رسولة السلام أمريكا : لماذا يجب أن نثق بها!
تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT
محمد مصدق رجل الدولة الإيراني الذي اصبح رئيسا للوزراء بالانتخاب، الرجل الذي ادخل الضمان الاجتماعي وغيرها من السياسات الراعية للعدالة الاجتماعية، قرر تأميم النفط الإيراني الذي احتكرته شركة النفط البريطانية ( بي بي ). رسولة السلام لم يعجبها ذلك، فخططت مع المخابرات البريطانية للإطاحة به، كما تظهر وثائق المخابرات المركزية الأمريكية CIA المُفرج عنها في العام ٢٠١٣ .
رسولة السلام نفسها قررت محاربة نظام الملالي في ايران بطريقة غير مباشرة باستخدام صدام حسين ، وذلك ايضاً حسب وثائق المخابرات الأمريكية المُفرج عنها في نفس العام. كشفت الوثائق كيف تم إمداد صدام حسين بالمال وكافة أنواع الأسلحة لتنفيذ المهمة بالوكالة.
في اثناء انشغال صدام والخميني بالصراع قررت روسيا الزحف علىافغانستان ، لم تكن رسولة السلام مستعدة للمواجهة المباشرة، فاستعانت بالجماعات الاسلامية المتشددة لمحاربة الروس، ثم استقر الأمر لجماعة طالبان الذين ظلوا حلفاء للمعسكر الأمريكي إلى أن تغير التصنيف وحولوا إلى معسكر الشر بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2010.
عوداً إلى صدام حسين حليف الأمريكان، يجتاح الكويت فيتم حصاره وقصفه. ثم تتم الإطاحة به عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر بذرائع اثبتت التحقيقات ووثائق المخابرات أنها مفبركة. بعد التخلص من صدام خلفت رسولة السلام عن قصد كميات ضخمة من السلاح استولى عليها تنظم داعش وانشأ دولته في العراق والشام.
مرة اخري الي افغانستان، وهي تصارع صنيعتها ، بعد التصنيف الشهير للرئيس جورج بوش الابن "من ليس معنا فهو ضدنا" ، زحفت إلى كابول وكرازاي كان جاهزاً، وبعد عشرين عاماً، عادت طالبان مرة أخرى من معسكر الشر الي معسكر الخير. غادرت الطائرات الأمريكية في مشهد مؤلم والناس يتساقطون منها، وطالبان تستلم كابول ومعها عشرات الآلاف من الأسلحة والمعدات الامريكية، فهي لم تعد شراً بعد.
ليبيا كانت بلداً اصبحت بفضل امريكا والناتو بلدين. وسوريا واليمن، ومن قبلهم الصومال. كل هذا في التاريخ القريب، عشناه وما زلنا نعيشه. ما كان يجمع بين العراق، وسوريا، وليبيا، بعيداً عن " الدكتاتورية" هو النظام التعليمي الجيد، والرعاية الصحية الممتازة، ووضع متقدم جداً للنساء. كل ذلك تم استبداله بالديمقراطية الأمريكية، والنتيجة ما تشاهدونه بأعينكم وليس ما أطرحه عليكم. على سبيل المثال، يحتفظ موقع يوتيوب بلقاء في غاية الأهمية مع الجنرال وسلي كلارك ،الذي خدم قائداً للجيوش الأمريكيه في اوربا، وقائداً أعلى للناتو، يتحدث فيه عن خطة البنتاجون لاسقاط سبعة حكومات خلال خمس سنوات، وذلك مباشرةً بعد احداث ١١ سبتمبر. السودان ضمن الدول المذكورة في تلك االقائمة.
امريكا صانعة الديكتاتوريات وجمهوريات الموز، امريكا المخطط والمنفذ لأكبر مجزرة في التاريخ الحديث في هيروشيما ونكازاكي، امريكا فيتنام ، وأمريكا أوكرانيا / روسيا ، هي نفسها من تقود وترسم محادثات السلام السودانية، التي سيتمخض عنها عودة النظام الديمقراطي في السودان.
لكل ذلك وأكثر يجب ان نثق فيها وفي مشروعها ، ويجب ان نثق بأن المجتمع الدولي لديه خطة مستقبلية جديدة لمصلحتنا. وفي سياق هذه الثقة في دعم أمريكا والمجتمع الدولي للأنظمة الديمقراطية في السودان لنرجع خطوات إلى الوراء وننظر في مواقفهم من أول انقلاب عسكري في السودان في نوفمبر 1958، بعد عامين فقط من استقلال السودان. يكشف كتاب "السودان في الوثائق البريطانية: انقلاب عبود 1958" القائم على الوثائق السرية البريطاية التي رفعت عنها قيود السرية في الأول من يناير 1989 أن بريطانيا وأمريكا وحلف الناتو وضعوا ثقلهم خلف الانقلاب العسكري ضد أول ديمقراطية في السودان. أدناه اقتباس مطول من الكتاب صفحة 23-26:
السفير البريطاني يجتمع بالفريق عبود
رقم الوثيقة 131713/371FO
وفيما يلي نص التقرير الذي رفعه السفير البريطاني في السودان جامبا أندروس حول ما دار بينهما بعد يوم من الانقلاب:
محدود
السفارة البريطانية
الخرطوم
١٨ نوفمبر ١٩٥٨
عزيزي آدم،
مرة أخرى اكتب إليكم كلمات قليلة قبل اغلاق حقيبة الأسبوع "الموثوقة".وسوف لا أحاول في هذه الرسالة تلخيص الموقف إذ أنه من المبكر عمل ذلك.الثقة تسود مقر الجيش والأعمال جارية حسب الأصول وخلال حديثي مع القائد العام ( يقصد قائد الانقلاب ) شرحت موقفي وموقف زملائي الذين أمثلهم، واستفسرت منه فيما إذا كان يعتقد بأنه سيكون هناك هجوم مضاد،وإذا حصل ذلك فما هو الشكل الذي سيأخذه مثل هذا الهجوم ؟ فأجاب قائلاً:- أنه بالرغم من أن الموقف الحالي مرضي تماماً من وجه نظر الجيش في كافة أنحاء البلاد فسيكون هناك خلال أسبوعين او ثلاث بلا أدنى شك هجوماً مضاداً، ولم يعلم شكل هذا الهجوم إلا أنه قال: ولكن لي "مستشاري". واستفسرت منه فيما إذا كان شكل هذا الهجوم المتوقع سيكون بشكل إضراب عام، واذا كان كذلك فهل هو واثق من أن الجيش سيكون قادر علي مجابهة مثل هذا الموقف ؟ فاجاب: لحد الآن فإنني قد تركت نقابة العمال لوحدها..... إلا أنهم إذا بدأوا بأي شيء ....
ويبدو انه كان واثق تماما من إمكانيته علي معالجة الموقف. وقال علي سبيل المثال ، كما وأنه أمر معتاد عليه طوال حياته :- اقوم الآن بتشكيل حكومتي وآمل أن اكون قادراً على الاعلان بنفسي في الاذاعة عن ذلك خلال ساعة أو ساعتين.
٢/ وكان موقفه تجاهي شخصياً ودياً تماماً، وعلى سبيل المثال كان يخاطبني بكملة "سعادتك" والتي هي عبارة تُستخدم في السودان من قبل الخدم عندما يخاطبون سادتهم، ارجوك لا تسيء فهمي، فالقائد رجل من الطراز القديم ويخاطبني كأحد السودانيين القدماء عندما يخاطبون الظباط البريطانيين الذين يعرفونهم جيداً . واستمر في الكلام بأنه ممنون لبريطانيا للمساعدة والفهم الذي قابلت به السودان في الماضي وأنه ممنون جداً كقائد عام للجيش لمساعداتنا الأخيرة بتقديم الهدايا من الأسلحة. وقال بأنه يعلم بأنني كنت شخصياً قد لعبت دوراً مهماً في هذه القضية خلال فصل الصيف، وأراد أن يعبر عن شكره وشكر الجيش لي. وأنه لم يقل ذلك، لكنهيأمل بالتاكيد وبشكل كبير أن لا نتأخر في موضوع الاعتراف.
٣/ وعند النظر في قائمة الاسماء التي تضمنها المجلس الاعلى للجيش وللحكومة التي وضعت أمامي عندما كنت علي وشك تحرير هذا التقرير فإن كل ما يمكن أن أقوله هو أن ملحقي العسكري الذي يعرفهم جميعا شخصياًسعيد تماماً بذلك مع استثناء اسم واحد علي الأكثر وهو أوروا (لعل المترجم غير السوداني يقصد عروة) ، إذ كان علي سبيل المثال العضو الوحيد الذي لعب في فريق البولو السوداني الذي لعب في أواخر هذه السنة في قبرص، والذي يشتكي من خسارة فريقه وكانت حجته بأن الفريق السوداني قد خسر المبارة لان الإنجليز احتفظوا لأنفسهم بأفضل الخيول، وربما لانه ليس بالرياضي الجيد. .
4. أما بالنسبة للحكومة الجديدة فالعناصر المدنية فيها لاتعجب وأن الشخص الوحيد الذي له خبرة سابقة في الحكومة هو زيادة ارباب و أنه شخص جيد وعضو جيد في حزب الامة وصديق لنا ، ولا اعرف شيئا عن سنثينو دينق (جنوبي ) و أحمد محمد علي، إلا ان القليل الذي سمعته لا أحبذه، وأن عبدالمجيد أحمد رئيس لجنة الخدمات العامة شخص محترم وصريح تماماً ولكنه غير فعال، وكان في الخدمة المدنية لفترة طويلة. وأن العديد من اعضاء الحكومة هم من الختمية، وكذلك القائد نفسه، وعلينا أن نلاحظ ذلك، ومع ذلك فإن القائد لا يميل إلى مصر والمصريين، انه سوداني مخلص ووطني، ولا اعتقد أنه سيُحكم من قبل السيد عبدالرحمن المهدي بأي حال من الأحوال. ويُعتبر حسن بشير ناصر أحسن رجل بين هذه المجموعة إذ بأعتباره وزير دولة في مكتب رئيس الوزراء ونائب القائد فإنه سيلعب دوراًنصف مركزي ، وكذلك فإنه قائد حامية الخرطوم، المفتاح لموقف الجيش، وأنه ليس بالشخص الذي يمكن أن تجرفه مظاهر الظباط الشباب الصغار.
5. وختاماً فإنه بالرغم من انه قد لا يكون هذا الانقلاب شيئاً جيداً حتى من وجهة نظر الجيش والبلاد اذ أنه كان من الأحسن لو تأخر قليلاً إلا أنني متأكد تماماً بأن الرجال الذين وراء هذا الانقلاب بقيادة الجيش العليا هم رجال يتصفون بالوطنية والعقلانية وأنهم وطنيون سودانيين. وحتى أنني غير متاكد إلى أي مدي كان عبدالله خليل والمهدي متكتمين علي تفاصيلها لآخر لحظة. ربما انهم لم يكونوا راغبين في وقوع الانقلاب في الوقت الذي وقع فيه.وأنه من المبكر بالنسبة لي أن اقول أي شي عن ذلك وخاصة حول عبدالله خليل. إلا أنه علي اية حال وقد جاء الجيش بحكومة صديقة لنا وأن قيادة الجيش العليا صديقة لنا ايضاً بشكل خاص. ولا أتمكن من القول كيف سيكون رد فعل البلاد بعد أن تصحو من الصدمة الأولى، ولكنه لحد الآن جيد وكان من الممكن أن تكون الأشياء اسوأ كثيراً .
6. سأرسل نسخة من هذه الرسالة الي ماثيوز في نقوسيا
إلى جي. اج.اي
وزراة الخارجية
لندن . اس. دبليو 1"
انتهى الاقتباس.
مما تقدم يتضح بما لا يدع مجال للشك أين تقف هذه الدول من مسألة الديمقرطية في السودان، وكيف تتواطأ مع الانظمة الانقلابية ضد الشعوب. فقد كشفت هذه الوثائق استعداد بريطانيا لتقديم الأسلحة لنظام عبود بعد أيام معدودة من الانقلاب، كما اعترفت امريكا وبريطانيا وفرنسا والمانيا والدنمارك وايطاليا وكندا بنظام عبود قبل الثاني من ديسمبر من نفس العام، أي خلال اسبوعين من وقوع الانقلاب. أما حلف الناتو الذي عقد جلسة حول السودان بعد يومين فقط من الانقلاب فهذا هو ما ورد عنه اقتباساً:
منظمة حلف شمال الأطلسي تناقش الانقلاب في السودان
وفي 19 نوفمبر 1958 اجتمع حلف شمال الأطلسي ليناقش انقلاب السودان وحقيقة أن رئيس الوزراء وقائد الانقلاب أكثر ولاء للإنجليز من الإنجليز أنفسهم. وفيما يلي نص البرقية التي أرسلها رئيس الوفد البريطاني لحلف شمال الأطلسي في باريس إلى وزارة الخارجية البريطانية.
سري
من وفد المملكة المتحدة لمنظمة حلف شمال الأطلسي، باريس، إلى وزارة الخارجية:
بالشفرة
السيد جتهام
رقم 377
19 نوفمبر 1958
موجهة إلى وزارة الخارجية برقية رقم 377 في 19 نوفمبر
مكررة للمعلومات إلى كافة مكاتب بريد حلف شمال الأطلسي(عدا ريكافيك)والخرطوم.
1. اجتماع مجلس منظمة حلف شمال الأطلسي، 19 نوفمبر/ت2 . في نهاية اجتماع هذا اليوم التفت سباك نحوي واستفسر مني حول حقيقة أن رئيس الوزراء السوداني الجديد" إنجليزي أكثر من الإنجليز".فقلت لقد فهمت بأنه تخرج من سانت هيرست (أكاديمية عسكرية بريطانية لتخريج الضباط) وكنت أعمل أن أقول شيئا أكثر عندما تتم مناقشة الشرق الأوسط صباح غد(لا يوجد وقت هذا اليوم).
2. أشار دي كورسيل(فرنسا) إلى مسألة الاعتراف بالحكومة الجديدة التي أثارتها اللجنة السياسية يوم أمس. وقال بأن حكومته لديها مؤشرات بأنه سيطلب الاعتراف منها خلال فترة قصيرة وأنها بانتظار طلب رسمي بذلك.
3. سأكون شاكرا لأي معلومات يمكنني استخدامها صباح الغد حول السودان سيتم ع المجلس في الساعة 10:30 صباحا بتوقيت لندن.
نسخة منه إلى:
الدائرة الأفريقية
الدائرة الغربية دائرة سياسة الإعلام
انتهى الاقتباس.
بالفعل، كان ابراهيم عبود انجليزياً أكثر من الانجليز، والآن لدينا نخبة تتطلع إلى التدخل الأمريكي لاستعادة الديموقراطية في السودان وتحلف بامريكا، نخبة امريكية أكثر من الأمريكان. كان عبود يخاطب السفير البريطاني بلغة المستعبد الذليل، لو قيض لنا الوصول إلى وثائق هذه المرحلة السرية ومراسلتها ترى كيف يخاطب ساستنا اليوم سادتهم؟
محمد صالح
فيينا
٣١.٠٨.٢٠٢٤
mohamedsaleh412@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: حلف شمال الأطلسی سبیل المثال فی السودان
إقرأ أيضاً:
لماذا يتعجل ترامب الاعتراف بأرض الصومال؟
تقع أرض الصومال (إقليم صوماليلاند) في الجزء الشمالي من جمهورية الصومال، ويحتل موقعًا إستراتيجيًا يطل على خليج عدن وباب المندب، ومع تنامي الأهمية الإستراتيجية لهذه المنطقة- والتي أصبحت ساحة ساخنة للصراع الدولي حول قضايا الأمن والطاقة وحركة التجارة العالمية، لا سيما مع تصاعد خطر الحوثيين في خليج عدن- ازداد الاهتمام بالإقليم الطامح للاستقلال عن الصومال، رغم أنه لم يحظَ بالاعتراف الدولي من أي دولة حتى الآن.
يستعرض هذا المقال التطور السياسي لأرض الصومال ويشرح لماذا قرر الإقليم الانفصال عن الدولة الأم الصومال، وما هي أهميته الإستراتيجية، ويوضح لماذا ترغب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الاعتراف به.
نهاية حلم الصومال الكبيرقسمت القوى الاستعمارية الغربية الصومال إلى عدة أقسام، توزعت عقب مؤتمر برلين بين فرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، حيث سيطرت إيطاليا على الصومال الجنوبي وعاصمته مقديشو، بينما سيطرت بريطانيا على الصومال الشمالي، وعاصمته هرجيسا، واستعمرت فرنسا شريط جيبوتي.
فضلًا عن ذلك سيطرت إثيوبيا في مرحلة لاحقة على الأوغادين، بينما تمددت كينيا شمالًا في الأقاليم الصومالية. وهكذا قسم الاستعمار الشعب الصومالي إلى خمسة كيانات مختلفة تخدم كلها مصلحة القوى الاستعمارية.
إعلانوبفعل هذا التقسيم، تولد حلم قومي، هو ضرورة توحيد الشعوب الصومالية في دولة واحدة تمتد على طول الشريط الساحلي للبحر الأحمر حتى خليج عدن. تبلورت فكرة الصومال الكبير أثناء فترة مقاومة الوطنيين الصوماليين للقوى الاستعمارية الغربية، وأصبحت فكرة مركزية وملهمة لحركات النضال والتحرر للشعوب الصومالية، وتوافقت القوى الوطنية على ضرورة إنهاء الاستعمار، وإعادة الاندماج لتكوين الصومال الكبير.
بنهاية حقبة الاستعمار في العام 1960، استقل الصومال الشمالي كدولة مستقلة عاصمتها مدينة هرجيسا- واعترف باستقلاله عدد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. بينما نال الصومال الجنوبي استقلاله في ذات العام من إيطاليا باسم جمهورية الصومال وعاصمتها مقديشو. ونظرًا لتجذر فكرة الصومال الكبير، اتفق زعماء الصومال الجنوبي والشمالي على الوحدة لتكوين دولة واحدة تُسمى جمهورية الصومال، وعاصمتها مقديشو، على أن تنضم إليها لاحقًا جيبوتي بعد استقلالها من الاستعمار الفرنسي. وتأكيدًا لمحورية فكرة الصومال الكبير، وُضعت خمس نجمات في علم الدولة الرسمي في إشارة لأقاليم الصومال الخمسة التي مزقها الاستعمار.
بيدَ أن حلم الوحدة وإقامة الصومال الكبير سرعان ما تراجع، بعد استقلال جيبوتي ورفضها الوحدة مع الصومال، وفشلت الحكومة الصومالية في ضم المناطق الصومالية في إثيوبيا، وشمال كينيا. وأدت سياسات الرئيس سياد بري الداخلية الدموية إلى اضطراب الوضع الداخلي، الذي أدخل البلاد في حالة فوضى شاملة انتهت بحرب أهلية أطاحت بحكومة سياد بري، وامتدت أكثر من عشرين عامًا انهار فيها كيان الدولة تمامًا.
وبرغم اتساع نار الحرب الصومالية، فإن قادة صوماليلاند تمكنوا بسرعة من بسط الأمن والاستقرار في الإقليم الشمالي، وتكونت حكومة محلية ترأسها محمد إبراهيم عقال، أدارت البلد وحققت قدرًا معقولًا من التنمية. وبسبب الحرب الأهلية الطويلة، وانهيار فكرة الصومال الكبير، قرّر قادة صوماليلاند العودة إلى مرحلة ما قبل الوحدة، وإعلان الاستقلال عن جمهورية الصومال، وإعلان جمهورية صوماليلاند ـ أرض الصومال ـ دولة مستقلة في العام 1991. استطاعت هذه الدولة الوليدة أن تحافظ على الأمن والاستقرار لمواطنيها في منطقة مضطربة، لكنها لم تحظَ بالاعتراف الدولي حتى الآن.
إعلان ميزة الجغرافيا والديمغرافيالعبت عوامل الجغرافيا والديمغرافيا دورًا كبيرًا في دفع فكرة استقلال إقليم أرض الصومال إلى الأمام، وبسبب هذه العوامل يبدو أن الاعتراف بهذه الجمهورية من قبل المجتمع الدولي، أصبح قاب قوسين أو أدنى.
استطاع الإقليم أن يمنع انتقال فوضى الحرب الأهلية الصومالية إلى أراضيها، وذلك بسبب الديمغرافيا، لأن غالبية السكان تنتمي إلى قبيلة إسحاق، وأدى تماسك هذا العرق إلى تماسك الدولة. على عكس جمهورية الصومال التي استعرت فيها الحرب وما تزال بسبب التناحر بين الأعراق والقبائل، ويشهد على ذلك أن معظم الحلول التي اقترحت لتسوية الصراع في البلاد، كانت تقوم على إشراك الأعراق الكبرى مثل الهوية، الدارود، الرحوانيين، الدر، وغيرهم.
وهكذا أسهمت الديمغرافيا في إنجاح جهود الدولة في بسط الأمن والسلام في ترابها الوطني، وتحقيق تنمية معقولة، كما نجحت الدولة أيضًا في اعتماد نظام ديمقراطي يضمن الانتقال السلس للسلطة.
من جانب آخر، فقد كانت الجغرافيا عاملًا حاسمًا في اهتمام القوى الإقليمية والدولية بهذا الإقليم غير المعترف به. حيث تحظى أرض الصومال بموقع إستراتيجي مهم على خليج عدن وباب المندب، مدخل البحر الأحمر، وهو ممر دولي مهم تمر عبره 12% من تجارة العالم، وأكثر من 40% من التبادل التجاري بين أوروبا وآسيا.
أصبحت هذه المنطقة منطقة صراع دولي كبير، يؤكده العدد الكبير من الأساطيل البحرية العسكرية الغربية والشرقية التي تتقاطع في هذه المنطقة، لمحاربة القرصنة البحرية المتعاظمة، وغيرها من التحديات الأمنية، والتي أثرت بشكل مباشر على سلامة التجارة العالمية العابرة عبر البحر الأحمر، وقناة السويس في الطريق إلى أوروبا والولايات المتحدة. ونلمس ذلك عمليًا فيما يقوم به الحوثيون من تهديد مباشر لأساطيل الدول الكبرى رغم اختلاف ميزان القوى.
إعلانبالرغم من عدم الاعتراف الدولي بالإقليم، إلا أن كثيرًا من الدول كانت تتعامل معها بحكم الأمر الواقع، في قضايا التجارة والاستثمار لا سيما في الصيد البحري. وقد كانت إثيوبيا سباقة لتقنين التعامل مع أرض الصومال، حيث أنشأت مكتبًا تجاريًا، كان بمثابة السفارة في العاصمة هرجيسا. وكانت موانئ أرض الصومال أيضًا معبرًا لبعض السفن والأساطيل التجارية التي تنقل البضائع والمنتجات من وإلى أرض الصومال دون اعتراض أية جهة.
تجدد الصراع على إقليم أرض الصومال بشكل كبير في شهر يناير/ كانون الثاني من العام الماضي عندما أعلنت إثيوبيا عن اتفاقية وقعتها مع حكومة أرض الصومال قامت بموجبها باستئجار قطعة أرض في ميناء بربرة لتكونَ ميناء مستقلًا تستخدمه إثيوبيا وتشرف عليه القوات البحرية الإثيوبية لمدة نصف قرن، وذلك ضمن خطة إثيوبيا المعلنة للحصول على ميناء يتبع لها مباشرة على شاطئ البحر الأحمر.
أثار هذا القرار ردود فعل حادة من دول الإقليم، بالذات في الصومال ومصر، واستدعى حركة دبلوماسية واسعة أدت لقيام تحالفات جديدة عززت من الصراع الإقليمي والدولي حول البحر الأحمر وخليج عدن.
ولكن أهم تداعيات القرار الإثيوبي هو بروز تيار في العديد من الدول ينادي بالاعتراف بجمهورية أرض الصومال دولة مستقلة، بالرغم من التحفظات القانونية لهكذا قرار، ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تدعم هذا التيار بقوة.
لماذا الاعتراف الأحادي الأميركي؟دفع الصراع الدولي المتصاعد على البحر الأحمر وخليج عدن مراكز التفكير الأميركية لدراسة السبل المختلفة لتعظيم الوجود والنفوذ الأميركي في هذا الممر المائي الهام، وظهرت آراء عديدة تنبه وتحذر بأنه في حال قيام أي قوة دولية معادية لأميركا بالتمركز على شاطئ الإقليم الإستراتيجي فمن شأن ذلك أن يهدد المصالح الأميركية في باب المندب والخليج العربي.
إعلانتُعتبر الدراسة التي أعدتها مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية السابقة جنداي فريزر وآخرون، والتي نشرها مركز هوفر التابع لجامعة ستانفورد، واحدة من أهم ما كُتب بشأن العلاقة بين الولايات المتحدة وصوماليلاند. خلاصة هذه الدراسة الهامة، والتي تُعتبر كاتبتها من قادة التيار الأفريقاني للحزب الجمهوري، دعت الولايات المتحدة للاعتراف أحاديًا باستقلال الإقليم كدولة مستقلة عن الصومال.
وقدمت الدراسة حيثيات موضوعية من وحي مواقف دبلوماسية سابقة طبقتها أميركا، أهمها قرار الولايات المتحدة في العام 2008 الاعتراف أحاديًا باستقلال كوسوفو، رغم أنه لا يوجد إجماع دولي على ذلك، وأشارت الدراسة إلى أن جميع الحيثيات التي أوردتها وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس للاعتراف الأحادي باستقلال كوسوفو تنطبق تمامًا على إقليم أرض الصومال. وهي: مصلحة الولايات المتحدة، ووجود حكومة تسيطر على حدود الدولة، وضعف احتمال العودة إلى الوضع القديم، وإمكانية قيام نظام ديمقراطي في الدولة الجديدة.
أكدت الدراسة وجود حكومة مستقرة تسيطر جيدًا على الأمن والحدود، وتطبق الحكومة نظامًا ديمقراطيًا متميزًا مقارنة بدول الإقليم حولها، وأنه بعد أكثر من ثلاثين عامًا من انفصال الإقليم، فإنه لا يوجد احتمال للعودة للوضع القديم لتكون جزءًا من الصومال.
ركزت الدراسة بشكل أساسي على المصالح الكبيرة التي ستجنيها أميركا من اعترافها الأحادي بأرض الصومال، بالذات فيما يتعلق بتعزيز نفوذ أميركا وحلفائها في خليج عدن وباب المندب، والحفاظ على أمن البحر الأحمر ومحاربة القرصنة وضمان سلامة التجارة الدولية، التصدي لخطر الحوثي المتزايد، وغيرها من التهديدات الجيوستراتيجية في منطقة ذات أهمية اقتصادية وأمنية وسياسية بالغة لأميركا.
قللت الدراسة من ردود الفعل الإقليمية والدولية، بالذات رد فعل الصومال والاتحاد الأفريقي، واقترحت أن يتم إسكات الصومال بمنحها حوافز مادية كبيرة، وأن يُطلب من الاتحاد الأفريقي قبول الدولة الجديدة على غرار قراره السابق بقبول عضوية الجمهورية الصحراوية.
إعلان تحديات إستراتيجيةالدراسة التي كتبتها جنداي فريزر، تمثل رؤية تيار واسع من أقطاب التيار الأفريقاني في إدارة الرئيس دونالد ترامب، على رأسهم بيتر فام وبروس قيلي، وعضو الكونغرس الجمهوري سكوت بيري، الذي قدم مشروع قانون يطلب من حكومة الولايات المتحدة الاعتراف الأحادي باستقلال الإقليم. ولذلك يبدو أن مسألة الاعتراف الأحادي ستكون مسألة وقت فقط، ريثما تحصل الإدارة الأميركية الجديدة على كل ما تريده من حكومة الإقليم.
ومما يدعو أميركا للتعجيل بالاعتراف الأحادي باستقلال إقليم أرض الصومال، هو قرار الحكومة البريطانية بتسليم أرخبيل جزر شاغوس إلى موريشيوس، ومن شأن هذا القرار أن يحد من فاعلية استخدام أميركا قاعدة دييغو غارسيا في عرض المحيط الهندي. كما أن الوجود الأميركي الدائم في هذا الممر المائي الهام يضمن لأميركا تأمين طريق تجاري آخر في مواجهة مبادرة الحزام والطريق التي تقودها الصين. وفي كلتا الحالتين، فإن الإقليم سيكون ذو أهمية إستراتيجية عسكرية وتجارية لأميركا وحلفائها تبرر قرار الاعتراف الأحادي.
بالمقابل، فإن قرار الاعتراف الأحادي في حالة تنفيذه سيؤدي إلى تأجيج الصراع الدولي على البحر الأحمر، وستصبح هذه المنطقة مجال شد وجذب شديدين بين القوى المختلفة الطامعة في خيرات المنطقة، كما من شأنه أن يصعد حركة المقاومة الوطنية في الصومال لهذا التدخل الخارجي غير المحمود.
وإذا أخذنا في الحسبان توجه الإدارة الأميركية الجديدة التي ترغب في ضم كندا وغرينلاند وقناة بنما وتهجير سكان غزة، فإن هذا يعني نهاية العالم القديم القائم على السيادة وقدسية الحدود، وبروز عالم جديد أقرب لقانون الغاب، يقوم على القوة والقهر. وحينها لن يبقى مكان للضعفاء، ولن يكون العالم مكانًا آمنًا على الإطلاق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إعلان aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline