الليبرالية و«الأوليغاركية».. على طرفي نقيض
تاريخ النشر: 14th, July 2024 GMT
Your browser does not support the audio element.
في بداية هذه المناقشة يمكن طرح السؤال التالي: هل ثمة تعارض بين الليبرالية والأوليغاركية؟ والجواب: هناك من يرى أن «الليبرالية» مجرد مصطلح قد تؤمن بأهميته فئة من أبناء المجتمع، وقد لا ترى هذه الأهمية فئة أخرى، فتناقض وجهتا النظر أمر وارد بين طرفي المعادلة، وكل يراعي أو يُقَدِّرُ مصلحته في ذلك، وفي كلا الحالتين: من يؤمن ومن لا يؤمن هو خاضع لقناعة قد وصل إليها، بمعنى أن الليبرالية ليست لها أداة مادية يمكن فرضها على الواقع لتوظيفها، وجعلها مادة ملموسة تؤتي عوائد كل حين، فهي عبارة عن مجموعة مفاهيم فالحرية والمساواة التي تنادي به «الليبرالية» مجرد أحلام تدغدغ المخيلة، وتتمنى هذه المخيلة في أوقات معينة تحققها على أرض الواقع، وقد تنتكس هذه المخيلة في واقع آخر، فتضرب بكل هذه الأحلام عرض الحائط، وترى في المطالبة بها نوعا من الترف الاجتماعي، والحوار فيها هو حوار سفسطائي لا قيمة له، وعلى سبيل المثال كنت مرة أستمع إلى حوار عبر إذاعة الـ«بي بي سي» في تسعينيات القرن الماضي، وكان الحوار مع وزير الإعلام الكويتي في ذلك الوقت، ومن ضمن ما سئل عنه موقفه من الحرية الصحفية والإعلامية التي كان ينادي بها قبل أن يتولى المنصب الوزاري، فردّ -بما يعني قوله: إن للمنصب الوزاري استحقاقاته، بما معناه أنه لن يستطيع أن يتبنّى نفس أفكاره وآرائه التي كان يؤمن بها أشد الإيمان قبل أن يتولى المنصب، وهناك أمثلة كثيرة في الاتجاه ذاته، وفي المقابل صحيح أيضا أن «الأوليغاركية» مصطلح -يذهب إلى حكم الأقلية- ولكنه له قيمة مادية في واقع المجتمع، ويشار إليه بالبنان، لحقيقته الوجودية غير المنكورة، وهو فارض نفسه على واقع الناس، وله تاريخ ممتد منذ البدء، ولا يمكن إنكاره، بل ربما يتم الحرص على بقائه واستمراره، كلما سمحت الفرصة لذلك، لأنه يحقق الكثير من تحقيق الذات بين تموضعات المجتمع، والمجتمع في المقابل لا ينكر وجوده، ولا يرى فيه عبئا ثقيلا لا يمكن تحمّله، والدليل هو استمراره، ونموه، وتطور أدواته عبر التاريخ الاجتماعي الممتد، ومن يؤمن به قبل المنصب الرسمي على سبيل المثال فإنه سوف يكرسه أكثر بعد تولي المنصب، على عكس المفاهيم التي تنادي بها الليبرالية، وموقف الأفراد منها عندما تتغير أحوالهم، كما هو المثال أعلاه عند وزير الإعلام الكويتي.
السؤال الآخر: هل هناك ثمة تقارب بين مصطلح «الأوليغاركية» ومصطلح «الأيديولوجية»؟ وأيهما يخدم الآخر أو يبسط له الطرق الآمنة للاستمرار والترقي، والتنوع؟ والجواب: يمكن القول: إن الأيديولوجية من أعقد المفاهيم في صياغات المجتمع، والتفاعل الحاصل بين أركانها وموضوعاتها، ولذلك أتصور أن الحقيقة الأيديولوجية التي يؤمن بها المجتمع ولا ينكرها، فهي التي تؤسس، وتبارك الأركان التي يقوم عليها المجتمع، وقد تذهب إلى ترسيخ الإيمان بأهمية هذه الأركان، وحتى وإن كانت تربك الفهم العام، الذي يعيش في دوامة بين ما هو موجود ومؤمن له وبين ما هو مستجد، ويجب أن يأخذ طريقه نحو التطبيق، فـ«الأوليغاركية» على سبيل المثال هي حقيقة متجذرة في المجتمع، سواء عُرفت بهذا المصطلح أو لم تعرف، ويظل تطبيقها مقبولا ومتعارفا عليه، وقد يسعى البعض من أبناء المجتمعات إلى تحقيقها وإبرازها، فهي امتداد لأيديولوجية مجتمعية مؤمن بها حتى مع تجدد الأدوات، والنظم، والمفاهيم الحديثة التي تفرضها الحياة اليومية بتجددها، وشيوع المعلومة المتنقلة عبر أفق الأثير من مشارق الأرض ومغاربها، فالناس مقتنعون بذلك، ولا يتنازلون عنه بسهولة، حتى وإن ظلت بعض الممارسات المجتمعية تتصادم مع ما هو جديد، وما هو مهم، وما هو أكثر عمليا عما هو متجذر، بينما «الليبرالية» وإن كانت ليست حديثة العهد على الفهم العام إلا أنها لم تكن متداولة بالصورة التي عليها الآن، لأن الناس غارقون في أيديولوجية «الأوليغاركية» ومتعايشون معها إلى حد بعيد، على الرغم من إخفاقاتها، ولذلك فهي أي «الليبرالية» لم تحظ بالإيمان الذي يوصلها إلى مستويات الأيديولوجية، ويأتي عدم الاهتمام بها من قبل أبناء المجتمعات لأنها تعامل على أنها نوع من الترف الاجتماعي، وليس على أنها مرتكز مهم من مرتكزات الحياة الاجتماعية اليومية، ويمكن قياس ذلك حتى على مستوى الأسرة الواحدة في البيت الواحد، ففي لحظة من الصفاء الذهني يتبنّى الأب أهمية أن يشاركه أبناؤه في كثير من شؤون الأسرة، ويرى في ذلك أهمية كبيرة، سواء من حيث تحمّل المسؤولية، أو من حيث تربية الأبناء على اتخاذ القرار بحرية تامة، هذه صورة من صور «الليبرالية» ولكن في ظرف مشحون بكثير من تنازعات الذات وتجاذباتها لا يتوانى الأب في الاستحواذ على كل قرارات الأسرة، حتى في الأمر الخاص لكل فرد من أفراد الأسرة -مثال: زواج أحد الأبناء/ البنات، ويرى في تقرير مصير أحدهما من حقه، فهو الأفهم، وهو من يرى مصلحة كل واحد فيهم، فهذه صورة من صور «الأوليغاركية» فهنا تتجذر الأيديولوجية أكثر من المثال السابق، وردا على السؤال المطروح في أول الفقرة يمكن الجزم المطلق أن هناك علاقة كبيرة ومتداخلة بين «الأوليغاركية» مصطلح ومذهب، وبين «الأيديولوجية» مصطلح ومذهب، واستدراكا لهذا الفهم يمكن القول أيضا: إن الأيديولوجية المبنية على التجرد من الشهوات تظل أيديولوجية ديناميكية لا تتوقف، فغاياتها سامية، ونزعاتها ليست شخصية، ومآلاتها ليست مادية مقبوضة، بمعنى أن الأيديولوجية على الرغم من أحزمتها المتجذرة يمكن أن تعيد تشكيل ذاتها اتباعا لواقع حال الناس، ومتطلبات الحياة وتبني عليها، لأن عناصرها هي مكونات من تفاعلات الحياة اليومية، التي يقوم بها أبناء المجتمع، وليست نصوصا مقدسة لا يمكن الخوض فيها، وبالتالي فانتصارها لقناعات أبناء المجتمع بصورة حدية، ومطلقة، ولا تقبل النقاش، ففي كل أحوالها هي معيارية، ويمكن القياس عليها، وبالتالي فأمر الإيمان المطلق بها يحتاج إلى كثير من المراجعات من قبل أبناء المجتمع.
المناقشة أعلاه تتم في أجواء اجتماعية بحتة، وإن تداخل فيها المفهوم السياسي فيما يخص «المساواة» مع أن تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع هو نوع من الخرافة الذهنية، حتى وإن حرصت الأنظمة الحديثة على تحقيقها فلن تتحقق، ولو وضعت لها نظم، وآليات وإجراءات إدارية، وذلك لسبب بسيط، وهو تفشي السلطة «النخبوية» في المجتمعات، وتسلطها في كل صغيرة وكبيرة، فهذا مرض اجتماعي لا يمكن تجاوزه، لأنه تعمق بأيديولوجية مطلقة، لا يمكن الفكاك منها، حتى أولئك الذين يؤمنون بأهمية الليبرالية -كتطبيق- يظلون مأسورين للمباهج التي سوف توزعه لهم النخبوية، ويروا في ذلك الكثير من المتعة، فالخروج عن النخبوية، هو الذهاب مطلقا إلى كثير من التجرد، والحيادية، وهي مفاهيم ليس سهلا استيعابها «أولا» وليس قبولها مطلقا «ثانيا» وقد استغربت فعلا من تصرف شخص لا أشك في كلامه وموقفه -يخبرني بنفسه- أنه أتى لجهة رسمية لطلب خدمة خاصة لأحد من أفراد أسرته، فإذا به يستنجد به شخص آخر لا يعرفه ويريد الخدمة ذاتها دون أن يكون بينهما اتفاق على اللقاء في ذات اللحظة الزمنية والمكان، ولأن هذا الشخص الذي أعرفه له مكانة في المؤسسة ذاتها، وتلبية طلبه تحصيل حاصل، فقد نقل مطلب هذا الذي التقاه، متجاوزا مطلبه الخاص، وتم تحقيق ذلك، ويقينا هذا الموقف هو استثناء للقاعدة، فتسلط النخب أمر واقع ومعايش، قبل ذلك أو لم يقبل فهذه مسألة أخرى، ومن أبناء المجتمع من يبارك هذا التسلط، وذلك لتحقيق منافع ولو في حالات قليلة أو استثنائية، فـ «المجتمع المدني أيضا مستعمر من قبل الفصائل النخبوية ...» كما يقول مؤلف كتاب: متلازمات الفساد (الثروة والسلطة والديمقراطية).
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أبناء المجتمع لا یمکن فی ذلک
إقرأ أيضاً:
بعد إعلان ترامب نهاية الحرب.. كيف يمكن أن تُغير 14 قنبلة الشرق الأوسط؟
تناول تقرير في مجلة "الإيكونوميست" إعلان ترامب وقف الحرب بين إسرائيل وإيران بعد غارات أمريكية استهدفت منشآت نووية إيرانية، واصفًا إياها بـ"حرب الأيام الـ12". ورغم إعلان وقف إطلاق النار، يبقى مستقبل البرنامج النووي الإيراني، واستقرار الشرق الأوسط، والتزام الأطراف بالهدنة، محل شك وترقّب.
وقالت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي 21"، أن الرئيس دونالد ترامب أراد للعالم أن يصدّق أنه "جاء وقصف وأنهى الحرب". فبعد يومين فقط من قيام قاذفات أمريكية شبحية بضرب منشآت نووية إيرانية مدفونة بعمق، أعلن ترامب عن وقف "كامل وتام" لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران. وكتب على منصة "تروث": "أود أن أهنئ البلدين، إسرائيل وإيران، على امتلاكهما الصبر والشجاعة والذكاء لإنهاء ما يجب أن يُسمى بـ"حرب الاثني عشر يوما"".
وأضافت المجلة أن تقارير أفادت أن ترامب حصل أولاً على موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار، وأرسل المقترح إلى إيران عبر قطر، بحيث توقف إيران الهجمات أولًا، ثم إسرائيل بعد 12 ساعة. ورغم نفي إيران وجود اتفاق رسمي، أعلنت استعدادها للتوقف إذا فعلت إسرائيل، لكن مع انتهاء المهلة، قُتل ثلاثة إسرائيليين بصواريخ إيرانية، في ما يُرجح أنه هجوم أخير رمزي.
وجاء الإعلان الأخير ضمن سلسلة تطورات مفاجئة منذ أن شنت إسرائيل هجومًا مفاجئًا على إيران في 13 حزيران/ يونيو، استهدفت فيه الدفاعات الجوية الإيرانية، واغتالت علماء نوويين وقادة عسكريين، وبدأت بتدمير برنامج نووي متشعب.
وفي 22 حزيران/ يونيو، تدخلت الولايات المتحدة عبر عملية "مطرقة منتصف الليل"؛ حيث أسقطت قاذفات بي-2 أربعة عشر قنبلة خارقة للتحصينات على مواقع تخصيب اليورانيوم في نطنز وفوردو، بينما ضربت نحو ثلاثين صاروخ توماهوك منشآت نووية في أصفهان.
وبينت المجلة أن إيران ردّت في اليوم التالي بهجوم رمزي، إذ أطلقت 14 صاروخًا، بعدد القنابل الأمريكية، على قاعدة العديد الجوية في قطر. وقد تم اعتراض جميع الصواريخ باستثناء واحد، ولم يُصب أحد بأذى بفضل التحذير المسبق الذي أرسلته إيران، بحسب ما أعلن الرئيس الأمريكي. وبعد ذلك بساعتين، أعلن ترامب وقف إطلاق النار.
وطرحت المجلة ثلاثة تساؤلات رئيسية:
هل يمكن للهدنة أن تصمد؟
هل سيكون هناك اتفاق دبلوماسي لاحق للحد من البرنامج النووي الإيراني؟
هل سيصبح الشرق الأوسط أكثر استقرارًا بعد هذه الحرب؟
وأشارت المجلة إلى أن إيران وإسرائيل لم تؤكدا رسميًا وقف القتال، لكن كليهما لديه دوافع للتهدئة. فالنظام الإيراني، رغم شعاراته المعادية لأمريكا، تجنب لعقود المواجهة المباشرة مفضلًا الاعتماد على الميليشيات والدبلوماسية. ومع ضعف حلفائه في المنطقة وتراجع شعبيته ودخول واشنطن على خط المواجهة، فقد يفضّل الآن احتواء الخسائر.
أما بالنسبة لإسرائيل، فمن غير المرجح أن يخالف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ترامب بعد إشادته بتدخله العسكري الحاسم، خاصة أن مصادر عسكرية إسرائيلية ترى أن معظم الأهداف قد تم تدميرها.
واعتبر بعضهم أن إسرائيل قد تعلن النصر وتوقف هجماتها حتى دون اتفاق رسمي، إذ يرى نتنياهو أن ما تحقق يمثل انتصارًا تاريخيًا. ومن جانبه، يسعى ترامب لإنهاء الحرب بسرعة لتأكيد وعده بعدم توريط أمريكا في "حروب أبدية" كتلك التي خاضتها في العراق وأفغانستان.
وأفادت المجلة أن إيران، رغم الضربات، لن تتخلى عن معرفتها النووية، وقد يسعى المرشد الأعلى لاستئناف البرنامج سرًا لضمان بقاء النظام، مؤكدًا أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تجهل مكان 400 كيلو غرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمائة.
وتابعت، "إذا كانت إيران قد أخفت أجهزة الطرد المركزي للتخصيب، فيمكنها صنع مواد انشطارية صالحة للاستخدام في الأسلحة بسرعة نسبية، وهذه الكمية تكفي لصنع 10 قنابل".
وقالت المجلة إن الاتفاق النووي الذي وقعه الرئيس أوباما سنة 2015 منح إيران برنامج تخصيب محدودًا تحت رقابة دولية، بهدف منعها من الحصول على ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة لمدة سنة تقريبًا. لكن ترامب انسحب من الاتفاقية في ولايته الأولى، وقُبيل الهجوم الإسرائيلي، كانت إيران على بُعد أيام أو أسابيع من "الاختراق النووي"، وسط تقارير استخباراتية تفيد بأنها بدأت العمل على تسريع تصنيع رأس نووي يصلح للصواريخ.
وذكرت الصحيفة أن الرئيس ترامب طالب في مفاوضاته الأخيرة مع إيران باتفاق يقترب من "صفر تخصيب"، مشيرةً إلى أن مبعوثه الخاص، ستيف ويتكوف، اقترح صفقة تحفظ ماء الوجه تتيح لإيران تخصيب اليورانيوم ضمن اتحاد إقليمي خارج أراضيها. وليس من الواضح إذا كان هذا الاتفاق لا يزال مطروحًا على الطاولة، أو ما إذا كانت إيران أو إسرائيل ستوافقان عليه.
ولفتت الصحيفة إلى أن استقرار المنطقة يظل موضع شك ما دام النظام الثوري في طهران قائمًا. فإذا كشفت إسرائيل برنامجًا نوويًا سريًا، فقد تتحرك مجددًا حتى دون دعم أمريكي، وستطالب أيضًا بقيود على تسليح إيران ودعمها للميليشيات بعد سنة من المواجهات مع حلفائها ووكلائها في المنطقة.
وتابعت الصحيفة أن بعض الأوساط في إسرائيل وأمريكا يعتقدون أن استقرار المنطقة يتطلب سقوط خامنئي. فإسرائيل استهدفت سجن إيفين ومقر الباسيج لتقويض أدوات القمع، لكن دعواتها للانتفاضة لم تلقَ استجابة وسط القصف. ولكن إذا توقفت الحرب، فقد تظهر ردود فعل داخلية ضد النظام. وحتى ذلك الحين، سيزيد اعتماد إسرائيل وحلفاؤها العرب على الدعم الأمريكي بضمان أمن المنطقة.
واختتمت المجلة تقريرها بالإشارة إلى أن عملية "مطرقة منتصف الليل" أبرزت الدور الحاسم للولايات المتحدة في النزاع، رغم تنامي الدعوات داخل إدارة ترامب للحد من تدخلها العالمي والتركيز على مواجهة الصين، مشددة على أن التدخل العسكري والهدنة المعلنة لا يشكلان حتى الآن سلامًا دائمًا في المنطقة.