أثر العلوم الإنسانية في فتاوى محمد البهي العقدية
تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT
تحدثنا في مقالنا السابق عن ارتكاز الدكتور محمد البهي في فتاويه على العلوم الإنسانية، وكيف اتخذها دليلا يعضد به الدليل النصي، سواء في التحريم أو الإباحة، وكيف يفسر بعض النصوص الدينية بآليات التفسير المعهودة لدى العلماء، وزاد عليها بأن استند للعلوم الإنسانية في تفسير بعض النصوص.
وهذا الاستناد لم يغب عن الشيخ البهي في معظم فتاواه، سواء كانت الفتاوى متعلقة بالعقيدة، أم بالتقاليد، أم بالقضايا الاجتماعية كالزواج والطلاق والعمل، وغيرها، ونتناول في مقالنا هذا أثر العلوم الإنسانية في فتاويه المتعلقة بالعقيدة.
وقد أطلق البهي على فتاوى العقيدة عنوان: "في دائرة الألوهية والواجبات الدينية"، وقد كان أصدر من قبل كتابا جديدا لم يسبق إليه في عنوانه، وهو: الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي، وقصد بذلك تناول الفلسفة والفلاسفة لقسم الإلهيات، وما يتعلق بوجود الله تعالى.
حساب الله للإنسان على كفره أو على هدايته وإيمانه لأنه استجاب باختياره للإيمان.. أو لأنه لم يستجب باختياره فظل على كفره وضلاله، فهو له إرادة في كلتا الحالتين، بجانب إرادة الله جل شأنه
القضاء والقدر وإرادة الله والإنسانمن أكثر المسائل العقدية إشكالا، وأسئلة، في عصرنا الحديث ومن قبل، قضية القضاء والقدر، وهل للإنسان إرادة فيما أراده الله عز وجل، أم أنه مجبر عليها، ولا اختيار له فيها، وكيف تلتقي إرادة الله وعبده في فعل ما؟ وقد أجاب البهي عن هذا السؤال في أكثر من موضع من كتابه: (رأي الدين بين السائل والمجيب)، تارة بالتفصيل، وتارة بالإيجاز، وفي كلتا الإجابتين لم تخل عباراته من الوضوح، والإقناع.
يقول البهي مبينا كيف خلق الله الإنسان: "الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على وضع خاص.. خلقه من بدن، ومن عقل.. خلقه من بدن تتكفل به الغرائز وهي مصادر الشهوة والهوى في الإنسان، وخلقه من عقل يتكفل به سمعه وبصره وإدراكه.
وجعل بين الطرفين في تركيب الإنسان أو في طبيعته صراعا خفيا. فبينما الغرائز تدفع الإنسان في غير شعور، إذا بالعقل يحاول وقف اندفاع الغرائز ويحاول توجيهها. والإنسان إذن فيه مصدر الحركة، وهو الغرائز.. ومصدر القيادة والتوجيه وهو العقل أو الإدراك. وكلما كانت الغرائز قوية كانت مهمة العقل أصعب.. وكان الصراع بين الطرفين أشد.
وإذا كانت للإنسان قيادة ذاتية، ممثلة في العقل، فله إرادة واختيار، والإرادة هي الظاهرة المميزة للإنسان. والإنسان إذن هو صاحب مشيئة، واختيار، وإرادة، كما هو صاحب حركة ذاتية، يسعى في الأرض، ويتفكر في خلق السماوات والأرض، ويختار السبيل الذي يرضاه: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون" (الأنعام: 125).
ثم يبين البهي الفرق بين إرادة الله، وإرادة الإنسان، وفي أي مساحة يلتقيان أو يفترقان، فيقول: "فلله إرادة في إيمان المؤمن وفي ضلاله.. وللإنسان كذلك اختيار في إيمانه وفي ضلاله، فأما إرادة الله فهي مساعدة من يهتدي بإرادته على إنجاز هدايته بأن يشرح صدره للإسلام: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام.."، وأما إرادة الإنسان فهي في إنجازه للهداية على ضوء انشراح صدره من الله لها.
وأما إرادة الله في ضلال من يكفر فهي أن يجعل صدره ضيقا حرجا: "ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء". وإرادة الكافر لكفره تتمثل في أن يضيق صدره بما يذكر الله ولا يرى إشعاع هدايته، فيظل في ظلام الضلال والحيرة.
وحساب الله للإنسان على كفره أو على هدايته وإيمانه لأنه استجاب باختياره للإيمان.. أو لأنه لم يستجب باختياره فظل على كفره وضلاله، فهو له إرادة في كلتا الحالتين، بجانب إرادة الله جل شأنه".
العلاج بالقرآن من الأحلام المزعجةسُئل البهي عن طالب بإحدى المدارس الإعدادية ينسى كثيرا، ويحلم أحلاما مزعجة مع أنه يقرأ آيات قرآنية قبل نومه، فماذا يصنع؟
وقد انتشر وقت سؤال البهي، ما عرف بالعلاج بالقرآن، فبين البهي أن وظيفة القرآن الأولى هي هداية الناس إلى الطريق المستقيم في السلوك، وهي تجنب الناس الانحراف فيما يصدر عنهم من معاملات وأفعال، ومواقف. قال تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا. وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما" (الإسراء: 9-10).
وليس من أهداف القرآن أن يتخذ وقاية من مرض عضوي، أو علاجا من خلل في الأجهزة العضوية للبدن، نعم قد تحدث كتاب الله فوصف نفسه بأنه شفاء، في قوله تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء" (الإسراء: 82)، ولكنه شفاء للنفوس من الحيرة والضلال، والقلق والاضطراب الناشئين عن عدم الهداية إلى الصراط السوي، هو شفاء للصدور من الأحقاد والبغض للآخرين: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور" (يونس: 57).
فالقرآن بهدايته إلى الطريق المستقيم، والطريق التي هي أقوم، يشفي النفوس المريضة بالضلال، ولكنه لا يشفي الأبدان من أمراض جسدية تصيبها. نعم إذا شفيت النفوس المريضة بالضلال فإن شفاءها عن طريق اتباعها لهداية الله سيؤثر تأثيرا إيجابيا على أبدانها، في طاقتها على التحمل والصبر على المكاره، وفي مواجهة الأزمات.
ونصح البهي أن يعرض أهل المريض مريضهم على طبيب بشري أو نفسي لعلاجه، وأن يظل على تلاوته للقرآن، وأن يعتقد: أن شفاء القرآن بهدايته، هو شفاء للأمراض الاجتماعية بين الناس، وشفاء لأمراضهم النفسية بسبب الأنانية وطغيان النفوس. مع اللجوء للطبيب لعلاج ما بالبدن من أمراض.
توجيه اجتماعي ونفسي بالدعاء على الأبناءمن الأسئلة التي وجهت للبهي ما يلي: لي أم وإخوة لا يريدون مني أن أقف بجانب الحق، فإذا أصررت دعت علي أمي بأن يصيبني الله بالمرض، وقد أصبت بالمرض الآن، فهل تلك الإصابة قضاء وقدر، أم نتيجة لاستجابة الله لدعائها؟ فأجاب البهي السائل، بتوجيهه إلى حاله النفسي والاجتماعي، لا حال من دعا عليه، فقال:
"المرض الذي أصيب به -ولم يحدده السائل في سؤاله- يجوز أن يكون متصلا بسوء التقدير، وسوء التوهم، وسوء التخيل. فهو مرض نفسي أو عقلي، وليس لدعاء الوالدة دخل فيه، وإنما يعود إلى الظروف التي نشأ فيها أو إلى الوضع الأخير إلى الله، وإلى قضائه وقدره".
ويكمل "والوالدة مهما غضبت، فلا تتغير نفسها من ابنها إلى حد أن تتمنى مرضه، وبالخصوص إذا كان مرضا نفسيا أو عقليا. لأنه من الأمراض التي يطول أمرها. وما ورد في القرآن من قول الله تعالى: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" (غافر: 60)، يعني به سبحانه أن من يتجه إليه وحده بعبادته، فالله يغفر له أخطاءه الماضية قبل الإيمان، ويثيبه بثواب المؤمنين. فالدعاء هو عبادة الله وحده، والاستجابة هو الغفران والثواب".
تفسير اجتماعي للمسيخ الدجال والمهديمسألة المسيخ الدجال ووجوده، كشخص ينزل بين الناس لنشر الفساد، ونزول المهدي لإنهاء فساده، وفساد الدنيا، قضية اشتجرت فيها الأقلام، والكتب، قديما وحديثا، وقد سئل فيها البهي في فتاويه، ولم يناقش الشيخ في إجابته النصوص التي وردت في موضوعي المسيخ الدجال، والمهدي، وهي قضية تكلم فيها علماء الحديث، وعلماء العقيدة، بناء على قناعتهم بالنصوص النبوية الواردة في الموضوع، من حيث الصحة أو الضعف.
لكن البهي اتخذ سبيلا آخر للإجابة، مستندا فيه إلى تضلّعه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذهب إلى مساحة لا ينكرها من يؤمن بالمسيخ الدجال والمهدي، ولا من ينكر أحاديثهما ونزولهما، فبين أن ما يحكى عن نزولهما، أن نزول الأول متعلق بانتشار الفساد، والتحلل من القيم الأخلاقية، وسفك الدماء، وانتهاك الحرمات، والمهدي نزوله كذلك، مرتبط بالإصلاح وإشاعة الاستقرار والقيم الإنسانية.
يقول البهي: "ويبدو أن المسيخ الدجال رمز لبلوغ تطور المادية أقصى نهايتها، وكذلك المهدي رمز لحلول (الروحية) الإنسانية محل المادية في المجتمعات الإنسانية. وبدلا منها، إذ هذه المجتمعات يدور أمرها بين هذين الوضعين: وضع المجتمع المادي، ووضع المجتمع الإنساني أو الروحي.
فإذا وصلت المادية في مجتمع بشري إلى طغيانها فسادت فيه الفوضى وانتهاك الحرمات والعبث، والسعي إلى القوة المادية والعصبية وإغفال العلاقات بين الإخوة وأفراد الأسرة الواحدة، عندئذ ينتظر سقوط هذه المادية بحرب لا تبقي ولا تذر، أو بكوارث لا تدع أثرا لعمران على أرض هذا المجتمع. كما ينتظر أن يحل محلها ما يسمى بالروحية الإنسانية، وهي العنوان للوضع الآخر للمجتمع البشري الذي تروج فيه القيم الإنسانية.
وإذا جُعل المسيخ الدجال والمهدي المنتظر من أمارات الساعة، فإن انتقال المجتمع البشري من وضع إلى وضع؛ من وضع مادي إلى وضع إنساني، أو العكس، يعد أمرا طبيعيا. أي يعد من شؤون تطوره، فالمجتمع إما أن يسقط إلى أدنى أو يسمو إلى أعلى، وسقوطه إلى أدنى هو خلوده إلى الأرض وارتباطه بالماديات وحدها، وسموه إلى أعلى هو تفهمه للروابط الإنسانية: قال الله تعالى "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" (الأعراف: 175-176).
وهناك فتاوى أخرى كثيرة في باب العقيدة، ولكنا ذكرنا نماذج لها، والمتأمل لمنهج البهي في فتاوى العقيدة، سيجد أنه يعلي من شأن الوحي ويجعل البدء والانتهاء منه وإليه، ثم يستخدم العلوم الإنسانية والعقلية في إطاره، وأحيانا يفهم النصوص المتعلقة بالعقيدة من خلالها، بما لا يتعارض مع الوحي، خاصة لو لم يفصل الوحي في القضية، أو كان المعنى يحتمل عدة معان، ولم يلزم فيها بشكل محدد، فقضايا العقيدة غيبية، والغيب لا يبحث فيه إلا عن طريق الوحي، وبقية العلوم مكملة، في سياقها وإطارها الصحيح.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العلوم الإنسانیة إرادة فی
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية يكرم حفظة القرآن الكريم بمحافظة الشرقية.. صور
أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن حفظ القرآن الكريم لا ينبغي أن يُختزل في التكرار والترديد المجرد، بل لا بد أن يكون حفظًا واعيًا، متصلًا بالتدبر والتفكر، مقترنًا بالعمل والسلوك، حتى يؤتي ثماره في بناء الإنسان وتهذيب المجتمع، خاصة في زمن تتزاحم فيه الفتن وتتشعب فيه التحديات، وتشتد فيه الحاجة إلى مرجعية روحية وأخلاقية تضبط حركة الحياة وتوجهها نحو الحق والخير.
جاء ذلك خلال كلمة مفتي الجمهورية، في احتفالية قرية أم الزين بمحافظة الشرقية؛ لتكريم حفظة كتاب الله، بحضور المهندس حازم الأشموني، محافظ الشرقية، وعدد من المسؤولين والشخصيات العامة، ونخبة من القيادات الدينية والتنفيذية، وحضور شعبي كبير، في مشهد احتفالي يعكس ما للقرآن من مكانة في وجدان المجتمع المصري.
و أشار المفتي، إلى أن من مقاصد القرآن الكريم حفظ كيان الأسرة وبناء الإنسان على أسس راسخة من البر والرحمة، مؤكدًا أن من أعظم القيم التي رسخها القرآن الكريم وقامت عليها شريعته الغراء، الإحسان إلى الوالدين، بوصفه من تمام الإيمان، ومن حسن التربية التي تنعكس على تماسك الأسرة واستقامة المجتمع. واستشهد فضيلته بقوله- تعالى-: “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”.
ولفت إلى أن بر الوالدين لا ينبغي أن يكون موسميًّا أو مشروطًا، بل هو خلق دائم، يتجلى في القول والفعل والدعاء، وفي رد الجميل بالوفاء، لا سيما حين يبلغ الوالدان الكِبَر ويشتد بهما الضعف، إذ يظهر البر في أبهى صوره وأصدق معانيه.
وأوضح مفتي الجمهورية، أن التمسك بأحكام القرآن الكريم والعمل بحدوده هو السبيل الأمثل للحفاظ على الأمن الروحي والاجتماعي، في مواجهة موجات التفكك الأخلاقي والاضطراب الفكري التي باتت تهدد تماسك المجتمعات وتمايز هوياتها.
وشدد على أن القرآن الكريم يحوي من القيم والمبادئ ما يكفل بناء إنسان متوازن، يدرك واجباته قبل أن يطلب حقوقه، ويحرص على إعمار الأرض بقيم الرحمة والعدل، ويعلي من شأن العمل والإتقان والصدق.
ولفت إلى أن بناء الأوطان لا ينفصل عن بناء الإنسان، وأن الحافظ الحقيقي للقرآن هو من اتخذ من كتاب الله دليلًا يهديه، ومن تعاليمه ميزانًا يزن به أقواله وأفعاله، ومن آياته زادًا في دروب الحياة المليئة بالتحديات.
وفي ختام كلمته، وجّه مفتي الجمهورية التهنئة للحضور بمناسبة حلول العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، مذكرًا بما ورد عن النبي ﷺ من أنها “أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله”.
وأكد أن الاجتماع على تكريم حفظة كتاب الله في هذه الأيام المباركة؛ هو في ذاته صورة من صور العمل الصالح، وشهادة عملية على بقاء الأمة متمسكة بكتاب ربها.
من جهته، أعرب المهندس حازم الأشموني، محافظ الشرقية، عن تقديره للدور الكبير الذي يقوم به حفظة القرآن الكريم في ترسيخ القيم الدينية والاجتماعية، مؤكدًا أن المحافظة تولي اهتمامًا خاصًّا بدعم الأنشطة الدينية والثقافية التي تسهم في تعزيز الهوية الوطنية، وبناء الإنسان على أسس من الفضيلة والانتماء.
وشهدت الاحتفالية في ختامها تكريم حفظة كتاب الله، وتوزيع الجوائز والهدايا، وسط أجواء من البهجة والإجلال، بحضور جماهيري واسع ضم مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، ممن جاءوا ليشهدوا هذا اللقاء الجامع تحت راية القرآن.