مرونة الفكر الليبرالي و جمود الفكر السوداني.. الأستاذ و إعوجاج القوس
تاريخ النشر: 16th, May 2024 GMT
طاهر عمر
الإقتصاديون و علماء الإجتماع و المؤرخون غير التقلديين و الفلاسفة يدركون أن الفكر الليبرالي يتعرض لهزات تكاد تقضي على مسيرته إلا أنه يخرج من كل تجربة صعبة أكثر قوة و أكثر حيوية في قدرته على معالجة ما يتجدد في وجه المجتمع البشري كظاهرة و هو الأقدر على ترجمة إيقاع معادلة الحرية و العدالة و هي تسوق مسيرة البشرية كمسيرة تراجيدية و مأساوية و لها القدرة على مجابهة المتجدد من المصاعب المتجددة التي تمسك بتلابيب بعضها البعض في صيرورة و في تلازم بلا قسور مع تاريخ الإنسانية في إنفتاحه على اللا نهاية بعكس الهيغلية و الماركسية في إعتقادهما في عقل يسوق نحو نهاية متوهمة للتاريخ و هيهات.
قوة الفكر الليبرالي تكمن في هشاشته مثل مقولة إستقامة القوس في إعوجاجه أو إعوجاج القوس هو إستقامته لما أريد له. و لهذا السبب يفوت على كثير من أتباع الشموليات من نازية و فاشية و شيوعية و حركات إسلامية كالحركة الإسلامية السودانية أن الفكر الليبرالي هش و يسهل القضاء عليه إلا أن التاريخ يقول أن الفكر الليبرالي هو تاج الإنسانية التاريخية و الإنسان التاريخي و في فضاءه تولد الشخصيات التاريخية و في أيديهم يمسكون بمفتاح تاريخ الذهنيات المنتصر على تاريخ الخوف و ما أطوله من سجل أي تاريخ الخوف وسط النخب السودانية و قد كسد فكرها؟
لهذا لم يزدهر في وسطهم غير فكر متصالح مع الخوف و علاجه عندهم أن تسلك طريق الخلاص الأخروي و لهذا كثر عندنا أتباع المرشد ككيزان و أتباع الامام كأنصار و أتباع الختم و حتى الشيوعي السوداني نجده متواطي مع الخطاب الديني التقليدي بإيمانه التقليدي و فكره المنغلق و رأينا كيف كان عبد الخالق محجوب يبحث لدور للدين في السياسة و تبعه محمد ابراهيم نقد في حوار حول الدولة المدنية و خرج بعلمانية محابية للأديان إلا الأستاذ محمود محمد طه و قد مزّق سجل تاريخ الخوف من رفوف المكتبة السودانية و سار منتصر بإبتسامة عابر عبر تاريخ الخوف السوداني و نحو تاريخ الذهنيات ليصل الى مقام بروموثيوس عندما سرق نار الآلهة حين إستفزّه هوان الإنسان و هل كان هناك هوان يفوق هوان الشعب السوداني عندما مر تاريخ كساده الفكري بشريعة نميرى و كيزانه أي قوانيين سبتمبر؟
المحزن للغاية أن عبد الله علي ابراهيم في هذه الأيام يكتب في سلسلة مقالات محاولا رد الإعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة و هذا عنوان مقالاته مواصل مسيرة تواطؤه مع خطاب الإسلام السياسي و نسى عبد الله علي ابراهيم بأن خطاب الإسلام السياسي في العالم العربي و الإسلامي قد تأهب للخروج من التاريخ بلا رجعة و قد رأينا كيف كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد قال بأن أفكار الحداثة و التنمية لا يمكن أن تكون في ظل خطاب الحركات الإسلامية و فكرها التقليدي و كذلك رأينا كيف أجبر مفكري تونس الغنوشي بأن يعترف بأنه صاحب عشرية فاشلة و قد وضعت نهايته و نهاية حركة النهضة التونسية فيا عبد الله علي ابراهيم تواطؤك مع الكيزان يجعلك كنافخ القربة المقدودة لن يرجّع الكيزان رغم حربهم العبثية ضد صنيعتهم الدعم السريع كأداة موت و لا حربهما العبثية تعني للشعب السوداني شئ.
و هنا نقول لك يا عبد الله علي ابراهيم أن حرب البرهان العبثية ضد صنيعته حميدتي تذكرنا بحروب نابليون و نابليون بالمناسبة قطع طريق الثورة الفرنسية الى حين و لكن حروبه ساعدت في إنتشار شعار الثورة الفرنسية مع إنتشار جيوشه في البلدان الأوروبية شفت مكر التاريخ يا عبد الله علي ابراهيم؟ و أقصد كما إنتشر شعار الثورة الفرنسية مع جيوش نابليون كقاطع طريق الثورة الفرنسية فأن حرب الكيزان البرهانية في السودان أكدت بأن لا حل للشعب السوداني غير الفكر الليبرالي و التحول الديمقراطي الذي يعني عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و لا حل غير قيم الجمهورية و فصل الدين عن الدولة و رغم أنفك لرد الإعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة.
و عندما نقول التحول الديمقراطي و قيم الجمهورية أحسب كم من السنيين إحتاجت الثورة الفرنسية لتحقيق قيم الجمهورية و مواثيق حقوق الإنسان. و بعدها إنتهى الكاثوليك كيزان ذاك الزمن و إنتصر التحول الديمقراطي و أصبح الدين شأن فردي و أصبحت الديمقراطية و الفكر الليبرالي زهرة يانعة لفكر قدمه عمانويل كانط في فكر أنثروبولوجيا الليبرالية و عنده الفورة مليون و ليس همه كهمك بأن يكرمك الكيزان يا عبد الله علي ابراهيم كما ظهرت بوجه كالح يوم تكريمك من قبل خالد موسى دفع و السر السيد و غسان علي عثمان قبل سقوط الكيزان عندما كانت تحتهم خزائن الذهب.
بالمناسبة كان الكاثوليك كحالة عبد الله علي ابراهيم اليوم في وقوفه مع فكر الكيزان يظنون بأن الكاثوليكية و فكرها يمكن أن يحقق تحول ديمقراطي و لكن في مجتمع مثل المجتمع الفرنسي كان هناك توكفيل و قد قال لهم بأن لا حل غير عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و أن الدين ينبغي تجريده من أي قوة سياسية و قوة إقتصادية و يجب فصل الدين عن الدولة و حينها يصبح الدين عندما يجرد من قوته السياسية و قوته الإقتصادية يصبح شأن فردي و يصير أفق الرجاء للأنسان كفرد في علاقته بربه بلا وسيط من تجار الدين.
و نحن نسأل عبد الله علي ابراهيم أين فكر الكاثوليك الذي إنتقده توكفيل؟ و قال لهم بأنهم عاجزون بفكرهم أن يحققوا ديمقراطية كما يزعم مفكري السودان الآن في تحقيق ديمقراطية بأحزاب دينية أي كحزب الامام و الختم و المرشد و هم لا يشبهون غير كاثوليك زمن توكفيل و قد تخطاهم الزمن و لم يبقى غير فكر توكفيل و الغريب عبد الله علي ابراهيم لا يحتاج لقامة توكفيل و فكره نقول له أن ولي عهد السعودية بمشروع 2030 و إبعاده لرجال الدين و إزعاجهم قد تخطاك فكريا دعك من توكفيل يا عبد الله علي ابراهيم و خليك مع رد الإعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة و قد محى الأستاذ محمود محمد طه بفيض ضياء إبتسامة عباقرة الرجال ظلام محاكم العدالة الناجزة.
عند توكفيل أن الليبرالية ليست نظام حكم فحسب بل فلسفة تسعى لتحقيق العيش المشترك و لا يكون بغير فصل الدين عن الدولة و لذلك قد أصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني و لا يمكن تحقيق تحول ديمقراطي بأحزاب دينية كما هو حاصل في السودان و سيطول درب الآلام في السودان و لكن في النهاية سيصل لتحول ديمقراطي بفضل وعي أجيال آتية من جهة المستقبل البعيد تدرك فكرة عقلنة الفكر و علمنة المجتمع.
عبد الله علي ابراهيم في السودان من جيل يعاني من إلتباس في تحول المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الدولة و مسألة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد جيل قد ذهبوا للحزب قبل الذهاب للكتب و النتيجة مثقف منخدع بماركسية ماركس لا يفرّق بين حربه ضد الإستعمار و حربه ضد الحداثة و التنمية و لا يدرك بأن معدل مستويات الوعي في العالم العربي و الإسلامي بفضل تقدم تكنلوجيا الإتصالات و إرتفاع نسبة المتعلمين و إنخفاض الأمية في كثير من الدول العربية و الإسلامية توضح بأن هناك علاقة عكسية مع خطاب الإسلام السياسي أي بالمختصر المفيد لا مستقبل لخطاب الإسلام السياسي الكيزاني في المستقبل البعيد. و لكن كعادته يراهن عبد الله علي ابراهيم دوما على الحصان الخاسر كما راهن من قبل على حصان الشيوعية كشمولية بغيضة ها هو الآن يراهن على حصان الكيزان و الأكيد أنه خاسر.
بالمناسبة جيل عبد الله علي ابراهيم و أساتذتهم هم من أسسوا لفكرة أن تاريخ الفكر الليبرالي تاريخ يخص أوروبا و يمكننا في السودان تأسيس ديمقراطية بفكر ديني كما هو سائد و معشعش في رؤوس نخب لا يعرف فكرها غير الحيرة و الإستحالة في وقت في كثير من الدول العربية و الإسلامية هناك علماء اجتماع و إقتصاديين عندما يتحدثون عن التحول الديمقراطي يعنون الفكر الليبرالي كما هو عند جون لوك و جان جاك روسو و عمانويل كانط و مونتسكيو بلا أي نقصان من فكرهم لأنه هو الأقدر على معالجة ظاهرة المجتمع البشري و ما يؤرق مجتمعهم لأنه مجتمع من أفراد و لا يشغل بال الفرد غير الحرية و العدالة وفقا لقدرات العقل البشري.
من المفارقات العجيبة أن عقلانية الرأسمالية جاءت بسبب فكر الأقلية البروتستانتية و ها هي تنتصر مع إكتشاف معادلة الحرية و العدالة و هنا أود أن أقول أن أغلبية النخب السودانية تؤمن ايمان العجائز بأنهم يستطيعون تحقيق ديمقراطية بأحزاب دينية مقابل أقلية تنشر فكر ينتصر لعقلنة الفكر و علمنة المجتمع في السودان و كما إنتصرت أقلية البروتستانت و جاءت بعقلانية الرأسمالية ستنتصر الأقلية الخلّاقة السودانية في مطالبتهم بفكر يفصل الدين عن الدولة و يؤسس لعقلنة الفكر و علمنة المجتمع.
و من هنا نقول للذين يظنون أن الأحزاب الدينية داخلها أغلبية النخب السودانية هذا توصيف لا يعني أي شئ و نحن نقول لهم أن فكر الأقلية الخلّاقة التي تنادي بفصل الدين عن الدولة بشكل صريح لا لبس فيه سينتصر كما إنتصر البروتستانت كأقلية و من هنا نقول مهما أجاد عبد الله علي ابراهيم اللعب بضيله أي ذيله مع الأغلبية السودانية فيما يتعلق بأحزاب وحل الفكر الديني لا يغير شئ فيما يتعلق بقدوم أجيال قادرة على التضحية بالهوية الدينية و قادرة على إدراك فكرة عقلنة الفكر و علمنة المجتمع لأن حرب البرهان بجيشه الكيزاني ضد صنيعته الدعم السريع كأداة موت لا تشبه إلا حروب نابليون و كما قلنا أفي أعلى المقال من محاسن حروب نابليون رغم أنها قطعت الطريق على الثورة الفرنسية إلا أنها أدت الى إنتشار مبادئ الثورة الفرنسية مع إنتشار جيش نابليون في أوروبا و كذلك حرب الكيزان العبثية أكدت بأن لا حل للشعب السوداني غير التحول الديمقراطي.
في ختام هذا المقال لابد من الحديث عن مرونة الفكر الليبرالي و قدرته على الإقناع و كما قلنا أن قوته في هشاشته و تجاوزه للأزمات الإقتصادية و الخروج منها أكثر قوة فمنذ أن فك ادم اسمث إرتباط الإقتصاد بكل من الدين و الفلسفة هناك الكثير في سجل النظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الإقتصادي و نظريات اقتصاد التنمية تنتظر فك شفراتها لتصبح في سجل فكر النخب السودانية المتأخرة في إدراك الفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية على أقل تقدير في القرن الأخير أي منذ الكساد الإقتصادي العظيم عام 1929 و يمكن أن تصعد بها لقرن كامل حيث يصادفك فكر توكفيل في الديمقراطية الأمريكية و كيف بداءت الليبرالية التقليدية في الأفول و بعدها بداءت خيوط ليبرالية حديثة لم تفهم حتى اللحظة من قبل نخب سودانية ما زالت تظن بأنها تستطيع تحقيق نظم ديمقراطية عبر أحزابها الدينية و هيهات في وقت أكد فيه توكفيل من قبل قرنيين بأن الدين شأن فردي و ينبغي تجريده من قوته السياسية و قوته الإقتصادية لكي يصبح أفق الرجاء للفرد في مجابهة مصيره دون وساطة من تجار الدين من كل شاكلة و لون.
توكفيل في حديثه عن المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد أكد أنها انبعثت بسبب التطور الهائل بسبب الثورة الصناعية مما قد أصبح نواة للتفكير في مسألة الضمان الإجتماعي و من هنا تكون توصيتي بأن التحول الديمقراطي في السودان لابد من أن تكون رافعته بعد وقف الحرب رؤية اقتصادية لمعالجة مسألة الإقتصاد و المجتمع و هي القادرة بأن تنمّي إدراك النخب بمسألة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و هي نابعة من صميم الفكر الليبرالي في مسألة التدخل الحكومي كما نجده في الكينزية و هي تضع حد لليد الخفية لأدم اسمث و اليد الحديدية للشيوعية كنظام شمولي بغيض و يصبح الضمان الإجتماعي أي الإستهلاك المستقل عن الدخل رمز لكرامة الإنسان و ليس كما تعتقد الشيوعية في الإنسان نفسه بل تتخذه كوسيلة لتحقيق غاية متوهمة و هي فكرة إنتهاء التاريخ و هيهات.
نقل تجربة الغرب الصناعية يحتاج لتهية النخب السودانية بأن مجتمع ما بعد الثورة الصناعية لا يشغله الخطاب الديني بل تشغله الحرية و العدالة و بالتالي يصبح المجتمع مجتمع أفراد علاقة الفرد مباشرة بالدولة و ليست بالطائفة و لا الجهة و لا العرق و لا الدين بل الفرد كغاية لأنه يرنو لقيمة القيم أي الحرية.
في ختام المقال نقول للأجيال الجديدة بأن تجربة النخب السودانية المشغولة بخطاب ما بعد الإستعمار كان فاشل في نقل المجتمع السوداني من مجتمع تقليدي الى أعتاب المجتمعات الحديثة التي لا ترضيها غير فكرة الدولة الحديثة و هي مجتمعات حتى في الدول الحديثة مرّت بأزمة الاسترليني و أزمة الفرنك الفرنسي و أزمة الدولار الذي بسببه إنتهت الكينزية كديناميكية إقتصادية و بعدها جاءت النيوليبرالية و قد خلفت خلفها فكرة التوجه نحو الحماية الإقتصادية في الثلاثة عقود القادمة و على الشعب السوداني أن يبداء مع الشعوب المتقدمة من جديد ديناميكية اقتصادية لها أدبياتها في النظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الإقتصادي و حمدوك هو أكثر اقتصادي سوداني جدير بقيادة الشعب السوداني الآن و هو يمر بأحلك حقبة في تاريخه و هو أقرب لفهم نمط الإنتاج الرأسمالي و بسبب مرونة الفكر الليبرالي فقد اقتنعت به كثير من الأحزاب الشيوعية في الغرب و الأحزاب الإشتراكية و أحزاب الخضر أي قد أصبحت لا تضمر أي ضغينة لنمط الإنتاج الرأسمالي و هذا الذي قد عجز عنه الشيوعي السوداني و جعله يقدم مشروعه الجذري كحزمة أرنب غلبتها زادتها. و في الختام طريق التحول الديمقراطي طويل جدا و ربما يحتاج للتضحية بأجيال و لكن قد أصبح ممر إلزامي.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: عبد الله علی ابراهیم الحریة و العدالة التحول الدیمقراطی الدین عن الدولة الفکر اللیبرالی النخب السودانیة الثورة الفرنسیة فی السودان قد أصبح کثیر من من قبل
إقرأ أيضاً:
الثورة الصناعية .. تحولات في الفكر والعمل والإنتاج
محمد بن أحمد الشيزاوي -
لم تغيّر الثورة الصناعية شكل العمل فحسب، بل أعادت صياغة الاقتصاد والمجتمع وطريقة تفكير الإنسان، ومع التحولات المتسارعة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي اليوم، يتكرر المشهد بقالب جديد يعيد تعريف الوظائف، وسلاسل الإنتاج، وحدود المنافسة، ويفرض على الأفراد والشركات يقظة مستمرة واستعدادًا حقيقيًا، ففرص المستقبل لن تكون متاحة إلا لمن يلتقطها في وقتها، بينما سيتراجع من يتباطأ عن مواكبة ما يحدث.
لم تكن الثورة الصناعية الأولى التي انطلقت في أواخر القرن الثامن عشر مجردَ ثورة في نموذج العمل الذي انتقل من يدوي إلى آلي ومن زراعي إلى صناعي بل هي أكبر من ذلك. كانت بمثابة ثورة في المفاهيم والرؤى والطموحات التي قادتنا إلى عصر التحول الرقمي وأنترنت الأشياء والبيانات الضخمة والروبوتات المتقدمة والذكاء الاصطناعي والتي سوف تقودنا مستقبلا إلى ثورة صناعية خامسة محورها التطور الهائل في استخدامات الذكاء الاصطناعي مع الاهتمام أيضا بإيجاد مصادر جديدة للطاقة تحافظ على هذا الكوكب وتُدير مصانعه وتُسهم في رفاهية الإنسان ونمو المجتمعات وازدهارها.
وعلى مدى السنوات الماضية منذ اختراع الآلة ودخولها عنصرا أساسيا في دورة العمل شهد العالم ازدهارا اقتصاديا واضحا، وازدادت كمية الإنتاج، وتغيرت نماذج العمل بشكل كبير، ولم تقتصر هذه التغيرات على القطاع الصناعي فقط وإنما شملت الكثير من القطاعات الاقتصادية الأخرى، وبدأ العالم يلحظ نشوء قطاعات اقتصادية جديدة لم يكن لها وجود قبل الثورة الصناعية الأولى مثل قطاع السياحة الذي استفاد من تطور وسائل النقل وظهور الطائرات المدنية بعد الحرب العالمية الأولى، واليوم فإن قطاع السياحة أصبح قطاعا اقتصاديا رئيسيا لدى العديد من الدول وأصبح مصدرا مهما للدخل.
وإذا كان الكثير من الاقتصاديين يرون أن الثورة الصناعية تعتبر أحد أبرز التحولات في تاريخ البشرية وأسهمت في إحداث تطورات اقتصادية إيجابية ودفعت مستويات الإنتاج إلى النمو فإنها في نظر العمال كانت عدوا حقيقيا لهم؛ فدخول الآلات إلى المصانع أدى إلى الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمال وهو ما زاد من قلقهم وخوفهم ومحاربتهم للوضع الجديد، ولكن مع مرور الزمن واستيعاب هذه التغيرات أصبحت مجالات العمل المتاحة كثيرة، فقد أدت التطورات اللاحقة إلى ظهور أنشطة اقتصادية عديدة انعكست إيجابا على فرص العمل، فازدهار قطاع السياحة ونمو قطاع اللوجستيات وأنشطة الاستيراد والتصدير والنقل والتخزين وأعمال البنوك وتطور الأنشطة الصناعية من مجرد أنشطة بسيطة تعتمد أساسا على المنتجات الزراعية إلى قطاعات ذات إمكانات صناعية أكبر بما في ذلك استخراج النفط والغاز والصناعات البتروكيماوية وصناعات الحواسيب ومدخلاتها والرقائق الإلكترونية وغيرها من الصناعات الدقيقة؛ أدت كل هذه التطورات إلى تحفيز بيئة العمل مع ازدياد الطلب على المهارات والخبرات العالية التي أحدثت ثورات أخرى ناتجة عن الابتكار الذي انعكس إيجابا على المجالات الطبية والصحية والصناعية والتجارية والمجالات الأخرى ودفعت هذه التغيرات إلى ازدهار صناعي غير مسبوق.
لم تقتصر التطورات المتلاحقة التي شهدناها منذ الثورة الصناعية الأولى فقط على تغيير نموذج العمل القائم على انتقال السلعة من البائع إلى المستهلك عبر طرق تقليدية وإنما أدت لاحقا - مع التطور التكنولوجي والعولمة - إلى تطوير مفاهيم البيع والتسويق على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، فعلى سبيل المثال بإمكانك أن تطلب أي سلعة ترغب في شرائها؛ عبر متجر إلكتروني من أقصى بقاع الأرض وتصل إليك خلال أيام معدودة وبأسعار منافسة دون أن تتحمل عناء السفر والبحث بين المحلات ومعارض البيع؛ فمنصات البيع الإلكتروني عبر هاتفك الذكي أصبحت تغنيك عن كل هذا وبإمكانك شراء ما تريد شراءه من أي دولة وتدفع الثمن ويأتيك إلى باب منزلك، ولم تقتصر التطورات التكنولوجية على بيع السلع وإنما شملت أيضا بيع الخدمات، ولعل قطاع السياحة يعتبر أكثر القطاعات التي استفادت من هذه التطورات فبإمكانك شراء تذكرة السفر وحجز الفندق والجولة السياحية من خلال هاتفك الذكي، وحتى تتمكن هذه التطبيقات من كسب رضا الزبائن أصبحت تلجأ إلى توفير خيارات تقييم البائعين وأصبح بائع الخدمات وبائع السلعة يهتم كثيرا ببناء علاقة طويلة الأمد مع المستهلكين، ولم يعد هدفه مجرد بيع سلعة واحدة أو عدة سلع لسكان قريته أو مدينته كما كان يفعل في السابق وإنما أصبح ينظر إلى التوسع العالمي ويبحث عن مستهلكين من مختلف دول العالم، وأصبحت ثقة المستهلكين وتقييمهم أساسا مهما في زيادة إيرادات الشركات التي أصبحت تركز على الجودة أكثر مما مضى وأصبحت تُخضع منتجاتها للمراكز والجهات العالمية المعنية بتقييم جودة المنتجات.
وبالإضافة إلى ما أحدثته الثورة الصناعية من تغييرات في سلوك المستهلك والبائع فإن الثورة الصناعية أدت أيضا إلى نمو غير مسبوق في حلقات الإنتاج التي منحت المنتجات قيمة مضافة لم تكن موجودة في السابق، فعلى سبيل المثال كانت حلقات الإنتاج قبل الثورة الصناعية بسيطة ومحدودة حيث كان العمل اليدوي هو السائد ولكن دخول الآلة أدى إلى تحقيق استفادة أكبر من المواد الخام، وفي بعض الصناعات أصبحت لدينا سلسلة طويلة من المراحل التي يمر بها المنتج حتى يخرج بصورته النهائية بدءا من تجميع أو استخراج المواد الخام ثم مرحلة معالجة هذه المنتجات كما يحدث في مصافي النفط أو صناعة السيارات أو الطائرات وحتى الأدوات الشخصية والاستهلاكية، وفي كثير من الأحيان فإن تعدد مراحل الإنتاج التي تخضع لها السلع والإضافات التي يتم إجراؤها على المنتجات هي أحد أهم الأسباب وراء ارتفاع أسعار بيعها للمستهلكين، وخلال حلقات الإنتاج هذه نحتاج إلى مزيد من القوى العاملة وإلى مزيد آخر من المواد الخام التي قد تأتي من عدة دول، وحتى السيارات التي يتم تصنيعها في اليابان أو الولايات المتحدة أو الصين أو الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى قطع معينة أو برامج إلكترونية لا يتم إنتاجها في الدولة نفسها وإنما في دولة أخرى، والأمر نفسه ينطبق على صناعة الحواسيب والهواتف ومئات المنتجات الأخرى التي نمت وازدهرت نتيجة للثورة الصناعية التي غيرت كثيرا من المفاهيم حول الإنتاج وأسهمت في ربط العالم بعضه ببعض ودفعت كثيرا من الشركات للبحث عن فرص للنمو في دول أخرى تتوفر فيها مصادر الإنتاج أو المواد الخام أكثر من غيرها، ولعل بروز الشركات متعددة الجنسيات في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين يعد من أبرز المخرجات غير المباشرة للثورة الصناعية التي مهّدت لنشوء هذا النوع من الشركات نتيجة للتوسع في الإنتاج وازدياد العلاقات التجارية بين الدول ورغبة الشركات في جذب رؤوس أموال جديدة تدعم استراتيجياتها للنمو والتوسع وخفض تكاليف التشغيل وتعزيز قدرتها على الانتشار والعمل عبر الحدود الدولية.
إن المخاوف التي هيمنت على العمال مع ظهور الثورة الصناعية الأولى كانت نتيجة لعدم استعدادهم للتغيير الذي يتطلبه نظام العمل الجديد؛ مع محدودية قدرتهم على التعامل مع الآلة والميكنة الحديثة، وقد لاحظنا خلال السنوات الماضية أن كثيرا من العاملين الذين لم يهتموا بتطوير مهاراتهم في التقنيات الحديثة لم يعد لهم مكان في مواقع العمل، والأمر نفسه ينطبق على الشركات التي تأخرت في مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي، وحتى تتمكن الشركات من المحافظة على تنافسيتها فإنها تقوم بشكل مستمر بصقل مهارات وخبرات موظفيها لتقليص أي فجوة بين واقع الإمكانيات وتطلعات الشركات، وهذا يعني أن استعدادنا للمستقبل يبدأ من قدرتنا - أفرادا وشركات - على مواكبة ما يشهده العالم من تطورات تقنية وثورة في عالم الأعمال. علينا أن ندرك أن التطورات التقنية والتكنولوجية لن تلغي الحاجة إلى الإنسان في دورة العمل بل – في اعتقادنا – أن هذه التطورات تفتح مجالات أرحب لنمو الوظائف وقد نشهد قطاعات اقتصادية لم تكن موجودة في السابق، وإذا كانت الثورة الصناعية الأولى قد أعادت صياغة مفهوم إدارة الأعمال الصناعية والتجارية وأدت إلى تسريع العمليات الإنتاجية وتقليل الاعتماد على العمل اليدوي ومهّدت لنمو قطاعات اقتصادية جديدة وشركات متعددة الجنسيات وطورت قدرات وإمكانيات القوى العاملة البشرية فإن المستقبلَ واعدٌ أيضا بالعديد من الفرص والإمكانيات للإضافة والتغيير والنمو وهو ديدن البشرية منذ نشأتها على كوكب الأرض. كل هذا يعني أن علينا الاستعداد لمرحلة أكثر تطورا في نماذج العمل، وتطلعات الشركات، والمستقبل الذي يتجدد باستمرار.
محمد بن أحمد الشيزاوي كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية