في عالمٍ تتزايد فيه التحديات المتعلقة بالأمن الغذائي والضغوط الاقتصادية، لم تعد الزراعة مجرّد نشاط تقليدي، بل غدت محورًا استراتيجيًا للنمو والتنمية المستدامة، خاصة في دول مثل مصر التي تجمع بين الموارد الطبيعية والطاقات البشرية. غير أن الزراعة في مصر، ورغم عراقتها، لا تزال رهينة أنماط إنتاجية تقليدية لا تواكب متغيرات العصر ولا تستغل كامل القيمة الكامنة في كل حبة قمح أو ثمرة طماطم.

من هنا تبرز الحاجة إلى التفكير في الزراعة ليس بوصفها مجرد إنتاج للمحاصيل، بل كنظام متكامل يُعرف بـ”سلاسل القيمة الزراعية”.

سلاسل القيمة الزراعية تعني ببساطة أن ننظر إلى كل خطوة في الرحلة التي يقطعها المنتج الزراعي — من البذرة إلى المائدة — باعتبارها فرصة لتعظيم القيمة الاقتصادية والاجتماعية. حين يُزرع المحصول بكفاءة، ويُجمع في الوقت المناسب، ويُنقل ويُخزن ويُعالج ويُسوّق بطرق ذكية، فإننا لا نحصل فقط على طعام أكثر، بل على اقتصاد أقوى، ومزارع أغنى، ومستقبل أكثر أمنًا. وفي السياق المصري، هذه الرؤية ليست رفاهية، بل ضرورة.

رغم وفرة الموارد الزراعية وتنوع المحاصيل في مصر، إلا أن هناك فجوة كبيرة بين الإمكانيات المتاحة والنتائج المحققة فعليًا. كثير من المحاصيل، خصوصًا سريعة التلف، تُفقد في الطريق بسبب ضعف شبكات النقل والتبريد. الفلاحون غالبًا ما يبيعون منتجاتهم بسعر لا يعكس جهدهم، في ظل غياب أسواق منظمة أو عقود عادلة. على الجانب الآخر، تفتقر العديد من المناطق إلى مصانع صغيرة لتحويل المنتجات الزراعية إلى سلع جاهزة أو شبه جاهزة، مما يُهدر فرصًا هائلة للقيمة المضافة.

ومن واقع هذا التحدي، فإن تطوير سلاسل القيمة الزراعية يتطلب نهجًا متكاملاً. لا يكفي تحسين الإنتاج فقط، بل يجب أن يترافق ذلك مع تحديث البنية التحتية من طرق ومراكز تبريد، وإنشاء شبكات تسويق ذكية تضمن استقرار الأسعار وربط المنتج بالمستهلك مباشرة. كذلك، لا بد من إدماج التكنولوجيا الحديثة في الزراعة — من الزراعة الدقيقة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالإنتاج والمخاطر. ولا يقل أهمية عن ذلك تمكين التعاونيات الزراعية، التي تمثل حلاً فعالًا لدمج صغار المزارعين في سلسلة القيمة.

من وجهة نظري الشخصية، أرى أن الحل يبدأ من إرادة سياسية واضحة تتبنى مشروعًا وطنيًا لسلاسل القيمة الزراعية، يدمج بين وزارات الزراعة، التجارة، والنقل، ويمنح القطاع الخاص والمجتمع المدني دورًا قياديًا. كذلك أقترح البدء في مشروع تجريبي نموذجي في إحدى المحافظات، يشمل الزراعة والتجهيز والتسويق، كنموذج يحتذى به. الاستثمار في المعرفة لا يقل أهمية، فالتدريب المستمر للفلاحين على طرق الزراعة الحديثة والتخزين والتسويق أمر لا يمكن تأجيله.

ما سيحدث بعد ذلك ليس فقط تحسنًا في كمية الإنتاج، بل في نوعيته وجدواه الاقتصادية. فعندما نُحسن استخدام كل جزء من سلسلة القيمة، نقلل من الفاقد، ونخلق فرص عمل جديدة، ونعزز قدرتنا على التصدير، بل ونبني نموذجًا زراعيًا قادرًا على الصمود في وجه التغيرات المناخية والاقتصادية. وهذا ما يجعل تطوير سلاسل القيمة الزراعية أحد أهم مفاتيح المستقبل لمصر، ليس فقط كبلد زراعي، بل كقوة غذائية واقتصادية في المنطقة.

طباعة شارك الزراعة الموارد الطبيعية سلاسل القيمة الزراعية

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الزراعة الموارد الطبيعية سلاسل القيمة الزراعية سلاسل القیمة الزراعیة

إقرأ أيضاً:

الأنثروبوتس.. خلايا بشرية تصنع روبوتا حيا لا يشبه الإنسان

تعودت مجموعة من العازفين المخضرمين على عزف لحن معين لسنوات في أحد المسارح تحت قيادة قائد الأوركسترا، لكن عندما عزفوا في مسرح مختلف، ومن دون قائد أوركسترا، بدؤوا يعزفون لحنا مختلفا، لم يتدربوا عليه من قبل، لكنه كان مخزونا في ذاكرتهم القديمة.

هذا السيناريو التخيلي هو بالضبط ما حدث عندما قرر باحثون من جامعة تافتس الأميركية منح خلايا بشرية فرصة "إعادة اكتشاف نفسها" في بيئة جديدة، فكانت النتيجة مدهشة، وهي ميلاد كيانات أو كائنات مجهرية أطلقوا على الواحد منها اسم "أنثروبوت"، وهو الإنجاز الذي كشفت جيزيم غوموسكايا من مركز ألين للاكتشافات بجامعة تافتس والباحثة الرئيسية بالدراسة، عن تفاصيله في تصريحات خاصة للجزيرة نت.

وينشأ كل إنسان من خلية واحدة، تنقسم وتتشكل وتتنوع في الوظائف، لتبني الأنسجة والأعضاء والأطراف، وأعاد هذا المخطط نفسه مليارات المرات عبر الأجيال وبتكرار شبه مثالي، لمدة تزيد على 300 ألف عام.

وعمل الباحثون بجامعة تافتس في دراسات سابقة على فهم "شفرة البناء" التي تجعل الخلايا الفردية تخلق شكل هذا الجسم البشري، وذلك في سعيهم لدفع حدود الطب التجديدي، لكنهم في الدراسة الجديدة المنشورة بدورية "أدفانسد ساينس"، ذهبوا إلى أبعد من ذلك، وهو استخدام الخلايا البشرية لصنع ما يشبه كائنات بأشكال وقدرات غير مألوفة، وكل ذلك دون تعديل جيني.

كلمة "أنثروبوت" هي مزيج من كلمات تعني "إنساني" و"روبوتي"، بمعنى أن الخلايا البشرية، مع وضعها في بيئة مختلفة تماما، بدت كأنها كائنات مختلفة اتخذت برمجة مغايرة عن برنامجها المعتاد.

3 أمثلة على روبوتات أنثروبوتس ذات أهداب تشبه الشعر باللون الأصفر (جيزيم غوموسكايا) البداية من خلايا القصبة الهوائية

وللوصول إلى هذه الكائنات المجهرية الفريدة من نوعها، يكشف بيان صحفي صادر عن الجامعة، كيف قام الباحثون باختيار خلايا بشرية بالغة مأخوذة من القصبة الهوائية (الخلايا المهدبة المسؤولة عن تنظيف المجاري التنفسية)، وبدلا من زرع الخلايا على طبق نمو تقليدي، تم توفير بيئة ثلاثية الأبعاد تُشجع الخلايا على التجميع بطريقة غير معتادة، دون إجبارها على شكل معين، وراقب الفريق كيف بدأت الخلايا تتجمع تلقائيا لتشكل كائنات مجهرية.

إعلان

ووجد الباحثون أن بعض هذه الكائنات المجهرية كانت كروية الشكل، وبعضها ممدود، وبعضها مغطى بأهداب جعلتها تتحرك كأنها تسبح، والبعض الآخر أظهرت قدرة على التئام الجروح إذا تم شقها، وبدا الأمر كما لو أن الباحثين منحوا الخلايا الحرية لأول مرة، فبدأت تُعيد اكتشاف قدراتها.

وعند تحليل الخلايا داخل مجموعات "الأنثروبوتس"، اكتشف الباحثون أنها أعادت تنشيط أكثر من 9 آلاف جين، بما في ذلك، جينات قديمة جدا ومشتركة مع كائنات وحيدة الخلية، وجينات جنينية مرتبطة بتكوين الطبقات الجنينية والتناسق.

وتقول جيزيم غوموسكايا الباحثة الرئيسية بالدراسة للجزيرة نت: "لم يعتمد الأمر على التلاعب بالجينات، بل على إعادة ترتيب الخلايا نفسها، فعندما تم أخذ خلايا من القصبة الهوائية للإنسان وفصلها ثم السماح لها بإعادة بناء نفسها في شكل جديد، بدأت تلك الخلايا في تنشيط أكثر من 9 آلاف جين، كثير منها كان خاملاً في حالتها الأصلية".

وتضيف: "نعتقد أن هذا التحول ناتج عن تغيرات في طريقة تفاعل الخلايا مع بعضها البعض، بالإضافة إلى التغير في شكلها والبيئة المحيطة بها، وهي ظروف تذكرنا بما يحدث أثناء التئام الجروح أو في مراحل التطور الجنيني المبكر".

وترجح أن هذه الآلية يمكن تعميمها على أنواع أخرى من الخلايا، ما دام المبدأ هو أن "الشكل والسياق يؤثران في سلوك الجينات".

كائنات "الأنثروبوتس" أصغر بيولوجيا من الخلايا البالغة التي تتكون منها (جيزيم غوموسكايا) البصمة الوراثية للخلايا

اللافت أكثر، أن الباحثين قاسوا "العمر البيولوجي" للخلايا، وهو ما يُعرف بالبصمة الوراثية ووجدوا أن الخلايا التي أتت من شاب عمره 21 عاما، كانت تُعادل 25 عاما من حيث العمر البيولوجي، لكن بعد تحولها إلى "أنثروبوت"، انخفض عمرها إلى 18.7 سنة فقط.

وتقول غوموسكايا "يبدو أن إعادة تنظيم الخلايا في شكل جديد، يخلق ظروفا توهمها بأنها تبدأ من الصفر، فتبدأ آليات تجديد الشباب بالعمل من تلقاء نفسها، وهذا يعني أن مجرد تغيير الشكل والتنظيم قد يعيد عقارب الساعة البيولوجية للخلف".

ولم يكتف الباحثون بذلك، بل رصدوا السلوك والوظائف لكائنات الأنثروبوتس، وسجلوا قدرتها على الحركة الذاتية، والتئام الجروح، والتنظيم الداخلي المستقل.

ويرجح الباحثون أن العودة البيولوجية للوراء ناتجة عن إشارات ميكانيكية وتواصل بين الخلايا يجعلها تشعر كأنها في بداية جديدة، فيبدأ برنامج "تجديد الخلية" بالعمل تلقائيا، دون أي تدخل خارجي.

ولاحظ الباحثون أن الأنثروبوتس تتصرف بطريقة مختلفة حسب شكلها الخارجي، حيث أظهرت الكائنات الكروية سلوكا حركيا يختلف عن الأنواع الممدودة.

وتقول: "هذا يشير إلى أن البنية ثلاثية الأبعاد بحد ذاتها، حتى دون تغييرات جينية، يمكن أن تُطلق سلوكيات جديدة مثل الحركة والشفاء الذاتي، مما يؤكد أن "الشكل له سلطة على الجينات".

نحو تطبيقات واعدة

ورغم أن هذه الكائنات لا تزال في بيئات مختبرية، فإن الفريق البحثي يرى آفاقا علاجية في المستقبل.

وتوضح غوموسكايا: "ما يميز كائنات الأنثروبوتس هو أنها مصنوعة من خلايا الشخص نفسه، دون مواد غريبة، لذا من المحتمل أن تكون آمنة مناعيا، ونطمح لاستخدامها مستقبلاً كروبوتات حية تقوم بتوصيل الأدوية، إصلاح الأعصاب، أو تنظيف الأنسجة من الخلايا الميتة".

إعلان

ولا ينوي الفريق التوقف عند هذه المرحلة، وتختم الباحثة: "نخطط لاختبار خلايا جديدة مثل خلايا العضلات والجلد والدم، كما سنقوم بتجربة الأنثروبوتس في بيئات ثلاثية الأبعاد وداخل كائنات حية، لنرى مدى قدرتها على العمل والتفاعل بفعالية".

مقالات مشابهة

  • قيادي بـ مستقبل وطن: جذب الاستثمارات يؤكد نجاح رؤية مصر الاقتصادية
  • رئيس مركز البحوث الزراعية يبحث مع نائب مدير الايكاردا تعزيز التعاون
  • رئيس قطاع الإرشاد الزراعي يشارك في جلسة نقاشية حول تطوير التكنولوجيات الزراعية
  • رئيس مركز البحوث الزراعية يبحث مع نائب مدير «الإيكاردا» تعزيز التعاون المشترك
  • هاني من مصلحة زراعة بعلبك: الزراعة هي الحجر الأساس للأمن الغذائي الوطني
  • تجديد اعتماد المركزي لمتبقيات المبيدات لتحليل الصادرات الزراعية إلى إندونيسيا
  • الزراعة: تجديد اعتماد «المركزي لمتبقيات المبيدات» لتحليل الصادرات الزراعية المصرية إلى إندونيسيا
  • وزير الزراعة السوري يتابع امتحانات طلاب دمشق الزراعية
  • الأنثروبوتس.. خلايا بشرية تصنع روبوتا حيا لا يشبه الإنسان