دكتور هشام عثمان
في مقاله الأخير، يناقش الأستاذ الزميل صديق الزيلعي أفكارًا متعلقة بالحزب الشيوعي السوداني والماركسية، مما يستدعي منا التوقف عند عدة نقاط أساسية وأخذها في سياق نقدي موضوعي. في هذا المقال، سنتناول بشكل مفصل مغالطات الزيلعي في تقييمه للماركسية والحزب الشيوعي السوداني، مع تقديم توضيحات وتحليلات حول المواقف الأساسية التي أثارها.

هدفنا ليس فقط تصحيح الأخطاء الواردة في مقاله، بل أيضًا إعادة تسليط الضوء على الدور البطولي والمستمر للحزب الشيوعي السوداني في الدفاع عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في مواجهة ملاحقات الأنظمة الاستبدادية والمصاعب السياسية.

أولًا: الزيلعي وانتقاده للماركسية كأيديولوجيا جامدة

منذ البداية، ينطلق الأستاذ الزميل صديق الزيلعي من نقد أساسي للماركسية باعتبارها "أيديولوجيا جامدة" تفتقر إلى المرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات السياسية والاجتماعية. في هذا الطرح، يتبنى الزيلعي فكرة شائعة بين بعض المفكرين الماركسيين التقليديين، بأن الماركسية تمثل مجموعة من الأفكار الثابتة التي لا تقبل التغيير أو التعديل، بل تعدّ فكرًا عقائديًا يجب اتباعه حرفيًا.

لكن هذا النقد لا يتفق مع الواقع التاريخي والتطورات الفكرية التي شهدتها الماركسية عبر العقود. على العكس، فإن الماركسية تعتبر إطارًا تحليليًا مفتوحًا، قادرًا على التكيف مع المستجدات السياسية والاجتماعية في مختلف العصور. كما أكد العديد من المفكرين مثل أنطونيو غرامشي ولوي ألتوسير، أن الماركسية ليست مجرد مجموعة من النصوص الثابتة، بل هي مجموعة من الأدوات التحليلية التي يمكن تعديلها بما يتناسب مع السياقات التاريخية المختلفة. لذلك، فإن الماركسية لا تتناقض مع التغيرات، بل هي تظل قابلة للتطوير والنقد الداخلي، وهو ما يجعلها أداة تحليلية قوية ومرنة لمواكبة التطورات الفكرية.

ثانيًا: الزيلعي ونقده للنظرية الماركسية مقارنة بالعلوم الطبيعية

أحد المفاهيم التي يتبناها الأستاذ الزميل صديق الزيلعي في نقده للماركسية هو المقارنة بينها وبين العلوم الطبيعية، حيث يشير إلى أن الماركسية ليست "علمية" بالمعنى الذي نعرفه عن العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء. وهذه مقارنة غير دقيقة وغير متكافئة، لأن الماركسية ليست علمًا طبيعيًا بقدر ما هي نظرية اجتماعية وفلسفية.

الماركسية، كما أوضح ماركس نفسه، هي "علم تاريخي" يهدف إلى فهم وتفسير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وليس تفسير الظواهر الطبيعية. لهذا السبب، من غير الممكن مقارنة الماركسية بمناهج العلوم الطبيعية التي تعتمد على التجربة والتكرار. إن مقارنة الماركسية بعلم الفيزياء، على سبيل المثال، تحجب الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي تهتم بها الماركسية، والتي لا يمكن اختزالها في قوانين مادية ثابتة كما في العلوم الطبيعية. وبالتالي، فإن محاولة الزيلعي انتقاد الماركسية على أساس أنها ليست علمًا طبيعيًا هي محاولة غير عادلة في قياس مدى علمية أو قدرة الماركسية على تحليل المجتمع.

ثالثًا: الزيلعي ومغالطاته حول تعدد الماركسيات وتطورها

في سياق آخر، يناقش الأستاذ الزميل صديق الزيلعي مسألة تعدد الماركسيات ويصفها بأنها "تعددات غير واضحة المعالم"، وهو يقصد بذلك اختلاف المدارس الماركسية التي تطورت عبر الزمن. ولكن هذه الحقيقة تمثل في الواقع قوة كبيرة للماركسية، إذ أنها تظهر قدرة هذه النظرية على التفاعل مع مختلف الظروف الاجتماعية والثقافية في أنحاء مختلفة من العالم.

الماركسية لم تكن أبدًا نظرية موحدة، بل تطورت مع الزمن، فكل مفكر ماركسي تعامل مع مكونات نظرية ماركس بشكل مختلف بما يتلاءم مع البيئة السياسية والاقتصادية. على سبيل المثال، في الوقت الذي كان فيه ماركس يهتم بشكل أساسي بالتحليل الطبقي في أوروبا، جاءت مساهمات مفكرين مثل غرامشي ولوكاش لتوسيع هذا التحليل ليتضمن الثقافات المحلية والتاريخ الوطني، مما جعل الماركسية تصبح أداة قوية للتحليل في سياقات متنوعة.

أزمة الزيلعي تكمن في أنه لا يدرك أن هذه التعددية لا تمثل ضعفًا في النظرية، بل بالعكس، هي دليل على حيوية الفكر الماركسي واستجابته للتحديات المختلفة التي يواجهها العالم. من خلال هذه التعددية، تمكنت الماركسية من تقديم تفسيرات جديدة للحركات الثورية في دول الجنوب، وفي السودان على وجه الخصوص، مما ساعد في صياغة مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية الذي طرحه الحزب الشيوعي السوداني.

رابعًا: مقال الدكتور رفعت السعيد ومغالطاته

في مقالته التي استعرضها الأستاذ الزميل صديق الزيلعي، يُستشهد بالدكتور رفعت السعيد الذي يعتبر الماركسية "نظرية فاشلة" وغير قابلة للتطبيق في العالم المعاصر. هذا التقييم يفتقر إلى الدقة الموضوعية، لأنه يتعامل مع الماركسية كإيديولوجيا جامدة. في الحقيقة، الماركسية هي أداة تحليل اجتماعي لم تزل تحتفظ بقدرتها على تفسير وتوجيه التحولات السياسية في العالم، خاصة في سياقات مثل السودان.

النقد الذي يقدمه الدكتور رفعت السعيد لا يعكس تطور الفكر الماركسي، ولا يعترف بالتجديدات التي طرأت عليه منذ زمن ماركس. لو أن السعيد أمعن النظر في المدارس المختلفة للماركسية، مثل الماركسية اللينينية أو الماركسية الثقافية، لكان قد فهم أن الماركسية كانت دومًا في حالة من التفاعل والتطور، بما يتلاءم مع بيئاتها وأزمانها المتغيرة. وعليه، فإن النقاش حول فشل الماركسية اليوم ليس إلا تكرارًا لأفكار قديمة تجاهلته التجارب الثورية في العديد من البلدان.

خامسًا: ثبات الحزب الشيوعي السوداني في وجه حملات العداء والملاحقات

منذ أواخر الخمسينات، تعرض الحزب الشيوعي السوداني لحملات معادية لم تهدأ يومًا، سواء من الأنظمة العسكرية أو من حملات تشويه فكرية واجتماعية، إلا أن الحزب ظل ثابتًا في مواقفه من الدفاع عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. في وجه ملاحقات أجهزة الأمن والقمع السياسي، لم يتراجع الحزب الشيوعي عن مواقفه الأساسية، بل ظل يدافع عن حقوق المواطنين السودانيين في العيش بكرامة في ظل دولة ديمقراطية.

لم يكن الحزب مجرد فصيل سياسي يسعى للوصول إلى السلطة، بل كان ولا يزال يمثل جزءًا حيًا من الضمير الوطني السوداني. في فترة حكم النميري، كانت الملاحقات الأمنية في ذروتها، حيث تعرض الحزب الشيوعي للحظر والاعتقال، لكنه ظل يعمل في السر، معبرًا عن رفضه التام للأنظمة العسكرية والديكتاتورية.

في ظل الإنقاذ، عندما كانت أجهزة الأمن تلاحق الأعضاء وتعتقلهم بشكل ممنهج، ظل الحزب الشيوعي السوداني في المقدمة، يدافع عن مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية، مُصرًا على أن السودان يجب أن يكون دولة ديمقراطية قائمة على العدالة الاجتماعية والمساواة. وعلى الرغم من جميع التحديات، استمر الحزب في أن يكون الصوت الأبرز في المعارضة، مؤكدًا على أن شعب السودان يستحق الحرية والكرامة في مواجهة أي ظلم سياسي.

سادسًا: مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية: نموذج للاشتباك مع الواقع

من أبرز الدلائل التي تدحض فكرة الجمود والتقديس للنصوص داخل الحزب الشيوعي السوداني، هو مشروع "الثورة الوطنية الديمقراطية" الذي طرحه الحزب كإجابة على تحديات الواقع السوداني المتجدد. هذا المشروع يعكس قدرة الحزب الشيوعي السوداني على التفكير خارج الصندوق، بعيدًا عن التمسك الحرفي بالنصوص الماركسية التقليدية. بل إن هذا المشروع يمثل تطورًا حيويًا لفهم الحزب لطبيعة الثورة السودانية والظروف التي تميز المجتمع السوداني، مع اعترافه بضرورة بناء تحالفات واسعة تضم قوى اجتماعية وسياسية متعددة.

كان الحزب الشيوعي السوداني يدرك تمامًا أن الثورة السودانية لا تقوم على تكرار التجارب الثورية في بلدان أخرى، بل يجب أن تأخذ في الاعتبار خصوصية السودان وظروفه الاجتماعية والاقتصادية. بناءً على ذلك، طور الحزب رؤية متكاملة لثورة ديمقراطية تتجاوز الثنائيات التقليدية، مثل اليسار واليمين، وتستند إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية المستدامة لجميع فئات..
في هذا المقال، تناولنا بشكل نقدي أطروحات الأستاذ الزيلعي حول الماركسية والحزب الشيوعي السوداني، مشيرين إلى مغالطاته الرئيسية التي أفرغت الماركسية من ديناميكياتها الحية وأعطتها طابعًا جامدًا لا يتناسب مع تطورات الواقع السياسي والاجتماعي. أظهرنا كيف أن الماركسية ليست نصوصًا مقدسة بل هي نظرية مرنة ومتجددة، قادرة على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والثقافية، وأن الحزب الشيوعي السوداني قد أثبت، عبر التاريخ، قدرته على الاشتباك مع الواقع السوداني بكل تحدياته وتعقيداته.

كذلك، قدمنا مثالًا عمليًا على هذه الديناميكية الفكرية من خلال "مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية" الذي طرحه الحزب كاستجابة واقعية ومبدعة لتحديات الثورة السودانية، وهو ما يعكس رفض الحزب لأي جمود فكري أو تقديس للنصوص. هذا المشروع لم يكن مجرد صياغة نظرية جامدة، بل كان تطورًا فكريًا تفاعليًا مع واقع السودان، الذي يحتاج إلى حلول مبتكرة تستجيب للمتغيرات المحلية والدولية.

إن الحزب الشيوعي السوداني، على الرغم من التحديات الكبيرة التي مر بها، من خلال حملات القمع والملاحقات السياسية، قد ظل صامدًا ومدافعًا عن قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فالحزب لم يكن مجرد فصيل سياسي يسعى للسلطة، بل كان ولا يزال جزءًا حيويًا من الضمير الوطني السوداني، الذي يؤمن بحق الشعب السوداني في الحرية والكرامة.

من خلال هذا المقال، تأكدنا أن الأستاذ الزميل الزيلعي في نقده للماركسية لم يقترب من جوهر الفكر الماركسي الصحيح، ولم يعترف بمرونته وتطوره المستمر. وفي المقابل، أظهرنا كيف أن الحزب الشيوعي السوداني قد انخرط بشكل عميق في بناء مشروع ثوري واقعي يستجيب لاحتياجات الشعب السوداني. إن التجربة السودانية تثبت أن الفكر الماركسي يمكن أن يظل أداة تحليلية قوية ومرنة طالما كان قادرًا على التفاعل مع الواقع المتغير، ولا بد أن تظل هذه القدرة هي البوصلة التي توجه كل من يسعى لتحقيق العدالة والتغيير الاجتماعي في السودان.

[email protected]

دكتور هشام عثمان  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی السودانی العلوم الطبیعیة السودانی فی مع الواقع من خلال

إقرأ أيضاً:

من دفء الأمس إلى صمت اليوم.. التحولات الاجتماعية في المجتمع السعودي

قبل 40سنه، كانت الحياة في المجتمع السعودي تنبض بروح واحدة، يسكنها الترابط الأسري والتكافل الاجتماعي. لم تكن الحياة سهلة، ولكنها كانت بسيطة، مليئة بالقرب والأنس والسكينة. كان الجار بمقام الأخ، والحي عائلة واحدة، والمجالس لا تخلو من ضحكاتٍ صادقة، ونقاشاتٍ حية، وهمومٍ مشتركة.

الترابط الاجتماعي قديمًا:

في السابق، كانت البيوت مفتوحة، والقلوب أكثر اتساعًا. إذا غاب أحد عن مجلس أو صلاة، سُئل عنه، وإذا مرض زاره الجميع، وإذا احتاج، وُقف بجانبه دون أن يُطلب. لم تكن هناك حاجة للدعوات الرسمية أو الرسائل النصية، فالحضور كان واجبًا، والتواصل عادة لا تنقطع.

كانت الأفراح يُشارك فيها القاصي والداني، والأتراح لا تُترك لعائلة واحدة. وكانت كلمات “تفضل”، و”نورتونا”، و”عيالنا وعيالكم” جزءًا من الروح اليومية التي يعيشها الناس. كل ذلك شكّل نسيجًا اجتماعيًا قويًا، يصعب تمزيقه.

ما الذي تغيّر؟

مع مرور الزمن، تغيّرت الأحوال، وتبدلت الظروف. دخلت التقنية بكل تفاصيلها، وانشغل الناس في سباق الحياة، وقلّ التزاور، وضعُف التواصل الحقيقي. أصبحت علاقاتنا محصورة في رسائل سريعة، ومكالمات نادرة، ولقاءات متباعدة لا يحضرها إلا الضرورة.

البيوت أُغلقت خلف أبوابٍ إلكترونية، والمجالس لم تعد كما كانت. حتى الأعياد، التي كانت مظلةً للفرح واللقاء، تحوّلت إلى صور ورسائل جماعية باردة لا تحمل حرارة اللقاء.

السبب؟

قد يكون السبب تعقيدات الحياة العصرية، وضغوط العمل، وازدياد المسؤوليات، أو سرعة الإيقاع الذي نعيشه. وربما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تغذية شعور الاكتفاء بالعلاقات “الافتراضية”، على حساب العلاقات “الواقعية”….

لكن، هل فقدنا الأمل؟

الجواب لا. فما زالت جذور الأصالة باقية، وما زال المجتمع السعودي يحتفظ بقيمه النبيلة وإن تراجعت بعض مظاهرها. وما أحوجنا اليوم إلى أن نعيد اكتشاف المعنى الحقيقي للتواصل، أن نُعيد دفء الجيرة، ونُحيي عادة السؤال والزيارة، ونُعلم أبناءنا أن الحياة ليست فقط في الشاشات، بل في العيون والقلوب والمواقف.

ختامًا،…

لم يكن الماضي مثاليًا، لكنه كان إنسانيًا. وعلينا أن نبحث عن توازنٍ جديد، يجمع بين تطورات العصر، وقيمنا الاجتماعية الأصيلة، لنصنع مجتمعًا حديثًا بروح الماضي، وبعين على المستقبل.

مقالات مشابهة

  • سعيدة.. وفاة شخص سقط من بناية طور الانجاز بحي الاخوة صديق
  • برج العقرب .. حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025: تجنب تدخل صديق
  • 112 اسماً دفعة واحدة.. برلماني يهاجم سفراء الرعاية الاجتماعية (قوائم)
  • تكيرداغ.. اعتداء مأساوي على أب من قبل صديق ابنته
  • من دفء الأمس إلى صمت اليوم.. التحولات الاجتماعية في المجتمع السعودي
  • جيرمي كوربن يعود من بوابة الشباب.. هل يهدد الحزب الذي أخرجه؟
  • تعلن محكمة غرب الأمانة الأبتدائية انه تقدم إليها الأخ صديق علي بطلب تصحيح اسمه
  • بنك مسقط يواصل عرض "دعوة صديق" لفتح حسابي "أصالة" و"الجوهر"
  • برج السرطان.. حظك اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025: استشر صديقًا
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)