كل الحلم خيمة.. الأمطار والسيول تشرد عشرات الألاف من السودانيين في ظل الحرب
تاريخ النشر: 24th, August 2024 GMT
منتدي الاعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة
اعداد وتحرير : سودان تربيون
تنقاسي/ أبو حمد 24 أغسطس 2024 - خسر عشرات الألاف من السكان بشمال السودان منازلهم إثر أمطار وسيول قياسية، ومضى أسبوعان من دون أن تصل الخيام لإيواء الأسر المشردة وسط توقعات باستمرار هطول الأمطار وجريان الأودية.
واعتاد السكان في ولايتي نهر النيل والشمالية في أقصى شمال السودان على فيضانات النيل المدمرة في السابق وعلى أمطار شحيحة دون أن تشكل خطرا على حياتهم وممتلكاتهم.
وصنف وزير الداخلية السوداني خليل باشا سايرين الأسبوع الماضي ولايتي نهر النيل والشمالية أكثر الولايات تضررا في خريف هذا العام.
ومن بين 68 حالة وفاة بسبب الأمطار والسيول على مستوى القطر منذ يونيو الماضي أعلن عنها وزير الداخلية، رصدت سودان تربيون من خلال تقرير ميداني في ولايتي نهر النيل والشمالية وصول حالات الوفاة بسبب الأمطار والسيول إلى 66 وفاة، طبقا للسلطات المحلية بالولايتين.
وعلى الأرجح تبدو هذه الإحصائية مرشحة للزيادة في ظل توقعات الإرصاد الجوية باستمرار الأمطار الغزيرة في شمال البلاد واستمرار انتشال جثامين المعدنين في مناطق التنقيب عن الذهب من آبار التعدين المغمورة بمياه السيول.
ويقول أحمد عبد الله من الهيئة النقابية للأعمال الحرة - قطاع التعدين بسوق طواحين الذهب في أبو حمد لسودان تربيون، إن اللجنة بالتعاون مع الدفاع المدني تمكنت من إجلاء 150 معدن وانتشال جثة لمعدن في الصحراء الواقعة شمال المدينة والتي تحولت إلى بحيرة واسعة بسبب السيول، بينما تستمر الجهود لانتشال أربعة مفقودين على الأقل.
محنة رغم الذهب
تعرضت مدينة أبو حمد - نحو 540 كيلومتر شمالي العاصمة السودانية الخرطوم - ومجموعة الجزر التي حولها إلى أمطار قياسية في ليل الخامس من أغسطس بلغت 142 ملم صاحبتها سيول جارفة ألحقت أضرارا بالغة لأول مرة بخط السكة الحديد المشيد منذ نحو 120 عاما وبسوق المدينة القديم.
لكن الأضرار بأحياء المدينة وخاصة حي القوز كان جسيمة، بينما تبدت الكارثة بوضوح في جزيرة مقرات، وخاصة في قرية أبو سدير داخل الجزيرة والتي اكتسحها السيل بالكامل مخلفا ثلاث وفيات.
ويذكر أهالي أبو سدير أن السيل الذي تعرضوا له لم تشهد المنطقة له مثيلا، مدللين بأن قلعة أثرية قرب ضفة النيل منذ حقبة المسيحية جرفها السيل ولم يحدث أن تعرضت لأمر مشابه.
ويروي السكان بالقرية قصصا مروعة عندما داهمتهم السيول ليلا حيث كانوا يتشبثون بالأشجار خوفا من الانجراف إلى النهر لأن منازلهم المشيدة من الطين لم تقوى على مقاومة السيل.
بيد أن محنة المتضررين في محلية أبو حمد في أقصى شمال ولاية نهر النيل بعد نحو أسبوعين تتركز في عدم وصول أي مساعدات من الحكومة الاتحادية أو من المنظمات الإنسانية، رغم أن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وصل إلى المنطقة وتفقد المتضررين.
ويقول مدير الرعاية الاجتماعية بمحلية أبو حمد يوسف حبيب لسودان تربيون إن الأمطار والسيول ألحقت الضرر بحوالي 13 ألف أسرة، أي ما يعادل 65 ألف نسمة تقرييا، بينما لا تمتلك المحلية سوى 210 خيمة.
ويضيف المسؤول أن السلطات آثرت عدم توزيع هذه الخيام نسبة للعجز الكبير وتنتظر وصول مساعدات توفر الإيواء.
ويشير إلى أن الجهد الشعبي سد النقص في الغذاء لكن الحوجة الآن للخيام خاصة مع توقعات استمرار الأمطار.
وحسب السلطات المحلية بأبو حمد تسببت الأمطار والسيول في مصرع 35 شخصا بالمحلية.
ومن بين المتأثرين بالأمطار والسيول بمحلية أبو حمد، نازحون من الحرب فقدوا منازل أوتهم، منحت لهم بالايجار أو على صعيد الهبة.
وقالت محاسن خضر "60 سنة"، لسودان تربيون وهي تجلس على انقاض منزل منح لأسرتها مجانا: "أخرجتنا الحرب من الخرطوم والآن أخرجنا السيل من المنزل الذي أوانا في أبو حمد".
وتتزايد مخاوف الأهالي في مدينة أبو حمد والجزر المتضررة من الآثار البيئية والصحية المترتبة على الأمطار والسيول في ظل انتشار أنشطة التعدين وتباطوء عمليات رش نواقل الأمراض وشفط المياه.
يشار إلى أن محلية أبو حمد تستفيد من ريع رسوم تفرضها على أنشطة التعدين الواسعة بالمنطقة حيث يوجد بها أكبر أسواق التعدين في السودان، حيث يضم نحو مليون شخص يعملون في التعدين والأنشطة المصاحبة.
ويقع سوق طواحين الذهب على بعد حوالي 20 كيلومتر شرقي مدينة أبو حمد ويمتد في مساحة 8 كيلومترات مربعة.
سيول تنقاسي
في ليلة العاشر من أغسطس صحت بلدة تنقاسي الواقعة على بعد حوالي 15 كيلومتر جنوبي مدينة مروي بالولاية الشمالية، بعد منتصف الليل على صوت هدير سيل جارف شبهه الأهالي بالطوفان، لأن المياه حاصرتهم من السماء والأرض، حسب قولهم.
وسجلت تنقاسي أعلى الوفيات جراء السيول والأمطار بالولاية الشمالية، حيث تسبب سيل جارف اجتاح البلدة في تسع وفيات أغلبها بين الأطفال وبينها أربعة وفيات من أسرة واحدة.
ويؤكد المدير التنفيذي لمحلية مروي محجوب محمد سيد أحمد لسودان تربيون أن السيول دمرت بشكل كلي أكثر من 700 منزل فضلا عن مئات المنازل بشكل جزئي وسط عجز كبير في الخيام ومواد الإيواء وأمصال العقارب والثعابين.
ويشير إلى أن المحلية تمتلك فقط نحو 50 خيمة فضلت توزيعها كمراكز في المناطق المتضررة لاستقبال المساعدات الغذائية.
ورصدت سودان تربيون استقبال المنطقة المنكوبة لمساعدات غذائية أغلبها تبرعات من الخيرين، وسط مطالبات للمتضررين بتوفير الخيام والأغطية قبل هطول المزيد من الأمطار.
وقول الحاج سليمان وهو شيخ سبعيني بحي تنقاسي السوق إنه لم يشهد طوال عمره سيلا مدمرا كالذي شاهده هذا العام في تنقاسي.
وتابع "في العام 1988 دمر فيضان النيل منزلي، والآن بعد 36 سنة دمر السيل منزلي مرة أخرى.. نحتاج للخيام قبل أن نبدأ في بناء منزل مرة أخرى".
وقالت وزارة الصحة بالولاية الشمالية في تقرير هذا الأسبوع إن ضحايا الأمطار والسيول في 96 منطقة بالولاية الواقعة في أقصى شمال السودان ارتفع عددهم إلى 31 حالة وفاة و179 حالة إصابة، فضلا عن 155 إصابة بلدغات العقارب.
وأشار التقرير لتعرض نحو 2350 منزلا و31 مرفقا حكوميا للإنهيار الكلي وحوالي 4050 منزل للإنهيار الجزئي وأكد تأثر 6500 أسرة و32450 شخص لأضرار بالغة بسبب الأمطار والسيول بينما وصلت حالات الإصابة بإلتهاب ملتحمة العين الوبائي نحو 1570 حالة.
ويعيش أكثر من 130 ألف شخص بالولاية الشمالية ظروفا صعبة إثر موجة أمطار وسيول نادرة من حيث المعدلات دمرت مئات المنازل والمرافق الحكومية.
الطبيعة والحرب ضد السودانيين
وخلال أغسطس الحالي ألحقت الأمطار أضرارا واسعة بولايتين في إقليم دارفور (غرب) هما غرب دارفور وشمال دارفور، وولايتين في شرق السودان هما كسلا والبحر الأحمر.
وفي ولاية غرب دارفور أعلن رئيس الإدارة المدنية بالولاية، التجاني كرشوم - معين من قبل قوات الدعم السريع - عاصمة الولاية الجنينة منطقة منكوبة ومهددة بالكوارث نتيجة السيول والفيضانات التي أدت إلى انهيار 7000 منزل بشكل كلي وجزئي.
وتسببت الأمطار الغزيرة في في فيضان وادي كجا بشكل غير مسبوق.
كما تسبب سيل وادي باري في انهيار جسر مورني بمحلية كرينك بولاية غرب دارفور وهو جسر حيوي يربط بين الجنينة وزالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور، وأفادت تقارير بوفاة مسافرين غرقا أثناء محاولتهم عبور الوادي.
وتسببت أمطار غزيرة في خسائر طالت المنازل في مخيمات ابو شوك وزمزم ونيفاشا للنازحين في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور.
وفي شرق السودان تسببت أمطار غزيرة مصحوبة بالرياح في مصرع ثلاثة أشخاص في ولاية البحر الأحمر، خلال أغسطس الجاري.
وقبلها غمرت مياه الأمطار ثلاثة مخيمات للنازحين من الحرب في ولاية كسلا، شرقي السودان، كما تسببت في وفاة شخصين.
وفي أواسط السودان شهدت محلية العزازي غربي ولاية الجزيرة - تحت سيطرة الجيش السوداني - أمطارا غزيرة ألحقت أضرارا بالمنازل والمرافق العامة.
وإلى جانب تسبب الأمطار والسيول في فقدان الأرواح وتدمير المنازل والمرافق العامة، فإنها تلحق الأضرار بالنشاط الزراعي خلال أوقات عصيبة يعيشها السودانيون في ظل الحرب ونقص الغذاء.
في هذا السياق أعلن وزير الداخلية السوداني تضرر 198 ألف فدان من الأراضي الزراعية نتيجة السيول والأمطار إلى جانب نفوق العديد من الحيوانات.
وكان مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة "أوتشا" قد حذر في يوليو الماضي من أمطار فوق المعدلات بكل من ولايات الشرق ودارفور وشمال وأواسط البلاد، ستفاقم معاناة ملايين النازحين السودانيين بسبب الحرب.
ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني
#ساندوا_السودان
#Standwithsudan
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأمطار والسیول فی بالولایة الشمالیة نهر النیل أبو حمد
إقرأ أيضاً:
اقْتِصَادَاتُ الحَل التَفَاوُضِي فِي السُودِان
اقْتِصَادَاتُ الحَل التَفَاوُضِي فِي السُودِان
The Economics of a Negotiated Solution in Sudan
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
على خلاف المآلات الاقتصادية الحالكة للخيار العسكري لإنهاء حرب السودان، فإن الحل التفاوضي يحمل في طياته مكاسب جمَّة مقارنة بالحل العسكري. فالحل التفاوضي يمهِّد الطريق لاقتصاد إنتاجي شفاف وعادل في حين يفرز الحل العسكري اقتصاد ريعي واحتكاري يسوده العنف والتغبيش. ومن حيث التوزيع الجغرافي فإن الحل التفاوضي ينتج عنه نظام لامركزي قائم على التمييز الإيجابي بين الأقاليم الجغرافية في الوقت الذي يقود فيه الحل العسكري لنظام مركزي يحقق مصالح النخب بفرض التشرذم. أما من حيث تحقيق الاستقرار فإن الحل التفاوضي يقود لاستقرار مستدام يرتكز على المؤسسات في حين يؤدي الحل العسكري للهشاشة والعنف والفشل. وبالنظر لتوفر الدعم الدولي لإعادة الإعمار فإن الحل التفاوضي تصحبه مساعدات دولية مرتبطة بالإصلاح في حين يصاحب الحل العسكري دعم دولي انتهازي محدود ومشروط.
وفي في ظل دخول الحرب المدمرة في السودان عامها الثالث، يبرز غياب الرؤية الاقتصادية المتكاملة كأحد عوامل إطالة الصراع وتعويل الطرفين على الحل العسكري، حيث يتصارع الطرفان للسيطرة على الموارد والثروات دون مشروع اقتصادي وطني شامل. وأمام هذا الواقع، تملك القوى المدنية فرصة لتقديم بديل تفاوضي يعيد بناء الاقتصاد السوداني الذي عصفت به الحرب على أسس العدالة والتنمية والسلام.
ويرتكز هذا البديل التفاوضي على مبادئ مؤسسة قوامها جعل الاقتصاد في خدمة الإنسان السوداني، لا في خدمة السلطة بشراء السلاح، وفصل الاقتصاد عن الأجهزة العسكرية والأمنية، وتحقيق توزيع عادل للثروة يراعي التفاوت التنموي بين الأقاليم، وإدماج الاقتصاد غير الرسمي في منظومة شفافة ومنظمة، وبناء شراكات استراتيجية مع المجتمع الدولي على أساس الإصلاح والسيادة وتحقيق المصالح المشتركة المشروعة.
وترتكز الرؤية التفاوضية البديلة على إعادة هيكلة الاقتصاد بعد الحرب بتفكيك الشركات الأمنية والعسكرية وإدماجها تحت ولاية وزارة المالية، وإنشاء مفوضية وطنية للموارد الطبيعية والذهب، ووضع خطة خمسية لإعادة الإعمار تركّز على التعليم والصحة والبنية التحتية، وإصلاح النظام الضريبي والمالي بتبني نظام ضريبي تصاعدي عادل يشجع الإنتاج ويراعي استقلالية البنك المركزي وتعزيز الشفافية المالية وإنشاء صناديق تنمية للأقاليم المهمّشة. كما تشمل إعادة هيكلة الاقتصاد بعد الحرب دعم القطاع الخاص والاستثمار بتوفير بيئة قانونية آمنة ومحفزات في الزراعة والصناعة، وتكوين شراكات مع السودانيين في الخارج، وتسهيل إجراءات الاستثمار للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ويراقب عملية إعادة هيكلة الاقتصاد تفعيل أنظمة الحوكمة والمساءلة بتكوين مفوضية وطنية فاعلة لمكافحة الفساد، وإتاحة دور رقابي فاعل للمجتمع المدني، ورقمنة الإيرادات والمصروفات الحكومية.
ونظراً لمعاناة الاقتصاد السوداني من ويلات المقاطعة والعقوبات الدولية منذ سنة 1997 في عهد حكومة الإنقاذ واستمرت لأكثر من ثلاثين سنة، هناك ضرورة ليواكب الرؤية الاقتصادية لإعادة إعمار الإعمار سعي جاد لتحقيق نقلة نوعية في التموقع الدولي والإقليمي بانخراط مدروس في المؤسسات الدولية والإقليمية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، نادي باريس، البنك الإفريقي للتنمية، ومؤسسات التمويل العربية)، والدخول في شراكات تنموية مع دول الجوار الإقليمي، وتقديم رؤية موحدة للسلام والتنمية لجذب دعم المجتمع الدولي والإقليمي لإعادة الإعمار في السودان.
وتشمل آليات تنفيذ الرؤية الاقتصادية التفاوضية لإنهاء الحرب تشكيل حكومة انتقالية مدنية ذات كفاءة عالية لفترة لا تقل عن خمسة أعوام، تشهد تنظيم مؤتمر اقتصادي قومي جامع بمشاركة واسعة، وتفعيل دور اللجان المجتمعية لتراقب تنفيذ خطط الإعمار والتنمية، وتعبئة الكفاءات السودانية في الداخل والخارج للمشاركة في بناء الاقتصاد الذي دمرته الحرب. ومن الضروري لآليات التنفيذ إدراك أن هذه الرؤية الاقتصادية ليست مجرد خطة اقتصادية، بل هي مشروع وطني للسلام والعدالة والمصالحة نحو تسوية سياسية مستدامة. ذلك أن اقتصاد السلام هو الطريق الحقيقي لبناء دولة سودانية عادلة، حديثة، ومنفتحة على مواطنيها والعالم.
وخلافاً لمخاوف طرفي الحرب من التبعات السالبة عليهما من الخيار التفاوضي لإنهاء الصراع، إلا أن الخيار التفاوضي يحمل في طياته مكاسب لجميع الأطراف. أما بالنسبة للجيش وحلفائه فعلى الرغم من فقدان السيطرة على الاقتصاد الموازي المتعلق بالذهب والتجارة وتراجع النفوذ السياسي التقليدي داخل الدولة فإن الخيار التفاوضي يتيح له العديد من الفرص المتمثلة في الحفاظ على كيان المؤسسة العسكرية كضامن للأمن الوطني، ودمج الشركات الاقتصادية التابعة للجيش ضمن الاقتصاد الرسمي بضمانات مدنية، والوصول إلى دعم دولي لإعادة هيكلة القوات المسلحة في سياق إصلاح شامل، وإعادة الانتشار في أدوار غير قتالية، خاصة في الإعمار والبنية التحتية.
أما بالنسبة للدعم السريع وحلفائه فبرغم فقدان السيطرة على طرق التهريب والمناطق الغنية بالموارد وضعف القبول الشعبي والسياسي بعد جرائم الحرب وصعوبة الدمج في مؤسسات الدولة بسبب البنية غير النظامية، فإن الخيار التفاوضي يوفر له عدداً من الفرص التي تشمل التحول إلى كيان سياسي أو قوة تابعة للقوات المسلحة السودانية في حال ترتيبات إدماج وضمانات بعدم الملاحقة مقابل تسليم السلاح والمشاركة في التسوية وإعادة تدوير النفوذ عبر تحالفات قبلية أو اقتصادية شرعية.
وبخصوص القوى المدنية فعلى الرغم من صعوبة فرض الإصلاحات الاقتصادية دون توافق أمني واحتمالية اضطرارها لقبول ترتيبات انتقالية مع عناصر عسكرية وتحدي تأمين السند التنفيذي في ظل غياب قوة حماية مدنية فعالة، فإن الحل التفاوضي لإنهاء الصراع يتيح للقوى المدنية العديد من الفرص التي تشمل تشكيل حكومة مدنية ذات مشروعية داخلية وخارجية وتنفيذ برنامج اقتصادي متكامل يعيد هيكلة الاقتصاد نحو العدالة والتنمية واستقطاب دعم دولي واسع لإعادة الإعمار وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية لتشمل الهامش والمجتمعات المتأثرة بالحرب في إطار عقد اجتماعي بين الدولة وعامة الشعب.
وعلى الرغم من الحل التفاوضي وما يصاحبه من رؤية اقتصادية يمثل بديلاً عملياً عن الحل العسكري وما يصاحبه من اقتصاد الحرب، إلا أنه يصطدم بتحدٍّ حاسم يتمثل في غياب القوة الصلبة لحمايته من الأطراف المسلحة. حيث لا يمكن لأي مشروع اقتصادي مدني أن يُنفَّذ بدون ترتيبات أمنية تضمن الاستقرار وتحمي المؤسسات من العرقلة أو الانهيار. وعليه صار لزاماً توفير مسارات تأمين هذه الرؤية من خلال أدوات مدنية-عسكرية واقعية تنأى عن الخيارات الصفرية التي يتبناها بعض المدنيين. ذلك أن أمن الاقتصاد لا يقل أهمية عن أمن الحدود. فالرؤية الاقتصادية المدنية للسودان تحتاج إلى ترتيبات أمنية واقعية يكون العسكريون طرفاً أصيلاً فيها، ولا تتطلب بالضرورة المواجهة بين العسكريين والمدنيين، بل تتأتى بالتفاوض الذكي والضمانات المؤسسية والوشائج الانتقالية. فالمسار المدني لن ينجح إلا إذا استطاع تحييد القوة العسكرية، أو كسبها، في سبيل بناء دولة مدنية حقيقية ذات مصداقية.
ويتطلب توفير أدوات الحماية فهماً واقعيَّاً للمشهد العسكري الذي أفرزته الحرب حيث يتضح تباين مكونات الجيش بين قيادات عليا منتفعة من شبكات اقتصادية، في مقابل قيادات وسطى وضباط شباب متطلعين للإصلاح والتعاون مع المدنيين. أما قوات الدعم السريع فتعتمد على اقتصاد موازٍ يصعب دمجه في الجيش دون نزع سلاح جوهري. وتعاني هي الأخرى من الطبقية حيث تستمتع القيادة العليا بعائدات الذهب والمعادن النفيسة، في حين تعتمد الفئات الدنيا على النهب والجبايات غير المشروعة. وفي المقابل فإن القوى المدنية تفتقر إلى الذراع المسلح، بيد أنها تملك أدوات الضغط الشعبي، والمشروعية السياسية، والدعم الدولي. وعلى هذه الخلفية تبرز عدة خيارات لتأمين الرؤية الاقتصادية والحل التفاوضي. وتشمل هذه الخيارات كسب قطاعات من الجيش ببناء تحالفات ضمنية مع القيادات الإصلاحية داخل القوات المسلحة عبر تقديم ضمانات مؤسسية ضمن الرؤية الاقتصادية، بما في ذلك دمج الشركات العسكرية في الاقتصاد الرسمي ووضع ترتيبات تقاعد وانتقال منصف للضباط وإشراك الجيش في لجان رقابة على تنفيذ خطة الإعمار. كما يمكن تبني استراتيجية الحياد العسكري ترمي لتفكيك التحالف بين القيادات العسكرية والمليشيات المؤدلجة عبر الضغط الدولي وكشف كلفة الحرب المادية والبشرية على القوات المسلحة عبر الإعلام والمجتمع المدني والمطالبة بإشراف أممي أو إقليمي على الأمن في المرحلة الانتقالية. ومن ناحية أخرى، يمكن دعم توفير الحماية للرؤية الاقتصادية المدنية بواسطة أدوات أخرى مثل إصلاح جهاز الشرطة وتفعيله كأداة مدنية لحماية العملية الاقتصادية وإنشاء وحدات رقابة اقتصادية مدنية بدعم دولي والاستعانة بخبرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لتأمين المدن والمنشآت. كما يمكن للحوافز الدولية لعب دور مساند في هذا الصدد عن طريق دعم دولي مشروط للقوات المسلحة في مقابل التزامها بالانتقال السلمي وإنشاء صندوق دولي لإعادة الإعمار مرتبط بخارطة طريق أمنية واضحة وضمانات أممية بعدم ملاحقة بعض العناصر العسكرية غير المتورطة في جرائم. وأخيراً يمكن أيضاً تشكيل لجنة اتصال مدني - عسكري برعاية إقليمية وإطلاق حوار أمني اقتصادي لمناقشة دور الجيش في حماية إعادة الإعمار وتأسيس مجلس وطني للانتقال الاقتصادي والأمني بمشاركة رمزية عسكرية عبر استنباط وشائج ذكية تحقق الوئام المدني-العسكري، وتحل محل نمط الشراكة السابقة بينهما.
وبرغم كل هذه التحوطات فإن نجاح الخيار التفاوضي والرؤية الاقتصادية المدنية رهين بانسياب المساعدات الاقتصادية من المجتمع الدولي الذي يتنوع ما بين الدعم المالي المباشر، والإعفاءات من الديون، والمساعدة الفنية، والدعم السياسي الذي يفتح الأبواب للاستثمار والتعافي الاقتصادي. ذلك أن تجربة الحكومة الانتقالية قبل انقلاب أكتوبر 2021 قد أكدت استعداد المجتمع الدولي نظريَّاً وعمليَّاً لدعم السودان اقتصادياً، لكن هذا الدعم مرهون بتحقيق تسوية سياسية ذات مصداقية تقودها حكومة مدنية مستقلة قادرة على تنفيذ رؤية اقتصادية قائمة على الشفافية والإصلاح وخلق فرص حقيقية للنمو والعدالة الاجتماعية. وتتضمن هذه المساعدات من المجتمع الدولي ما يلي:
????التمويل المباشر والدعم الإنساني والتنموي التي تشمل المساعدات الطارئة بما في ذلك الغذاء، والماء، والرعاية الصحية، والتعليم في حالات الطوارئ التي تُقدَّم عبر منظمات الأمم المتحدة مثل برنامج الغذاء العالمي (WFP)، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP) ) والمنظمات غير الحكومية الدولية (NGOs). كما يشمل أيضاً دعم ميزانية الدولة عند التوصل إلى تسوية سياسية وتشكيل حكومة مدنية معترف بها، حيث يمكن للمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تقديم دعم مباشر للميزانية لتغطية الرواتب والخدمات الأساسية. ويتضمن التمويل التنموي دعم المشروعات الزراعية والبنية التحتية، وبرامج الإنعاش الاقتصادي في المناطق المتأثرة بالنزاع.
???? إعادة هيكلة الديون والإعفاء منها حيث أحرز السودان قبل انقلاب 25 أكتوبر 2021 تقدماً كبيراً في مسار الاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك – HIPC)، والتي أطلقها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكان من المتوقع أن يصل السودان إلى "نقطة الإنجاز-Completion Point " ضمن مبادرة هيبيك في غضون ثلاث سنوات في يونيو 2024 من تاريخ وصوله إلى "نقطة اتخاذ القرار- Decision Point" التي بلغها في يونيو 2021. وقد حصل السودان على وعود بإعفاء ديون تتجاوز 50 مليار دولار عبر مبادرة هيبيك، وبدأت بالفعل إجراءات إعفاء جزء كبير من الديون المتراكمة، مما خفف العبء على الاقتصاد السوداني وفتح المجال أمام تمويلات جديدة. ولكن انقلاب أكتوبر العسكري أوقف هذا المسار، وجمّد معظم الفوائد التي كان السودان سيحصل عليها من المبادرة، إلى حين عودة الحكم المدني واستئناف الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي.
???? المساعدات الفنية وبناء القدرات وتشمل دعم بناء المؤسسات الاقتصادية المدنية، مثل وزارة المالية والبنك المركزي وديوان الضرائب، وتطوير نظم شفافة لإدارة الموارد (مثل الذهب والزراعة والموانئ)، وتدريب الكوادر المدنية على إدارة الاقتصاد الكلي، والتفاوض على الديون، وجذب الاستثمارات، والحوكمة المالية.
???? تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر المشروط برفع القيود والعقوبات عن السودان بعد تشكيل حكومة مدنية في إطار الحل التفاوضي والرؤية الاقتصادية مما سيفتح الباب للاستثمار في قطاعات الزراعة والطاقة المتجددة والتعدين والخدمات، ولعودة شركات النفط العالمية، والاستفادة من موقع السودان الجغرافي الاستراتيجي.
????الدعم السياسي والدبلوماسي المرتبط بالاقتصاد ويشمل ضمانات دولية لحماية الفترة الانتقالية، وإنشاء آلية رقابة مشتركة (مثل "أصدقاء السودان") لضمان الشفافية في استخدام المساعدات، وتسهيل اندماج السودان في الأسواق الإقليمية والدولية.
melshibly@hotmail.com