في خضم التوتر المتصاعد بين واشنطن وطهران، جاءت الضربات الجوية الأمريكية الأخيرة، التي نُفّذت بواسطة القاذفات الاستراتيجية «بي-2»، وكأنها محاولة لإثبات الحضور أكثر منها وسيلة فعّالة لتحقيق اختراق استراتيجي في الملف النووي الإيراني.

فالتسريبات الصادرة عن أجهزة الاستخبارات الأمريكية والتي سارع كل من ترامب ونتنياهو إلى نفيها تشير بوضوح إلى أن هذه الضربات لم تؤدِّ إلا إلى تأخير محدود للبرنامج النووي الإيراني لا يتجاوز عدة أشهر.

وقد أكّدت مجلة الشؤون الخارجية (فورن أفيرز) هذه التقديرات، مشيرة إلى أن الضربات استهدفت مداخل المنشآت النووية الثلاثة، وليس البنية التحتية الحيوية المتصلة بأجهزة الطرد المركزي أو مخازن اليورانيوم المخصب بنسبة 60%.

صور الأقمار الصناعية التي تم تحليلها بعد الضربة، لم تُظهر سوى حفر عميقة في الأرض، دون أي مؤشرات على تدمير جوهري للبنية النووية، ومعظم الأضرار التي رُصدت كانت في مناطق خدمية مثل مواقف سيارات العاملين، ملاعب كرة القدم والتنس، كافتيريات الإعاشة، وبعض مداخل المجمعات الواقعة على أطراف الجبال، وهي أماكن يسهل على إيران إصلاحها باستخدام جرافات ومعدات ثقيلة خلال أيام معدودة.

الهدف: سياسي أكثر منه عسكري

الضربة الأمريكية، بكل تفاصيلها، بدت أقرب إلى عرض سياسي إعلامي منها إلى عملية عسكرية محسومة النتائج. أرادت واشنطن أن ترسل رسالة بأنها قادرة على التحرك، دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة وشاملة لا ترغب فيها في هذا التوقيت الحرج، كما أن توظيف الضربة في الإعلام أعطى للرأي العام الأمريكي والإقليمي انطباعًا بأن هناك «حزمًا» تجاه طهران، رغم أن الأثر الحقيقي كان محدودًا للغاية.

الجغرافيا تقاوم التكنولوجيا

العامل التضاريسي لعب الدور الأبرز في امتصاص الصدمة، فالمنشآت الإيرانية، وعلى رأسها منشأة «فوردو»، شُيّدت داخل الجبال، على عمق يصل إلى تسعين مترًا تحت الصخور الصلبة، مما يجعل قصفها المباشر أمرًا بالغ الصعوبة. وحتى القنابل الخارقة للتحصينات التي تستخدمها القاذفات «بي-2» لا تستطيع تدمير تلك المنشآت دون خسائر جانبية جسيمة ومجازفة إقليمية غير محسوبة.

تؤكد هذه الحقيقة أن الجغرافيا، رغم كل ما يقال عن تراجع دورها في الحروب الحديثة، ما زالت عنصرًا حاسمًا في معادلات القوة. فالموقع، والعمق، والبناء تحت الأرض، كلها عناصر تُعيد تعريف حدود الحرب، وتجعل من السهل تدمير سطح المنشأة، لكن من المستحيل اقتلاع قلبها.

إيران تراقب وتستفيد من صمتها.

على الجانب الإيراني، جاء الرد محسوبًا بدقة. لم تسعَ طهران لتكذيب الرواية الأمريكية أو التقليل من شأن الضربات، بل تركت التصريحات الغربية تتضخم دون تدخل. هذه الاستراتيجية الذكية تسمح لها بكسب وقت إضافي، وتوهم خصومها بأن تقدمها النووي قد تعثّر، مما يقلل من وتيرة الضغط السياسي والعسكري عليها.

إنه نوع من الخداع الاستراتيجي الهادئ، تبرع فيه طهران: أن تترك خصمك يعتقد أنه أوقفك، بينما أنت تواصل العمل في الظل.

أخيرًا: الضربة التي أعادت للجغرافيا هيبتها.

لم تُسقط الضربات الأمريكية أجهزة طرد مركزي، ولم تُدمّر مخازن اليورانيوم المخصب، ولم تغيّر معادلة الردع. كل ما خلفته هو حفَر في الطرق الجبلية، وبعض الأبنية الجانبية التي يمكن تعويضها بسرعة.

لكن الأهم أنها أعادت تسليط الضوء على قوة الجغرافيا، وأظهرت كيف أن التضاريس - من الجبال إلى عمق الصخور - يمكن أن تحسم معركة قبل أن تبدأ.

في زمن الأقمار الصناعية والصواريخ الذكية، ما تزال الأرض قادرة على الدفاع عن نفسها حين تُبنى التحصينات بفكر استراتيجي طويل الأمد.

في النهاية، قد تحمل الجغرافيا في صمتها ما لا تستطيع القاذفات أن تحققه في ضجيجها.. .، !!

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.. ، !! [email protected]

اقرأ أيضاًبعد إعلان إسرائيل اغتياله.. قائد فيلق القدس يظهر في احتفالات النصر بطهران «فيديو»

الرئيس الإيراني في اتصال مع أمير قطر: طهران تسعى لتوسيع علاقاتها الأخوية مع الدوحة

وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجار غرب طهران وتفعيل الدفاعات الجوية

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: ترامب إيران الملف النووي الإيراني نتنياهو النووي الإيراني الضربات الأمريكية الضربات الجوية الأمريكية ترامب ونتنياهو الضربة الأمريكية واشنطن وطهران منشأة فوردو

إقرأ أيضاً:

وزير الإعلام اليمني : التطورات الأخيرة أكدت عجز النظام الإيراني وسقوط وهم القوة الإقليمية


عدن (الجمهورية اليمنية) - أكد وزير الإعلام والثقافة والسياحة اليمني  معمر الإرياني، أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة كشفت بوضوح عن عجز النظام الإيراني، الذي استنزف مقدرات شعبه لصناعة "وهم القوة الإقليمية"، عن حماية منشآته الاستراتيجية ورموزه العسكرية، وفقا لـ(سبأ) الشرعية.

وأوضح معمر الإرياني في تصريح صحفي، أن إيران بدت عاجزة حتى عن حماية منشآتها النووية ومراكز أبحاثها، وأن أذرعها في المنطقة، بما فيها مليشيا الحوثي وحزب الله، لم تكن سوى واجهات هشة لمشروع يترنح في الداخل، ويخسر أوراقه واحدة تلو الأخرى.

وأضاف الإرياني "أن هذه التطورات تؤكد حقيقة حاول النظام الإيراني إخفاءها على مدار سنوات، وهي هشاشته الميدانية وانكشافه العسكري.. مشيرا إلى أن الضربات الدقيقة التي استهدفت منشآت حيوية وأسفرت عن مقتل قيادات من الصف الأول وعلماء نوويين، قد أظهرت عجز إيران عن حماية عمقها الاستراتيجي.

وقال الإرياني "ما جرى ليس مجرد خسائر تكتيكية، بل هو حصاد أربعة عقود من السياسات القمعية في الداخل، والعدائية تجاه محيطه العربي".. مشيرا إلى أن هذه المرحلة تمثل انهيارا كاملا لمنظومة الدعاية الإيرانية التي سعى النظام على مدار عقود لتسويقها، من "قوة الردع" و"الثأر الحتمي" إلى وهم "السيادة" و"الهيبة الإقليمية"، وفصلا جديدا من مراحل سقوط النظام الإيراني وأدواته الإجرامية في المنطقة".

ولفت الإرياني إلى أن ما جرى لم يكن مفاجئا، بل هو نتيجة طبيعية لمسار طويل من القمع والاستبداد والفساد، وتبديد الثروات في تمويل الميليشيات ونشر الفوضى والإرهاب، فضلاً عن المتاجرة بالقضية الفلسطينية التي لم تكن يوما سوى ذريعة لتبرير التدخلات في شؤون دول المنطقة وبناء الأذرع المسلحة.

وفي ختام تصريحه، أكد الإرياني أن ما جرى يمثل رسالة صارخة لكل من راهن على هذا النظام المارق الذي لا يملك من أدوات البقاء سوى الخراب، ولا من أوراق التأثير سوى الدم والدمار" بأن زمن الابتزاز السياسي والمزايدات الشعاراتية قد ولى، مشددا على أن "العالم بات على قناعة تامة بخطر هذا النظام، وأن أمن واستقرار المنطقة لا يمكن أن يتحققا في ظل وجوده وما تبقى من أذرعه في المنطقة".

مقالات مشابهة

  • إيران تعلن حجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية جراء الضربات الأمريكية
  • البيت الأبيض ينفي نقل إيران لليوارنيوم المخصب قبل الضربات الأمريكية
  • الخارجية الإيرانية: المنشآت النووية تضررت بشدة بسبب الضربات الأمريكية
  • الكرملين: القرار الإيراني بتعليق التعاون مع وكالة الطاقة الذرية «أمر مفهوم» بعد الضربات الأمريكية
  • جروسي: لا نعلم مكان اليورانيوم الإيراني بعد الضربات الأمريكية
  • البيت الأبيض ينفي تقارير فشل الضربات الأمريكية في تدمير النووي الإيراني
  • تقرير استخباراتي سري: الضربات الأمريكية لم تدمر البرنامج النووي الإيراني
  • صدمة لترامب.. الاستخبارات الأمريكية: المنشآت النووية الإيرانية لم تدمر
  • وزير الإعلام اليمني : التطورات الأخيرة أكدت عجز النظام الإيراني وسقوط وهم القوة الإقليمية