تنغستن" المعدنية الثقيلة، حيث وجدت دراسة أجرتها وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية عام 2005، أن هذه الشظايا تُحفز بسرعة "الساركوما العضلية المخططة" في فئران المختبر، وهي نوع نادر من أنواع السرطانات. ويكفيك أن تعرف أن أكبر استخدامين معروفين عالميًا لهذه القنابل كانا في غزة خلال حرب عام 2006، وحرب 2008-2009.
صاروخ هيل فاير إي جي إم/114 (hellfire AGM-114) (مواقع التواصل) القنابل الغبية.. إمعان في القتلولا تقف المسألة عند كون السلاح محرما بسبب طبيعته، بل يمكن أن يُستخدم سلاح قانوني في الحرب لكن بشكل لا يُميّز، مما يزيد قدرته على الفتك والتدمير.
فمثلا ووفقًا لتقييم استخباراتي أميركي صدر في ديسمبر/كانون الأول 2023، فإن قرابة نصف الذخائر الجوية التي استخدمتها إسرائيل في قطاع غزة، والتي بلغ عددها نحو 29 ألف قطعة، كانت من نوعية القنابل الغبية، تلك التي تفتقر إلى الدقة لأنها لا تمتلك أجهزة توجيه، مثل الذخائر الذكية التي توجّه عبر قطع تقنية دقيقة كالاعتماد على الليزر أو نظام التوجيه العالمي "جي.بي.إس".
تعتمد تلك القنابل فقط على الجاذبية وتوجيه الطائرة، وبالتالي فهي في الأساس قنابل "سقوط حر" تتبع مسارا قوسيا بعد إطلاقها، وأقل دقة من الذخائر الموجهة الحديثة، خاصة عند إسقاطها من ارتفاعات عالية.
ولمزيد من فهم الآثار التدميرية لهذا النمط من استخدام القنابل، دعنا نقارن بين احتمالات سقوط قنبلة غير موجهة على منطقة ما، وأخرى موجهة. في الحالة الأولى يمكن أن تدمر القنبلة أي مكان تقع عليه ضمن منطقة مساحتها تصل إلى 125 ألف متر مربع، بما يساوي مساحة حوالي 18 ملعب كرة قدم، بينما تنخفض تلك المساحة مع القنابل الذكية لتصل إلى 314 مترا مربعا.
إلى جانب ذلك، تمتلك تلك القنابل أوزانا متنوعة، فتبدأ من 250 كلغ وصولا إلى 1000 أو 2000 كلغ. ونظرا لافتقارها إلى تكنولوجيا التوجيه المتطورة فإن إنتاج القنابل الغبية أرخص من القنابل الموجهة، مما يغري بعض الدول باستخدامها بكثافة، وخاصة إذا كان استهداف المدنيين مقصودًا لذاته.
الجدير بالذكر هنا، أن الأمر لا يقف عند القنابل الغبية، فاستخدام القنابل الذكية أحيانا بصورة لا تتفق مع المعايير الأخلاقية للحروب الحديثة قد ينتج آثارا أشد توحشا وهمجية. فمثلا في يونيو/حزيران الماضي، نشر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقييماً عن 6 هجمات افتراضية من قبل الجيش الإسرائيلي على غزة باستخدام قنابل ثقيلة مثل "جي.بي.يو-31″ بوزن 1000 كلغ، و"جي.بي.يو-32" بوزن 500 كلغ، في محاكاة لأحداث حقيقية حصلت خلال الأشهر الأولى من قصف إسرائيل لقطاع غزة.
وخلص التقرير إلى أن هذه القنابل وإن كانت موجهة، فإن ثقلها الشديد مع استخدامها في مناطق مكدسة بالسكان، ينتهك -بحسب المنظمة- المبادئ الأساسية لقوانين الحرب. ففي إحدى الهجمات الإسرائيلية، بحسب التقرير، تسببت الضربات على حي الشجاعية في مدينة غزة يوم 2 ديسمبر/كانون الأول 2023، في تدمير مساحة يبلغ قطرها نحو 130 مترًا، مما أدى إلى تدمير 15 مبنى وإلحاق أضرار بما لا يقل عن 14 مبنى آخر.
وأضاف أن مدى الضرر والحفر المرئية من خلال صور الأقمار الصناعية تشير إلى استخدام ما يقرب من 9 قنابل "جي.بي.يو-31″، وتلقى المكتب الأممي لحقوق الإنسان معلومات تفيد بمقتل ما لا يقل عن 60 شخصًا.
في الغالب، تُستخدم القنابل من هذا النوع لاختراق عدة طوابق من الخرسانة، ويمكنها تدمير الهياكل الشاهقة. وخلص التقرير إلى أنه نظرًا للكثافة السكانية في المناطق المستهدفة، فإن استخدام سلاح متفجر بمثل هذه التأثيرات الواسعة النطاق، سيرقى -على الأرجح- إلى مستوى الهجوم العشوائي المحظور.
ترسانة من السلاح الكيميائيلم يتوقف سجل إسرائيل في انتهاكات قوانين الحرب عند كل ما سبق، بل ثمة صور أخرى من التوحش لا تقل قتامة وسوءا، فترسانة السلاح المحرم في إسرائيل تتوسع كما يبدو. يُذكر أنه في عام 1983 أشار تقرير صادر عن وكالة المخابرات المركزية الأميركية إلى أن إسرائيل نفذت برنامجًا للحرب الكيميائية.
ويوضح التقرير أن أقمارا صناعية أميركية للتجسس رصدت منشأة محتملة لإنتاج غاز الأعصاب في منطقة التخزين الحساسة في ديمونة جنوبي فلسطين المحتلة، ويعتقد الخبراء في هذا المجال أن إسرائيل لم تتوقف عند استخدام غاز الأعصاب فقط، بل تعمل على استكمال ترسانتها النووية بأسلحة بيولوجية وكيميائية متطورة.
وفي عام 1998، ورغم زعم إسرائيل أن المواد الكيميائية التي كانت تحملها طائرة الشحن "العال" التي اصطدمت بمبنى سكني في العاصمة الهولندية أمستردام عام 1992؛ كانت "غير سامة"، فإنها قالت بعد ذلك إن الطائرة كانت تحمل 190 لترًا من ثنائي "ميثيل فوسفونيت"، بحسب إذاعة البي.بي.سي، وهي مادة كيميائية مدرجة في جدول اتفاقية الأسلحة الكيميائية تُستخدم في تصنيع غاز الأعصاب "سارين".
وغازات الأعصاب مثل السارين وغيره، تكون في صورة سائل أو رذاذ أو بخار أو غبار، وتصيب بشكل مباشر الرئتين والجلد، وما إن يحدث ذلك حتى يصاب الشخص بتشنجات شديدة، مع فقدان السيطرة على الجسم وشلل جميع العضلات بما فيها عضلة القلب والحجاب الحاجز.
الآثار الضارة لكل هذه العوامل توصف بأنها غير محكومة، لأنها يمكن أن تتركز في مكان دون آخر (الأماكن المغلقة على سبيل المثال)، وهنا يمكن أن تؤدي جميعها إلى الوفاة المباشرة. أضف إلى ذلك أنها عشوائية، بمعنى أن الرصاص العادي غالبًا ما يستخدم ضد جنود محددين من أعداء يحاربونك (ونقول هنا "غالبًا" بنوع من التحفظ)، لكن السلاح الكيميائي بقدراته الغازية على الانتشار، عشوائي تمامًا، يمر بين جنبات البيوت والحواري الضيقة، فيقتل من يقابل بلا تمييز.
غازات الأعصاب مثل السارين وغيره تتشكل في صورة سائل أو رذاذ أو بخار أو غبار (بيكسابي) ماذا عن السلاح البيولوجي؟لم ننته بعد، فإليك طبقة جديدة من طبقات التوحش الإسرائيلي، في عام 2008 أفادت خدمة أبحاث الكونغرس الأميركي أن إسرائيل تمتلك بعض القدرات في مجال الأسلحة البيولوجية، واستشهدت صحيفة "صنداي تايمز" في عام 1998 بمصدر عسكري إسرائيلي أفاد بأن أطقم طائرات إف-16 الإسرائيلية تلقت تدريبًا على تحميل رؤوس حربية كيميائية وبيولوجية نشطة على طائراتهم.
والأسلحة البيولوجية إما كائنات حية مثل الفيروسات أو البكتيريا أو الفطريات، أو مواد سامة تنتجها كائنات حية، يجري إنتاجها وإطلاقها عمدا لتسبب المرض والموت للإنسان أو الحيوان أو النبات. ويمكن للعوامل البيولوجية أن تشكل تحديًا صعبًا على الصحة العامة بحسب منظمة الصحة العالمية، حيث تتسبب في أعداد كبيرة من الوفيات في فترة زمنية قصيرة، ودون تمييز.
ورغم التكتم الشديد من ناحية دولة الاحتلال الإسرائيلي حول مشروعاتها للأسلحة البيولوجية، فإن علماءها ينشرون أبحاثا علمية تكشف أنهم يجرون تجارب في نطاق "أبحاث الاستخدام المزدوج المثيرة للقلق".
وركزت منشورات مركز أبحاث دفاعي سري للغاية يديره ويموله قسم الأبحاث بوزارة الدفاع الإسرائيلية؛ على بكتيريا الجمرة الخبيثة وبكتيريا الطاعون، وكلاهما سلاح بيولوجي معروف جرى استخدامه من قبل، على سبيل المثال في هجمات الجمرة الخبيثة عام 2001 بالولايات المتحدة.
تنتقل "الجمرة الخبيثة" في الهواء ولا يمكن اكتشافها بسهولة، حيث يبلغ قطرها فقط عدة ميكرونات (الميكرون أو الميكرومتر يساوي جزءا من مليون جزء من المتر)، وهي قادرة على الوصول إلى عمق الرئتين عند استنشاقها، وبمجرد وصولها إلى الدم تصبح قادرة على التكاثر والسفر إلى العقد الليمفاوية، وإنتاج السموم التي تؤدي إلى الوفاة.
في أحد النماذج الرياضية، ظهر أن إلقاء قنبلة تحوي كيلوغرامًا واحدًا من هذه المادة على مدينة بها 10 ملايين نسمة، سيقتل في وقت قصير حوالي 100 ألف شخص.
كما رأيت، فإن كل ما سبق من مستويات توحش استثنائية وقدرات انتقامية، لا تفرق بين حجر أو بشر، فضلا عن مدني ومحارب، قد اكتشفت كلها بمحض الصدفة، أو عبر دراسات استقصائية لا تستطيع بطبيعة الحال اكتشاف كل جوانب الحقيقة. ويظل كل هذا القدر المكشوف، على ما فيه من نزعة إجرامية وسلوك مخالف لما استقر العمل به دوليا من قوانين الحرب الحديثة، بمثابة جبل ليس من الجليد، وإنما من نيران ملتهبة يزداد توحشها يوما بعد يوم.