كيف يستفيد ترامب من نجاحات بايدن في آسيا؟
تاريخ النشر: 27th, November 2024 GMT
على مدى الأربعين عامًا الماضية، أثبتت سياسة الولايات المتحدة في آسيا نجاحًا ملحوظًا، إذ لم تشهد المنطقة أي حروب كبرى بين دول شرق آسيا منذ عام 1979. وتمكنت الولايات المتحدة من بناء شبكة واسعة ومترابطة من التحالفات والشراكات التي تحظى بدعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي. علاوة على ذلك، تتصدر استثمارات القطاع الخاص الأمريكي في الدول الآسيوية ذات الاقتصادات الكبرى مقارنة بأي دولة أخرى، في حين تعتبر الولايات المتحدة الوجهة الأساسية للاستثمار الأجنبي المباشر من كبرى اقتصادات المنطقة (باستثناء الصين).
مع فوزه بالانتخابات الرئاسية لعام 2024، يرث دونالد ترامب سياسة قوية ومتينة تجاه آسيا، تناوبت على تطويرها الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء. وقد حقق الرئيس جو بايدن إنجازات بارزة في المنطقة معتمدًا على هذا الإجماع الثنائي. على سبيل المثال، الشراكة الدبلوماسية الرباعية بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، التي رفعها بايدن من منتدى وزاري إلى قمة زعماء، بدأت أصلاً في عهد إدارة جورج دبليو بوش كمبادرة إغاثة لضحايا تسونامي المحيط الهندي عام 2004، وأعيد إحياؤها لاحقًا كاجتماع وزاري منتظم خلال إدارة ترامب. أما المبادرات التي أطلقها بايدن فيما يتعلق بتعزيز القوة العسكرية الأمريكية، وضوابط تكنولوجيا أشباه الموصلات، والعلاقات الثلاثية مع اليابان وكوريا الجنوبية، فتعود جذورها إلى إدارات سابقة مثل بوش وأوباما وترامب. ومن بين الإضافات التي قدمها بايدن، شراكة AUKUS (اتفاقية الغواصات والتكنولوجيا الدفاعية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، التي تحظى بدعم واسع النطاق في الكونجرس، مما يجعل من المرجح استمرارها في الإدارات المستقبلية. وعند تسلم ترامب لمنصبه، لن يفتقر إلى الفرص اللازمة لتعزيز مشاركة بلاده في آسيا. لكن التاريخ يُظهر أن الاستراتيجيات الناجحة تبقى كذلك حتى تواجه الفشل. فمن دروس التجربة الأمريكية بين عامي 1919 و1941، أن الاعتماد على الترابط الاقتصادي والدبلوماسية المتعددة الأطراف للحفاظ على السلام لم يكن كافيًا لمنع الصراع العالمي. فحينها، قلل الخبراء من خطورة تفوق البحرية اليابانية على الولايات المتحدة في المحيط الهادئ، ومن تراجع القوة الإمبريالية الأوروبية في المنطقة، مما أدى إلى عواقب كارثية. اليوم، تبدو المخاطر مشابهة. فإذا تمكنت الصين من تحقيق أهدافها الاستراتيجية، فقد تُجبر اليابان على الخروج من بحر الصين الشرقي، وتخضع الفلبين ودول أخرى في بحر الصين الجنوبي، مما يؤدي إلى قطع علاقاتها مع الولايات المتحدة واليابان. كما ستنشئ بنية عسكرية إقليمية تحاصر الهند وأستراليا وتسيطر على الممرات البحرية الحيوية التي يعتمد عليها حلفاء واشنطن في استيراد أكثر من نصف احتياجاتهم. لا تحتاج إدارة ترامب إلى اختراع استراتيجية جديدة في آسيا من الصفر، لكنها تحتاج إلى تحديد ما ينجح وما لا ينجح، وينبغي لها أن تعالج نقاط الضعف في النهج الحالي. ويجب أن تعمل على إحياء النفوذ الاقتصادي الأمريكي في المنطقة، وتسريع الجهود الرامية إلى الدفاع الجماعي، والتواصل بشكل منضبط ومتسق مع البلدان التي قد تميل نحو الصين، وتوضيح الأهداف الطويلة الأجل للمنافسة مع بكين. رغم أن القوة السوقية الأمريكية في آسيا لا تزال مؤثرة، إلا أن الحكمة الاقتصادية الأمريكية شهدت تراجعًا ملحوظًا. ففي عام 2018، خفض معهد لوي ترتيب الولايات المتحدة في مؤشر القوة الآسيوية السنوي من حيث النفوذ الاقتصادي في المنطقة، عقب انسحاب إدارة ترامب الأولى من الشراكة عبر المحيط الهادئ. كانت هذه الاتفاقية التجارية تهدف إلى ربط الاقتصادات الأكثر انفتاحًا في آسيا، بما في ذلك أستراليا واليابان وماليزيا وسنغافورة، لتشكيل جبهة اقتصادية قادرة على مواجهة النفوذ الصيني. ومع ذلك، لم يُظهر الإطار الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادئ من أجل الرخاء، الذي أطلقته إدارة بايدن في عام 2022 كبديل محتمل لهذه الشراكة، تقدمًا يُذكر. نتيجة لذلك، أصبحت الصين في وضع أفضل بكثير لإعادة كتابة قواعد التجارة والبنية التحتية والاستثمار في أجزاء رئيسية من آسيا. وتحتاج إدارة ترامب، في مرحلتها الثانية، إلى التعامل بجدية مع صياغة اتفاقيات إقليمية وعالمية جديدة تتناول قضايا مثل التجارة الرقمية، ومكافحة الفساد، وحقوق الملكية الفكرية. يُعد ذلك أمرًا ضروريًا لمواجهة جهود بكين الرامية إلى إخضاع الدول الأضعف لإرادتها وتقويض النفوذ الاقتصادي الأمريكي في المنطقة. على صعيد آخر، انتقد ترامب في الماضي كلًّا من الشراكة عبر المحيط الهادئ ومنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC)، مدعيًا أن اتفاقيات التجارة التقليدية تسلب الوظائف من العمال الأمريكيين. بدلًا من ذلك، هدد بفرض تعريفات جمركية صارمة، تصل إلى 60% على السلع الصينية، و10% عالميًا على جميع الواردات. غير أن هذه السياسات الحمائية، إلى جانب تفاقم التضخم في الداخل الأمريكي، من شأنها أن تدفع الدول الأخرى إلى الاقتراب أكثر من الصين، مما يضعف التعاون بين الولايات المتحدة وشركائها ذوي التفكير المماثل، مثل أستراليا واليابان. لذلك، ستحتاج إدارة ترامب إلى الاعتراف بحقيقة أن الولايات المتحدة لا يمكنها التنافس مع الصين بينما تهدد بفرض تعريفات جمركية على شركائها الأساسيين. وينبغي لها أن تعمل على تعزيز التعاون مع الحلفاء الإقليميين والدوليين، لضمان إحباط محاولات بكين المستمرة لتغيير القواعد الاقتصادية العالمية الراسخة لصالحها. ومن ناحية أخرى، تحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز استعدادها العسكري في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بشكل كبير. تقدم لنا سنوات ما بين الحربين العالميتين درسًا مهمًا في هذا السياق. فبينما ساعدت الابتكارات الأمريكية في استراتيجيات الحرب البرمائية، وتجديد السفن في البحر، وعمليات الغواصات وحاملات الطائرات خلال عشرينيات القرن العشرين في تحقيق النصر في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تمنع اندلاع الصراع في المقام الأول. تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تكثيف إنتاجهم الدفاعي للتصدي لتراكم القوة العسكرية الصينية التي تفوقهم كمًا ونوعًا. كما أن هناك حاجة ماسة لتوفير المزيد من الذخائر، وضمان الوصول الموثوق إلى المعادن الحيوية مثل الجرمانيوم، الذي يُستخرج 70% منه في الصين وروسيا، ويُستخدم في تصنيع أنظمة متقدمة مثل أجهزة الكشف الحراري للصواريخ والطائرات المقاتلة. على إدارة ترامب أن تضغط على الكونجرس لإقرار عقود دفاعية طويلة الأجل، والعمل مع شركاء الولايات المتحدة لتوسيع نطاق الوصول إلى المعادن الحيوية. كما يجب تخفيف بعض قيود الرقابة على الصادرات لتعزيز تكامل الإنتاج الدفاعي بين الولايات المتحدة وحلفائها، بالإضافة إلى ذلك، ينبغي دفع عجلة إصلاح المشتريات الدفاعية، بهدف كسر هيمنة الأنظمة القديمة وإفساح المجال للاستثمار في معدات أحدث وأكثر ابتكارًا. يتعين على شركاء الولايات المتحدة في آسيا أيضًا تكثيف جهودهم الدفاعية. على عكس أوروبا، يلتزم العديد من حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في آسيا بإنفاق ما يعادل 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، أو هم في طريقهم لتحقيق هذا الهدف. مع ذلك، لم تفعل إدارة بايدن ما يكفي لضمان بقاء هذا الإنفاق على المسار الصحيح. فاجأت الصين الولايات المتحدة وحلفاءها بشكل متكرر بمناورات عسكرية غير متوقعة وأنظمة أسلحة جديدة. وعندما يُستخدم عنصر المفاجأة بشكل فعال، فإنه قد يزعزع ثقة الخصم في خططه العسكرية ويعزز الردع. ويشتهر ترامب باستخدام عدم القدرة على التوقع كسلاح، ومع ذلك، كانت تصرفاته المفاجئة في ولايته الأولى غالبًا غير مثمرة، حيث لم تزعزع توازن خصوم الولايات المتحدة فقط، بل زعزعت أيضًا استقرار حلفائها، مما أدى إلى إضعاف الشركاء الذين تحتاجهم الولايات المتحدة لتحمل المزيد من المخاطر من خلال الوقوف إلى جانبها في الأزمات. يتطلب العمل مع حلفاء رئيسيين مثل أستراليا واليابان لتعزيز الردع جهودًا عاجلة، بينما تحتاج جوانب أخرى من استراتيجية الولايات المتحدة في آسيا، خاصة في جنوب شرق آسيا وجزر المحيط الهادئ، إلى الصبر والانضباط. تاريخيًا، لم تولِ الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا لهذه المناطق إلا بشكل متقطع، وغالبًا فيما يتعلق بتحديات كبرى مثل الشيوعية، والتوسع الاقتصادي الياباني بعد الحرب، والإرهاب. ينبغي لإدارة ترامب مواجهة الدعاية المناهضة للغرب والتضليل، لا سيما بعد الحرب في غزة التي أضرت بصورة الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا. هذه الحرب عززت روايات بكين وموسكو بأن واشنطن تدعم القوى الاستعمارية، في حين تقف الصين وروسيا مع المضطهدين عالميًا. وبرغم كفاءة الحكومة الأمريكية في تبادل المعلومات الاستخباراتية مع حلفائها حول الحملات الإعلامية لبكين وموسكو، فإن التنسيق في الاستجابة لا يزال ضعيفًا. في هذا الصراع السردي، تحتاج إدارة ترامب إلى تكثيف جهودها لدعم وسائل الإعلام الحرة، دحض المعلومات المضللة، وتشجيع الأصوات الموثوقة في المنطقة على فعل الشيء ذاته. لا ينبغي أن تأتي هذه الجهود على حساب التزام الولايات المتحدة بتعزيز القيم الديمقراطية. إذ يزدهر المنافسون الاستبداديون للولايات المتحدة في البلدان التي تعاني من ضعف الحكم والشفافية والمساءلة، مما يجعل دعم الديمقراطية ضرورة ملحة. وبالفعل، بدأ حلفاء رئيسيون مثل اليابان وكوريا الجنوبية في التركيز على دعم الديمقراطية ضمن استراتيجياتهم الخاصة. وتشير استطلاعات أجراها مركز الدراسات الأمريكية في سيدني عام 2024 إلى أن الأستراليين أكثر ميلاً من الأمريكيين إلى الرغبة في أن تعمل حكومتهم على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة. لم ينجح ترامب في ولايته الأولى ولا بايدن اليوم في حل المسألة المهمة المتعلقة بالأهداف الطويلة الأجل للولايات المتحدة في آسيا. فحتى مع قيام أستراليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية ببناء قدراتها الدفاعية ومقاومة الإكراه الصيني، فإن هذه الدول جميعها تهدف في نهاية المطاف إلى العودة إلى علاقات أكثر إنتاجية مع بكين. وعلى النقيض من ذلك، يبدو أن إدارة بايدن تتبنى وجهة نظر أكثر تشاؤمًا، حيث تكتفي بالقول إن «من الممكن للولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية أن تتعايشا سلميًا». ومن المرجح أن تتبنى إدارة ترامب موقفًا أكثر صرامة، وتسعى إلى تحقيق هدف يذكرنا بتنبؤ الرئيس رونالد ريجان الشهير حول كيفية انتهاء الحرب الباردة: «نحن نفوز، وهم يخسرون». أخيرًا، في عصر متعدد الأقطاب على نحو متزايد، لن تعتمد الزعامة الأمريكية في آسيا على قدرات الولايات المتحدة فحسب، بل وأيضًا على المزايا التكنولوجية والعسكرية والدبلوماسية والجغرافية التي يجلبها حلفاؤها إلى الطاولة، وتدرك هذه البلدان أدوارها الخاصة، لكنها تدرك أيضًا الأهمية الحيوية للولايات المتحدة. مايكل جرين الرئيس التنفيذي لمركز دراسات الولايات المتحدة في جامعة سيدني، ومستشار أول في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وباحث متميز في معهد آسيا والمحيط الهادئ في طوكيو. نشر المقال في Foreign Affairs |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی للولایات المتحدة المتحدة فی آسیا المحیط الهادئ الأمریکیة فی فی المنطقة
إقرأ أيضاً:
هل يرجح ترامب كفة سباق الذكاء الاصطناعي لصالح الصين؟
وانج يا تشيانج
تشي يوان شو
ربما وصلت حرب التعريفات الجمركية بين الولايات المتحدة والصين إلى طريق مسدود، لكن المنافسة بينهما على التفوق التكنولوجي تتحول الآن نحو مستوى أعلى من الـحِـدّة بينما تتصارع الدولتان على الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي ــ ومكاسب الإنتاجية والمكاسب الجيوسياسية التي ستصاحبها ــ يلوح في الأفق سؤال واحد. هل تلحق قدرات الصين في مجال الذكاء الاصطناعي بقدرات الولايات المتحدة ــ بل وتتفوق عليها؟
يدفع هذا الاتجاه سلسلة من السياسات التي قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. تمثل رئاسة ترامب خروجا دراماتيكيا عن الالتزام بالانفتاح الذي عزز ريادة أمريكا التكنولوجية لعقود من الزمن. وقد ترتد التدابير التي تهدف إلى إعادة الإبداع إلى الولايات المتحدة في الاتجاه المعاكس، وقد تنتهي بها الحال إلى تمهيد الطريق للهيمنة الصينية. ربما يوفر تطور الاقتصاد الرقمي بعض الأفكار والبصائر حول كيفية سير سباق الذكاء الاصطناعي اليوم في أعقاب سياسات ترامب. في تسعينيات القرن الماضي، قادت الولايات المتحدة ثورة الإنترنت، وهيمنت على مرحلة «صفر إلى واحد» المحورية من خلال نقل الإبداعات بسرعة من المختبر إلى السوق. وقد غذى ذلك ما أشاد به كثيرون في ذلك الوقت باعتباره «الاقتصاد الجديد»، الذي اتسم بالنمو السريع، ومكاسب الإنتاجية القوية، والتضخم المنخفض. أما الصين، التي كانت في البداية تابعة، فقد أضفت في وقت لاحق ديناميكية ملحوظة على الاقتصاد الرقمي من خلال توسيع نطاق تكنولوجياتها المبتكرة. توالت فصول التطور الرقمي في الصين على ثلاث مراحل. الأولى كانت النسخ والاتباع: من منتصف التسعينيات إلى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت الشركات الصينية تحاكي النماذج الأمريكية، فأطلقت بوابات إلكترونية وخدمات على الإنترنت أفضت إلى نمو هائل في أعداد المستخدمين.
المرحلة الثانية كانت التوطين والتحسين. فمع نضوج النظام البيئي الرقمي في الصين بين عامي 2005 و2015، بدأت شركات التكنولوجيا الصينية تستفيد من فهمها العميق للمستخدمين المحليين وظروف السوق لضبط خدماتها. ولم تكتفِ منصات مثل WeChat و Taobao بتكييف المفاهيم الأمريكية، بل عملت على البناء عليها، لتتفوق في نهاية المطاف على نظيراتها الغربية، مثل WhatsApp و Ebay، في السوق الصينية. تميزت المرحلة الثالثة بالابتكارات الخارقة. على مدار العقد الماضي، تحولت شركات التكنولوجيا الصينية من التقليد إلى الإبداع، حيث ابتكرت نماذج رقمية جديدة وتفوقت على المنافسين الأجانب. والمثال الأكثر نجاحا على نحو لافت للنظر تطبيق TikTok من شركة ByteDance، الذي وضع الصين في طليعة الثقافة على الإنترنت، وأعاد تشكيل وسائط التواصل الاجتماعي، وأجبر الشركات الأمريكية مثل Meta على محاولة اللحاق بالركب.
تتضح هذه الديناميكية بالفعل في مجالات مثل الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية، ولن يكون الذكاء الاصطناعي استثناء. بعد إطلاق ChatGPT في أواخر عام 2022 ــ والذي بوسعنا أن نزعم أنه كان إيذانا بانتقال الذكاء الاصطناعي إلى عصر التبني الجماعي ــ أظهرت الصين بسرعة قدرتها على نسخ النماذج الغربية.
وكان إطلاق برنامج DeepSeek في يناير إشارة إلى دخول الصين مرحلة التوطين والتحسين، حيث كان نموذج R1 الذي أطلقته الشركة أرخص في الاستخدام بنحو 30 إلى 50 مرة من نموذج OpenAI. وبحلول فبراير، تقلصت فجوة الأداء بين أفضل النماذج الصينية والأمريكية إلى 1.7%، بعد أن كانت 9.3% في عام 2024. وبينما استغرق الأمر شهرين من ChatGPT للوصول إلى 100 مليون مستخدم نشط، وصل DeepSeek إلى هذا الإنجاز في سبعة أيام فقط. تتمثل إحدى المزايا الرئيسية التي تتمتع بها الصين في مجموعة كبيرة من المواهب الهندسية؛ حيث تنتج البلاد أربعة أضعاف عدد خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات سنويا مقارنة بالولايات المتحدة. وبالإضافة إلى الحجم الهائل، يعكس هذا «العائد الهندسي» أخلاقيات العمل القوية والعقلية البرجماتية الموجهة نحو التحسين العملي المعقد، كما يتضح من بنية نظام DeepSeek. في ظل أكثر من مليار مستخدم للإنترنت وقاعدة صناعية متنوعة، توفر الصين أيضا ظروفا لا مثيل لها لنشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي واختبارها وتحسينها.
تستحوذ الصين على ما يقرب من 30% من ناتج التصنيع العالمي، وتنتج كميات هائلة من البيانات. في عام 2019 وحده، أنتج قطاع التصنيع في الصين 1812 بيتابايت من البيانات، وتشير تقديراتنا إلى أن هذا الرقم ارتفع إلى 2435 بيتابايت في عام 2024. والطاقة عامل حاسم آخر. في عام 2023، أنتجت الصين ما يقرب من 9456 تيراواط/ساعة من الكهرباء ــ 32% من الإجمالي العالمي وأكثر من ضعف إنتاج الولايات المتحدة البالغ 4178 تيراواط/ساعة ــ وهذا يمنحها ميزة كبيرة في تشغيل مراكز البيانات الضخمة الضرورية لتبني الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. وتزداد مكانة أمريكا ضعفا في سباق الذكاء الاصطناعي بفعل تخفيضات ترامب لتمويل الأبحاث والقيود المفروضة على الهجرة. في فبراير على سبيل المثال، سرّحت إدارة ترامب 170 موظفا، منهم خبراء في الذكاء الاصطناعي، في مؤسسة العلوم الوطنية واقترحت خفض ميزانية الوكالة بأكثر من 50%. تهدد هذه التخفيضات -إلى جانب تأخر تخصيص تمويل المعاهد الوطنية للصحة وتجميد ما يقرب من 2.2 مليار دولار من المنح الفيدرالية لجامعة هارفارد- بتعطيل الأبحاث التأسيسية وإعاقة الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي. من ناحية أخرى، من المحتمل أن تؤدي سياسات الهجرة التقييدية إلى زيادة صعوبة اجتذاب الولايات المتحدة للمواهب العالمية والاحتفاظ بها، وقد يؤدي هذا إلى هجرة عكسية للأدمغة مع عودة عمال التكنولوجيا الصينيين المهرة إلى بلادهم لتولي وظائف مُـجزية الأجر في قطاع متنام. في حين دعمت إدارة ترامب مبادرات ضخمة في تشييد البنية الأساسية مثل Stargate ــ وهو مركز بيانات مقترح بقيمة 500 مليار دولار والذي سَـيُـبنى بواسطة OpenAI وOracle وSoftBank ــ فإن مثل هذه المشاريع تهدد بتعزيز هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى وخنق الإبداع اللازم لتحقيق اختراقات تكنولوجية تحويلية.
لكن المشكلة الأشد عمقا تكمن في تحول أمريكا بعيدا عن الانفتاح الاقتصادي. فمع تزايد انغلاق الشركات الأمريكية مثل OpenAI، تتبنى الشركات الصينية استراتيجيات المصادر المفتوحة. وبينما تؤدي سياسات ترامب التجارية وسياسات الهجرة إلى إقصاء المواهب العالمية والمتعاونين الدوليين، تعمل الصين بنشاط على تسويق نماذج الذكاء الاصطناعي المنخفضة التكلفة لشركائها التجاريين. لا شك أن الصين تواجه تحديات داخلية تخصها، والتي تتفاقم بِـفِـعل القيود التجارية الأمريكية التي حدت من قدرتها على الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة. وعلى الصعيد المحلي، يجب على صناع السياسات الصينيين إيجاد توازن دقيق بين تشجيع الابتكار وفرض ضوابط صارمة على البيانات. ولكن بينما لا يملك أي من الطرفين طريقا سهلا نحو هيمنة الذكاء الاصطناعي، فإن أجندة ترامب «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» قد تساعد عن غير قصد في جعل الصين عظيمة مرة أخرى.