لجريدة عمان:
2025-06-22@16:34:23 GMT

الروايات بين التأثر والتدوير

تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT

في مقدمة روايته «ذاكرة غانياتي الحزينات» اقتبس الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز المقطع التالي من رواية «الجميلات النائمات» للروائي الياباني ياسوناري كاواباتا: «ما كان يجب عليك أن تفعل شيئًا منافيًا للذوق، حذرت العجوز إيغوشي سيدة الخان. ما كان يجب عليك أن تضع إصبعك في فم المرأة النائمة أو تفعل شيئًا مشابهًا».

ومن قرأ رواية ماركيز يعرف تمامًا أنها في جوهرها تحية لرواية كاواباتا واعتراف بتأثيرها عليه، إذْ إن كلتا الروايتين تتناول قصة مُسنٍّ يتأمل حياته وعلاقاته بجميلات نائمات. استخدم ماركيز الإطار السردي نفسه ليعبّر عن مشاعر الحنين والفقد، لكن بطريقته الخاصة، مستعيرًا الأجواء الهادئة والعميقة من كاواباتا. أطرح هذا المثال لأنطلق منه إلى أن الروائيَّ قد يكرِّر أحيانًا متعمِّدًا فكرةً مطروقة سبقه إليها روائيٌّ آخر، ليس بقصد التدوير أو السطو على الفكرة، وإنما من باب التحية والاحترام، ويظل كل عمل من العملين مدموغًا بأسلوب كاتبه ولغته، كما أن الروائي المتأخر ينسب الفضل بطريقة ما إلى المتقدم.

لكن ماذا لو أن ماركيز نشر روايتَه دون ذلك الاقتباس من كاواباتا، ودون أن نعلم من كتاباته السردية الأخرى أنه وقع في غرام «الجميلات النائمات» قبل ثلاثين عاما من كتابتِه روايتَه المحاكية لها؛ وأنه حكى مرارًا قصة الجميلة التي نامت بجانبه طوال زمن رحلة الطائرة، التي ما إن حطت وباشر هو في إجراءات المطار حتى قدم نفسه لموظف الجوازات على أنه كاتب ياباني؟ لا شكّ أننا إنْ لم نتّهمه بانتحال فكرة كاواباتا حينئذ فإننا في الأقل سنرميه بـ«تدويرها»، ذلك أن «الجميلات النائمات» عملٌ تخييلي، أي من بنات أفكار كاواباتا، وكان ينبغي على ماركيز أن يُشير إليه. صحيح أن الفكرة في حد ذاتها لا تخضع لحقوق الملكية الفكرية، وأن طريقة معالجتها وتفاصيلها هي ما يمكن أن يخضع للنقد والمساءلة إذا كان هناك تشابه كبير بينها وبين فكرة سابقة، ولكن بعض الأفكار أضحت اليوم «ماركة مسجّلة» لكاتبها الأول، ولا يُمكن أن يستخدمها كاتب لاحق دون أن يثير تساؤلات، منها هذه الفكرة الفريدة للروائي الياباني (فكرة تأمل رجل عجوز لصبايا فاتنات نائمات)، ومنها أيضًا فكرة أن يصحو المرء من نومه ليجد نفسه تحوّل إلى حشرة، التي تُحيل مباشرة على كافكا، وفكرة المُرابي الذي يَشترط على المقترِض أن يقتطع قطعة من لحمه إن هو عجز عن سداد الدَين، التي يعرف الجميع أنها لشكسبير، وغيرها من الأفكار التي سبقنا إليها الروائيون والأدباء العظام.

هل ينطبق هذا على الروايات التي تمتح من التاريخ؟ أي تلك التي تتخذ من حقبة تاريخية معينة مسرحًا لأحداثها؟ هل على الروائي المتأخر أن يُشير إلى روايةٍ أو أكثر سبقتْه إلى تناول هذه الحدث التاريخي؟ مثلًا هل على الروائي العُماني محمد العجمي أن يشير في روايته «سرّ الموريسكي» إلى رواية «الموريسكي الأخير» للروائي المصري صبحي موسى، أو رواية «الموريسكي» للمغربي حسن أوريد، أو رواية «حصن التراب: حكاية عائلة موريسكية» للمصري أحمد عبداللطيف؟ في تصوري المبدئي لا تُمكن الإجابة إلا بالنفي؛ إذْ إن هذا النوع من الروايات يعتمد في العادة على قراءة معمقة لكتب التاريخ ووثائقه، ودراسة ما كُتِب من أبحاث عن الحقبة التاريخية المُتناوَلة في الرواية، بل وزيارة الأماكن التي وقعت فيها الأحداث، ومشاهدة أفلام وتسجيلات وثائقية، تتيح للروائي الاستناد إلى أحداث ووقائع تاريخية حدثتْ بالفعل وتوظيفها في النسيج العام لروايته الذي يعتمد في الأصل على خياله الروائي، وأضع تحت عبارة «خياله الروائي» هذه ألف خطّ أحمر، فهذا الخيال الذي ينسج الحكاية، ويوظِّف فيها تفاصيل من الحدث التاريخي، ويردم ما في هذا الحدث من فجوات، ويوجد شخصيات أخرى من نسج خياله لتساند الشخصيات المستلة من التاريخ، كل هذا هو ما يصنع فَرادة الرواية، وإذا اعتُديَ على هذا الخيال، أي ألا يكتفي الروائي المتأخِّر باقتباس تفاصيل تاريخية وقعت، بل يتجرأ أيضًا على أحداث أخرى صنعتْها مخيلة الروائي المتقدِّم، فإنه في هذه الحالة فقط يمكن اتهامه بالانتحال.

طرحتُ هذه المقارنة بين وجوب الإشارة إلى الرواية التخييلية عند الاستفادة منها، وعدم وجوب ذلك تجاه الرواية المقتبِسة أحداثها من التاريخ، توطئة للإدلاء برأيي حول روايتَيْن عربيّتيْن صدرتا في السنوات الأخيرة وتناولتا موضوعًا تاريخيًّا واحدًا، لكن إحداهما اتُّهِمتْ بتدوير فكرة الرواية الأخرى، متجاهِلًا مَن اتهمها بذلك أن الروايتَيْن اعتمدتا المصادر التاريخية نفسها. ولأن هذا يستدعي تعريفًا بالروايتَيْن أولًا، وعرضًا لنقاط التشابه بينهما، وسَوْقًا لحجج وأدلة وبراهين، وهو ما لا تسمح به مساحة هذا العمود الآن، فسأعود إليهما في الأسبوع المقبل.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قوافل الغضب التي هزّت عروش الصمت

بسم الله الرحمن الرحيم

#قوافل_الغضب التي هزّت #عروش_الصمت

دوسلدورف/ أحمد سليمان العُمري 

في عالم يُحاصر الأطفال بين أنياب الاحتلال وأقدام الأنظمة العربية، انطلقت قافلتان: واحدة بحرية من أوروبا وأعقبتها أخرى برية من تونس؛ حملتا نفس الحلم: كسر الحصار عن غزّة، لكنهما اصطدما بنفس القسوة، قسوة تثبت أن الخيانة العربية والغطرسة الإسرائيلية وجهان لعملة واحدة. هنا قصّة أولئك الذين رفضوا أن يكونوا حرّاساً لهذا السجن الكبير.

مقالات ذات صلة لماذا يخفق القلب فرحًا أو حزنًا؟ وأيهما أشد وطأة؟ 2025/06/20

الليلة التي غرق فيها الضمير العالمي

«تياغو» البرازيلي ذو العشرين ربيعاً لم يكن يعلم أن مشاركته في رحلة سفينة «مادلين» ستنتهي به في زنزانة إسرائيلية تحت الأرض. «كنا 12 ناشطاً فقط على متن السفينة»، يقول بصوت يرتجف، «عندما حاصرتنا الزوارق الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، وكأننا أسطولاً عسكرياً وليس متطوعين يحملون أدوية الأطفال».

بين الأمل والقمع

انطلقت السفينة من ميناء «كاتانيا» في جزيرة صقلية الإيطالية في الأول من يونيو 2025، تحمل على متنها ناشطين من جنسيات متعددة، بينهم الناشطة البيئية “غريتا تونبيرغ” والنائبة الأوروبية ريما حسن. كانت الشحنة رمزية بحجمها وعظيمة بأبعادها، تشمل مئات الكيلوغرامات من المواد الأساسية كالطحين والأرز وحليب الأطفال، بالإضافة إلى معدات طبية وأطراف صناعية وأجهزة تحلية مياه.

هدف الرحلة كان واضحاً: كسر الحصار البحري عن القطاع ونقل رسالة تضامن صامتة لكنها مدوّية، غير أن هذه المبادرة الإنسانية واجهت القسوة نفسها التي تحاصر غزّة، ففي التاسع من يونيو، وبعد ثمانية أيام من الإبحار، اعترضت القوات البحرية الإسرائيلية السفينة في مياه دولية. اعتُقل الناشطون، وتحولت رحلة الأمل إلى فصل جديد من الاعتقال والاضطهاد، حيث واجه الناشطون ظروفا قاسية من الحجز والتفتيش المشدد، في محالة واضحة لكسر إرادتهم ووقف صوت التضامن الدولي.

حيث يُسرق الحليب باسم السيادة

بينما كانت الناشط البرازيلي تياغو على متن السفينة يخترق البحر في محاولة مقدامة لكسر الحصار عن غزّة، جرى اعتقاله مع بقية زملاءه الشجعان بوحشية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وسُجنوا في ظروف مهينة، دون أن يُراعى كونهم ناشطين إنسانيين؛ جاءوا بصفتهم المدنية لا كمقاتلين.

معاناة هؤلاء الشبان بالرحلة وفي السجون الإسرائيلية لم تكن حدثًا معزولًا، بل امتداد لمعاناة غيرهم من الأحرار الذين لا ينتمون إلى هذه الأرض جغرافياً، لكنهم ينتمون لها أخلاقياً وإنسانياً.

من تياغو إلى ريما حسن، النائبة الفرنسية الفلسطينية التي لم تشفع لها حصانتها الأوروبية، مروراً بالناشطين بين تركي وألماني وإسباني وهولندي… الخ الذين اعتقلوا أو طُردوا أو شُوّهت سمعتهم لأنهم فقط تجرّؤوا على رفع علم فلسطين في عواصمهم.

وإن كانت يد الاحتلال قد امتدت في عرض البحر لتقمع من جاؤوا متضامنين، فإن اليد الأخرى، المخفية تارة والمكشوفة تارة أخرى، كانت تضرب على اليابسة. ففي مصر، تعرّض الناشطون من “مسيرة غزّة” للضرب والإهانة والتنكيل على أيدي قوات أمن بلباس مدني، في محاولة ممنهجة لإظهار أن الاعتراض يأتي من “المواطنين العاديين”، وليس من الدولة.

لقد لبس القامعون ثوب الشعب ليخونوا نبضه، وأوهموا العالم أن الشارع المصري – وهو الزخم العارم لفلسطين – قد انقلب على المبدأ. بينما الحقيقة أن اليد التي صفعت هؤلاء المتضامنين ليست يد الشعب، بل يد السلطة، وهي اليد ذاتها التي تصافح القتلة هناك، وتمنع المساعدات هنا، وتحاصر الفلسطيني في جسده ومعيشته وتُمعن في عزل كل من يحاول الوصول إليه.

بهذا المشهد، تتكامل المأساة مع الهزل، وتغدو الجغرافيا السياسية للمقاومة محكومة بمنظومتين: شعوبٌ تتقد بالشجاعة رغم البعد، وأنظمةٌ تشتغل لحساب الاحتلال وإن رفعت شعارات ضده. وهنا، كما يؤكّد الحال راهناً، فإن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يواجه مقاومة ضارية من أنظمة ترى في بقاء الاحتلال حماية لاستقرارها أو امتداداً لاستعمارها، أكثر مما ترى فيه جريمة تستحق المواجهة.

وفي ليبيا، حيث تسيطر قوات حفتر، كانت العراقيل بذريعة البيروقراطية والتعنّت الأمني في أقصى درجاتها، إذ منعت قوافل التضامن من المرور، وواجه ناشطون تحقيقات مطولة وإجراءات تعسفية، مما يعكس تنسيقاً أمنياً واضحاً وفاضحاً مع الاحتلال.

هذه التجارب المشتركة، من الاعتقال في سجون الاحتلال إلى التضييق في الحدود ومطارات الدول العربية والحدود البرية، تؤكّد حجم العقبات التي تواجه أي محاولة حقيقية لكسر الحصار وإيصال الدعم لغزّة، كما تؤكّد أن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يلقى مقاومة شديدة من أنظمة تحابي الاحتلال أكثر مما تُساند شعوبها في قضاياه المصيرية.

الرسائل التي كتبها الجلادون بتواطئهم

الرسالة التي كتبها الجلادون كانت واضحة، وإن اختلفت أيادي التوقيع عليها: حفتر قطع الطريق في الصحراء، والسيسي أطلق شرطته على المتضامنين مع غزّة في شوارع مصر ومطاراتها، يضربون، يرحّلون، ويقمعون كل من حاول أن يمرّ من بواباتهم بجوازه وكرامته.

أما إسرائيل، فكانت تشاهد من بعيد، مُطمئنة إلى أن الطرق إلى غزّة ما زالت مغلقة.

قافلة الصمود رغم عودتها اليوم لم تُكسر، عادت إلى تونس بجراحها وتحمل شيئاً أعظم من العبور: يقظة الضمير. لم تصل الشاحنات، لكن وُلدت إرادة جديدة، وكُسر الصمت، وإن لم تنجح سفينة ماديلين والصمود، فسيأتي بعدهما قوافل أخرى، بالآلاف، فإرادة الشعوب لا تنضب، وغزّة لا يمكن أن تُحاصر إلى الأبد.

إذا مُنعوا اليوم من العبور، فستُحوّل الأرض كلها إلى معبر؛ القوافل والسفن لم تمت، بل صارت فكرة لا تموت.

مقالات مشابهة

  • ما هي القاذفات الشبحية «بي-2» التي استخدمتها أمريكا في قصف إيران؟
  • ضربة إسرائيل القوية التي وحّدت إيران
  • ستيف بانون يحذر ترامب: ضرب إيران فكرة سيئة
  • رواية مواطن عميل أمام القضاء الإيراني
  • رواية وأكشن.. عمرو يوسف يقتحم السينما بـ 3 أفلام
  • قوافل الغضب التي هزّت عروش الصمت
  • يوم الأب .. تعرف على مكانته في الإسلام ومن أين جاءت فكرة الاحتفال
  • مدن الإمارات الذكية تتحول من فكرة إلى واقع مستدام
  • بالخريطة التفاعلية.. ما المواقع التي استهدفتها إيران في بئر السبع؟
  • بدون خلافات معلنة.. رجل ينهي حياة زوجته بطلق ناري ويروج رواية السقوط!