ما كان ماكس ڤـيـبر مجانبًا للصـواب حين عَـدَّ الشرعية العقلانية -ومنها الشرعية الديمـقراطية- في جملة مصادر الشرعية السياسية التي تتمتع بها السلطة في هذه الدولة أو تلك؛ إذْ هو ما كان -في تصنيفه أنماط الشرعيـة- يفعل شيئًا أكثر من وضْع نَـمْذجـةٍ عامـة للشرعيات ومصادرها انطلاقًا من ملاحظاته عشرات الحالات من أنظمة الحكم وتجاربها في التاريخ.
لكن المشكلة ما كانت مع ڤـيبر، بل مع تلامذته الليبراليـين الذين تعالوا بتلك الشرعيـة الديمقراطيـة تعاليًا أخرجها من نطاقِ واقـعٍ متعـدِد الاحتمالات والاتجاهات إلى حيث صار لها مَـقامٌ ميتا تاريخي! ومع أن أحـدًا لا يملك أن يجحـد قيمة الآفاق الجديدة الرحبة التي فتحتْها الشرعيـة الديمقراطيـة للحياة السـياسية في الدولة الوطنيـة الحديثة، ولا ما زودتْ به الاستقرارَ السياسي والاجتماعي -داخل هـذه الدولة- من موارد...، إلا أن الارتفاع بمقام ذلك النمط من الشرعيـة إلى الحد الذي يُصبح فيه الشرعيـة المعياريـة الوحيدة يخرُج بالمسألة من التاريخ إلى الأيديولوجيا. أكثر من ذلك، ما اكتفى هؤلاء التلامذة بما اكتفى به أستاذهم من تحديد سمات الشـرعيـتين الأخريَـيْن: التـقليديـة والكاريزمية وعَـدِهما في جملة مصادر شرعية السلطة، بل نزعوا عنهما كـل مشروعيـة وسامُـوهُـمَـا خسْـفًا وقدْحًـا إلى الحد الذي ما عادتا -في وعي هـؤلاء- شرعيـتين، كما وصفهما ڤـيبر، بل حالتان سابقـتان لاستواء الشرعية «الوحيـدة»!
الفكر السياسي الليبرالي الغربي فكـرٌ منغلق على كـوْنه السياسي الخاص وليس فكرًا تاريخيًّـا؛ يرى إلى التاريخ في أزمنةٍ مختلفة، وإلى الحاضر في أمكنـةٍ مختلفة. هو، بالأحرى، «فكـر» أيديولوجي يتغيـا -حصرًا- الانتصار لنموذجه السياسي والتبشير به ليس أكثر. لذلك هو مفارقٌ للتاريخ، ومن آيات مفارقته إياه أنه ينسى أن النمط التقليدي للشرعية كان النمط السياسي الوحيد المُتاح في زمن ما قبل الدولة الحديثة؛ حيث مبْنى السياسة على النسب أو الدين أو كليهما معًا، وحيث ظل مُـدْرَكًا بوصفه كذلك منذ ابن خلدون، في بداية القرن الرابع عشر للميلاد، إلى ماكس ڤـيبر في بداية القرن العشرين. كما أن الفكر الليبرالي هذا مفارِقٌ للواقع الراهن، بدليل أن وجوها عـدة من النمط التقليدي ذاك ومن سماته ما تزال، إلى الآن، تُطِـل علينا من وراء أنظمةٍ سياسيـةٍ حديثة ومن وراء شرعياتٍ حديثة. ماذا نقول عن المَلَـكيـات الأوروبية والغربية مثلًا: أَلاَ تتعايش فيها الشرعية التقليدية (علاقات النسب والدين) مع الشرعية العـقلانية؛ فإذن أَلاَ يستمر فيها مفعولُ ذلك النمط القديم الذي استحقت نماذجُه غيرُ الغربية القـدْحَ فيها والتشنيعَ عليها من أيديولوجيي الليبراليـة؟
لا شيء، من جانب آخر، يُقـلل من مكانة الشرعيـة الكاريزميـة للسلطة في تاريخ السياسة والدول ولا من مشروعية وجودها. والأمر في هذا لا يتعلق بمكانة الكاريزما في ماضي المجتمعات والدول، حين كان للأباطرة والملوك والقادة الحربيين ومؤسِسي الدول مقاديرُ هائلة من المهابة، وأحيانًا، من التقديس من قِبل مجتمعاتهم وشعوبهم، بل يتعلق حتى بتبـدياتها الحديثة والمعاصرة؛ حيث تمتَع التعبيرُ عنها في الاجتماع السياسي لبلدان عـدة بما يُسـوِغه ويبرِرُه. وأنا، في المعرض هذا، لا أستحضر حالة السلطة التي تولدت من عمليات تحـرُرٍ وطني في بلدان المستعمَـرات فقط (حيث أُحيط قادة التحرير والثورة بهالة كاريزمية أسطورية في مناطق عـدة من العالم منها الوطن العربي)، وإنما أقصد إلى الإشارة إلى استمرار الظاهرة الكاريزمية في المجتمعات والدول الحديثة، منذ الثورة الفرنسية، بالمقدار عينِه من الحضور في مجتمعات الجنوب. لنتذكر ما الذي كان يعنيه بوناپارت، وجورج واشنطن، وبيسمارك، وأبراهام لنكولن، ولينين، وتشرشل، وديغول في وعي شعوبهم التي أضفت عليهم مسحة أسطورية. ولعلنا، هنا، أمام ظاهرةٍ تحتاج إلى تفسيرٍ وتعليلٍ لا إلا أحكامٍ معياريـة. والمتأمـل في الظاهرة لن يَعْسُر عليه أن يدرك أسبابها ودواعيها؛ فهذه تكمَن في ما قـدمه هؤلاء الرموز لشعوبهم وديمقراطياتهم من عظيم المكتسبات أسوةً بما قـدمه قادةُ التحرير لشعوبهم ودُولهم الحديثة الميلاد من كبير الإنجازات.
لكن الشرعية التي يتجاهلها الخطاب الليبرالي، ولم يُشِـر إليها ماكس ڤـيبر في تصنيفه، هي شرعيـة الإنجاز: الإنجازُ الذي هو مرغوبُ كلِ سياسـةٍ ومَـعْـقِدُ رهان كـلِ جمهورٍ اجتماعي مشارِك في الحياة السياسية أو مـعوِلٍ على السياسة وسيلةً لتحصيل المصالح. إن الشرعيـة الفعلية لأي سلطة ليست ذلك الرأسمال المعنوي الذي تتوكـأ عليه (المَحْـتِد والنِصاب، الجاه والهيبة، التمثيل الشعبي...)، أو هي لا تنحصر في هذه اللحظة الابتدائية التي تقوم بموجبها تلك السلطة فتصير مشروعةً في عيون الناس، وإنما الشرعية- على الحقيقة- هو ما تُـنْجِـزه لمصلحة المجتمع التي تقوم فيه وتدير أموره العامـة؛ والمُنْجَـزُ هذا رأسمالٌ مادي لأن به تُـقْـضَى المصالح وتُـتَـحصَـل الموارد. ومعنى هذا أن مفهوم الإنجاز لا يتناول صورَةَ نظام السلطة (موروثة، منتَـخَبَة، زَعاميـة...)، بل يتصل بمضمونها أشد الاتـصال.
على أن هذه الشرعيـة (= شرعية الإنجاز) ليست مطابِـقة، دائمًا -للشرعية الديمقراطية؛ فقد لا تنجح النخب الحاكمة المنتَخَبة في إنجاز شيءٍ ذي بال في البلدان التي تقوم فيها، كما أن التـنمية والتـقدم ليسا، دائمًا، حصيلة الديمقراطية حتمًا، إنما مرجعهما إلى المشروع الذي تحمله نخبةُ السلطة التي قد لا تكون أتت من طريق الاقتراع الديمقراطي. هل كانت النخب التي أنجزت تحديث روسيا وبناء الاتحاد السوڤـييتي ووضعت أسس الإقلاع التنمـوي، قبل ذلك، في يابان القرن 19، وبعد ذلك في كوريا الجنوبية وتايوان والبرازيل نخبًا سياسية خارجة من رحم صناديق الاقـتراع؟ وهل من سبيلٍ إلى الشـك في قيمة ما أنجزتْـه، أو هل من سبيل إلى الطـعن على شرعيـة السلطة القائمة في الصـين، اليوم، وعلى إنجازاتها المُـذهلة بدعـوى أنها ليست منتَـخَبَة! ما أَبْـأَس هذا الربـط الليبرالي السخـيف بين الشرعـية والديمقراطية (= الانتـخاب)!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
رئيس الوزراء يشهد احتفالية عقد من الإنجاز لبرنامج تكافل وكرامة.. ويؤكد: مستمرون في توسيع مظلة الدعم الاجتماعي
مصطفي مدبولي:
آليات لتخفيف معاناة معاقي الصم والبكم
تكريم عدد من شركاء نجاح برنامج " تكافل وكرامة
برنامج تكافل وكرامة تطور بشكل كبير حيث زاد الإنفاق وقيمة الدعم
شارك الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، في الاحتفالية التي أقيمت اليوم بمناسبة مرور 10 سنوات على انطلاق برنامج "تكافل وكرامة "، تحت عنوان ( الحماية الاجتماعية: دروس الماضي ترسم خطوات المستقبل)، وذلك بحضورالمهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء الأسبق، و نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية، وزير الصحة والسكان، وعدد من الوزراء، ووزيرة الشئون الاجتماعية بجمهورية لبنان، والمحافظين، وعدد من نواب البرلمان، ورئيس لجنة التضامن الاجتماعي والأسرة والأشخاص ذوي الإعاقة بمجلس النواب، وسفيرة الاتحاد الأوروبي في مصر، وعدد من السفراء الأوروبيين لدى القاهرة، وممثلي البنك الدولي، وممثلي وكالات الأمم المتحدة، ومسئولي عدد من المنظمات الدولية، ورئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، وعدد من رؤساء الجامعات المصرية، وشركاء نجاح البرنامج، وعدد من كبار المسئولين والإعلاميين، والشخصيات البارزة والمؤسسات الداعمة لمسيرة البرنامج خلال السنوات الماضية، ومسئولي الوزارات والجهات المعنية، وممثلي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية.
وكان في استقبال رئيس مجلس الوزراء لدى وصوله مقر الاحتفالية الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي.
وقبل بدء فعاليات الحفل، حرص الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء على التقاط صورة تذكارية جماعية مع كل من فريق عمل برنامج " تكافل وكرامة" بوزارة التضامن الاجتماعي، وفريق عمل البنك الدوليّ، والشركاء الاستراتيجيين، وعقب ذلك تم التقاط صورة أخرى تذكارية مع المهندس/ إبراهيم محلب، رئيس الوزراء الأسبق، وعدد من الوزراء الحاليين والسابقين، ومجموعة من سفراء دول العالم لدى القاهرة، وعدد من نواب البرلمان، ومجموعة أخرى من شركاء النجاح، وقد صافحهم الدكتور مصطفى مدبولي جميعا، متوجها لهم بخالص الشكر والتقدير على ما قدموه من جهود في سبيل نجاح هذا البرنامج العظيم.
وعقب ذلك، وفي أثناء توجه رئيس مجلس الوزراء إلى قاعة الاحتفالات؛ توقف للاستماع لشرح حول المنظومة الإلكترونية المرتبطة ببرنامج "تكافل وكرامة" باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، وخلال ذلك قدم أحد ذوي الهمم شرحا تحدث فيه عن الأدوات التي تم استحداثها لتخفيف الصعوبات لدى ذوي الهمم في التقدم للحصول على خدمات برنامج "تكافل وكرامة"، وذلك من خلال استخدام أساليب متطورة وميكنة تامة، ومتابعة إلكترونية لكل طلب، عبر الاستعانة بتقنية الذكاء الاصطناعي، والتي تتيح للأميين وأصحاب الإعاقة البصرية التقدم بشكوى صوتية دون حاجة للكتابة، كما يمكنهم تقديم الشكاوى من المنزل دون حاجة للتوجه لمقر تقديم الخدمة، ويتم الرد بالاحاطة بالمستندات اللازمة مع الربط مع مختلف الجهات لمتابعة الشكوى.
كما أشار لما تم من آليات لتخفيف معاناة معاقي الصم والبكم؛ حيث استحدثت الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، فكرة تدريب موظفي الوزارة القائمين على تلقي الشكاوى على لغة الصم والبكم؛ للتعامل معهم بشكل فاعل وبما ييسر التعامل مع شكاواهم، ودعا مقدم الشرح لتعميم التجربة في مقار حكومية أخرى تتعامل مع الجمهور لتلقي شكاواهم، حيث كان الصم والبكم يواجهون مشكلة حقيقية في التواصل والتعبير عن شكواهم.
وفي الوقت نفسه، تم عرض تجربة للتقدم عبر خدمة الـ "واتس آب"؛ للحصول على دعم "كرامة" لذوي الهمم من الإعاقة البصرية، وأسلوب التعامل معه بشكل سريع وفاعل.
وعقب ذلك، توجه رئيس مجلس الوزراء لقاعة الاحتفالات، للمشاركة في الفعاليات التي بدأت بعرض فيديو قصير حول إنجازات برنامج " تكافل وكرامة" خلال السنوات الماضية، وتبعه كلمة الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، التي أكدت خلالها أن برنامج "تكافل وكرامة" تم ترجمته من مجرد فكرة قبل 10 سنوات مضت إلى واقع يستفيد منه الكثير من المواطنين، برعاية ودعم القيادة السياسية، مؤكدة أن البرنامج تطور بشكل كبير حيث زاد الإنفاق وقيمة الدعم، كما تم تحسين معايير وآليات الاستهداف وتطوير أنظمة الدفع، وكذلك منظومة الشكاوى.
وفي ختام كلمتها، قدمت وزيرة التضامن الاجتماعي هدية تذكارية درعا يحمل شعار مبادرة "تكافل وكرامة" للدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء؛ تقديرا لدوره الكبير في دعم خطى البرنامج، وامتنانا لدعمه المتواصل لوزارة التضامن الاجتماعي في استكمال خطوات نجاح البرنامج، وتوسيع خدماته لصالح المستفيدين به من المواطنين.
وتبع ذلك إلقاء عدد من الكلمات للسفراء والوزراء، بدأت بكلمة/ "ستيفان جيمبرت"، المدير الإقليمي للبنك الدوليّ بمصر، ثم كلمة للسفير/ "غاريث بايلي"، سفير المملكة المتحدة في مصر، ثم كلمة السيدة/ "إيلينا بانوفا"، المنسقة المقيمة للأمم المتحدة في مصر، وتلاها كلمة/ أحمد كجوك، وزير المالية، ثم كلمة للدكتورة/ رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدوليّ، كما ألقى الدكتور خالد عبد الغفار، نائب رئيس الوزراء للتنمية البشرية، وزير الصحة والسكان، كلمة أيضا خلال فعاليات الحفل.
وعقب ذلك، قام رئيس مجلس الوزراء بتكريم عدد من شركاء نجاح برنامج " تكافل وكرامة" من ممثلي الجهات المعنية، وعدد من الأكاديميين، وممثلي بعض الجهات الدولية، وممثلي برامج الأمم المتحدة في مصر، كما كرم الدكتور مصطفى مدبولي عددا من نواب البرلمان، ورئيس لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب.
كما كرم رئيس مجلس الوزراء عددا من من الوزراء السابقين، بالإضافة إلى تكريم عدد من السادة وزراء الحكومة الحالية، وكان هناك تكريم خاص ل المهندس/ إبراهيم محلب، رئيس الوزراء الأسبق، على جهوده التي بذلها في سبيل نجاح هذا البرنامج، وتقديم الدعم اللازم له.
وقدم رئيس مجلس الوزراء الشكر لجميع المكرمين، على جهودهم التي يبذلونها في مختلف مواقعهم، مؤكدا أن الحكومة عازمة على المضي قدما في سبيل تحسين برامج الحماية الاجتماعية، وكذا مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين.