لجريدة عمان:
2025-06-26@10:28:30 GMT

الروايات بين التأثر والتدوير

تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT

في مقدمة روايته «ذاكرة غانياتي الحزينات» اقتبس الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز المقطع التالي من رواية «الجميلات النائمات» للروائي الياباني ياسوناري كاواباتا: «ما كان يجب عليك أن تفعل شيئًا منافيًا للذوق، حذرت العجوز إيغوشي سيدة الخان. ما كان يجب عليك أن تضع إصبعك في فم المرأة النائمة أو تفعل شيئًا مشابهًا».

ومن قرأ رواية ماركيز يعرف تمامًا أنها في جوهرها تحية لرواية كاواباتا واعتراف بتأثيرها عليه، إذْ إن كلتا الروايتين تتناول قصة مُسنٍّ يتأمل حياته وعلاقاته بجميلات نائمات. استخدم ماركيز الإطار السردي نفسه ليعبّر عن مشاعر الحنين والفقد، لكن بطريقته الخاصة، مستعيرًا الأجواء الهادئة والعميقة من كاواباتا. أطرح هذا المثال لأنطلق منه إلى أن الروائيَّ قد يكرِّر أحيانًا متعمِّدًا فكرةً مطروقة سبقه إليها روائيٌّ آخر، ليس بقصد التدوير أو السطو على الفكرة، وإنما من باب التحية والاحترام، ويظل كل عمل من العملين مدموغًا بأسلوب كاتبه ولغته، كما أن الروائي المتأخر ينسب الفضل بطريقة ما إلى المتقدم.

لكن ماذا لو أن ماركيز نشر روايتَه دون ذلك الاقتباس من كاواباتا، ودون أن نعلم من كتاباته السردية الأخرى أنه وقع في غرام «الجميلات النائمات» قبل ثلاثين عاما من كتابتِه روايتَه المحاكية لها؛ وأنه حكى مرارًا قصة الجميلة التي نامت بجانبه طوال زمن رحلة الطائرة، التي ما إن حطت وباشر هو في إجراءات المطار حتى قدم نفسه لموظف الجوازات على أنه كاتب ياباني؟ لا شكّ أننا إنْ لم نتّهمه بانتحال فكرة كاواباتا حينئذ فإننا في الأقل سنرميه بـ«تدويرها»، ذلك أن «الجميلات النائمات» عملٌ تخييلي، أي من بنات أفكار كاواباتا، وكان ينبغي على ماركيز أن يُشير إليه. صحيح أن الفكرة في حد ذاتها لا تخضع لحقوق الملكية الفكرية، وأن طريقة معالجتها وتفاصيلها هي ما يمكن أن يخضع للنقد والمساءلة إذا كان هناك تشابه كبير بينها وبين فكرة سابقة، ولكن بعض الأفكار أضحت اليوم «ماركة مسجّلة» لكاتبها الأول، ولا يُمكن أن يستخدمها كاتب لاحق دون أن يثير تساؤلات، منها هذه الفكرة الفريدة للروائي الياباني (فكرة تأمل رجل عجوز لصبايا فاتنات نائمات)، ومنها أيضًا فكرة أن يصحو المرء من نومه ليجد نفسه تحوّل إلى حشرة، التي تُحيل مباشرة على كافكا، وفكرة المُرابي الذي يَشترط على المقترِض أن يقتطع قطعة من لحمه إن هو عجز عن سداد الدَين، التي يعرف الجميع أنها لشكسبير، وغيرها من الأفكار التي سبقنا إليها الروائيون والأدباء العظام.

هل ينطبق هذا على الروايات التي تمتح من التاريخ؟ أي تلك التي تتخذ من حقبة تاريخية معينة مسرحًا لأحداثها؟ هل على الروائي المتأخر أن يُشير إلى روايةٍ أو أكثر سبقتْه إلى تناول هذه الحدث التاريخي؟ مثلًا هل على الروائي العُماني محمد العجمي أن يشير في روايته «سرّ الموريسكي» إلى رواية «الموريسكي الأخير» للروائي المصري صبحي موسى، أو رواية «الموريسكي» للمغربي حسن أوريد، أو رواية «حصن التراب: حكاية عائلة موريسكية» للمصري أحمد عبداللطيف؟ في تصوري المبدئي لا تُمكن الإجابة إلا بالنفي؛ إذْ إن هذا النوع من الروايات يعتمد في العادة على قراءة معمقة لكتب التاريخ ووثائقه، ودراسة ما كُتِب من أبحاث عن الحقبة التاريخية المُتناوَلة في الرواية، بل وزيارة الأماكن التي وقعت فيها الأحداث، ومشاهدة أفلام وتسجيلات وثائقية، تتيح للروائي الاستناد إلى أحداث ووقائع تاريخية حدثتْ بالفعل وتوظيفها في النسيج العام لروايته الذي يعتمد في الأصل على خياله الروائي، وأضع تحت عبارة «خياله الروائي» هذه ألف خطّ أحمر، فهذا الخيال الذي ينسج الحكاية، ويوظِّف فيها تفاصيل من الحدث التاريخي، ويردم ما في هذا الحدث من فجوات، ويوجد شخصيات أخرى من نسج خياله لتساند الشخصيات المستلة من التاريخ، كل هذا هو ما يصنع فَرادة الرواية، وإذا اعتُديَ على هذا الخيال، أي ألا يكتفي الروائي المتأخِّر باقتباس تفاصيل تاريخية وقعت، بل يتجرأ أيضًا على أحداث أخرى صنعتْها مخيلة الروائي المتقدِّم، فإنه في هذه الحالة فقط يمكن اتهامه بالانتحال.

طرحتُ هذه المقارنة بين وجوب الإشارة إلى الرواية التخييلية عند الاستفادة منها، وعدم وجوب ذلك تجاه الرواية المقتبِسة أحداثها من التاريخ، توطئة للإدلاء برأيي حول روايتَيْن عربيّتيْن صدرتا في السنوات الأخيرة وتناولتا موضوعًا تاريخيًّا واحدًا، لكن إحداهما اتُّهِمتْ بتدوير فكرة الرواية الأخرى، متجاهِلًا مَن اتهمها بذلك أن الروايتَيْن اعتمدتا المصادر التاريخية نفسها. ولأن هذا يستدعي تعريفًا بالروايتَيْن أولًا، وعرضًا لنقاط التشابه بينهما، وسَوْقًا لحجج وأدلة وبراهين، وهو ما لا تسمح به مساحة هذا العمود الآن، فسأعود إليهما في الأسبوع المقبل.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قصة رواية بلغت العشرين

فيما كنت منشغلا بكتابة روايتيّ الرابعة والخامسة، تحولت غرفة مكتبي من حولي على نحو غامض إلى دغل منزلي صغير. فأينما نظرت إذا بي أمام جبال متربة من الصفحات المكتوبة، وأبراج متداعية من الملفات.

غير أنني، في ربيع عام 2001، بدأت العمل على روايتي الجديدة بطاقة متجددة، وقد أعدت تجديد الغرفة بالكامل وفقا لمواصفاتي الدقيقة. فباتت لدي أرفف حسنة الترتيب، بالغة حتى السقف، وبات لديّ ما أردته لسنين، أعني مسطحين للكتابة يلتقيان في زاوية قائمة. بدا مكتبي أصغر مما كان عليه من قبل (وطالما راقت لي الكتابة في الغرف الصغيرة، موليا ظهري للإطلالة)، لكنني سررت به سرورا طاغيا. وقد أقول لمن يبالي بالسؤال إن الأمر أشبه بمن يأوي إلى مقصورة في قطار نوم فاخر من قطارات الماضي البعيد، فلم يكن عليَّ من جهد إلا أن أدير مقعدي لأجد بين يديّ ما أحتاج إليه.

وكان من الأشياء الواقعة في نطاق يدي بسهولة صندوق ملفات على الرف الواقع إلى يساري مكتوب عليه «رواية الطلبة»، وفيه ملاحظات مكتوبة بخط اليد، ومخططات عنكبوتية، وبعض الصفحات المطبوعة من محاولتين سابقتين - إحداهما في عام 1990 والأخرى في عام 1995 - لكتابة الرواية التي ستصبح في ما بعد «لا تدعني أرحل أبدا». وفي كلتا المرتين هجرت المشروع ومضيت لأكتب رواية لا علاقة لها ألبتة.

لا أقول إنني كنت كثيرا ما أرغب في إنزال الملف، فقد كنت أعرف ما فيه. ولم يكن لـ«طلبة» روايتي جامعة تقع على مقربة منهم في أي جهة، ولا كانوا يشبهون الشخصيات التي قد نصادفها في «التاريخ السري» مثلا أو «الروايات الجامعية» لمالكوم برادبيري وديفيد لودج. والأهم أنني كنت أعرف أنهم سوف يشتركون في مصير غريب من شأنه أن يقصف أعمارهم، ولكنه سوف يجعلهم أيضا يشعرون أنهم شديدو التميز، بل أنهم أرقى ممن عداهم.

ولكن أي مصير هو هذا «المصير الغريب»، وأي بُعد ذلك القادر على أن يمنح روايتي طابعها الفريد؟

ظلت الإجابة تراوغني طوال العقد السابق. خايلتني أفكار تتعلق بفيروس، أو بالتعرض لمواد نووية. بل إنني حلمت بواقعة سريالية لشاب يسافر متطفلا، في آخر الليل، على طريق سريع غارق في الضباب، يرفضه رتل مركبات ثم يجد نفسه في مقطورة تحمل صواريخ نووية في الريف الإنجليزي.

وبرغم هذه الزخارف، ظللت غير راض. وظلت كل حيلة أتوصل إليها تبدو أشد «مأساوية» مما ينبغي أو أشد ميلودرامية، أو تبدو ببساطة فكرة سخيفة. لم يتفتق ذهني عن شيء يضاهي ما تحتاج إليه الرواية التي شعرت أني أكاد أراها أمام عيني في ضباب خيالي.

لكنني، في عام 2001، رجعت إلى المشروع، وقد بت أشعر أن شيئا مهما تغير، ولم يكن ذلك الشيء غرفة مكتبي وحسب.

**

نشأت، قارئا وكاتبا، تحت تأثير برامج الأدب الجامعية في سبعينيات القرن العشرين والمشهد الروائي في لندن الثمانينيات. كانت فترة مثيرة لطموح أدبي كبير، سمتها الانفتاح على التيارات العالمية وما بعد الكولونيالية. لكنها أيضا كانت معادية، وفي أفضل الحالات متعالية على الأعمال التي يبدو فيها مظهر لاستلهامها من الأدب النوعي «الشعبي». بدا الخيال العلمي بصفة خاصة ملطخا بوصمة غامضة، فاقتصرت ممارسته إبداعا أو نشرا على عالمه الثقافي المغلق. وبناء على هذا، وشأن أندادي، كنت أنأى بنفسي دائما عن الخيال العلمي، موقنا أنه يفتقر إلى أي طرح يمكن أن يكون ذا صلة بطموحاتي الفنية.

ثم لاحظت في التسعينيات، متأخرا، أنني لم أعد «كاتبا شابا»، وأن جيلا جديدا، مثيرا للاهتمام ومتميزا، يظهر في بريطانيا، وهم في العادة يصغرونني بنحو خمسة عشر عاما. قرأت لبعض أولئك الكتاب فأعجبوني على بعد. وبعضهم صاروا أصدقاء.

على سبيل المثال، ألكس جارلاند (الذي كان آنذاك قد نشر حديثا رواية «الشاطئ») فبدأت وإياه نمطا -لا يزال مستمرا إلى اليوم- يقوم على اللقاء للتسكع وتناول غداء غير رسمي في مقاهي شمال لندن، وسرعان ما لاحظت أنه يستشهد دونما وعي أو تكلف بكتَّاب من أمثال جيه جي بالارد وأورسولا كيه لوجوين وجون ويندم. وكان ألكس هو الذي وضع لي قائمة بأهم الروايات المصورة التي ينبغي أن أقرأها، فعرّفني بأعمال شخصيات مهمة من أمثال آلان مور وجرانت موريسن. وكان ألكس يكتب آنذاك سيناريو فيلم سيصبح في 2002 من كلاسيكيات أفلام دستوبيا الزومبي وهو «بعد ثمانية وعشرين يوما». أطلعني على نسخة مبكرة منه وأصغيت في افتتان إليه وهو يناقش إيجابيات وسلبيات مسارات التقدم المختلفة.

وفي خريف عام 2000، خلال جولة ترويج كتب في الولايات المتحدة من المحيط إلى المحيط، تقاطع مسار رحلتي ثلاث مرات مع مسار رحلة كاتب إنجليزي شاب كان يروج روايته الأولى، وعنوان الرواية هو «بقلم كاتب شبح» والكاتب كان دفييد ميتشل، وكلاهما في ذلك الوقت كان مجهولا لدي. كنا نجد نفسينا جالسين في آخر الليل في أبهاء فنادق في منطقة الغرب الأوسط الأمريكية، شاعرين بالبرد القارس بعد فعالياتنا، متنافسين في اختيار الألحان ليعزفها لنا عازفو البيانو.

وبجانب الثرثرة عن ديكنز ودوستويفسكي، لاحظت أنه يذكر أورسولا كيه لوجوين وروزماري ساتكليف، وفيلم ماتريكس الحديث، وإتش بي لافكرافت، وقصص الأشباح القديمة المبتذلة، والأدب الفنتازي. ولما رجعت إلى الوطن قرأت «بقلم كاتب شبح» وأدركت أنني كنت أتواصل مع موهبة وحشية (وذلك تقدير شاع تماما حينما نشر «أطلس السحابة» بعد ثلاث سنوات).

زادت معرفتي بأولئك الزملاء الشبان فأثارتني وحررتني. فتحوا لي نوافذ لم أفكر في فتحها من قبل. لم يعلموني فقط ثقافة أوسع وأشد حيوية، بل لقد منحوا خيالي آفاقا جديدة.

ربما كانت عوامل آخرى من حولي آنذاك: النعجة دولي، وهي أول حيوان ثديي مستنسخ في التاريخ، وقد تصدرت الصحف في عام 1997، وتأليف روايتي السابقتين «من لا عزاء لهم» و«حين كنا يتامى» الذي لعله جعلني أرسخ قدما إذ أنحرف عن «الواقع» اليومي. وعلى أي حال، جاءت محاولتي الثالثة لـ«رواية الطلبة» مختلفة عن السابقتين.

بل إني مررت بلحظة «إلهام» كلحظة أرشميدس برغم أنني كنت تحت الدوش لا في الحوض. شعرت فجأة أني أرى أمام عيني القصة كاملة. مرقت بعقلي صور، ومشاهد مكثفة. والغريب أنني لم أشعر بالزهو أو حتى بإثارة خاصة. فكل ما أتذكره اليوم لا يعدو إحساسا بالارتياح إلى أن قطعة ناقصة قد استقرت أخيرا في موضعها، مصحوبا بشعور بالغم، مخلوطا مع ما يشبه الغثيان.

شرعت في الأمر بتجربة ثلاثة أصوات مختلفة للراوي، جاعلا كلا منهما يسرد الحدث نفسه في بضع صفحات. ولما أطلعت لورنا، زوجتي، على الأمثلة الثلاثة اختارت أحدها بلا تردد، وتوافق اختيارها مع اختياري.

عملت بعد ذلك بسرعة كبيرة، وفقا لمعاييري، في غرفة مكتبي المجددة، فانتهيت من المسوّدة الأولى (وإن في نثر أهوج شنيع) في غضون ثلاثة أشهر. ثم عملت على الرواية لسنتين تاليتين، متخليا عن قرابة ثمانين صفحة في نهايتها، ومعيدا بعض المقطاع مرارا وتكرارا.

**

في السنين العشرين المنصرمة منذ نشرها سنة 2005، أصبحت رواية «لا تدعني أرحل أبدا» أكثر أعمالي قراءة. (ومن حيث المبيعات الصرفة تجاوزت بسرعة رواية «بقايا اليوم» برغم أسبقية هذه عليها بستة عشر عاما، وفوزها بالبوكر، وفيلم جيمس أيفوري الشهير). لقيت الرواية دراسات واسعة في المدارس والجامعات، وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة. وتحولت إلى فيلم (من بطولة كاري موليجان، وكيرا نايتلي، وأندرو جارفيلد في أدوار كاثي وروث وتومي، وسيناريو رائع، طبعا، لألكس جارلاند)، وعرض مسرحي في اليابان من إخراج العظيم يوكيو نيناجاوا، ومسلسل تليفزيوني ياباني من عشر حلقات من بطولة هاروكا أياسي، وتحولت حديثا جدا إلى عرض مسرحي بريطاني كتبته سوزانا هيثكوت.

يعني هذا أن قوبلت على مدار السنين بأسئلة عن الرواية، لا في نطاق القراء وحسب، وإنما من كتّاب ومخرجين وممثلين يكافحون مع مهمة تحويل هذه القصة إلى وسيط جديد. واليوم إذ أتأمل هذه الأسئلة، يخطر لي أن غالبية هذه الأسئلة يمكن إدراجها في فئتين عريضتين اثنتين.

فد توجز الأولى في هذا السؤال: في ضوء المصير الرهيب المخيم على أولئك الشباب، لماذا لم يهربوا، أو يظهروا على الأقل بعض بوادر التمرد؟

أما المجموعة الثانية من الأسئلة الأكثر طرحا فيصعب تحديدها بعض الشيء، لكنها تصفو جوهريا إلى هذا السؤال: هل هذه رواية مقبضة محزنة، أم رواية إيجابية محفزة؟

لا أعتزم أن أحاول إجابة أي من السؤالين، من ناحية لأنني لا أريد أن أحرق الرواية في المقدمة، وايضا لأنني أشعر بالرضا، بل وبالفخر، إذ تثير هذه الرواية مثل هذه الأسئلة في عقول قرائها. غير أني أقدم التأمل التالي، فقد يكون أوضح معنى بعد إنهائكم قراءة الرواية.

يبدو لي أن هذه الأسئلة الأكثر طرحا عن «لا تدعني أرحل أبدا» تنشأ بسبب التوترات المتعلقة بهويتها الاستعارية. فهل هذه الرواية هي بمنزلة استعارة لأنظمة بشرية الصنع شريرة موجودة اليوم بالفعل -أو هي موشكة على الوجود- نتيجة ابتكارات جامحة في العلم والتكنولوجيا؟ أم هل تطرح الرواية بدلا من ذلك استعارة للظرف البشري الإنساني، والحدود اللازمة لعمرنا الطبيعي، وحتمية الشيخوخة، والمرض، والموت، والاستراتيجيات العديدة التي نتبناها لنضفي على حياتنا معنى ولنملأ بالسعادة الوقت الممنوح لنا؟

قد يكون من قوة هذه الرواية وضعفها في الآن نفسه أنها راغبة غالبا في أن تكون كلا الشيئين المطروحين عاليه في الوقت نفسه، بما يضع بعض عناصر القصة في صراع.

*

أخيرا، دعوني أكتب كلمات عن عنوان الرواية، أي «لا تدعني أرحل أبدا» وهو عنوان أغنية شاعت في الخمسينيات لـ(نات كينج كول)، وهي من تأليف راي إيفانز. ولم أكن أعرفها عند كتابة الرواية. وتصادف أن رأيت العنوان مكتوبا على غلاف شريط جاز ـ هو شريط (وحيدا) لعازف البيانو بيل إيفانز، فانجذبت إليه على الفور.

بعيدا عن بلاغته البسيطة، كان ما أذهلني في هذا العنوان هو استحالة المطلوب أصلا. فالأقرب منه للمنطق هو «من فضلك عانقني طويلا». ولكن من يناشد قائلا: «لا تدعني أرحل أبدا»، لا يطلب المستحيل وحسب، فهو يعلم ولا بد، حتى وهو يطلب، أنه يطلب شيئا يفوق قدرة أي شخص على العطاء. ولهذا وجدت تلك الكلمات شديدة التأثير، وأردت أن أدمج حزنها في صميم روايتي. لأنه يحدث لنا نحن البشر في بعض الأحيان أن نرغب، من أعماق أرواحنا، في شيء نعلم علم اليقين أنه بعيد المنال على أي شخص.

على مدار السنين، بت أدرك أن هذه الأرض، هذه الأرض المشاع القائمة بين ما نتوق إليه أشد التوق وبين ما نعلم أنه حدود المحال، هي الأرض الأحب إليّ بوصفي كاتبا.

• هذه هي مقدمة طبعة الذكرى العشرين لصدور الرواية، وقد نشرت هذه المقدمة في يونيو 2025 بموقع (ليت هب)

• ولد الكاتب كازو إيشيجورو في نجازاكي باليابان سنة 1954 وانتقل إلى بريطانيا طفلا في الخامسة من العمر. حصل على جوائز عديدة منها نوبل في الأدب.

مقالات مشابهة

  • محاولة اسقاط فكرة الدولة والهوية
  • نيوزويك: هل كان قصف ترامب مواقع إيران النووية فكرة صائبة؟
  • ترامب يُعلن النصر والإعلام يُشكك.. ضربة إيران تُشعل معركة الروايات في أمريكا
  • نصر على الورق وهزيمة في الميدان.. معركة إيران وإسرائيل تنتهي وسباق الروايات يبدأ
  • قصة رواية بلغت العشرين
  • لماذا النزوح العربي إلى الرواية التاريخية؟
  • ناد صيني يتراجع عن فكرة التعاقد مع بن زية
  • تضارب الروايات حول الصواريخ التي أطلقتها إيران على قطر.. كم عددها وهل أصابت قاعدة العديد؟
  • جلال الزهراني: فكرة صناعة النجم في الأندية السعودية بدائية جداً.. فيديو
  • التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا