هناك أمر محير وغامض متعلق بالهند؛ فهى دولة كالقارة على وشك أن يتجاوز عدد سكانها تعداد الصين (١.٤٢٨٦ مليار نسمة مقابل ١.٤٢٥٧ للصين وفقًا لتقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان) ويمكن أن تكون هى أكبر اقتصاد فى العالم فى عام ٢٠٥٠ ومع ذلك لا تثير أى مخاوف جيوسياسية معينة.
وبشكل أفضل، يمكننا أن نقول رسميًا، إن الهند لديها أصدقاء فقط إذا جاز التعبير؛ لقد دعت فرنسا الهند كضيف شرف فى ١٤ يوليو ٢٠٢٣ وخلال ذلك قال رئيس الوزراء الهندى إنه يمكننا التفاخر «بالصداقة التى لا تتزعزع» مع فرنسا.

ولا يتعلق الأمر بالكلمات فقط: فقد احتفلت باريس ونيودلهى بالفعل بمرور ٢٥ عامًا من الشراكة الاستراتيجية المؤثرة فى منطقة آسيا والمحيط الهادي.
وانتهت زيارة مودى بوعود حتمية لشراء طائرات رافال وغواصات سكوربين، بعد الطلب الكبير فى عام ٢٠١٦ (٨ مليارات يورو مقابل ٣٦ طائرة رافال).. الدعوة الفرنسية ليست هى الوحيدة؛ فلقد قامت بذلك أيضا الولايات المتحدة أو أستراليا. ويجب أن نرى من جانب الغربيين، وفرنسا على وجه الخصوص، الرغبة فى تقليل اعتماد أوروبا التجارى على الصين وإقامة روابط مع قوة لها ثقل جيوسياسى فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ.
و للهند أيضًا حلقة فى تلك التكتلات التى تعتبر الأكثر عداءً للهيمنة الغربية فقد رأينا الهند قد أضافت بإنضمامها للبريكس وتم إضفاء الطابع المؤسسى على هذه المنظمة منذ عام ٢٠٠٩ فى مواجهة مجموعة الثماني.
وانضمت الهند إلى منظمة شنجهاى للتعاون التى تهيمن عليها الصين وروسيا فى عام ٢٠١٦ والتى تهدف إلى أن تكون مناهضة لحلف شمال الأطلسى، وذلك حتى لو كان للهند دور معتدل فيها، فإن لديها علاقة مميزة وطويلة الأمد مع موسكو، مما أدى بها إلى عدم إدانة غزو أوكرانيا والامتناع عن التصويت على عدة قرارات حول هذا الموضوع فى الأمم المتحدة؛ لذلك من الصعب معرفة مع من تقيم الهند صداقاتها حقًا.
ويتم تفسير هذا التوازن عمومًا بحقيقة أن نيودلهى التى انضمت ذات يوم إلى دول عدم الانحياز، تطمح الآن إلى أن تجعل العالم متعدد الأقطاب بقدر الإمكان.. لقد تغيرت الإستراتيجية: ففى عام ١٩٥٥ أرادت الهند أن تكون صوت العالم الثالث، موقفا كله إيثار وإنسانية. وفى عام ٢٠٢٣ اختارت الهند مجموعة «تعدد الانحياز» لكى توضح وبصورة ساخرة، أن ثقلها يسمح لها بأن تصبح حكما عادلا فى خضم المنافسة الشرسة بين الأمم.
لذلك، بدلًا من البحث عن أصدقاء نيودلهى، فإنه من السهل تمييز أعدائها.. فى الواقع، إذا كانت الهند تتظاهر بالتوافق مع الجميع، فإن لديها منافسًا جيوستراتيجيًا تخشاه: الصين وإذا تخلت الهند عن استراتيجية نهرو؛ فذلك لأنها فشلت فى مواجهة بكين.
دعونا نتذكر حقيقة تاريخية: لم تعترف الصين أبدًا بـ «خط ماك ماهون» وهى تلك الحدود التى أعلنها البريطانيون بين الهند والتبت فى عام ١٩١٤ لدرء تهديد التنين الصيني. وأنطلقت الهند بعد استقلالها فى سياسة من الصداقة المنهجية مع الصين وقامت باتخاذ مواقف مواتية للغاية لبكين تقريبا فى جميع المحافل الدولية.. الهدف من ذلك هو: إحاطة الصين بنسيج من العلاقات الدبلوماسية يؤدى إلى تهدئة حماسة السلطة فى المملكة الوسطى.
أما الأمل فهو أن نرى الصين بمجرد اندماجها فى الشبكات المعقدة للمجتمع الدولى، تتصرف بلطف وتوافق دون تذمر على الاعتراف بالخط الحدودى بين الصين والهند والناتج عن ترسيم حدود الحكم البريطاني. وهكذا فى عام ١٩٥٣، اعترفت الهند، فى معاهدة ثنائية، بسيادة الصين على التبت مع تضمينها فى هذه المعاهدة لأول مرة مبادئ التعايش السلمي.
وفى الحقيقة، هذه كانت الأيام المهمة فى مؤتمر باندونج الذى أقيم بعد ذلك بعامين. وكانت استراتيجية باندونج أيضًا بمثابة تذكير بأن الصين والهند كانتا فى نفس الجانب، أى العالم الثالث. وفشلت تلك الاستراتيجية التى تقوم على الاندماج والحب على غرار المصالحة الفرنسية - الألمانية حول المشروع الأوروبي.
وفى عام ١٩٦٢، اتجهت الصين إلى الحرب للاستيلاء على الأراضى التى اعترضت عليها الهند وفرضت على الهند المستقلة أكثر الهزائم إيلامًا ومنذ عام ١٩٦٤، قامت باحتلال هذه الأراضى وقد خلقت هذه الصدمة تمزقًا. ومن المسلم به أن الاتحاد السوفيتى تحت رئاسة خروتشوف عندما رفض تبنى وجهة النظر الصينية، فقد أنقذ سياسة عدم الانحياز التى انتهجها نهرو الذى كان يفكر للحظة فى تشكيل تحالف مع الولايات المتحدة خوفا من الهزيمة.
لكن الهند تعلمت درسًا من هذه الأحداث ألا وهو؛ أنه سيتعين عليها الآن، أكثر من أى وقت مضى، الاعتماد على قواتها فى مجال الأمن، بما فى ذلك على المستوى النووي. ومن المحتمل فى هذا الوقت أن الهند، دون أن تذكر ذلك، قد بدأت فى التفكير فى أنها قد تكون ذات يوم قوة نووية لأغراض عسكرية.. ثم تسارعت الأحداث بعد ذلك.
وفى عام ١٩٦٤، فجرت الصين أول قنبلة لها وبعدها بعشر سنوات فى ١٩٧٤، فعلت الهند الشيء نفسه. وفى الوقت نفسه، فإن باكستان، التى تشعر بالقلق، ألقت بنفسها دون مزيد من التأخير فى برنامج متسارع للحاق بركب الطاقة النووية.. لا شك أن السباق النووى، الذى تشجعه أحيانًا بعض الدول مثل فرنسا، قد انتشر ووصل إلى جنوب آسيا.
ومع ذلك، فإن الجهود النووية الهندية ليست موجهة فى المقام الأول ضد باكستان ولكن ضد الصين. ويشهد مدى الصواريخ الهندية على ذلك (٢٥٠٠ كم) كما هو الحال عند الاختيار فى بداية التسعينيات ما بين التحول من الردع النووى الجوى إلى الردع النووى الباليستي؛ المشكلة أن الردع لا يعمل لأن المباراة والمنافسة غير تقليدية على الإطلاق حيث تقع المراكز الاقتصادية الحيوية الكبيرة فى الصين على بعد آلاف الأميال من الحدود الهندية، بينما تقع نيودلهى فى نطاق الطلقات النارية للصين.
كانت هذه هى نقطة الضعف الأساسية التى دفعت الهند إلى الاعتماد على موسكو من أجل تحقيق التوازن فى باكستان المدعومة من الولايات المتحدة، كما أوضحت أيضًا الروابط المعقدة للغاية من التبعية النفطية والعسكرية.


ومنذ عام ٢٠٠٥، تمكنت الصين من إجراء حوار مع الهند حول مشاكل ترسيم الحدود وكذلك مشاكل الانتشار النووى ومن المحتمل أن تكون مشكلة تايوان، فضلًا عن الازدهار فى الهند الصينية، قد لعبت دورًا كبيرًا فى هذا التقارب. وتبقى الحقيقة أنه لا توجد حدود اليوم بالمعنى الدقيق للكلمة بين الهند والصين حيث يتم الفصل بين الدولتين بما يسمونه خط التحكم الفعال (LCE).
ولا يندرج هذا المصطلح تحت القانون الدولى ولكنه، كما يوحى اسمه، يعكس فقط حالة توازن القوى الإقليمى فى لحظة معينة. وبالتالى فإن استمرار النزاع بين الهند والصين ينبع من عملية الاعتراف الفاشلة، حيث لم يتمكن الطرفان من التوفيق بين مطالبهما الحدودية.
وتعارض الهند سيطرة الصين على هضبة أكساى تشين الواقعة فى سفوح جبال الهيمالايا فى أقصى الغرب من خط السيطرة الفعالة. ومن جانبها، ترفض الصين الاعتراف بالسيادة الهندية على ولاية أروناتشال براديش - الحد الشرقى من خط التحكم الفعال LCE - وتلك المنطقة تعد جزءًا من التبت وبالتالى ملكًا لها بشكل شرعي.
وجاءت الاشتباكات للتذكير بأنه إذا كان البركان الحدودى خامدًا، فلن ينطفيء بسبب كل ذلك.. فى عام ٢٠١٤، انتهكت القوات الصينية مؤقتًا المساحة الإقليمية الهندية قبل الانسحاب وفى يونيو ٢٠١٧، كادت الحرب على هضبة دوكلام أن تندلع حيث جاءت الهند لإنقاذ بوتان بناء على اتفاقية الدفاع المبرمة فى عام ١٩٤٩، والتى اتهمت الصين بانتهاك حياد إقليم دوكلام (المتنازع عليه بين الصين وبوتان).
أما الصين، من جانبها، تعتبر هضبة دوكلام جزءًا من أراضيها ولكنها فوجئت بتصميم الهند على الدفاع عن هذه المنطقة مما أدى إلى إرسال قوات لمنع بناء الطريق العسكري. ولمدة ثلاثة وسبعين يومًا واثنتين وسبعين ليلة، رأينا فى هضبة دوكلام فى جبال الهيمالايا (التى يطلق عليها الصين دونجلانج)، تلك المنطقة فى مفترق طرق حقيقى بين التبت (الصين) وسيكيم (الهند) وبوتان، بعد اندلاع الاشتباكات بين الجيش الهندى وجيش التحرير الشعبى الصينى، مما هدد بشن حرب مميتة يمكن أن تشتعل فى المنطقة بأكملها.
وأخيرًا، فى نهاية مايو ٢٠٢٠، اندلعت اشتباكات بين الجيش الهندى والجيش الصينى على مرتفعات جبال الهيمالايا باتجاه الحدود الغربية لنيبال فى وادى جالوان الجليدى المتنازع عليه، خلفت عشرين قتيلًا هنديًا.
وعلى الجانب البحرى، تراقب الهند استراتيجية «سلسلة اللآلئ» الصينية التى تتكون من بناء منشآت بحرية على السواحل الباكستانية والسريلانكية والبنجلاديشية والبورمية والتى تسمح لبكين بتأمين طرق إمداداتها بالطاقة وتطويق الهند.
وليس من قبيل المصادفة أنها انضمت بشكل غير رسمى إلى تحالف المحيطين الهندى والهادئ (أو Aukus) الذى شكلته الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة عبر «الرباعى» (اليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة)، وهو الأمر الذى تندد به بكين بحق باعتبارها نوعا من استراتيجية التطويق.
هذا الغموض الجيوستراتيجى الذى يلائم الجميع نظرا لعدم وجود شيء بديل أفضل، ينطوى على خطرين:
أولا، إن هذا الأمر يخفى القضية الحقيقية: الهند حريصة، إلى جانب التعددية المعلنة، على زيادة مجال المناورة إلى أقصى حد. إن الاستقلال، كما ذكر مودى عدة مرات منذ عام ٢٠١٩، هو فى صميم استراتيجية الهند من أجل تقليل اعتمادها على الصين فى المواد الخام والمعدات الكهربائية والإلكترونية والأسمدة.
وقد دفع هذا السعى من أجل الاستقلال الهند إلى إعطاء الأولوية لمصالحها الوطنية على مصلحة الاستقرار العالمى: فى يوليو ٢٠٢٣، أعلنت الهند أنها أوقفت صادراتها من الأرز الأبيض غير البسمتى لأسباب تتعلق بالأمن الغذائى، وهو أمر قد زلزل الدوائر العالمية لأن الهند هى نفسها أكبر مصدر فى العالم للحبوب التى يستهلكها ثلاثة مليارات من البشر. وخلف التحالف الهندى المتعدد، هناك بالتالى شكل جديد من الأنانية الوطنية التى يمكن أن تخلق مشاكل خطيرة فى اليوم الذى حلت فيه الهند محل الولايات المتحدة باعتبارها الاقتصاد الرائد فى العالم.
أما الخطر الثاني؛ فهو أن هذا الغموض يحرف الحالة الحقيقية للنظام الدولى وبالتالى يؤدى إلى عدم الاستقرار: فى حالة حدوث تحد جيوسياسى، قد تعتقد كل من الصين والولايات المتحدة أن الهند ستنحاز إلى جانبهما.. لقد حدث فى التاريخ من قبل أن رأينا أن القرارات السيئة قد تم إتخاذها على أساس الغموض.
وفى عام ١٩١٤، شوهت اللعبة الإيطالية المزدوجة والمصنفة رسميًا التحالف الثلاثى - (ألمانيا – «النمسا والمجر» - إيطاليا) - ثلاثى باعتبار أن النمسا والمجر كيان واحد - تصور الفاعلين المؤثرين ودفعت ببرلين للوقوع فى براثن صراع كان الألمان يستطيعون تجنبه إذا كان بحوزتهم كل المعلومات!
معلومات عن الكاتب: 
جوليان أوبير.. سياسى فرنسى، انتخب نائبًا عن الجمهوريين خلال الانتخابات التشريعية لعام 2012، ثم أعيد انتخابه عام 2017، ولم يوفق فى انتخابات 2022. وهو حاليًا نائب رئيس الحزب الجمهورى ورئيس الحركة الشعبية «أوزيه لافرانس».. يكتب عن علاقة الهند بدول العالم، خاصةً روسيا والصين، مع التركيز على العلاقات الهندية الفرنسية وتطوراتها فى الفترة الأخيرة.

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: صندوق الأمم المتحدة الولایات المتحدة فى العالم وفى عام أن تکون فى عام

إقرأ أيضاً:

مصر تعاملت مع القضية الفلسطينية والتهجير بحنكة سياسية

التعليم حجر الزاوية ومن خالله تحل جميع المشاكلالخطاب الدينى المتشدد أدى لظاهرة العنف ضد المرأةأعتبر نفسى كاتبة هاوية تلعب مع العالملدينا أزمة أداء فى المشهد الثقافى

 

هكذا دلفت إلى المكان محملة بشعور المتعطش لرى تساؤلات شتى تسكننى، وبودٍ نادر استقبلتنى مرحبة..

اتخذت مكاناً قريباً ووجدتنى أرقب قسمات وجهها وردود فعل عينيها تجاه عبارات الاحتفاء والامتنان والاعتراف بجمال روح يخفى عن قرائها..

فى زحام من الجمال راح الجميع ورحت معهم نهنئ الأديبة الكبيرة والمبدعة سلوى بكر، ونحن نشعر بأننا إنما نهنئ أنفسنا أولاً بفوزها بجائزة البريكس الأدبية، فى دورتها الأولى التى انطلقت هذا العام، بينما تأكد شعورنا عبر حديثها بأن هذا الفوز إنما يعد انتصاراً للكتابة العربية ولزمرة المبدعين العرب كافة.

كدت أنسى مأربى وهدفى الثانى بعد الاحتفاء بسلوى بكر، ذلك الحوار الذى جرى اتفاقنا على إجرائه عقب الندوة، والذى رحت أعد له كامل عدتى طوال الليل، وأنتقى من الأسئلة أهمها ومن المحاور أكثرها دقة..

جلستُ وذاكرتى تطوف بأعمالها التى طالت بشهرتها بلادا شتى وترجمت للغات تجاوزت عدد أصابع اليدين..

تنتمى الروائية والقاصة سلوى بكر لحى الزيتون فى القاهرة، حصلت على بكالوريوس إدارة الأعمال من كلية التجارة بجامعة عين شمس عام 1972، كما حصلت على ليسانس النقد المسرحى من المعهد العالى للعلوم المسرحية عام 1976، وفى عام 2001 عملت أستاذة زائرة بالجامعة الأمريكية، تنوع إبداعها بين الروايات والمجموعات القصصية والمسرحيات، تُرجمت أعمالها إلى العديد من اللغات، واختار اتحاد الكتاب العرب روايتها «البشموري» كواحدة من أفضل 100 رواية عربية، وحصلت على جائزة «دويتشه فيله» للأدب عن قصصها القصيرة عام 1993، وجائزة الدولة التقديرية عام 2021، وأخيرا ومنذ أيام حازت على جائزة الـ«بريكس» للأدب لعام 2025، كأول شخصية أدبية تنال الجائزة فى دورتها الأولى.

والـ«بريكس الثقافية» جائزة دولية أُطلقت فى نوفمبر 2024 خلال منتدى «القيم التقليدية» الأول لدول الـ«بريكس» فى موسكو، ترجع فكرة تأسيسها وإطلاقها للكاتبة المصرية ضحى عاصى، وتدعم الجائزة الكُتّاب المعاصرين الذين تعكس أعمالهم القيم الثقافية والروحية لدول المجموعة.

هكذا حملتُ أسئلتى ومعها فضولى لأتحدث إلى الأديبة المصرية الكبيرة سلوى بكر...

* ماذا يمثل لك فوزك بجائزة البريكس؟

بالتأكيد فإن الفوز بجائزة يعد خبراً مفرحاً، ولكن عندما تكون الجائزة بحجم جائزة البريكس، المعبرة عن مجموعة من الدول الكبرى، والتى لها وزنها الثقافى وذات باع طويل فى الأدب، مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل، فهو أمر مفرح جدا، فهى تؤكد أن أدبنا المصرى والعربى يستحق التكريم وأن يكون له موضع قدم راسخ فى الأدب العالمى.

فالأدب المصرى أدب راسخ وأحدث تراكماً قوياً على مدى أزمان، وأحدث بصمات وقفزات مهمة توج ذلك بمنح محفوظ جائزة نوبل.. لكنه لم يأخذ حظه على خارطة الأدب العالمى وذلك بسبب وجود قصور شديد فى ترجمة الأدب العربى للغات الأخرى، فهناك إجحاف أصاب الأدب المصرى تحديدا، فقد راكم خبرات وكماً كبيراً من الكتابات التى تضاهى ما يكتب عالميا.

** هل هناك فجوة فى كيفية إدارة وتنظيم الجوائز العربية وبين الجوائز العالمية؟ وما الذى ينقص الجوائز المصرية؟

الجوائز عموماً هناك جدل واسع حولها، لكن أهميتها تكمن فى كونها تلفت النظر إلى كاتب ما أو عمل ما، إذن فهى تضيء الكتابة، ولكن ملابسات هذا الالتفات يشوبها أحيانا عوار يتعلق بالميول الخاصة لمن يمدحون الجوائز وحسابات تتعلق بإعلاء شأن نوع أدبى على حساب نوع آخر، إذن فالجوائز غالبا ما تكون محل انتقاد وجدل.

الجوائز بمصر لها قيمتها بالفعل، ولكن قد يخيل للبعض أن القيمة المادية هى المعيار الأهم فى كون هذا الأدب يستحق التقدير أم لا، فهناك فى المنطقة العربية بعض الجوائز التى تكون قيمتها مبالغ كبيرة جدا تكون محل تنافس كبير، إلا أن بعضها يشوبها شوائب وصراعات ذات طابع إقليمى ويعبر عن هوى وهيمنة إقليم ما على الأدب العربى، ولكن السؤال الأهم هنا هو ما قيمة ما يقدم من أدب، ومن هنا أرى أن جائزة البريكس تبحث عن القيمة فى المقام الأول، وقد منحت لجنة التحكيم الجائزة وفقا لما أعلنته الجائزة من قبل وهو الرغبة فى إعلاء القيم الثقافية لمجتمعات دول البريكس.

ورغم ذلك فهناك جوائز تتميز بالموضوعية الشديدة مثل جوائز الدولة وجوائز معرض الكتاب، وقد حكمت فى أكثر من جائزة.

أيضا فالقيمة المادية للجوائز المصرية تكون منخفضة لكونها خاضعة لميزانية الدولة وميزانية وزارة الثقافة، وهى بالطبع محدودة جدا مقارنة بالجوائز الأخرى، لأن مصر بثقلها الثقافى والحضارى تصبح لجوائزها قيمة تتخطى القيمة المالية للجوائز الأخرى.

** هل لدينا فى عالمنا العربى أزمة فى الحركة النقدية؟ وهل هناك مجاملات على حساب القيمة الأدبية؟

النقد فى العالم العربى الآن هو فى مجمله نقد أكاديمى ومدرسى، فهو يستخدم نظريات مسبقة ويطبقها على النص الأدبى، إلا أننا هنا يجب أولا أن نسأل ما الإبداع؟ قاموسا تعريف الإبداع هو الإنشاء على غير مثال، إذن فالنقد بالتالى هو إبداع منشأ على إبداع بمعنى أن ترى عين الناقد ما لا ترى العين العادية، والنقد المبدع هو النقد الذى ينبه المتلقى أو القارئ والكاتب وكل من يتعامل مع النص بمستويات من الوعى بالنص سواء الوعى الجمالى أو الوعى الخطابى أى الخطابات المقدمة فى النص والتى قد لا تتم ملاحظتها لدى القارئ العادى أو فى القراءة الأولى. هذا النوع من النقدربما نفتقده بدرجة أو بأخرى، كما أن هناك أسبابا أخرى مثل وجود جماعة تنتصر لكاتب ما لأسباب أيديولوجية وأسباب اجتماعية، فهناك ناقد ينتصر لكاتب ربما لوجود علاقة بينهما، أى أن كلها حسابات بعيدة عن القيمة الفعلية الموجودة فى النص الإبداعى.

** هل سلوى بكر عانت من النقد؟

ربما أنا لا أتعامل مع الإبداع بشكل يجعلنى ألتفت لذلك، فأنا طوال الوقت أعتبر نفسى كاتبة هاوية، بمعنى أننى أكتب لأننى أستمتع بالكتابة، أستمتع بعملية خلق عوالم وتتحدد مصائرها عبر العوالم التى أتخيلها، إذن أنا أتعامل مع الكتابة كنوع من اللعب، فلا أصنف نفسى ككاتبة محترفة ولا أعتبر الكتابة مهمة يجب أن أقوم بها، لذلك لا أهتم مثلا أن يكون لى كتاب كل عام فى معرض الكتاب ولا أهتم عندما يصدر لى كتاب أن أسعى لعقد ندوات أو نشر أخبار وغيرها.

**ما الذى يشعر سلوى بكر بالتحقق والتشبع النفسي؟

ربما يشعرنى تعليق أو حديث من إنسان عادى جداً عن كتاب لى بالسعادة أكثر من كتابات ناقد مرموق مع احترامى وتقديرى للنقاد الذين تناولوا أعمالى، فمثلاً عندما تحولت قصة نونة الشعنونة إلى عمل تلفزيونى كان بعض الناس يستوقفوننى فى الشارع ويثنون على العمل، هذا يسعدنى كثيرا، كل هذا يشعرنى بالتحقق ربما أكثر من التحقق الذى يتيحه مقال نقدى مادح.

** كيف ترى سلوى بكر المشهد الثقافى المصرى خاصة والعربى بشكل عام؟ هل نحن أمام فقدان للثقافة وقيمتها وما أسباب ذلك فى رأيك؟

فى رأيى الشخصى أن الثقافة مازالت تمثل قيمة فى المجتمع المصرى، فهناك تقدير من العامة للمثقفين وللمتعلمين حتى فى طريقة حديثهم إليهم وفى طريقة مخاطبتهم لهم.

المشكلة فى المشهد الثقافى هى مشكلة فى الأداء نفسه، فنحن لدينا إنتاج كبير لا يستهان به فى كل العصور وكل الأزمان والأجيال، ولكن أى هذا الإنتاج سيبقى وسيجد التحقق فى صدور العامة، هنا يجب أن نسأل عن الأداء الثقافى.

نعم، هناك صفحات ثقافية فى كافة الجرائد، هناك برامج ثقافية فى الإعلام المرئى والمسموع، لكن تكون الصفحة الثقافية هى أولى الصفحات التى يتم التضحية بها إذا ما وجد إعلان يحتاج مساحة، إلى جانب أن معظم الصفحات الثقافية فى الصحافة المكتوبة لا تدار بمثقفين أو مبدعين حقيقيين.

ففى فترة من الفترات كان المسئول عن الصفحة الثقافية فى الأهرام هو لويس عوض، لذلك فقد أثار معركة الشعر الحديث بين العقاد وصلاح عبدالصبور، وكانت الصحافة الورقية طوال الوقت لديها مساحات للشعر والقصة القصيرة، ولا أنسى صفحات الجمهورية التى قدمت كل جيل الستينيات الذين تركوا بصمات واضحة فى الكتابة الإبداعية، كذلك لا أنسى أخبار الأدب التى ما زالت صامدة حتى الآن، ولولا جمال الغيطانى المبدع الجميل ما كانت هناك أخبار الأدب.

إذن، فنحن نفتقد للأداء الثقافى الجيد والإيجابى القادر على إبراز هذا المشهد بوجهه الجميل.

** هل ترين أن هناك وسائل خبيثة لبث الفرقة بين العرب من خلال استحداث مصطلحات أدبية مثل الرواية الإسلامية وغيرها، وإلى أى مدى ترين قدرة تلك الأسلحة على التفريق؟

أنا أعتقد أن تلك الأسلحة قادرة على التفريق، وخصوصاً فى غياب الوعى، فالوعى الثقافى هو حائط الصد الذهبى، أما تلك الأسلحة فهى تستند إلى الطائفية والإقليمية والمذهبية والأيديولوجيات السياسية، كذلك إلى وجود المال السياسى الذى يضخ فى المشهد الثقافى لتكريس كل هذه المصطلحات وهذه النظريات.

الأمر يحتاج إلى جماعة ثقافية قادرة على مواجهتها، ونحن نفتقد إلى ذلك لأننا نفتقد إلى الوعى بصفة عامة، وإلى جماعة ثقافية قادرة على المواجهة.

** المرأة لها نصيب الأسد فى كتابات سلوى بكر، ما أسباب ظاهرة العنف ضد المرأة التى استشرت فى الفترة الأخيرة، ومتى تنتهي؟

بحكم التجربة والسن، أنا أعتقد أن هذه الظاهرة متفاقمة بسبب الخطاب السياسى الدينى وهيمنة خطاب الإسلام السياسى على المشهد، بكل ألوانه، وهو طوال الوقت ينتقص من قدر المرأة ويضعها فى إطار وظائف الجنس والحمل والإنجاب فقط، ويتعامل مع المرأة طوال الوقت باعتبارها مواطنا من الدرجة الثانية أو باعتبارها مواطنا قاصرا يحتاج إلى الولى ويحتاج إلى الرجل فى كل مراحله. من هنا بدأت تظهر ظواهر لم نكن نعرفها من قبل، مثل أن يقتل الشاب فتاة لمجرد أنها قد رفضت الارتباط به، أو أن يقتل أحدهم طليقته لمجرد أنها تزوجت آخر.

إذن فنحن أمام خطاب دينى متشدد فى غياب الخطابات التنويرية ومهاجمتها، كل هذه الأمور أدت إلى تفاقم أنواع محددة من الجريمة، وهى الجريمة شديدة الارتباط بهذا الخطاب.

** إلى أى مدى ترين أهمية استدعاء التاريخ كحدث أساس أو حتى كخلفية فى العمل الأدبى، وهل تعتقدين أن للكاتب حرية تناول الأحداث والتغيير فيها حسب رؤيته الفنية أم أن هناك ضوابط؟

أنا لا أستدعى التاريخ، أنا أكتب رواية عن التاريخ، ولكن ما هو التاريخ؟ التاريخ هو جملة من الوقائع التى جرت فى زمن محدد وتم تدوينها، ومن هنا تبدأ إشكاليات التاريخ. فيكون السؤال الأول: هل كل الوقائع التى حدثت دونت؟ وهل كل الوقائع التى دونت دونت وفقاً لأهميتها؟ ألم تكن هناك وقائع مسكوت عنها فى التاريخ؟ بل أن المؤرخ الذى يكتب التاريخ يمتلك أيديولوجيا خاصة به ومرجعية خاصة وموقفاً من العالم وموقفاً من الأحداث، فيكتب بتأثير كل هذه العوامل. ومهمة الرواية هى إعادة النظر فى المرويات التاريخية واستدعاؤها لمنطقة البحث والتمحيص والتساؤل. إذن فمهمة الرواية هى إعادة النظر فى العلاقة بين المتون والهوامش التاريخية، فما كان هامشاً قد يكون هو فى الحقيقة المتن والعكس صحيح.

وإذا لم نؤمن بالعين النقدية فى هذا التاريخ وطرح الأسئلة، ربما لن نستطيع أن نضع أيدينا على مواطن القوة والضعف.

** فى رأيك، هل يجب أن يعبر الكاتب عن مواقف تجاه القضايا والأزمات الكبرى أم عليه أن يكتفى بالكتابة الإبداعية؟

الكاتب يتعامل مع القضايا الكبرى باعتباره مواطناً وإنساناً، أما عندما يكتب بعدها عن تلك القضايا فيكتب من منظور الكاتب ومن رؤيته الخاصة للشخصيات والعوالم وغيرها، لكن كونه كاتباً يجعل مسئوليته أكبر لأنه يمتلك مساحة أخرى من الوعى لها طابع خاص ولها تميزها الذى يدفعه لأن يكون له مواقف منحازة طوال الوقت لكل ما هو إنسانى وجميل.

** على ذكر المواقف الإنسانية، ما رأيك فى الموقف المصرى تجاه أزمة التهجير؟

أنا أعتقد أنه لم يقدم بلد من بلدان المنطقة العربية للقضية الفلسطينية مثلما قدمت مصر منذ بداية القضية وحتى الآن، هذه واحدة، المسألة الأخرى هى موقف الدولة المصرية منذ ما حدث فى ٧ أكتوبر وحتى الآن، وهو موقف حكيم وعبر عن حنكة سياسية عالية وعن تفكير إنسانى كبير، لأن مصر أولا، ومنذ اللحظة الأولى، أدركت أن ما حدث كان يستهدف جرها إلى مناطق من الإشكاليات التى لا يعلم غير الله مداها.

أما موقفها من التهجير، فأنا أظن أن هذا الموقف تاريخى لمصر، لأنه حرص على ألا تضيع القضية الفلسطينية. فمصر كانت حكيمة فى كونها لم تنجر إلى مهاترات مع حماس ومع الجانب الإسرائيلى، فالدولة المصرية أثبتت أنها بالفعل دولة واعية محنكة سياسياً قادرة على صدد أى هجوم أيا كان مستواه على الحدود والخريطة المصرية، حافظت على الخريطة المصرية وحافظت على القضية الفلسطينية.

لم تتوقف مصر عن مد يدها إلى القضية الفلسطينية وتقديم المساعدات طوال الوقت، فكانت إذا ما فتح المعبر ترسل المساعدات، هذا هو موقف مصر، والذى لن يتوقف، إلا أن الإسلام السياسى والإخوان المسلمين وغيرهم مازلوا يشوهونه بكل الطرق الممكنة.

** كان لك تصريح مهم عن كيفية تدريس مناهج التربية الدينية فى المدارس، هل ترين أن لذلك انعكاساً على السلوكيات العامة للشباب والمجتمع؟

فى الماضى كانت حصة الدين ممتعة وجميلة، يقدم خلالها الدين بطريقة بسيطة ورائعة، تتلاءم مع المرحلة العمرية للطلاب، وكان يقدم القصص الدينى بطريقة رائعة نتعلم من خلالها الكثير من المبادئ، حتى المدرسون أنفسهم كانوا يدرسون الدين بطريقة هادئة ومحبة، فعرفنا على أيديهم أن الدين المعاملة، وهذا ما جعلنا نحب إخواننا المسيحيين، فنشأنا جميعاً أحباباً وأصدقاء، للأسف لم نعرف التعصب الحالى وهذا العنف إلا عندما تم تدريس جانب من الدين يتحدث عن النار والسعير وعذاب القبر، فنحن بهذا ندفع الأطفال لكره ما يدرسون، المشكلة ليست فى الدين، المشكلة فى طريقة تدريس الدين وفى المناهج الموضوعة والتى لا تتلاءم مع المراحل العمرية للأطفال.

** لدىَّ خمسة مصطلحات أريدك أن ترتبيها حسب احتياج المجتمع لها: الثقافة، الصحة، الدين، التعليم، تحسين المستوى المعيشي؟

أولاً التعليم، ثانياً الصحة، ثالثاً الثقافة، رابعاً الدين، وإذا تم الاعتناء بالتعليم العناية الواجبة فإن 90% من المشاكل الاقتصادية سوف يتم حلها، فالتعليم هو حجر الزاوية وكلمة السر فى كل المجتمعات، انعدام التعليم يعنى ألا يكون هناك وعى وبالتالى تتدهور جميع جوانب المجتمع، فالاستنارة والوعى يصنعهما التعليم.

أما ذلك «الكوكتيل» الذى ينتشر فى مصر من تعليم حكومى وخاص وإنترناشونال وغيره فهو أولاً يصنع فجوة كبيرة بين الجيل الواحد ويفقدنا الهوية، فلا يكون هناك تفاعل بين أبناء الجيل الواحد، مما أظهر ما سمى بمصر وإيجيبت، فأصبحنا مجتمعاً متشظياً، فى الماضى كان طه حسين ابن الفقراء يذهب فى بعثات علمية ليتعلم فى السوربون، وهو ما جعله عميدا للأدب العربى، هذا ما يفعله التعليم فى المجتمعات، وفى رأيى الشخصى فإن مصر تتعرض لمؤامرة كبيرة، وأخطر مؤامرة تعرضت لها مصر هى مؤامرة تدهور التعليم.

هكذا لملمت أوراقى واحتضنت إجاباتها، وأنا أودع الكاتبة الكبيرة سلوى بكر.

 

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة تدعو إلى استثمار مناخي عالمي لتحقيق مكاسب بقيمة 17 تريليون يورو بحلول 2070
  • «المستشارة التى أرادت أن تصبح السيدة الأولى».. قصة لونا الشبل مع النظام السورى بعد فيديوهات مسربة مع بشار
  • مصر تعاملت مع القضية الفلسطينية والتهجير بحنكة سياسية
  • مأساة الحارة رقم 7!!
  • قلب المجتمع!!
  • المندوب الدائم بجنيف: السودان يواجه أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم
  • خيارات أممية مؤلمة لميزانيات المساعدات الخارجية حول العالم
  • يوسف.. إهمال مع سبق الإصرار؟
  • تفاصيل صغيرة
  • أيام.. "إيديكس"