للوهلة الأولى يطرح انقلاب المعادلات في الأسابيع العشرة الأخيرة لصالح إسرائيل نظرة قاتمة في التنبؤ بمصير الحرب في غزة ولبنان. على أن تدبرا أكثر في العناصر الحاكمة للموقف العسكري - السياسي ربما يجعلنا أقل تشاؤما بشأن المستقبل الذي يصوره الإعلام الإسرائيلي والغربي والعبري الناطق بالعربية وكأنه لا يسير إلا إلى طريق واحد هو طريق الهزيمة.

نركز هنا على ثلاثة فقط من هذه العناصر التي تشكل حلقات متداخلة تقود كل منها إلى الأخرى:

أولا: إسرائيل فوّتت لحظة الذروة الاستراتيجية التي كان بإمكانها فرض تسوية للحرب في لبنان وغزة تحقق فيه كل مطامعها: هناك شعور عام في الغرب وفي إسرائيل نفسها إن غطرسة القيادة ومصلحة نتنياهو في استمرار الحرب أضاعت على إسرائيل فرصة تحويل إنجازاتها العسكرية في الشهرين الماضيين إلى إنجاز سياسي عندما فوّتت ما يسميه هؤلاء نقطة الذروة الاستراتيجية. لدى البعض فإن هذه الذروة في لبنان تحققت في الأسبوع ونيف الذي تم فيه تدمير أجهزة البيجر واغتيال حسن نصرالله وتدمير نصف المخزون الصاروخي لحزب الله وجزء من قوة النخبة «الرضوان» وأقسام من البنية التحتية العسكرية في القرى المتاخمة للحدود.. لم تستطع ترجمة نقطة الذروة باتفاق يكسر إرادة حزب الله ويجعله ينصاع لانسحاب سريع إلى جنوب الليطاني، فكانت النتيجة هي استعادة الحزب لتماسكه وعودة شراسته في القتال التي تمثلت في مظهرين رئيسيين الأول هو استمراره في إطلاق الصواريخ والمسيرات لقلب إسرائيل ووصولها لأهم رموز الشرف العسكري الإسرائيلي أي لبيت رئيس الوزراء ومقر وزارة الدفاع ومقر إحدى أهم قواعده العسكرية والثاني هو شراسته في القتال وإعاقة التوغل البري الإسرائيلي وتكبيد القوات الإسرائيلية خسائر بشرية فادحة. في جبهة غزة فوّتت حكومة نتنياهو نقطة الذروة الاستراتيجية حسب معاهد الأمن القومي لديها عندما فككت كتائب حماس في رفح وعندما استشهد القائد السياسي والعسكري لحماس يحيى السنوار وعجزت عن أن تترجم هذا إلى اتفاق يعيد المخطوفين الإسرائيليين فكانت النتيجة هي استمرار سقوط جنودها يوميا بالعبوات المفخخة والاشتباك من المسافة صفر مع خلايا المقاومة الفلسطينية.

ثانيا - إسرائيل التي فوّتت لحظاتها الحاسمة تطلب تسوية مستحيلة: حماقة القوة الإسرائيلية لم تكتف بعدم التقدم لتسوية سياسية في الذروة العسكرية التي قد لا تستطيع الوصول إليها مرة أخرى في الحرب وإنما أيضا طرحت شروطا تعجيزية على حزب الله وحماس في الوقت الذي كانا قد بدأ فيه في ترميم نفسيهما والعودة إلى ما يسميه ناحوم برنياع التنقيط اليومي المؤلم لمزيد من القتلى في الجيش الإسرائيلي. لم يعد الإسرائيليون يطرحون فقط تطبيق القرار ١٧٠١ في أن يعود حزب الله إلى جنوب الليطاني ويتولى الجيش اللبناني الانتشار على الحدود مع شمال فلسطين المحتلة. بل بات وزراء إسرائيليون يطالبون بنزع سلاح حزب الله وإعطاء إسرائيل حرية العمل العسكري في الأراضي اللبنانية في أي وقت يرى فيه إن حزب الله يعيد تسليح نفسه. بل ووصل الشطط إلى حد المطالبة بإعادة هندسة النظام السياسي اللبناني واختيار رئيس موالٍ ومعادٍ للمقاومة بحجة وحيلة كاذبة هي العودة لاتفاق الطائف ١٩٨٩.

ما زالت هذه الجبهة أقل تعقيدا؛ لأن نتنياهو مستعد للتراجع عن بعض هذه الشروط تنفيذا لوعده للرئيس المنتخب دونالد ترامب بمنحه هدية وقف الحرب في الشمال عند تنصيبه في ٢٠ يناير المقبل والتي يعتبرها الأخير الجبهة الأهم لأنها مع ارتباطها الأوثق بإيران هي التي يمكن أن تفجر حربا شاملة في الإقليم لا يريدها ترامب الساعي لإيقاف تورط أمريكا في النزاعات العسكرية قدر ما يستطيع.

الشروط التعجيزية التي هي دعوة سافرة لاستسلام مذل موجودة أكثر في جبهة غزة التي تبدو التسوية فيها أولوية أقل سواء لنتنياهو أو ترامب. الإسرائيليون لا يقبلون بأقل من سحق حماس والجهاد سحقا تاما واستسلام عشرات الألوف من مقاتليها أو القبول بالنفي والخروج من غزة وعدم العودة لها.

يريد الإسرائيليون إدارة للقطاع تسمح لهم بالسيطرة على معبر رفح محور فيلادلفيا ومحور نتساريم وحرية عمل عسكري في القطاع وخلق منطقة آمنة في شماله ويشيدون بنية تحتية ومستوطنات تشي بأنهم كجيش احتلال باقي ولا يخطط لانسحاب قريب.

آراء ترامب -تشجع نتنياهو على المضي في مخططاته للقطاع - فهي لا ترى في غزة سوى موقع ساحر على البحر يجب تنظيفها من المقاومين وربما من أصحابها الفلسطينيين حتى يحولها صهره كوشنر ومستثمرين من الخليج إلى جوهرة سياحية وعقارية تنافس موناكو.

حرب الاستنزاف تسترد زمام المبادرة

لا تدع عروض الاستسلام التام التي تطرحها إسرائيل في جبهتي غزة ولبنان مفرا أمام المقاومة إلا الاستمرار في القتال وتحسين شروط التفاوض حول أي تسويات لوقف الحرب في المستقبل. وبعبارة أوضح فإن احتمال توقيع على وثيقة استسلام غير واردة لأن ذلك يعني نهاية حماس وحزب الله وضياع استشهاد قادتهم وأبناء شعبهم هدرا.

وهو احتمال مستبعد لأن تباطؤ نتنياهو في ترجمة ذروة الحرب عندما انقلبت لصالحه تسوية سياسية مواتية له، أعاد إسرائيل في الجبهتين إلى أسوأ سيناريو لها وهو استمرار حرب استنزافها البطيء والمؤلم وأعاد للمقاومة نسبيا إلى نهجها العسكري المفصل لها وهو استنزاف عدو يتفوق عليها تسليحا وتكنولوجيا. يعترف عسكريون عديدون بأن الإنجاز العسكري الإسرائيلي يتآكل ويفقد مفعوله مع مرور الوقت ويشيرون لتباطؤ اندفاع هجومه في جنوب لبنان وحقيقة أن عودة سكان الشمال باتت بعيدة أكثر من أي وقت مضى. في غزة أيضا يصبح مائة من المخطوفين أبعد من العودة لأسرهم أكثر من أي وقت مضى. ورغم الضربة العسكرية الموجعة لحماس كتنظيم ما زالت الخلايا المحلية لهما تشن حرب عصابات موجعة. تكشف الصحف المعارضة لنتنياهو عن واقع الاستنزاف بقولها: إن قتلى الجيش في غزة وجنوب لبنان في ازدياد يومي.. يؤكد الاستنزاف الاعتراف بمقتل نحو ٨٠٠ عسكري إسرائيلي منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ منهم نحو ٢٠٠ من الضباط ونحو ٣٠٠ من جنود الاحتياط وهناك ألف مدني قتلوا ونحو ١٢ ألف جندي مصاب استمرار الاستنزاف يرهق قوات الاحتياط وعائلاتهم تضغط من أجل عودتهم ونسبة عدم الامتثال لاستدعاء الاحتياط للخدمة تزداد. والتأثيرات السلبية على الاقتصاد الإسرائيلي تتعاظم خاصة وأنه يعتمد على قوة الاحتياط المشغولة في القتال الاستنزافي.

مع انقطاع الأمل في أي عون من النظام العربي الرسمي ومرحلة عدم الفعل الإيرانية الراهنة التي تفكر في عواقب وصول ترامب عليها وأي طريق تتخذه التهدئة أم المواجهة ليس أمام المقاومة إلا المضي في حرب الاستنزاف التي تناسبها ولا تناسب عدوها. بهذا الاستنزاف فقط يمكن أن تصل لتسوية متوازنة لا تضيع إنجاز ٧ أكتوبر كاملا وتعيد بناء قوتها لجولات صراع لن ينتهي إلا بانتهاء الاحتلال.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی القتال حزب الله فی غزة

إقرأ أيضاً:

"ممارسات غير إنسانية".. الأصوات المعارضة للحرب على غزة تعلو في صفوف الجيش الإسرائيلي

مع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة وارتفاع أعداد القتلى، تتزايد الأصوات المعارضة داخل الجيش الإسرائيلي لا سيما بين جنود وضباط الاحتياط. وقد خرج بعضهم عن صمته علنًا، في انتقاد غير مسبوق للحكومة وقراراتها التي يصفونها بأنها غير أخلاقية وتحمل دوافع سياسية. اعلان

ومن بين هؤلاء يوڤال بن آري، جندي احتياط خدم في جولتين داخل القطاع، الأولى في الشمال والثانية في الجنوب، وقد أعلن عبر مقابلة مع شبكة NBC أنه يرفض المشاركة في ما وصفه بـ"جرائم حرب"، مشددًا على أن "الموقف الوطني الحقيقي هو أن تقول لا".

كما عبّر عن شعوره بالخجل والذنب حيال معاناة المدنيين في غزة، قائلاً: "أناشد الحكومة الإسرائيلية وقف تجويع مليوني إنسان".

بن آري، الذي أعيد تجنيده في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 رغم إصابته السابقة في ساقه، أشار إلى أن صدمته من حجم الدمار الذي شاهده خلال المهمة الأولى دفعته لاحقًا إلى طلب إعفائه من المهمة بعد أسبوع واحد فقط على انتشار جديد جنوب القطاع في آذار/مارس. وقد كتب عبر وسائل التواصل: "لن أرتدي هذا الزي العسكري ما دامت هذه الحكومة في السلطة".

ورغم تلقيه دعمًا من بعض أفراد عائلته وأصدقاء مقرّبين، فقد واجه بن آري أيضًا اتهامات بـ"الخيانة" و"التخلي عن الرهائن"، وهي اتهامات قال إنه كان يتوقعها. ودوّن تجربته لاحقًا في مقال بصحيفة "هآرتس" دون الإفصاح عن هويته.

تصاعد المعارضة داخل المؤسسة العسكرية

لم يكن موقف بن آري معزولًا عن موجة اعتراض آخذة في الاتساع، فمع انطلاق عملية "عربات جدعون" مطلع الشهر الجاري، تصاعد زخم الرافضين داخل الجيش الإسرائيلي.

ووفق منظمة "ريستارت إسرائيل"، التي ترصد الاعتراض على سياسات الحكومة، فقد وقّع أكثر من 12 ألف جندي حالي وسابق على رسائل احتجاج منذ انهيار الهدنة في آذار/مارس، دعوا فيها إلى وقف الحرب، وأعلنوا رفضهم أداء أي مهام قتالية مستقبلية في حال استمرارها.

جنود من الجيش الإسرائيلي ينعون الرقيب أول روعي ساسون، في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.Maya Alleruzzo/ AP

وفي هذا السياق، برز موقف الطيار المتقاعد غاي بوران (69 عامًا) في مقابلة مع شبكة NBC، والذي عبّر عن رفضه العلني لما يجري، مؤكدًا من تل أبيب أن الاعتراض لا يأتي من منطلق التعب بل لأن "هذه الحرب غير شرعية".

وكان بوران من أوائل من بادروا إلى صياغة رسالة احتجاج وقّع عليها نحو 1200 من الطيارين الحاليين والسابقين. واعتبر أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "غارق في مشاكل قانونية خطيرة"، في إشارة إلى محاكمته في قضايا فساد.

ورأى بوران أن الحرب تُدار خدمةً لمصالح الشركاء اليمينيين في الائتلاف الحاكم، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، اللذين هددا بإسقاط الحكومة في حال التوصل إلى هدنة مع حماس، كما دعا كلاهما إلى "إبادة كاملة" للحركة، واحتلال غزة مجددًا وإعادة توطينها. وعلّق بوران قائلًا: "إسرائيل أصبحت رهينة لهذا الابتزاز السياسي".

حرب "غير إنسانية"

اعتراضات أخرى برزت من داخل صفوف ضباط الاحتياط. أحدهم، برتبة رائد، أعرب عن قلقه من تصريحات بعض الوزراء بشأن استخدام التجويع كأداة ضغط، قائلاً: "هذه لم تعد حكومة أخلاقية... على الجيش أن يضع حدًا لهذا الجنون".

وعلى الرغم من أن القانون الإسرائيلي يمنع فصل الموظفين دون مبرر قانوني، أفادت تقارير بأن الجيش قام فعلًا بفصل أو تهديد عدد من الجنود الموقّعين على رسائل الرفض.

في المقابل، اكتفى الجيش الإسرائيلي بإصدار بيان مقتضب قال فيه إن "الجنود الاحتياطيين الذين يتركون عائلاتهم ووظائفهم للدفاع عن البلاد هم ركيزة أساسية في قوة الجيش"، من دون أن يتطرق إلى الانتقادات أو الخلفيات السياسية المرتبطة باستمرار الحرب.

Relatedمظاهرات في تل أبيب تطالب بعودة الرهائن وبإنهاء الحرب في غزةإسرائيل تتهم ماكرون بشن "حملة صليبية ضد الدولة اليهودية" بعد انتقاده الحرب على غزةغزة: جوع وطوابير ولا حل في الأفق.. الآلاف يتجمعون أمام مركز جديد للمساعدات في رفح

وفي ختام تصريحاته، قال بوران إن الصراع الجاري لم يعد سوى "حرب انتقام"، محذرًا من غياب الحلول الواقعية: "حتى الجيش يقول إن هذا ليس حلًا طويل الأمد. إذا احتلّ غزة، فعليه أن يطعم سكانها، ويعالجهم، ويوفر لهم التعليم والبنية التحتية. من سيتولى ذلك؟".

اعلان

أما بن آري، فاختصر موقفه بالقول: "لا يمكن تهجير مليوني إنسان من ديارهم بهذه البساطة... هذا فعل غير إنساني".

انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة

مقالات مشابهة

  • أفضل الأذكار التي أوصانا بها النبي في العشر الأوائل من ذي الحجة.. رددها الآن
  • رؤية الحج الإنسانية التي تتسع للعالم أجمع
  • بعثة الحج العسكرية تصل مكة المكرمة لأداء المناسك
  • من مكة إلى الكرامة… الرصاصة التي أصبحت جيشًا
  • الحوثيون : سنسقط طائرات الاحتلال الإسرائيلي التي تقصف بلادنا 
  • ⛔ لاحظ التعابير التي استخدمها فيصل محمد صالح في هذا اللقاء
  • لوين رايحين؟.. مستقبل نتنياهو والاحتلال على طاولة أثير المستديرة
  • "ممارسات غير إنسانية".. الأصوات المعارضة للحرب على غزة تعلو في صفوف الجيش الإسرائيلي
  • صحيفة إسرائيلية: تركيا أصبحت القوة الجديدة التي تُقلق إسرائيل في الشرق الأوسط!
  • إن بي سي: معارضة الحرب تتصاعد بصفوف الجيش الإسرائيلي