لم يمضِ عام على عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب على غزة، حتى اتسع العدوان الصهيوني ليشمل عدة دول في المنطقة، متجاوزًا كل الخطوط الحمراء في حرب الإبادة التي يشنها على الشعب الفلسطيني وداعميه. لم يميز هذا العدوان بين عسكريين ومدنيين، أو بين منشآت عسكرية ومدنية، مستهدفًا المقاتلين والقيادات السياسية، كان آخرهم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وعدة قيادات أخرى، في رسالة واضحة بانعدام الضوابط أو الخطوط الحمراء في حربه الدموية.

يتزامن ذلك مع انتشار البروباغندا الإسرائيلية التي تجد صدى لدى عديد من أعداء إسرائيل الذين يقاومون وجودها، كل لأسبابه الخاصة. لكن المشكلة تكمن في أن تكرار هذه الدعاية من قبل بعض النخب والمحللين والقيادات السياسية دون الانتباه لتأثيراتها السياسية والإعلامية، قد يخدم في النهاية الدعاية الإسرائيلية نفسها، ويسهم في تعزيز السردية الصهيونية التي تركز على فكرة أن إسرائيل هي الضحية، محاولين احتكار هذا الدور في الضمير العالمي، وفي الوقت نفسه تصوير الفلسطينيين والمسلمين كمعتدين متوحشين يشكلون تهديدًا لليهود وكيانهم.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا دار في خلد السنوار وهو يخطط لعملية "طوفان الأقصى"؟list 2 of 2تزايد الكلفة اليومية لحرب إسرائيل على غزة مع توسع الجبهاتend of list الاحتلال إلى زوال حتمًا.. ولكن

لا يختلف المؤمنون بالحق الفلسطيني وعدالة قضية فلسطين على أن مصير الاحتلال حتمًا إلى زوال، وأنه لن يكون استثناء تاريخيًا، فهذه قاعدة لم تُخالف في أي من بلدان العالم، وباستثناء مناطق العالم الجديد الذي تمت فيه إبادة الشعوب الأصلية بشكل شبه كامل، كالولايات المتحدة الأميركية، لم يبقَ شعب على وجه الأرض يخضع للاحتلال بشكل دائم.

يضاف إلى ذلك أن هذا الاحتلال يفتقد للحق في الأرض التي يحتلها، وهو لا ينتمي للمنطقة ولا يربطه بها أي رابط حضاري أو فكري أو قومي، فجمهوره خليط من القوميات والثقافات والجنسيات المختلفة. كما أن موقف الشعب الفلسطيني القاطع في رفضه الاحتلالَ والإصرار على مقاومته، وخصوصية أرض فلسطين لدى الشعوب العربية والإسلامية، عاملٌ حاسمٌ في عدم وجود مستقبل للاحتلال على أرض فلسطين.

وقد فاقم سلوكه المتوحش منذ تأسيسه حتى اليوم حالة العداء له، ليس من قِبل الشعب الفلسطيني، فحسب وإنما من قبل كل شعوب المنطقة العربية والإسلامية، بل إن هذا العداء يتنامى اليوم، بفعل حرب الإبادة الجماعية التي ينفذها في قطاع غزة، بين شعوب دول كثيرة طالما دعمته وبالذات الدول الغربية.

ذلك لا يعني أن نغفل عن الأهداف الإسرائيلية من كثرة الحديث عن الخطر الوجودي الذي تتعرض له، فرغم ما قد يبدو أنه تعبير عن الشعور بعمق المأزق، والخوف الدائم على المستقبل، فإنه يهدف أيضًا إلى:

أولًا: ترسيخ فكرة المظلومية والاضطهاد: يحاول الكيان الصهيوني بخطابه الذي يركز على الخطر الوجودي احتكارَ صورة المضطهد في العالم، وربطها بما يسميه "الشعب اليهودي" وما تعرض له اليهود في ألمانيا على يد النازية، بل ويستذكر كل المحطات التاريخية التي تعرض فيها اليهود للاضطهاد، كالذي حدث في روسيا القيصرية، وإسبانيا، وغيرهما، ويركز على أن الكيان هو المكان الآمن الوحيد لليهود الذي يجب حمايته بكل السبل الممكنة، وأن على العالم أن يساعده على ذلك، وبالذات الجهات التي يتهمها بأنها ساهمت في هذا الاضطهاد، أو تؤمن بفكرة الخلاص.

ثانيًا: تبرير التوحش والجريمة: تستثمر إسرائيل وجيشها في بروباغندا الخطر الوجودي والمظلومية في تبرير التوحش الذي تمارسه، والجرائم التي ارتكبتها وما زالت، وكان آخرها حرب الإبادة الجماعية في غزة، وتحاول إعطاء الانطباع بأنها تفعل كل ذلك؛ لأن خطرًا وشيكًا على وجودها قائم، وأن من تمارس بحقهم كل هذا القتل والتدمير والإبادة يشكلون خطرًا عليها. وعليه فكل ما تقوم به مبرر؛ لأنها تدافع عن وجودها.

ثالثًا: صفرية الصراع؛ "وجود أو فناء": تتبنى إسرائيل، وبالذات حكومتها الحالية الفاشية، نظرية انعدام الحلول الوسط مع الفلسطينيين، وأنه لا خيار سوى تصفية الوجود المادي الفلسطيني على أرض فلسطين.

والحكومة الحالية، تعتقد بأن الوقت قد حان لـ "حسم الصراع"، وإنجاز ما لم يتم إنجازه في العام 1948 من خلال طرد أو إخضاع من بقي من الفلسطينيين داخل حدود فلسطين التاريخية، ويتم التنظير بأن هذه الجغرافيا "فلسطين"، لا يمكن أن تتسع سوى لطموح وطني لشعب واحد، وهو من وجهة نظرهم "الشعب اليهودي".

وعليه لا بد من دفع الفلسطينيين لليأس من إمكانية تحقيق طموحاتهم الوطنية في فلسطين. وهم يحاولون ذلك بتكثيف الجرائم والقتل والتدمير، وصولًا إلى الإبادة الجماعية، ولتغطية كل ذلك يستخدم شبح الخطر الوجودي أيضًا.

رابعًا: استجلاب الدعم: يدرك قادة الكيان منذ تأسيسه أن المنطقة لن تسلّم بوجود كيانهم، وأن الشعب الفلسطيني لن يخضع لمخططات التهجير أو الخنوع، وسيستمر في المقاومة حتى نيل حقوقه، وعليه فالبيئة المحيطة بالكيان معادية دومًا، ولن ينعم بالأمن أو الاستقرار، ورغم التطبيع الرسمي لعدد من الدول العربية، فإن ذلك لم يغير شيئًا من نظرة الشعوب للكيان، ورفضها وجودَه، واعتباره خطرًا يتهدد مستقبلها، وهو ما تعبر عنه الشعوب في كل فرصة تسنح لها.

هذا الواقع يعني أن الكيان، ونظرًا لضعف قدراته الذاتية حتى وإن امتلك قنابل نووية، يحتاج للرعاية والدعم الخارجيَين الدائمين، وبالذات من الدول التي أنشأته ورعته كمشروع وظيفي خاص بها، مستخدمة جملة من الحجج والمقولات الزائفة؛ لتبرير هذه الرعاية، واعتبار الكيان الملاذ الآمن الوحيد لهم، وعليه فحمايته والحفاظ على وجوده أمر ليس ذا أهمية كبيرة فقط بل هو "أخلاقي" أيضًا. لذلك نجد هذه الدول تتسابق فيما بينها للتعبير عن دعمها ورعايتها للكيان المهدد، فيما يستمر هو في رسم صورة الضحية والحديث عن الخطر الوجودي.

خامسًا: تعزيز التضامن الداخلي: تستخدم الحكومات الإسرائيلية نظرية التخويف والفوبيا الدائمة من المستقبل؛ لتعزيز التضامن الداخلي في المجتمع الإسرائيلي من خلال الشعور الدائم بالمصير المشترك، وتستمر بتغذية خوفهم من المستقبل والخطر الوجودي الذي يتهددهم؛ لضمان استمرار هذا التضامن، والوقوف خلف سياسات الحكومة، لا سيما العدوانية منها.

تزداد هذه النظرية أو الإستراتيجية أهمية في مجتمع ممزق ويعاني من تنوع عرقي وقومي كبير، ويفتقد للمشتركات التاريخية والثقافية والحضارية، ولا يجمع أعضاءَه، بالإضافة لخرافاته التاريخية، سوى الخوف الذي رافقهم من الماضي، وما زال يسكنهم حتى اليوم.

يساند ذلك حقيقة أن الانتماء الوطني للجغرافيا التي يعيشون فيها غير حقيقي، ويتجلى ذلك في الهجرة العكسية كلما حدثت أزمة أو حرب، وكذلك عزوف غالبية اليهود عن الهجرة إلى فلسطين المحتلة، رغم مرور كل هذا الوقت على إقامة "إسرائيل"، فعدد اليهود في الولايات المتحدة وحدها يعادل اليهود في فلسطين المحتلة.

وعندما تضعف مغريات (أرض العسل واللبن) والحياة الرغيدة نتيجة الحروب والتحديات المستمرة، يعاد تضخيم فكرة الخطر الوجودي؛ لضمان استمرار التضامن والوحدة الداخلية.

آن الأوان أن (تُقلب)، وبشكل أدق أن تُعدّل، الرواية لتكون على حقيقتها، وأن يتم الحديث عنها بشكل واضح وصريح، بأن الشعب الفلسطيني هو المهدد وجوديًا، وهو الذي استهدف وجوده على أرضه منذ ما يزيد على مئة عام، وأن الاحتلال الصهيوني هو الخطر الوجودي الحقيقي، ليس على الفلسطينيين فحسب، بل وعلى العديد من شعوب ودول المنطقة

الخطر الوجودي.. مَن يهدد مَن؟

القراءة المتأنية للمشهدَين: الدولي والإقليمي وللمعطيات الخاصة بدولة الاحتلال وأعدائها، تشي بواقع مغاير لما يحاول الاحتلال الترويج له، كما أنها تنفي فكرة التهديد الوجودي للاحتلال في هذه المرحلة على الأقل، وتؤكد أن كل ما يدعيه الاحتلال يأتي في إطار البروباغندا والتضليل السياسي، وذلك للاعتبارات التالية:

الاستقرار النسبي في المشهد الدولي وموازين القوى فيه والتي ما زالت تلعب لصالح الاحتلال، وبالذات في مواجهته مع قوى المقاومة، إذ لا تكاد تجد قوة دولية وازنة تعارض بشكل جاد، ناهيك عن أن تكون معادية، سياسات الاحتلال الإجرامية بحق الفلسطينيين، ولا تزال الدول التي يعول عليها لتحدث توازنًا في المشهد الدولي، وبالذات روسيا والصين، مترددة أو تنأى بنفسها عن التدخل في الحرب الدائرة، لا بل إن بعضها يعتبر داعمًا بشكل أو بآخر للكيان. استمرار الرعاية الغربية، وبالذات الأميركية، الكاملة وغير المشروطة للكيان، وتقديم كل الدعم اللازم له بمعزل عن بعض التباينات السياسية مع حكومته.

هذه الرعاية لا تقتصر على الدعم العسكري اللامحدود، والتعهد الدائم بحماية إسرائيل والدفاع عنها، بل تتعداهما إلى الإسناد السياسي ومساعدتها في إنجاز أهدافها من الحروب التي تخوضها، وتعويض ما لا تستطيع أن تنجزه عسكريًا بمنجزات سياسية تعمل الولايات المتحدة على فرضها على الأطراف المختلفة في المنطقة.

استمرار فاعلية الوظيفة التي أقيم الكيان من أجلها. فالقوى الاستعمارية التي أسست الكيان وحددت الجغرافيا التي ينبغي أن يقام عليها، وضمنت له الاستمرار والبقاء حتى اللحظة؛ لكي يخدم رؤيتها الاستعمارية والإمبريالية في المنطقة، ما زالت تتصرف كقوى استعمارية، وما زالت تنظر للمنطقة العربية والإسلامية بذات النظرة، وهي تعتقد بأن الكيان ما زال أداة استعمارية حيوية بالنسبة لها.

وعليه فالمحافظة عليه ودعمه وحمايته ضرورة ومحل اتفاق بين هذه القوى، إلى حد أن الدولة الكبرى والأهم بين هذه الدول، الولايات المتحدة الأميركية، ما زالت وفق ما جاء على لسان رئيسها الحالي جو بايدن، تعتقد بأنه لو لم تكن إسرائيل لكان عليها اختراع إسرائيل.

ضعف الموقف العربي والإسلامي الرسمي العام، مع التباين في مواقف الدول، سواء من الكيان الصهيوني بشكل عام أو من ممارساته وسياساته العدوانية.

فالدول العربية والإسلامية، باستثناء إيران ومجموعة من القوى والحركات ما دون الدولة، تلتزم منذ أمد بموقف سلبي تجاه الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وقد نأت معظم هذه الدول بنفسها عن التدخل المباشر في الصراع، وحافظت على مواقف سياسية غير مؤثرة على مسار الصراع.

ومما يزيد الموقف ضعفًا التسارع الكبير في التطبيع الرسمي، وبالذات العربي، مع دولة الاحتلال، وكذلك انهيار عدد من الدول العربية الوازنة بعد أن غرقت في حروب داخلية مزقت فيها الجغرافيا والشعوب.

التفوق العسكري النوعي، حيث تتفرد دولة الاحتلال بامتلاك أحدث الأسلحة المصنعة غربيًا، الأميركية منها بالذات، بالإضافة لترسانة نووية كبيرة لا يعلم أحد حجمها الحقيقي.

إذ لم تكتفِ الدول الغربية بتوفير الحماية للكيان بل زوّدته بكل أسباب القوة العسكرية وأدواتها، فقامت فرنسا ببناء مفاعل نووي للكيان مكّنه من تصنيع عدد غير معلوم من القنابل النووية، واستمرت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية في تزويده بأحدث الطائرات والصواريخ والمعدات العسكرية، فضلًا عن الدعم الأمني والاستخباري اللامحدود.

بناء على كل ما سبق، لا ينبغي أن ينطلي على الفلسطينيين، وكل من يساندهم ويدعمهم، الدعاية الإسرائيلية حول الخطر الوجودي، ولا بد من وضع الأمور في نصابها الصحيح، فالفلسطيني هو المهدد وهو المظلوم وهو ضحية للاستعمار القديم والحديث، ووجوده على أرضه في خطر حقيقي، وهو من هُجّر ما يزيد على نصفه من أرضه، ولا يزال نصفه الآخر يتعرض لخطر التهجير، أي الخطر الوجودي، في ظل التهديد العلني والمتكرر من الحكومة الفاشية للاحتلال بذلك.

آن الأوان أن (تُقلب)، وبشكل أدق أن تُعدّل، الرواية لتكون على حقيقتها، وأن يتم الحديث عنها بشكل واضح وصريح، بأن الشعب الفلسطيني هو المهدد وجوديًا، وهو الذي استهدف وجوده على أرضه منذ ما يزيد على مئة عام، وأن الاحتلال الصهيوني هو الخطر الوجودي الحقيقي، ليس على الفلسطينيين فحسب، بل وعلى العديد من شعوب ودول المنطقة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات العربیة والإسلامیة الولایات المتحدة الشعب الفلسطینی الخطر الوجودی الوجودی ا من الدول ما یزید ما زالت على أرض

إقرأ أيضاً:

كانديس أوينز.. اليمينية السوداء التي ناصرت فلسطين وعادت الصهيونية

على الأغلب، كان أفراد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتوقّعون أن يهاجمهم اليسار الأميركي، الذي هاجم سلفه الرئيس السابق جو بايدن، على موقفهم الداعم لدولة الاحتلال أثناء حرب الإبادة على قطاع غزة، لكن لعل ما لم يتوقعوه هو الضغط الهائل الذي مارسته مجموعة من أبرز المؤثرين والإعلاميين اليمينيين المحافظين في البلاد ضد ممارسات دولة الاحتلال والانحياز الأميركي الأعمى لها.

وواحدة من أبرز هؤلاء الإعلاميين التي لم تدخِر جُهدا في الهجوم على دولة الاحتلال وعلى السياسة الأميركية تجاهها هي كانديس أوينز، الإعلامية اليمينية المسيحية المحافظة، التي اشتهرت بمقولتها: "الله سينتقم من كل مَن يدافع عن ما ترتكبه إسرائيل في غزة".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماركس يغزو نيويورك.. الثروة ملك إيلون ماسك وممداني يملك الشارعlist 2 of 2هل أصبح تيك توك في قبضة إسرائيل بعدما استحوذ عليه الملياردير الغامض؟end of list

إن هذا الاتجاه غير المألوف الذي جسَّدته كانديس وأمثالها في صفوف اليمين الأميركي المحافظ، ومخالفتهم موقف اليمين المُعتاد من دولة الاحتلال، قد مثل ضغطا جديدا من نوعه على الإدارة الأميركية في الفترة الأخيرة من الحرب، خاصة أن الضغط استهدف القاعدة الانتخابية لترامب، وكان مبنيا على حجج مُقنعة للمواطن الأميركي المحافظ المتديّن الذي تعتمد الإدارة الأميركية على صوته.

كان نقد كانديس ورفاقها يرتكز على فكرة أن سياسة ترامب تجاه دولة الاحتلال مناقضة لشعار "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، فضلا عن أن خطابها يركّز على استثارة النزعة الوطنية الأميركية بالتركيز حول فكرة انصياع الولايات المتحدة الدائم للمصالح الإسرائيلية حتى حين تخالف تلك المصالح الأولويات الأميركية.

وتهاجم كانديس الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة تحتاج لدولة الاحتلال، وتؤكد على حقيقة أن الولايات المتحدة كانت موجودة وفاعلة وقوية قبل حتى أن تتأسس دولة الاحتلال بفترة طويلة.

ليس هذا فحسب، بل إن كانديس قد وجَّهت قطاعا من الرأي العام الأميركي اليميني بعد مقتل تشارلي كيرك نحو اتجاه جديد للغاية حين أشعلت الجدل بقولها في برنامجها إن بيل أكمان، وهو من أبرز مؤيدي حملة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، وفي الوقت نفسه من أبرز مؤيدي دولة الاحتلال الإسرائيلي، قد هدَّد كيرك بعد أن وجد أنه على وشك تغيير آرائه بشأن ما يحدث في غزة وبشأن تأييده المطلق لدولة الاحتلال في ما سبق.

إعلان

وحسب بليك نيف، وهو الرجل الذي أنتج العديد من أعمال تشارلي كيرك، فإن الهجمات التي شنتها كانديس على اليمينيين من أصدقاء كيرك، الذين اتهمتهم بمحاولة التأثير عليه وتهديده قبل اغتياله، قد عرَّضت هؤلاء الأشخاص لمضايقات جمَّة نظرا لأن قطاعا كبيرا من الجمهور تأثر برواية كانديس عن الأحداث.

ما قصة كانديس أوينز إذن، التي وصفتها صحيفة الإندبندنت بكونها من أخطر النساء وأكثرهن تأثيرا على الإنترنت، والتي تُعَد واحدة من أبرز وأشهر الصحفيين اليمينيين المستقلين في الولايات المتحدة، بعد أن وصلت شهرتها إلى العالمية، ولعبت دورا هاما على المستوى الثقافي في الخندق المُعادي لدولة الاحتلال في الإعلام الغربي مؤخرا؟

لعل أهم ما عزز الصلة بين كانديس وجموع كبيرة من الجمهور الأميركي هو دفاعها عن قِيم الأسرة المسيحية وهجومها العنيف على النسوية (غيتي)الثورة اليمينية السوداء والحبة الحمراء

بدأت حياة كانديس أوينز بداية مختلفة عمَّا وصلت إليه الآن من قناعات، فقد كان سبب شهرتها في البداية مناقضا لقواعد شهرتها الحالية للمفارقة. ففي حين تشتهر كانديس اليوم برفضها عقلية الضحية التي يعيش بها قطاع عريض من أصحاب البشرة السوداء والنساء في الولايات المتحدة من وجهة نظرها، كان سبب شهرتها الأوّلي في الواقع كونها ضحية.

ففي عام 2007، حينما كانت كانديس أوينز طالبة في مدرسة ستامفورد الثانوية وتبلغ من العمر 17 عاما، تحوَّلت إلى حديث الصحف الأميركية بسبب شكواها المتعلقة بتلقيها رسائل صوتية تحتوي على خطاب كراهية عنصرية وتهديدات بالقتل من مجموعة شباب، كان من بينهم ابن رئيس البلدية في المنطقة.

وقد استطاعت عائلة أوينز آنذاك أن تتلقى 37 ألفا و500 دولار من الإدارة التعليمية التي تتبع لها مدرستها للتسوية بعد أن تقدمت العائلة بشكوى للجمعية الوطنية للنهوض بالمُلوَّنين ضد الإدارة التعليمية في ستامفورد بدعوى أنها قصَّرت في حمايتها وفي استجابتها لحالتها بعد تعرُّضها لتلك الحادثة.

بعد أن تركت كانديس دراستها الجامعية وواصلت تعليمها لنفسها، تدرَّبت في مجلة "فوغ"، ثم عملت في شركة استثمار بمدينة نيويورك، وبحلول عام 2015 تمكَّنت كانديس أيضا من إنشاء وكالة تسويق تُدعى "180 درجة"، وقد كانت هناك مُدوَّنة تابعة لتلك الوكالة تكتب فيها كانديس مقالات معادية بشدة لليمين وللأفكار المحافظة، إلى درجة أنها كانت تسخر على نحو جنسي من الرمز اليميني الصاعد آنذاك دونالد ترامب.

حتى هذا التوقيت كانت كانديس على طريقها لتصبح ناشطة في تيار اليسار الليبرالي الديمقراطي، خاصة أنها هي نفسها امرأة سوداء تعرضت لخطاب الكراهية العنصري، ومن ثمَّ عُدَّت قصتها تجسيدا لفكرة "سياسات الضحية" التي كان يُروِّج لها اليسار الليبرالي الأميركي في هذا التوقيت، والتي تعني التركيز على الفئات المستضعفة مثل النساء وأصحاب البشرة السوداء ومحاولة تمكينهم وإعطائهم امتيازات تحصنهم في مجتمع يتعرضون فيه للتهميش والاضطهاد، حسب الخطاب السائد آنذاك.

ولكن بحلول منتصف العقد الثاني من القرن تعرّضت كانديس لحادثة غيَّرت مسار حياتها، فقد أعلنت عن منصة لمكافحة التنمر اسمها "سوشيال أوتوبسي"، كان هدفها فضح المتحرشين والمتنمرين على الإنترنت بجمع منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وربطها بالهويات الحقيقية لمَن كتبها بما في ذلك عناوينهم وأسماؤهم ومدارسهم، لتُفاجأ كانديس آنذاك بسيل من النقد اللاذع من المنتمين للتيار الليبرالي واليساري والنسوي نفسه، الذي رأى قطاع منه في مشروعها استنساخا لتكتيكات المتحرشين والمتنمرين أنفسهم، وأن مثل هده المنصة قد تُعرِّض النساء والمُلوَّنين والمنتمين لمجتمع الميم أنفسهم لأزمات كبيرة.

إعلان

اعتبرت كانديس أن الهجمة على مشروعها كشفت لها حقيقة التيار التقدُّمي، وأنه تيار منافق من وجهة نظرها، كما وصفت ما مرَّت به بعد ذلك قائلة: "لقد أصبحتُ محافظة بين عشية وضحاها، إذ أدركتُ أن الليبراليين هم العنصريون والمتنمرون الحقيقيون".

وفيما بعد، أنشأت كانديس عام 2017 قناة على يوتيوب بعنوان "حبة حمراء سوداء"، وتعبير الحبة الحمراء هو تعبير مُستقى من فيلم "الماتريكس"، ويعني اختيار حبة معرفة الحقيقة المُرَّة التي يخفيها المجتمع. وقد بدأت في نشر مقاطع تُروِّج فيها للأفكار المحافظة، وتقول إن مشاكل السود الحقيقية تكمُن في ثقافتهم وأفعالهم هم، وليس في الاضطهاد الهيكلي المستمر من البيض.

وبدأت كانديس تستخدم الإحصاءات والبيانات لتدلل على ذلك، داعية المجتمع الأسود في الولايات المتحدة الأميركية أن يتخلى عن ثقافة الضحية التي ينشرها بينه الديمقراطيون والتقدُّميون، وأن يتيقَّظ لحقيقة أن الأغلبية المطلقة التي تتجاوز 90% من ضحايا العنف من السود يحدث لهم ذلك في جرائم يرتكبها سود مثلهم، وأن نسب الآباء الذين يتركون أسرهم ويتخلون عن أبنائهم تتعلق بما يفعله السود أنفسهم في بعضهم البعض، وليس لها علاقة باضطهاد البيض لهم، على حد وصفها.

اكتسبت مقاطع كانديس المناهضة للأفكار التقدمية والنسوية وسياسات الهوية والضحية متابعين كُثرا في وقت تمتعت فيه تلك الأفكار بسطوة كبيرة، وكانت مناهضتها فعلا جريئا في حينه ومحفوفا بالمخاطر. ولكن ما أكسب كانديس القدرة على الاستمرارية واجتذاب المزيد من المتابعين هو قدرتها الكبيرة على المناظرة واستخدام البيانات والبراهين لإثبات قوة حُجتها.

بحلول نهاية عام 2017، أصبحت كانديس مديرا للمشاركة الحضارية بمنظمة "نقطة تحوُّل الولايات المتحدة الأميركية"، تلك المنظمة الشهيرة التي ارتبطت باسم مؤسسها تشارلي كيرك وكانت تنظم فعاليات للمحافظين واليمينيين في الولايات المتحدة، ثم أصبحت مديرة الاتصالات بالمنظمة. وفي حين التقى تشارلي كيرك بكانديس للمرة الأولى في مؤتمر لليمينيين المحافظين بفلوريدا في ذلك العام، قال إنه بعد 30 ثانية من رؤيتها على المسرح قال لنفسه إنه لم يرَ موهبة مثلها طوال سنوات عمله في السياسة، ومن ثم سرعان ما وظَّفها.

كانت كانديس تتحول بسرعة رهيبة من فتاة اشتهرت في بداية حياتها بسبب تعرضها لحادثة تنمر عنصري إلى ناشطة ذات جماهيرية واسعة بين المحافظين والأميركيين من أصحاب البشرة البيضاء، ومناهضة لحركة "حياة السود مُهِمة" (Black Lives Matter) بوصفها حركة تُرسِّخ نظرة غير واقعية للسود على أنهم ضحايا.

صارت كانديس أيضا صحفية بارزة ذات علاقة ناشئة قوية بالرئيس الأميركي ترامب الذي اعتبرته أفضل رئيس للسود في الولايات المتحدة، وكان ترامب قد وصفها بأنها امرأة ذكية، ولعل أهم ما عزز الصلة بين كانديس وجموع كبيرة من الجمهور الأميركي هو دفاعها عن قِيم الأسرة المسيحية وهجومها العنيف على النسوية في وقت رأى فيه كثير من الرجال الأميركيين البيض أنفسهم مظلومين ولا صوت لهم في الخطاب الإعلامي السائد.

منذ بداية حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة وقفت كانديس أوينز بوضوح إلى جانب غزة (الفرنسية)

باختصار، وفي وقت التف فيه مجتمع السود حول الأفكار التقدمية والديمقراطية، حاولت كانديس أن تقود ثورة سوداء في المجتمع الأسود نفسه، بقولها إن اليسار يحاول دوما أن يُقنِع السود بأكاذيب من وجهة نظرها، وهي أكاذيب تؤدي في النهاية إلى ترسيخ عقلية الضحية واختلاق الأعذار بدلا من الفعل والمبادرة لتغيير الواقع، فبدلا من أن يبدأ الرجل الأسود والمرأة السوداء في محاولة استغلال إمكاناتهم للوصول للنجاح وللأسرة المستقرة، يغرقون دوما في فخ التفكير في الماضي والعنصرية المُمنهَجة وما إلى ذلك، وحينها يتوقف السود عن النظر للمشاكل المتعلقة بالثقافة السائدة بينهم التي تؤدي لاستمرار الفقر.

إعلان

بدأت كانديس تتبنى أيضا خطابا مثيرا للجدل بقولها إنه إن كانت هناك عنصرية، فهي ضد البيض وليس السود، فإذا قال أي أبيض شيئا، حتى لو كان عاديا، لكن يمكن أن يُشم منه رائحة العنصرية، فحينها سيتعرض لثقافة الإلغاء ويتم إقصاؤه، في حين أن الشخص الأسود يمتلك حرية أكبر خلال هذا العصر في التعبير عن نفسه وعن آرائه.

باختصار بَنَت كانديس أفكارها، ليس بإنكار وجود حالات عنصرية على المستوى الفردي ضد السود في الولايات المتحدة، ولكن بإنكارها أن يكون هناك حجاب غير مرئي يمنع السود من النجاح الفردي كما يدعي اليسار من وجهة نظرها، وأنه لربما كان حقيقيا في الماضي، لكنه منذ سنوات طويلة لم يعد كذلك، وأن المجتمع الأسود يجب أن يتبنَّى الآن فكرة المسؤولية الشخصية والتحلّي بأخلاقيات عمل أفضل واتباع نهج أكثر انضباطا في الحياة والتمسُّك بقِيم الأسرة وعدم إنجاب أطفال قبل الزواج، كي يُغيِّر واقعه الاقتصادي والاجتماعي دون الدخول في ماراثون الاضطهاد الذي يريد اليسار أن يُدخِل فيه الجميع، وأن يلعب فيه أفراد المجتمع دور الضحية إلى ما لا نهاية.

يقول الكثيرون من منتقدي كانديس أيضا إنها كانت تروّج لنظريات المؤامرة، وحسب صحيفة لوموند الفرنسية فإنها "مؤيدة قوية لبعضٍ من أغرب نظريات المؤامرة" مثل تشكيكها في وصول الأميركيين إلى القمر، وتشكيكها في أرقام الوفيات الناجمة عن جائحة كورونا عام 2020، فضلا عن رفضها للقاحات والتطعيم، واتهامها النشطاء من أقصى اليسار الراديكالي بمهاجمة شخصيات بارزة في الحزب الديمقراطي الأميركي برسائل مفخخة في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وهو أمر ثبت بعد ذلك من تحقيقات الشرطة أنه كان بفعل عضو من الحزب الجمهوري نفسه ومؤيد لترامب.

يُضاف إلى ذلك العاصفة العالمية التي أثارتها مؤخرا بسلسلة حلقاتها التي حاولت أن تبرهن فيها على أن زوجة الرئيس الفرنسي ماكرون رجل بيولوجيا وليست امرأة، وقد راهنت بتاريخها الصحافي كله وفق كلماتها على أن تلك هي الحقيقة التي لا يستطيع ماكرون الرد على أدلتها. ونتيجة لذلك رفع إيمانويل وبريجيت ماكرون في يوليو/تموز 2025 دعوى تشهير في ولاية ديلاوير الأميركية تحتوي على 22 تهمة ضد كانديس، والتهمة الرئيسية كانت أن كانديس قد نشرت عمدا بيانات "كاذبة وتشهيرية" ضدهما لتحقيق الربح.

ورغم وصفها المتكرر بأنها مُروِّجة لنظريات المؤامرة، فإن كانديس ترد على ذلك دائما بأنها تسائل الرواية الرسمية، وأن هذا حقها كصحافية ما دامت تقوم بذلك من خلال المنهج العلمي وباتباع الأدلة، والواقع أنه سواء كانت كانديس بالنسبة للبعض مُروِّجة لنظريات المؤامرة أم لا فهي لا تفعل ذلك على النحو التقليدي لهذه الكلمة، وإنما ما تفعله عادة هو تتبع النواقص والفجوات في الرواية الرسمية ومحاولة إبراز تلك الفجوات.

فلسطين مفترق طرق

منذ اندلاع طوفان الأقصى ومن بعده بداية حرب الإبادة التي شنتها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، اتخذت كانديس أوينز موقفا مناقضا لموقف الأغلبية الساحقة من اليمين الأميركي خصوصا، والغربي عموما، إذ وقفت بوضوح إلى جانب غزة وانتقدت دولة الاحتلال بنبرة جريئة وغير معهودة حتى على اليسار الأميركي.

نتيجة لذلك، خسرت كانديس وظيفتها بموقع "ديلي واير"، إذ أعلن جيريمي بورينغ، الرئيس التنفيذي للموقع، على منصة "إكس" بعد مرور أشهر على حرب الإبادة الإسرائيلية أن "ديلي واير" وأوينز قد أنهيا علاقتهما، وسرعان ما أكدت كانديس الأمر نفسه، وقد حدث ذلك في أعقاب الخلافات الكبيرة بينها وبين الناشط اليميني الأشهر في الولايات المتحدة بن شابيرو في ما يخص تأييد دولة الاحتلال، وهو أيضا من مؤسسي "ديلي واير"، وهي خلافات وصلت إلى حد النزاع العلني على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مواقف كانديس المؤيدة لفلسطين والمنتقدة بشدة للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.

باعتبارها مسيحية مُتديِّنة وذات صوت مسموع لدى المسيحيين المحافظين الأميركيين، فقد لعبت كانديس دورا كبيرا في تفكيك المقولات المسيحية الصهيونية والهجوم على الأفكار التي تقول إن المسيحيين مأمورون من الكتاب المقدس بدعم دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولم تدخر كانديس جهدا في التأكيد على أن الموقف المسيحي الحقيقي ينبغي ألا يكون داعما لانتهاكات دولة الاحتلال التي تقتل الأطفال وترتكب أفعالا شيطانية مند نشأتها، على حد وصفها.

إعلان

كانت كانديس من أول مَن لفتوا الانتباه في الإعلام الأميركي إلى حقيقة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يهجم على الكنائس في فلسطين ويقتل المسيحيين في غزة تماما مثلما يقتل المسلمين والأطفال في القطاع، كما أنها من أوائل مَن وصفوا ما يحدث في القطاع بالهولوكوست، وأكدت أنها مع هذا الكم من جثث الأطفال المحترقة التي تراها يوميا فإنها تعتقد أن دولة الاحتلال الإسرائيلي ترتكب هولوكوست عن عمد.

إن هجوم كانديس أوينز المستمر على دولة الاحتلال منذ بداية حرب الإبادة لم يتسبَّب فقط في فقدانها عملَها، لكنّه منحها لقب المعادية للسامية من قِبل إعلام دولة الاحتلال ومؤيديها، وفي عام 2024 منحت منظمة "أوقفوا معاداة السامية"، وهي منظمة يهودية ممولة من القطاع الخاص، لقب "مُعادِية السامية للعام" لكانديس.

ولكن من جهة أخرى، اكتسبت كانديس شعبية كبيرة سواء في الولايات المتحدة والعالم الغربي بسبب موقفها الراسخ منذ انطلاق حرب الإبادة المتعلق بانتقاد وفضح انتهاكات دولة الاحتلال ومُساءلة السلطة الأميركية وانتقادها اللاذع، وقد شدَّدت كانديس على كشف التناقض بين خطاب السلطة الذي يرفع شعار "أميركا أولا"، وعلى المواقف الحقيقية التي انتهجتها إدارة ترامب، التي فضَّلت -من وجهة نظرها- المصالح الإسرائيلية على المصالح الأميركية ذاتها.

ويكفي القول إنه منذ انفصالها عن منصة دايلي واير وصناعة مشروعها الخاص المتمثل في البودكاست الذي يحمل اسمها، كان نجاحها مذهلا، حسب وصف صحيفة الإندبندنت البريطانية، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2025، تصدَّر برنامجها قائمة البرامج الأكثر مشاهدة على مختلف المنصات من حيث عدد مرات التحميل والمشاهدات لكل حلقة، بمتوسط ​​3.5 ملايين تحميل تقريبا لكل حلقة.

وحسب منصة فورتشن الأميركية، فإن نجاح كل حلقة من حلقات كانديس كان استثنائيا، وتضم قناتها حاليا على يوتيوب 5.58 ملايين مشترك، وحصدت أكثر من 1.1 مليار مشاهدة، بمعدل يتراوح بين 500 ألف ومليوني مشاهدة لكل مقطع.

وفي هذا العام وحده حصدت كانديس مشاهدات تصل إلى 617 مليون مشاهدة، بينما يتابع كانديس حوالي 7 ملايين شخص على منصة "إكس"، وأكثر من 5 ملايين على منصة إنستغرام، ويحظى برنامج كانديس بأعلى كثافة إعلانية بين 8 محطات إذاعية محافظة رئيسية في الولايات المتحدة، وقد احتوت أكثر من 90% من حلقات برنامجها على إعلانات تتلوها، ولديها نحو 60 راعيا متناوبا، من بينهم أسماء بارزة في عالم الإعلانات.

من مُلهمة لإرهابي يُهاجِم المسلمين إلى مدافعة عنهم

في 15 مارس/آذار 2019 خرج الشاب الأسترالي برينتون تارانت من منزله وهو ينوي قتل أكبر عدد يستطيع أن يقتله من المسلمين، ومن ثم حمل معه بنادق نصف آلية عسكرية الطراز، وذهب إلى مسجدين في مدينة كرايست تشيرش بنيوزيلاند، واقتحمهما وقتل 51 شخصا، وهي مذبحة هزَّت العالم آنذاك، خاصة أن الإرهابي بثَّ الحادث بأكمله على موقع فيسبوك مباشرة عبر كاميرا مثبَّتة على قبعة يرتديها، كما نشر الشاب الأسترالي بيانا مطولا من 74 صفحة يُشجع فيه على الإرهاب ضد المسلمين.

كان هذا الحادث أسوء حادث إطلاق نار جماعي في تاريخ نيوزيلاندا، ومع ذلك فإن القاضي الذي حاكم برينتون تارانت لاحظ أنه لم يظهر أي ندم أو تأنيب ضمير تجاه ما فعله.

وللمفارقة فإن السبب الكبير في ثبات الإرهابي وقتها، واقتناعه بأن ما اقترفه صواب، كان تأثره بأفكار المعلقة المحافظة الأميركية كانديس أوينز كما أوَّلها، إذ قال إن أفكارها كانت مذهلة بالنسبة له وإنها دفعته للجنوح نحو استخدام العنف بدلا من الخنوع والاستسلام أمام مدِّ الأفكار التقدُّمية من جهة وتزايد أعداد المسلمين في الغرب من جهة أخرى.

توجَّهت سهام النقد بشدة تجاه كانديس بعدئذ، وهُوجم محتواها الذي ألهم مُنفّذ العمل الإرهابي، لكن كانديس دافعت عن نفسها حينها قائلة إن ربط اسمها بمنفذ العملية أمر مضحك ومجرد هراء لأنها لم تكتب أي محتوى عن الإسلام. لكن حسب موقع بيزنس إنسايدر، فإن كانديس كانت بالفعل قد كتبت قبل الحادثة تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي تعبّر فيها عن الخوف من أن أوروبا ستصبح قارة مسلمة بحلول منتصف القرن الحالي وفقا لمعدل المواليد القائم الآن، ومن ثم سيُطبِّق المسلمون فيها الشريعة الإسلامية.

ورغم أن أوينز حينها لم تكن قد كتبت كثيرا عن الإسلام والمسلمين بالفعل حتى ذلك الوقت، فإنها ألهمت مُنفِّذ العملية على الأرجح من خلال فلسفة خطابها التي تنطلق من فكرة أن الأغلبية البيضاء المسيحية في الغرب مُهدَّدة بالمؤامرات كي تتضاءل، وأنها تعاني من مظلمة حقيقية.

بيد أن الصورة اختلفت على مدار السنوات اللاحقة، إذ بدأت كانديس تكتسب شعبية متصاعدة بين المسلمين، ليس فقط بسبب موقفها الحاسم من القضية الفلسطينية، وإنما أيضا بسبب تعليقاتها حول الإسلام والمسلمين.

في لقائها مع المؤثر الأميركي البريطاني الشهير المحسوب على اليمين أندرو تيت بعد إشهار إسلامه، ورغم أن كانديس قد عبَّرت عن حزنها من أن أندرو لم يتمسك بالمسيحية، تحدَّثت كانديس بأدب شديد واحترمت اختياره، كما أكدت على كونها لا تعرف شيئا عن الإسلام يؤهلها كي تجادله في اختياره.

وكانت تلك اللهجة "المتواضعة" في الحديث عن الإسلام غير شائعة بين أبناء أقصى اليمين، الذين عادة ما يسارعون لإلقاء الاتهامات للإسلام ولا يعترفون بأنهم يفتقرون للمعرفة الكافية حوله.

في حوار لها في بداية العام الماضي استخدمت كانديس لهجة تجاه المسلمين يندر للغاية أن يستخدمها من ينتمي لليمين في الدول الغربية، فقد أرادت أن تضرب مثالا حول التحكُّم في عقول الأميركيين بواسطة البروباغندا، ولم تجد أفضل مما حدث بالولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي جعلت الناس آنذاك تشعر بالخوف من المسلمين.

وقالت كانديس إنها لا تتخيل كيف كانت حياة مسلمي الولايات المتحدة في هذا التوقيت حين كانت كل وسائل الإعلام والنظام التعليمي يضخان في عقول الأميركيين أن كل مسلم إرهابي، ثم عقَّبت كانديس بقولها إنها تريد قبل كل شيء أن تتأسَّف بالنيابة عن الولايات المتحدة لكل المسلمين الذين نشؤوا في تلك الفترة داخل الولايات المتحدة، على الطريقة التي عُوملوا بها حينها.

وأكدت كانديس في هذا الحوار أيضا على أن غسيل المخ تجاه المسلمين الذي جرى على نطاق واسع في مطلع الألفية، كان يهدف إلى التغطية على الجرائم التي ارتُكبت بعد ذلك في حق المسلمين، حيث قتلت الولايات المتحدة مليون مدني عراقي بعد أن ادعت كذبا وجود أسلحة دمار شامل في العراق.

وتقول كانديس إن تلك البروباغندا التي وُجِّهَت ضد الإسلام والمسلمين حينئذٍ كانت محاولة لتمهيد العقل الأميركي كي يُطبِّع مع فكرة قصف المسلمين وقتلهم، وأن يتمرن على ألا يشعر بأي شيء تجاه المسلمين حين يموتون. وقد أبدت كانديس انزعاجها الشديد، باعتبارها امرأة مسيحية متدينة، من أنها سمحت للبروباغندا وللنظام التعليمي في الولايات المتحدة أن يُعلِّمها ألا تهتم بحياة الإنسان المسلم.

مقالات مشابهة

  • الهباش: الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في فلسطين تزيد موجة العنف
  • مستشار الرئيس الفلسطيني: الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بفلسطين تزيد من موجة العنف
  • حماس في ذكرى انطلاقتها: طوفان الأقصى معلم راسخ لبداية زوال الاحتلال وفشل العدوان الأميركي
  • سلطة العقبة تستضيف وفداً سياحياً من أوروبا لتعزيز الترويج للمنتج السياحي الأردني
  • استئناف حركة الملاحة الجوية في مطار بغداد بعد زوال الضباب
  • كانديس أوينز.. اليمينية السوداء التي ناصرت فلسطين وعادت الصهيونية
  • لماذا استهدفت إسرائيل الرجل الثاني في القسام الآن؟
  • تأهيل إسرائيل لعضوية الشرق الأوسط
  • حروب الشيطنة إنقاذ لسمعة الكيان الصهيوني
  • ديك مسافر على جدار للدكتور إبراهيم أبو هشهش: حميمية الشعور الوجودي الأكثر نبلا وإنسانية