من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. حكايا شتوية
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
#حكايا_شتوية
من أرشيف الكاتب #احمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ .. 13 /12 / 2016
ضوء «البنّورة» كان كافياً لإضاءة المشهد، لهب يرقص في جوف الشباك المرتفع ويكبّر الرؤوس البارزة من فراشها، أغطية تحمل رقعاً مختلفاً والواناً متعدّدة ، قصّيب السقف عسليّ اللون يميل الى الحمرة مثل الكعك الملذّع ، أما الدفء المشعّ من صوبة البواري المطفأة قبل النوم يعاد تدويره بانفاس الأولاد كطاقة متجدّدة ، الجدران المدهونة بالشيد الأزرق متعرّقة بعد جولة زفير وفيرة في سهرة قصيرة وبعض البقع المقشورة في الحائط تعطي أشكال حيوانات وغيوم وتفتح دروباً للخيال، ما ان تبدأ أمي بتمتمات خفيفة يخرقها حرف «السين» الواضح حتى نعرف ان المعوذات تمت قراءتها كاملة ووصلت الى سورة الناس .
.وبعد ان تمسح وجهها بقراءة الفاتحة ونراها تدوزن اللحاف على مقاس الفرشة بما تيسر لنا من ضوء، نرجوها أن «تسولف لنا سولافة»، ولعل أقربنا اليها بالفراش كان أكثرنا اقناعا والحاحاً .. لكنها كانت تسوق نفس الأسباب كل يوم بأنها لا تحفظ شيئاً، فنزيد إصرارا من جديد ، فتتحجج بأن الوقت تأخر ولا بد من النوم باكراً، فنلتصق بها راجين طامعين بحكاية قديمة نعيد استماعها من باب التسلية والبحث عن تفاصيل سقطت نعاساً ذات رواية ..أخيراً يشفع لنا صوت الريح الذي يهزّ النافذة الشمالية او الرعد الذي يدبّ غرباً..فتقول : «اللهم صل على سيدنا محمد»..»خنيفسة ولا أبو الفول ولا نص نصيص»..فنختار الأقدم من بين الخيارات القليلة..تبتسم ابتسامة الرضا عن ذكاء الاختيار فنلمح سن الذهب في عتمة الوقت المسروق…الحكايا الشتوية أجراس النعاس التي تستجلب ثقل الجفون بصوت هادئ وتسلسل عبقري في القص، كنت اتخيل أن في حنجرة امي كبّة صوف وحفنة حكايا تحيكها بتروٍ واستخدام متقن للكلمات ونهج فريد في السرد، ترفع الصوت قليلاً، عندما تغفو العيون كفتيلة السراج حتى تشدّنا الى النهاية ، تندهش عند الدهشة، تحزن عند الحزن ، واذا ما ارادت تنويمنا، فقط تمشّي بطل القصة طويلاً في أرض الله كأن تقول « وظله يمشي يمشي يمشي يمشي يمشي»…حتى ننام ، كل ذلك دون ان ترفع يدها او تستخدم جوارحها لشد الانتباه او التنويم…يخفت الصوت قليلاً قليلاً…حتى ينام كل الجمهور، عندها توازن رؤوسنا على الوسائد..وتغطي ظهورنا المكشوفة وتعيد ترسيم حدود الفرشات..وتنام على جنبها الذي فيه ترانا جميعاً أمام عينيها…
ياه لو أعرف مصير أبطال حكايات بيتنا الغربي..»ابو الفول ، وخنيفسة، ونص نصيص، وغيرهم»..هل فعلاً ما زالوا على قيد الحياة او على قيد الحكاية…!!
أحاول أحياناً ان أروي لأولادي حكايات أمي فلا انجح ، أقطعها من منتصفها وأعتذر ..فسحر القصة كان مرهوناً بصوتها لا بالحدّوثة نفسها ..
الحكايا الشتوية هي الحكايا الوحيدة التي تموت عندما يموت راويها..
#102يوما
#أحمد_حسن_الزعبي
#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي
#الحرية_لأحمد_حسن_الزعبي
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: الحرية لأحمد حسن الزعبي حسن الزعبی
إقرأ أيضاً:
محمد حميد الله.. العالم الذي عاش للإسلام في صمت ورحل في صمت
تنشر "عربي21" بالتزامن مع الصفحة الرسمية للكاتب والباحث المصري جمال سلطان على "فيسبوك" هذه الورقة الفكرية التي تتناول سيرة واحد من أعظم العلماء المسلمين في القرن العشرين، الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي، الذي مثّل نموذجًا فريدًا للعالم الزاهد العامل بصمت، جمع بين عمق البحث الأكاديمي واتساع الأفق الحضاري، وأسهم بعشرات المؤلفات والتحقيقات التي أصبحت مراجع أساسية في الفكر الإسلامي والفقه السياسي والسيرة النبوية.
يستعيد سلطان في مقاله ملامح هذه الشخصية الاستثنائية، التي عاشت بعيدًا عن الأضواء والمناصب، لتخلّد اسمها في وجدان الباحثين والعلماء عبر إنجازات علمية وتراثية امتدت من السوربون إلى العالم الإسلامي كله.
نوعيات خاصة
في حياتي قابلت ألوانا من البشر، مواهب ودررًا، في الفكر والفن والأدب والمعرفة، ولا يكاد يسمع بهم أحد، نوعيات خاصة من البشر تحب العمل في صمت، وهبت لذلك، وغالبا ما تكون أعمالها من النوع "التاريخي" الذي يمثل مرجعا للباحثين في مجاله، وهم لا يهتمون بحضور المنتديات العامة، ويزهدون في المراتب والمناصب والوظائف، ولا يحرصون على التواصل مع الإعلام ومنابره، ويعكفون طيلة وقتهم على العطاء المخلص الأمين، قد يكون في ذلك بعض التقصير منهم، لأن التواصل مع العالم الإنساني مهم للباحث والأديب والعالم، ولكن الذي لا شك فيه أن التقصير الأكبر هو من جانب الأمة ومؤسساتها ومراكزها العلمية والبحثية ودوائرها الأكاديمية ، فهي التي يفترض أنها تتابع حركة الفكر، وهي المؤهلة لأن تكشف عن الذهب ومعادنه بين المفكرين والباحثين، وهي المنوط بها دعم مثل هؤلاء الأتقياء الأنقياء المترعين عفة ومروءة، لا أن تنتظر أن يأتوها أو يمدوا إليها أيديهم للعون العلمي أو غيره .
العلامة الفذ والباحث المحقق الكبير الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي (ولد في الهند عام 1908)، نموذج شديد الوضوح لتلك الحالة التي أتحدث عنها، عاش في صمت، ورحل في صمت (توفي في فلوريدا بالولايات المتحدة عام 2002)، وكأنه من غمار الناس، رغم أنه قمة علمية نادرا ما وصل إليها أحد في القرن العشرين، فهو العالم الذي يدين له آلاف الباحثين والعلماء العرب والمسلمين وحتى المستشرقين بالفضل والعرفان، حيث كانت كتبه وترجماته وتحقيقاته هي المرجع الذي ينير لهم فضاء العلم ويختصر لهم صحاريه ومفازاته، ويكفي أن كتابه الفذ عن وثائق دولة الرسول صلى الله عليه وسلم "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"، وهو بالأساس كان رسالة الدكتوراة التي حصل بها على الدرجة العلمية من جامعة السوربون، كان هذا البحث الفريد والمدهش ـ وما زال ـ هو المرجع الأساس الذي يجده القارئ في ختام أي بحث عن الفكر السياسي في الإسلام، على مدار قرابة خمسين عاما.
إلى جانب الدكتوراه التي حصل عليها في فرنسا بكتابه "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"، فقد حصل على دكتوراة أخرى في السيرة النبوية من ألمانيا وموضوعها "العلاقات الدولية في الإسلام"، كما حصل على دكتوراة ثالثة في الفلسفة أيضا من فرنسا، كما قام محمد حميد الله بتقديم أدق وأرقى ترجمة للقرآن الكريم إلى الفرنسية، وهي اللغة التي كان يتقنها إلى جانب الألمانية والإنجليزية، بالإضافة إلى الأوردية ـ لغته الأم ـ والعربية والتركية والفارسيةوكان أول من نبهني إليه وحدثني عنه المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة رحمه الله، وظل "حميد الله" يضيف إلى كتابه كل فترة ما يتوصل إليه من جديد من تلك الوثائق لتظهر في الطبعات الجديدة، وتشمل المكاتبات "الرسمية" من الرسول إلى عماله وولاته وقادة جيوشه، ورسائله إلى الأمصار المختلفة، وكتبه إلى المقوقس وإلى كسرى، ونص معاهداته مع القبائل ومع اليهود في المدينة، ونصوص اتفاقياته مع قريش في الحديبية وغيرها، ونصوص العهود التي كتبها مع حكام زمنه، ومنها كتابه إلى النجاشي، عدد الوثائق "الرسمية" وصل إلى 373 وثيقة، واللطيف أنه حصل على صور ضوئية من أصول بعض هذه الرسائل والكتابات مختومة بالخاتم النبوي أو خاتم خلفائه، وهي "آثار" نادرة ما زالت محفوظة في متاحف ومكتبات أوربية، مع الأسف استولى عليها مستشرقون، وصور المؤلف بعضها بإذن منهم، وتشمل الوثائق القرارات والرسائل والعهود والتكاليف التي صدرت عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين، وقد ترجم كتابه إلى عشرات اللغات، كما طبع في العربية أكثر من عشر طبعات حتى الآن، على حد علمي، إن لم تكن هناك طبعات مستحدثة.
إلى جانب الدكتوراه التي حصل عليها في فرنسا بكتابه "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"، فقد حصل على دكتوراة أخرى في السيرة النبوية من ألمانيا وموضوعها "العلاقات الدولية في الإسلام"، كما حصل على دكتوراة ثالثة في الفلسفة أيضا من فرنسا، كما قام محمد حميد الله بتقديم أدق وأرقى ترجمة للقرآن الكريم إلى الفرنسية، وهي اللغة التي كان يتقنها إلى جانب الألمانية والإنجليزية، بالإضافة إلى الأوردية ـ لغته الأم ـ والعربية والتركية والفارسية، فقد كان يتقن هذه اللغات السبع كأحد أبنائها، وأنجز ترجمات للقرآن الكريم إلى العديد من اللغات ، ووضع مؤلفا ضخما عن السيرة النبوية بالفرنسية والعشرات من المؤلفات والمقالات التي تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات، بلغت حوالي 175 كتابا، كما قام بتحقيق عدد من كتب التراث مثل "أنساب الأشراف" للبلاذري، وكتاب "السير الكبير" لمحمد بن الحسن الشيباني، كما عمل معه بعض المستشرقين الكبار على تحقيق نصوص عديدة من عيون التراث الإسلامي، لأنهم كانوا يثقون في علمه ويعرفون قدره، كما ينسب إليه أنه كان سببا في هداية آلاف الأوربيين إلى الإسلام وخاصة في فرنسا، حيث تردد أنه أسلم على يديه هناك قرابة 40 ألف فرنسي من بينهم المفكر الشهير "موريس بوكاي" صاحب كتاب "التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث"، وكتاب محمد حميد الله "التعريف بالإسلام" تمت ترجمته إلى 23 لغة عالمية، فقد كان لجهوده في الدعوة والتعريف بالإسلام بركة كبيرة.
عاش محمد حميد الله منذ خروجه من بلاده " حيدر آباد " أكثر من نصف قرن في باريس، ليكون قريبا من كنوز التراث الإسلامي ومخطوطاته التي تم تهريبها إلى مكتبات ومؤسسات أوروبية، وقد استقر في غرفة صغيرة متواضعة في باريس، لم يغيرها طيلة حياته، كان عازبا لم يتزوج، يعيش حياة الكفاف والزهد، وحده بين الكتب والمراجع والمجلات المتخصصة، ولم يكن في مسكنه لا تليفون ولا راديو ولا تليفزيون، ولا يسافر إلا بحثا عن مخطوطة أو حضور مؤتمر علمي دعي إليه، حتى وهنت صحته فأصرت عليه حفيدة شقيقته المقيمة في الولايات المتحدة أن ينتقل إليها لتقوم على خدمته ولأن إقامته وحيدا في هذه السن خطرة، فوافق بعد إصرارها وانتقل إلى هناك حيث توفي رحمه الله بعد معاناة شديدة مع أمراض الشيخوخة في 17 ديسمبر عام 2002 عن عمر ناهز التسعين عاما، رحل في صمت كما عاش في صمت.
تم تكريمه في باكستان، ومنحوه جائزة مالية كبرى فاعتذر عن قبولها وقرر منحها لأحد المعاهد العلمية في إسلام آباد، كما رشحوه لنيل جائزة الملك فيصل العالمية أيضا، فاعتذر وقال : أنا لم أكتب ما كتبت إلا لله، فلا تحرموني من جائزته، يرحمه الله.