يُعد الشاعر خالد العلوي واحدًا من أبرز الشعراء الذين أخرجتهم مسابقات الملتقى الأدبي التي تنظمها وزارة الثقافة والرياضة والشباب، وجاءت مشاركات العلوي متزامنة مع الألفية الجديدة مقدّمًا نفسه واحدًا من الأصوات الشعرية الشابة في الشعر الشعبي في عُمان، وقد حقق معها مراكز متقدمة في مسابقات الملتقى الأدبي.

ولعل قصيدة (حديث العطر) من النصوص الشعرية التي قدّمها خالد العلوي في مسيرته الشعرية، وفاز بها بالمركز الأول في الملتقى الأدبي بصلالة عام 2002م في فرع المسابقة في الشعر الشعبي ونشرها لاحقًا في مجموعته الشعرية (مسافة ظل) الصادرة عن بيت الغشام للنشر والترجمة عام 2017م.

تقوم القصيدة على أحد عشر بيتًا شعريًا محمّلًا بدلالات اللقاء العذب والغياب الحزين، اعتمد فيها خالد العلوي على اشتغالات اللغة الرومانسية الحالمة المتدفّقة من ينابيع الذاكرة. تقودنا اللغة الشعرية في القصيدة إلى عوالم الشعر البديعة؛ فقد قدّم الشاعر في قصيدته الجماليات اللفظية التي ترتفع بالقصيدة جماليًا ودلاليًا مقدّمة النص الشعبي وهو منفتح على تأويلات الخيال العاطفي.

هنا يمكن للقارئ أن يلمح النسق التصاعدي للغة في نص شعري شعبي؛ حيث خرج الشاعر بقصيدته من قاموسها اللفظي البسيط المعتاد والمكرّر إلى ما يشبه الثورة اللغوية؛ إننا أمام نص يستعير من اللغة الفصحى دلالاته ولغته وتأويلاته الشعرية، وهذا بحد ذاته ينم عن تمكن شعري ومخزون كبير للشاعر كما في قوله: (صار الرصيف لدمعتي منديل، وصار للشارع وجوه وذاكرة وأحلام، وهنا أسرجت للتوبة خيول المغفرة من عام) وهي على بساطتها فإنها تمد جسر التشبيهات والخيال والعاطفة المبتكرة بالدلالة المقصودة داخل النص.

ينفتح النص الشعري -رغم قصره- على ثلاثة مستويات قدّمت بنائيته التركيبية؛ ففي المقام الأول نجد النص يفتتح دلالاته بالاسترجاع وإشعال الذاكرة، فللذاكرة مساحة مهمة في بناء النص كما سيأتي، وأنْ يفتتح الشاعر نصه باستدعاء الذاكرة فذلك لأنّ الحدث الذي يتشكّل منه النص مهم وقابع في الذاكرة الشعورية، إننا أمام افتتاحية يعود معها بالقارئ إلى الماضي، يقول:

على آخر شارع كانت تتوق لوصله الأقدام

ذكرتك لين ما صار الرصيف لدمعتي منديل

ذكرتك صار للشارع وجوه وذاكرة وأحلام

هنا مروا... نسوا فيني أماني وذكريات وليل

وذاك الركن.. يتنفس بقايا أمسنا المنظام

حديث العطر للردهة... شجون الريح للإكليل

هنا أسرجت للتوبة خيول المغفرة من عام

نسيت وما نسى ذنبك... عتم ما غازله قنديل

للقارئ أنْ يستشف من هذا المطلع دلالات الفعل الماضي التي تعود بنا إلى ذاكرة سابقة، وللقارئ أيضا أنْ يستشف دلالات الجذر الثلاثي لكلمة (ذكر) المتشكّل في المطلع والمعبّر عن الغياب والفراق الطويل، نجدها في لفظ: (ذكرتك، وذاكرة، وذكريات) المترابطة مع ألفاظ تشحن النص بدلالات تعلق بالذاكرة من مثل: (نسوا، أمسنا، من عام).

يبدأ الشاعر مطلع قصيدته باسترجاع مكاني متمثلٍ في الشارع، وشخصيةٍ يشتغل عليها موضوع الاسترجاع، فتتسع قيمة المكان/ الشارع ويلعب دورًا محوريًا في النص، فمن خلاله تتم الاستعادة واشتغال الذاكرة وحتى الاشتياق والرغبة في اللقاء.

أما المستوى الثاني الذي تقوم عليه تركيبة النص هو امتزاج الذاكرة باللقاء، ولعلنا نلمح ذلك في الأبيات من (5-8) إذ يقول:

هنا في غفلة اللحظة سألتك خطوتين هيام

توضأ أمسك وصلى بلا خشوع وبلا ترتيل

سألتك لين ما صار الحكي في شفتيني خيام

وصار العشب يتهجى السحاب وخانه التأويل

سألتك إن غدا حملي فراغ وهالخطاوي زحام

يجوز الكذب في شرعك... مثل ما حلله أبريل؟؟

سألتك والمدى لوني.. وتعابيري أسى وأوهام

وداعٍ يشبهك يكرم تفاصيلي دلال وهيل

هنا تمتزج الذاكرة بدلالات اللقاء ويستحضر الشاعر غياب من يحب معيدًا مع الذاكرة أسئلة قائمة في اللقاء، وهنا يتضاد اللقاء مع المستوى السابق للذاكرة والاستعادة، وهذا في حد ذاته يحيل على مثول الحبيبة لدى الشاعر في كل لحظات الحياة في الماضي والحاضر، وفي الفراق وفي اللقاء، في الذاكرة وفي الشعر، وهنا يوظف الشاعر اللغة توظيفًا جيدًا بتعابير متخيلة وبديعة من مثل: (توضأ أمسك وصلى بلا خشوع وبلا ترتيل، وصار العشب يتهجى السحاب وخانه التأويل، ويجوز الكذب في شرعك مثل ما حلّله أبريل).

ويستغل الشاعر اللقاء لتكثر الأسئلة المحيّرة الموزعة بين اللقاء والفراق، فيتكرّر الفعل (سألتك) أربع مرات في أربعة أشطر شعرية، وللسؤال هنا بالطبع قيمة دلالية يعبّر عنها الشاعر في إثبات قيمة الوجود والغياب، والعشق والتعلق بالآخر.

لكن الشاعر يختم قصيدته بالمستوى الثالث وهو العودة مجددًا للذاكرة وامتزاجها بالفراق، وهنا يتجه النص إلى الدلالات الشاحبة الحزينة المرتبطة بـ(المنافي، والاحتضار والنهايات):

أنا المنفي على ضفافك ظما يستجدي الأيام

وقفت فآخر الضي... احتضار وتمتمات بخيل

تمر اليوم بأهدابك شوارع تعشقك بهيام

ويمر الأمس بأهدابي غريب وباكرك تضليل

وأذكر وإحنا في الشارع قبل يمكن حوالي عام

بكى ذاك الرصيف وما لقينا لدمعته منديل

إنّ طول مسافة الغياب شكّلت لدى الشاعر هاجسًا حقيقيًا يعيشه في الحياة، لكنه عبّر عنه تعبيرًا مختصرًا في الشعر، مستخدمًا اللغة الإبداعية فسرعان ما عاد بعد استخدامه لدلالات اللقاء إلى الذاكرة التي صارت تشدّه شدًّا إلى عوالمها وذاكرتها، فنجده يمزج اللقاء في المستوى السابق بالفراق كما يمتزج الحب بالموت، وفي نقلة سريعة نجد النص يتحول إلى ختامية أقرب إلى الحزن والرحيل والاحتضار.

في أبيات قصيرة عبّر خالد العلوي عن مكنونات النفس الداخلية وتعابير الألم والفراق وتحولات اللقاء بلغة بديعة خلابة، واستطاع أن يقرأ ملامح هذا الصراع بين عالمين مختلفين، عالم اللقاء وعالم الفراق، وأن يجسّد صورة الغياب في هيئة إنسان يحاوره ويطرح أسئلته الكونية عليه.

إنّ نص (حديث العطر) من النصوص المهمة في تجربة الشاعر خالد العلوي، ولا أبالغ إن قلت إنه من أجمل نصوصه دلالة وحسًّا رومانسيًا وصورًا معبرةً ودهشةً رسمتها مخيلة شاعر. ولعل المتابع يدرك التطور الحاصل في تجربة العلوي في نصوصه اللاحقة لا سيما النصوص التي يركّز فيها على جماليات اللغة، وعمق الفكرة والتي يوجه من خلالها رسائل شعرية بديعة تستحق التأمل والدراسة والبحث.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الشعر

إقرأ أيضاً:

منير قليبو يطلق معرضه الفوتوغرافي “عدسة الذاكرة” على منصة Picfair العالمية

أطلق عاشق فلسطين التاريخية والمبدع المقدسي منير قليبو معرضه البصري المفتوح بعنوان “عدسة الذاكرة” عبر منصة Picfair العالمية، كأرشيف فوتوغرافي حيّ يوثق الحياة اليومية والجمال الإنساني في فلسطين التاريخية، كما رصدته عدسته على مدار أكثر من خمسة عشر عامًا.

ويضم المعرض نحو 4000 صورة فوتوغرافية منتقاة، مصنّفة ضمن ألبومات بحسب المناطق الجغرافية، حيث تشمل المدن والمحافظات الفلسطينية التاريخية، من القدس (بشقيها الشرقي والغربي) إلى رام الله والبيرة، بيت لحم ، الخليل، نابلس ، أريحا، طولكرم، غزة ، وصولًا إلى يافا، حيفا، عكا، الناصرة، صفد وغيرها من المدن والقرى المهجّرة. وقد تم إرفاق نبذة تعريفية بكل ألبوم لإغناء التجربة البصرية بالمعلومة والسياق التاريخي.


 

وتبرز في المعرض مشاهد من الحياة اليومية، والأسواق، والأزقة، والجبال، والبحر، والمزارع، والمآذن، والكنائس، والشوارع، والوجوه الفلسطينية التي لا تزال تقاوم النسيان والتهميش، في سرد بصري يزاوج بين الحنين والواقع، التوثيق والجمال.

وفي حديثه عن المشروع، قال قليبو: “من خلال عدستي، أقدّم لكم فلسطين كما رأيتها، وكما أحب أن تُرى: أرضًا وإنسانًا، ذاكرة حية، وصورة نابضة بالجمال والهوية.”

وأضاف أن هذا المعرض البصري سيتوسّع قريبًا ليشمل تغطيات فوتوغرافية من بلدان عربية أخرى، من بينها الأردن، لبنان، الإمارات (دبي)، المغرب، تونس، مصر، والجزائر، ضمن رؤية توثيقية فنية للحياة الثقافية والاجتماعية في الإقليم العربي حيث تنقل وتجول ووثق طبيعة وجمال البلاد العربية على امتداد عقدين من الزمن .

 يمكنكم زيارة معرض “عدسة الذاكرة” عبر الرابط التالي: اضغط هنا

 

المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين استصدار قرار بتجميد هدم 104 مبانٍ في مخيم طولكرم فتوح: ما يجري بغزة تجاوز كل حدود الإنسانية والعقل وسط صمت وتواطؤ دوليين حملة اعتقالات إسرائيلية تطال طلبة ثانوية عامة في سلفيت الأكثر قراءة إسبانيا تطالب بتعليق اتفاق التعاون الأوروبي مع إسرائيل فورا شبكة المنظمات الأهلية: غزة على شفا كارثة إنسانية بسبب التجويع والعطش بن غفير: وقف المساعدات لغزة يقربنا من النصر وسأعيد طرح الملف في الحكومة "القسام" تعلن تدمير دبابات ومركبات عسكرية إسرائيلية شرق جباليا عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

مقالات مشابهة

  • ما دلالات عودة برلمان اليمن للواجهة عبر اللجان الميدانية؟ قراءة في التوقيت والأبعاد والتحديات (تحليل)
  • عبد النباوي يُنتخب رئيسًا لجمعية المحاكم العليا التي تتقاسم ‏استعمال اللغة الفرنسية
  • اللجنة الشبابية بنادي صحم تعلن نتائج مسابقة الإبداع الثقافي لعام 2025
  • في إطار اللقاءات التي ينظمها المرصد..حملاوي تستقبل عدد من الجمعيات
  • معرض الوقف الطلابي ببهلا يستعرض الإبداعات ويدعم استدامتها
  • منير قليبو يطلق معرضه الفوتوغرافي “عدسة الذاكرة” على منصة Picfair العالمية
  • بينَ النصِّ والقارئِ
  • تفكك الذات وانزياح اللغة في قصيدة ” رسالة عاجلة إلى الشعر” دراسة رمزية تفكيكية
  • برحيل الأستاذ عوض بابكر، تُطوى صفحة من صفحات الذاكرة السياسية السودانية
  • لماذا يجب تجنب رشّ العطر قبل ركوب الطائرة؟ إليك أهم نصائح الخبراء