عامٌ من التحدي اليمني للهيمنة الأمريكية والتحالف الغربي في البحار (1)
تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT
يمانيون../
في الـ 31 من أُكتوبر من العام المنصرم، كانت اليمن تفرض قاعدة اشتباك جديدة مع الأمريكيين والغرب، بعد استهداف 10 من مجاهدي القوات البحرية اليمنية في البحر الأحمر.
وكما اعتاد الأمريكيون أن تخضع المنطقة العربية لهم، لم يكن ليعجبهم هذا السلوك اليمني فيما تراه انتقاصًا من واقع الهيمنة المفروض على المنطقة، والممتد منذ عقود.
كان هذا قد منح الأمريكي فيما يراه لنفسه حَقًّا للرد على أي تحدٍّ استنادًا على فكرة الهيمنة تلك، بدءًا بإعلان تحالف عسكري بحري، ثم شن عدواناً جويًّا على اليمن منذ 12 كانون الثاني / يناير الماضي.
على افتراض أن هذا ربما قد يكون رادعًا للقوة اليمنية مع ما رافق ذلك الحدث من زخم دعائي كبير، يحاول كما اعتاد ترسيخ الهزيمة لدى مناوئيه، إلا أن موقف صنعاء، وردة فعلها كان أكبر من توقع الأمريكي، فلأول مرة سيحدث شيءٌ معاكسٌ لما فرضه الأمريكي في المنطقة، وسيصبح استهداف السفن الأمريكية الغربية المشاركة ضمن تحالف الازدهار، أَو عمليات “أسبيدس” التي تشكلت في إطار الاتّحاد الأُورُوبي، ضمن بنك الأهداف البحرية اليمنية.
والملفت للمتابع أن اليمن لن يقتصر استهدافه على السفن “التجارية” الأمريكية الأُورُوبية، أَو تلك المرتبطة بالموانئ الإسرائيلية، بل سيتجاوز ذلك إلى استهداف السفن “الحربية”، وهذا ما يعطي دلالات قوية على تعقيد وقوة المواجهة، حَيثُ سيصل مستوى الخطر الذي سيواجه الأمريكان والغرب في البحار اليمنية تحديدًا إلى مرحلة متقدمة تفرض عليها إيثار السلامة، وهذا ربما لم يكن في الحسبان؛ فالتصور الأمريكي لقوة اليمن البحرية كان يفتقر للكثير من الحقائق، فقد بدا الجهل الأمريكي واضحًا فيما يخص اليمن بنظامه الجديد.
نعود لاستذكار ما قاله بيل لابلانت، خبير هندسة الصواريخ ونائب وزير الحرب الأمريكي للاستحواذ والصيانة، في مقابلة مع “ذا كرايدل” في وقت سابق: “يمكن للصواريخ الحوثية القيام بأشياء مذهلة… ما رأيته من الحوثيين كان شيئًا مذهلًا بالنسبة لي”.
في الـ 29 نوفمبر 2024، خرجت مجلة “ذا ناشيونال انترست” الأمريكية، لتقول: “إن الصواريخ التي استخدمها الحوثيون في البحر الأحمر، لاستهداف القطع الأمريكية، أظهرت قدرات مذهلة، ولا يجب الاستخفاف بما يمتلكونه من قدرات”.
التسلسل العملياتي المُستمرّ منذ أكثر من عام في مواجهات اليمن البحرية مع الأمريكيين والغرب، رغم محدوديته إلَّا أن الجزء الأعمق تأثيراً فيه، كان حجم الاشتباكات المتكرّرة مع الترسانة البحرية الأمريكية الأُورُوبية وإلحاق الضرر بمكانة وهيبة هذه القوة على مستوى واسع، وإن حاول الأمريكيون التكتم على ما حصل طيلة عام ونيف.
كانت البداية في27 نوفمبر2023 حينما استهدفت المدمّـرة يو إس إس ميسون التابعة للبحرية الأمريكية بصواريخ باليستية في خليج عدن.
ومع التصعيد اليمني ضد السفن المارة نحو الموانئ الإسرائيلية في الـ 9 من كانون الأول / ديسمبر 2023، والمحاولات الأمريكية لحماية سفن الاحتلال الإسرائيلي في البحر الأحمر، كانت المواجهات تتم مع السفن التجارية للعدو والقطع المرافقة أَو المراقبة للحماية، والمؤكّـد أن القوات اليمنية لم تكن لتستثني القطع الحربية الغربية من الاستهداف طالما تواجدت في مشهد، أَو موقع الحدث وغالبيتها كانت عبارة عن (مدمّـرات، فرقاطات) ذات تجهيزات متطورة.
في 23 ديسمبر2023 تم استهداف المدمّـرة يو إس إس لابون التابعة للبحرية الأمريكية بطائرات بدون طيار في البحر الأحمر.
مع عدم تمكّن التحالف الأمريكي البريطاني من كسر الحصار عن العدوّ الصهيوني، فقد وجدوا أنفسهم (متورطين) في معركة دون أفق، وسفنهم أصبحت كـ “البط العائم” أمام صواريخ وباليستيات وطائرات اليمن المسيَّرة، تستهدفها أينما كانت ضمن مسطحات اليمن وما بعدها، ما عكس امتلاك اليمن قدرات جهلتها واشنطن، أربكت حساباتها، خُصُوصًا أمام توعد صنعاء بالرد على عدوان واشنطن ولندن وبقوة.
ففي الـ10 من كانون الثاني/ يناير، أعلنت القوات المسلحة اليمنية أن قواتها البحرية والصاروخية وسلاح الجو المسيَّر قامت بعملية عسكرية مشتركة بعددٍ كبيرٍ من الصواريخ الباليستية والبحرية والطائرات المسيَّرة استهدفت سفينة أمريكية كانت تقدم الدعم لسفن الاحتلال الإسرائيلي، واعتبرتها صنعاءُ ردًّا أوليًّا على الاعتداء الأمريكي ضد عناصر من القوات البحرية اليمنية (عشرة عناصر من القوات البحرية استشهدوا بقصف أمريكي).
في خلفية المشهد كانت القوات اليمنية في مواجهة ساخنة وكبيرة مع القطع البحرية الأمريكية والبريطانية، وإن كان لم يشر لها بيان الناطق الرسمي للقوات المسلحة.
حول هذه العملية تحدثت القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم”، عن مشاركة الطائرات الحربية من طراز F/A-18 من حاملة الطائرات “يو إس إس دوايت دي أيزنهاور” الموجودة في البحر الأحمر، وأربع مدمّـرات هي “يو اس اس غرافلي”، و”يو إس إس لابون”، و”يو إس إس مِيسون”، و”إتش أم إس داياموند “البريطانية، في هذه العملية.. هذا ما يتوافق مع ذكر بيان القوات المسلحة استخدام العملية لـ “عدد كبير” من الصواريخ الباليستية والبحرية والطائرات المسيَّرة.
قبلها بأسبوع، أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا و10 دول أُخرى، منها ألمانيا وإيطاليا وأستراليا والبحرين واليابان، تحذيرًا في بيان مشترك، كان تهديدًا للقيام بعمل عسكري ضد أهداف تتبع “أنصار الله” في اليمن، منها أماكن تخزين الصواريخ وإطلاقها.
في الـ 12 من كانون الثاني/ يناير، بدأ عدوان جديد على اليمن ضمن تحالف الازدهار الأمريكي، وَتحدثت القيادة المركزية الأمريكية أنها نفذت بالتنسيق مع بريطانيا وبدعمٍ من أستراليا وكندا والبحرين وهولندا، ضربات مشتركة لإضعاف القوات المسلحة اليمني، وقالت أَيْـضًا إنها استهدفت أنظمة الرادار والدفاع الجوي ومواقع التخزين والإطلاق للهجوم أحادي الاتّجاه على الأنظمة الجوية من دون طيار وصواريخ باليستية وصواريخ كروز.. مع ذلك، استمرت صنعاء في تبني خطاب، وفعل تصعيدي ضد محاولات الردع الأمريكية.
في الـ15 من الشهر نفسه؛ أي بعد أَيَّـام قليلة من العدوان الأمريكي -البريطاني على اليمن، نفذت القوات البحرية اليمنية عملية عسكرية استهدفت سفينة “أمريكية” في خليج عدن، بعددٍ من الصواريخ البحرية، وتعرضت السفينة للإصابة المباشرة، وفق بيان العميد يحيى سريع.
هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استهداف سفينة أمريكية في خليج عدن، وكانت متجهة نحو موانئ الأراضي الفلسطينية المحتلّة لدعم الكيان الصهيوني.
ووفق ناشطين فَــإنَّ السفينة المستهدفة مملوكة لشركة مدرجة في الولايات المتحدة يقع مقرها الرئيس في ستانفورد كونيتيكت، والرئيس التنفيذي لشركة Eagle Bulk -غاري فوجل- هو جندي احتياط سابق في البحرية الأمريكية.
في 15 كانون الثاني / يناير2024 تم استهداف المدمّـرة يو إس إس لابون الأمريكية للمرة الثانية في البحر الأحمر بصاروخ بحري.
الاشتباك المميت:
وعلى الرغم من الاستهداف اليمني للسفن الحربية للعدو إلى جانب سفنه التجارية كان الأمريكيون يسعون لإرهاق القوات اليمنية في مسارين: الأول مسار استمرار حركة السفن المتجه صوب الموانئ الإسرائيلية في المياه اليمنية عبر باب المندب، والثاني مسار القصف الجوي للأهداف في اليمن على أمل إضعاف القدرات العسكرية الصاروخية والطيران المسيّر لليمن، فضلًا عما تم ممارسته من ضغوط سياسية واقتصادية على صنعاء؛ وكلّ هذاْ مِن أجلِ حفظ ما تبقى من هيبة القوة الأمريكية البحرية، وكسر الحصار اليمني على الكيان الإسرائيلي ومحاولة جر العالم إلى حرب أمريكا في البحار بالحديث الدائم عن استهداف القوات اليمنية للسفن عامة، والواقع أن واشنطن لا تكترث لما يمكن أن تتعرض له السفن التجارية الأجنبية من هجمات، وما يترتب على محاولات مرورها الفاشلة من خسائر.
استمرت محاولات السفن المتجهة لموانئ الكيان الإسرائيلي في المرور عبر البحر الأحمر فكانت تضطر للتخفي ومنها سفن تجارية أمريكية ومع تلك المحاولات استمر استهداف اليمن لها بتنفيذ القوات البحرية عملية ضدها منها سفينة “زوغرافيا” في 16 يناير، ثم سفينة “جينكو بيكاردي” الأمريكية في الـ 17 يناير، وسفينة “كيم رينجر” الأمريكية في 19 يناير، بخليج عدن.
معركة أعنف:
عادت القوات المسلحة في استهداف السفن “الحربية” الأمريكية، وَفي الـ22 من كانون الثاني/ يناير، تم استهداف سفينة شحن عسكرية أمريكية “أوشن جاز OCEAN JAZZ” في خليج عدن بصواريخ بحرية، وَبعدها بيومين، في الـ 24 من كانون الثاني/ يناير 2024، خاضت القوات المسلحة اليمنية أعنف معارك الاشتباك والمواجهة البحرية المباشرة مع عدد من المدمّـرات والسفن الحربية الأمريكية في خليج عدن، وباب المندب أثناء قيام تلك السفن بتقديم الحماية لسفينتين تجاريتين أمريكيتين، استمرتْ تلك المواجهة لأكثر من ساعتين، واستخدمت فيها عدد من الصواريخ الباليستية، وانتهت المواجهة بنجاح القوات المسلحة اليمنية في إصابة سفينة حربية أمريكية -لم يذكر اسمها- إصابةً مباشرةً وإجبار السفينتين التجاريتين الأمريكيتين على التراجع والعودة من حَيثُ أتت.
أول سفينة بريطانية:
في خليج عدن ستستهدف أول سفينة بريطانية في الـ26 من كانون الثاني/ يناير، حَيثُ أعلن المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية استهداف سفينة النفط البريطانية “مارلين لواندا” في خليج عدن بعددٍ من الصواريخ البحرية الموجهة والمضادة للسفن.
واللافت في الاستهداف أنه جاء بعد 3 أَيَّـام من تصريح وزير الدفاع البريطاني بأنّ العدوان على صنعاء والحديدة وتعز والبيضاء، في الـ23 من الشهر ذاته، أَدَّى إلى إضعاف قدرة صنعاء على “تهديد السفن” حسب ما قال.
في 26 كانون الثاني / يناير، تم استهداف المدمّـرة يو إس إس كارني التابعة للأسطول الخامس الأمريكي، بصاروخ باليستي مضاد للسفن في خليج عدن، وعلى إثر اندلاع عملية (طُوفَان الأقصى) أرسل البنتاغون هذه المدمّـرة إلى البحر الأحمر للتصدي لهجمات اليمن.
في الـ28 من شهر كانون الثاني/ يناير، أطلقت القوات البحرية اليمنية صاروخًا بحريًّا استهدف سفينة تابعة للبحرية الأمريكية “لويس بولير” أثناء إبحارها في خليج عدن، حَيثُ تعمل كمنصة متنقلة لدعم العمليات البحرية والجوية والبرية، وتوفر دعمًا للعمليات العسكرية المختلفة مثل الدعم اللوجستي والقدرات الطبية والمراقبة والاستطلاع، وقد تم تجهيز السفينة بأحدث التقنيات والأنظمة البحرية والعسكرية؛ مما يتيح لها تنفيذ مهام متنوعة، فيما يتميز تصميمها بقدرتها على استيعاب مروحيات الهليكوبتر ونقل القوات في المناطق البحرية النائية؛ أي أن ما تم استهداف كان صيدًا ثمينًا لليمن.
بعد يومين أي في 31 كانون الثاني / يناير، 2024، ستكون المدمّـرة الأمريكية “يو إس إس غريفلي”، وهي الأحدث في عالم المدمّـرات الأمريكية، في اختبار صعب ومواجهة مرهقة مع القوات المسلحة اليمنية بلجوئها إلى استخدام “خط الدفاع الأخير” على بعد ميل واحد من الإصابة، والمعروف بـ Phalanx Close-In CWIS، بعد أن استنفدت كُـلّ الخيارات، حَيثُ جاء استهداف المدمّـرة “غريفلي” في البحر الأحمر، كـ “جزء” من رد صنعاء على استهداف عناصر البحرية اليمنية، والتأكيد أنها “ستواجه التصعيد الأمريكي -البريطاني بالتصعيد ولن تتردّد في تنفيذ عمليات عسكرية واسعة ونوعية ردًا على أية حماقة بريطانية أمريكية ضدَّ اليمنِ”، مع العلم أن المدمّـرة “غريفلي” كانت ضمن القطع الحربية المشاركة في الهجوم الذي شنته البحرية الأمريكية على وحدات البحرية التابعة لقوات صنعاء في البحر الأحمر وأدت إلى استشهاد أبطال البحرية اليمنية العشرة، حَيثُ توعدت قوات صنعاء وقتها بالرد على هذا الهجوم بشكل “قاس ومؤلم”.
في عملية ستعقب استهداف سفن حربية أمريكية في البحر الأحمر بساعات في 4 شباط / فبراير، نفذت عمليةَ استهداف ضد سفينةٍ إسرائيليةٍ ” MSC SKY ” في البحرِ العربيِ، بعدد من الصواريخِ البحرية، حَيثُ اشتعلت النيران في عدد من حاوياتها.. وظهر عدد من البحارة وهم يكافحون حرائق على متنها فيما تصاعد الدخان من إحدى الحاويات التي بدت عليها الأضرار الناجمة عن ارتطام الصاروخ، كان هذا تأكيد على ما جاء في خطابات السيد القائد ما قبل هذه الأحداث باللجوء لخيارات التصعيد طالما استمرت مجازر تل أبيب وواشنطن في قطاع غزة، وكتأكيد على فشل “تحالف الازدهار” في إيقاف العمليات اليمنية ضد الكيان الإسرائيلي، وحدوث النقيض بتصعيد اليمن للهجمات على نحو أذهل الأمريكان والإسرائيليين على حَــدٍّ سواء.
المسيرة – إبراهيم العنسي
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: القوات البحریة الیمنیة القوات المسلحة الیمنیة القوات المسلحة الیمنی البحریة الأمریکیة فی البحر الأحمر من کانون الثانی القوات الیمنیة من الصواریخ فی خلیج عدن تم استهداف أمریکیة فی الیمنیة فی فی الـ عدد من
إقرأ أيضاً:
آبي أحمد وأفورقي: صراع الممرات البحرية يعيد شبح الحرب
تعيد تصريحات وتحليلات متقاطعة، سياسية وأكاديمية، تسليط الضوء على البحر الأحمر باعتباره ساحة صراع إقليمي مفتوح، في ظل تقارير عن تحوّل مدينة عَصَب الإريترية إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات خلال حرب اليمن، مقابل تلويح إثيوبيا بإمكانية الوصول إلى البحر حتى بالقوة. وبينما يحذّر خبراء من أن أي تصعيد محتمل سيجعل السودان الحلقة الأضعف والأكثر تأثراً بسبب هشاشته الأمنية وانتشار المليشيات العابرة للحدود،
التغيير:كمبالا
تشهد منطقة القرن الأفريقي تصاعدًا في التوتر بين إثيوبيا وإريتريا، وسط مخاوف إقليمية ودولية من عودة الصراع بين البلدين اللذين ظلا يتأرجحان لعقود بين الهدوء النسبي والانفجارات العسكرية في ظل خلافات مزمنة يتصدرها ميناء عصب والوصول إلى البحر الأحمر.
ويأتي هذا التصعيد في لحظة حرجة تمر بها المنطقة بأكملها، حيث تتشابك الأزمات في السودان والبحر الأحمر واليمن، بما يجعل أي شرارة جديدة قابلة للتمدد خارج الحدود التقليدية للصراع.
صراع الجغرافيا يتجدد
ويقع ميناء عصب على ساحل البحر الأحمر في أقصى جنوب إريتريا قرب الحدود الإثيوبية، وقد كان الميناء البحري الرئيسي لإثيوبيا قبل استقلال إريتريا عام 1993، الأمر الذي جعل أديس أبابا تعتمد اليوم بنسبة تفوق 90 في المئة على موانئ جيبوتي لتسيير تجارتها الخارجية.
ووفق تقارير نشرتها منصة «جيسيكا» المعنية بشؤون القرن الأفريقي، فقد شهد الخطاب الإثيوبي منذ خريف 2023 تصعيداً واضحاً، بعدما وصف رئيس الوزراء آبي أحمد الوصول إلى البحر بأنه “مسألة وجودية” لإنهاء ما سماه “السجن الجغرافي” لإثيوبيا.
ميناء عصب تحول إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات خلال حرب اليمن
منصة «جيسيكا»
وتوضح «جيسيكا» أن الجغرافيا المحيطة بالميناء تزيد حساسية المشهد العسكري المحتمل، إذ لا يبعد ميناء عصب سوى نحو ستين إلى سبعين كيلومتراً عن الأراضي الإثيوبية، ما يجعله كما تقول المنصة “نقطة احتكاك ذات خطورة عالية” في حال فشل المساعي الدبلوماسية. والحساسية الاستراتيجية للميناء لا تنبع من موقعه الجغرافي فحسب، بل أيضاً من تاريخه الحديث مع القوى الخارجية. فقد تحول بين عامي 2015 و2021 إلى قاعدة عسكرية ولوجستية رئيسية للإمارات العربية المتحدة خلال حرب اليمن، بموجب اتفاق منح أبوظبي حق استخدام الميناء وقاعدة جوية مجاورة لفترة طويلة. وتشير تقارير المنصة إلى أن الاستثمار الإماراتي شمل توسيع المدرج وبناء مرافق تخزين ومرافئ عميقة استخدمت لنقل الجنود والعتاد عبر البحر الأحمر.
علاقة لم تتعاف
الكاتب والمحلل السياسي النور حمد، يري أن جذور التوتر بين البلدين تعود إلى الحقبة التي استعمرت فيها إثيوبيا إريتريا، وهي فترة ألقت بظلالها الثقيلة على تاريخ العلاقة بين البلدين. فقد خاضت إريتريا حرب تحرير طويلة انتهت باستقلالها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، عقب الدور المركزي الذي لعبته في دعم جبهة تحرير التقراي والتحالف الإثيوبي الذي أطاح بنظام منغستو هايلي مريام. وبرغم هذا الإسهام، لم تنجح الدولتان في بناء علاقة مستقرة بعد الاستقلال، إذ ظلَّت الروابط اللغوية والدينية والثقافية التي تجمعهما عاجزة عن احتواء إرث الصراع، فتجددت الحرب بينهما بعد سنوات قليلة فقط.
ويشير حمد في مقابلة مع (التغيير) إلى أن واحدة من أكثر القضايا حساسية في العلاقة بين البلدين تتمثل في فقدان إثيوبيا لميناء عصب بعد استقلال إريتريا.
ويلفت إلى أن إثيوبيا، التي يتجاوز عدد سكانها المائة مليون نسمة، تحولت إلى دولة حبيسة تعتمد على موانئ جيبوتي وأرض الصومال البعيدة نسبيًا وذات القدرة المحدودة، بينما كان من الممكن في رأيه أن تشترط أديس أبابا الحصول على منفذ بحري مقابل الاعتراف باستقلال إريتريا، سواء عبر التأجير أو عبر ترتيبات اقتصادية طويلة الأمد.
ويرى أن إريتريا بدورها كان يمكن أن تبادر إلى تقديم تسوية تمنح إثيوبيا إمكانية الوصول إلى البحر، خاصة أن وجود اتفاق كهذا كان من شأنه تعزيز الاستقرار الاقتصادي والأمني للبلدين معًا.
غير أن الحسابات الجيوسياسية، كما يقول حمد، دفعت إريتريا إلى الإبقاء على قدرتها على الضغط عبر الموانئ، مستفيدة من حساسية إثيوبيا تجاه مسألة البحر الأحمر. كما لعب العداء المصري لإثيوبيا بسبب ملف مياه النيل دورًا في إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، حيث استخدمت القاهرة، وفق تقديراته، كلًّا من السودان وإريتريا كأدوات ضغط على إثيوبيا في مراحل مختلفة من النزاع.
تلويح إثيوبيا بالوصول إلى البحر حتى لو بالقوة تهديد واضح ينذر بعودة الحرب
النور حمد
ويشير النور إلى أن تلويح إثيوبيا في السنوات الأخيرة بالوصول إلى البحر، حتى لو بالقوة، يعد تهديدًا واضحًا يُنذر بإمكانية عودة الحرب ما لم يتوصل البلدان إلى اتفاق يمنح إثيوبيا منفذًا بحريًا يخفف اختناقها الجغرافي. ومع ذلك، يشير إلى أن حل هذه الأزمة ممكن إذا توفرت إرادة سياسية حقيقية، خاصة أن ما يجمع البلدين من تاريخ وثقافة ولغة أكبر وبما لا يقاس مما يربطها بمصر.
تعنت أسمرة يعقّد الحلول
ومن زاوية أخرى، يرى الناطق الأسبق باسم وزارة الخارجية السفير حيدر البدوي، أن احتمال الحرب بين البلدين يظل قائمًا، لكنه يعتقد أن اشتعال المنطقة وتعدد الأزمات قد يحد من فرص اندلاع مواجهة واسعة، لأن العالم اليوم غير مستعد لتحمل حرب جديدة في منطقة حساسة مثل البحر الأحمر.
مشكلة إثيوبيا لا يمكن حلها إلا في إطار اتفاقيات لضمان استخدام الموانئ المجاورة
السفير حيدر بدوي
ويرى خلال حديثه مع (التغيير) أن هناك جهودًا كثيفة تبذل لاحتواء التوتر، لكن تعنت النظام الإريتري يجعل المشهد أكثر تعقيدًا. ويضيف أن مشكلة إثيوبيا باعتبارها دولة غير مطلة على البحر لا يمكن حلها إلا في إطار اتفاقيات لضمان استخدام الموانئ المجاورة، وأن هذا المسار يتطلب بيئة سلمية واستقرارًا إقليميًا غائبًا حتى الآن.
رسائل ومناورات إقليمية
أما أستاذ العلوم السياسية في الجامعات والمحلل السياسي،إبراهيم كباشي، فيصف الصراع الإثيوبي الإريتري بأنه صراع متجدد، يظهر ويختفي بتأثير العوامل الداخلية والخارجية. ويعتقد في إفادة مطولة لـ(التغيير) أن القرن الأفريقي يشهد حالة من الاستقرار النسبي، ما يقلل من احتمالات العودة إلى حرب مباشرة، رغم إمكانية التصعيد كوسيلة للضغط السياسي أو لتمرير أجندات وتحالفات جديدة. ويرى أن البحر الأحمر أصبح في مقدمة أولويات القوى الدولية بعد تداعيات الحرب اليمنية على التجارة العالمية
ساحل البحر الأحمرويعتبر أستاذ العلوم السياسية، أن الصراع القائم لا يقتصر على استهداف ميناء عصب فقط، بل يتجاوز ذلك ليشمل عوامل أخرى غير مباشرة وغير مرئية. ويرتبط هذا الصراع بتشابكات مع فاعلين على المستويين الإقليمي والدولي، حيث بدأت تتشكل تحالفات جديدة في المنطقة، من بينها التحالف الإريتري–المصري–الصومالي، وهو ما ينعكس على الأوضاع الجيوسياسية في الإقليم.
وفي المقابل، كما يقول كباشي، تتمتع إثيوبيا بمكانة مهمة على مستوى شرق أفريقيا، وعلى مستوى القارة الأفريقية عموماً، إذ تعد من أكثر الدول امتلاكاً لشبكة علاقات ممتدة، إضافة إلى حضورها الواضح في الأجندة الدولية.
وبناءً على هذه المعطيات، تتزايد الدعوات من مختلف الأطراف لاعتماد الحلول الدبلوماسية، الأمر الذي يحدّ من احتمالات نشوب مواجهة عسكرية مباشرة أو انفجار الصراع.
وأن هذا الاهتمام يدفع نحو تفعيل دبلوماسية استباقية لمنع انفجار أي صراع جديد في المنطقة. ويشير إلى وجود رغبة لدى الطرفين في تجنب الحرب، ومع ذلك، يمكن توصيف هذا الوضع بأنه أزمة ذات طابع دوري، تميل إلى التصعيد ثم الانحسار، تبعاً للتحولات السياسية داخل الدول المعنية وبحسب تطورات المشهد الإقليمي بصورة عامة.
السودان الحلقة الأضعف في صراع الجوار
ويحذر كباشي من أن السودان سيكون الأكثر تأثرًا بأي تصعيد بين إثيوبيا وإريتريا، نظرًا لانهياره الأمني وتعدد المليشيات العابرة للحدود التي تنشط في أراضيه. ويوضح أن المنطقة أصبحت مفتوحة أمام معسكرات تدعم أطراف الحرب السودانية، سواء تلك المرتبطة بالجيش أو بقوات الدعم السريع، ما يجعل أي اضطراب إقليمي قادرًا على إعادة تشكيل خريطة الصراع داخل السودان.
السودان سيكون الأكثر تأثرًا بأي تصعيد لانهياره الأمني وتعدد المليشيات العابرة للحدود
أكاديمي
ويضيف أن احتمال تمدد الحرب إلى النيل الأزرق يصبح واردًا في ظل أي توتر إقليمي، وأن تدفقات اللاجئين ستزيد الضغط الإنساني على بلد يعاني أصلًا من الانهيار. كما يشير إلى أن شبكات التهريب والجريمة المنظمة ستستغل أي فراغ أمني جديد، ما يضعف مؤسسات الدولة السودانية، ويزيد صعوبة استقرارها.
ويخلص كباشي إلى أن معالجة مشكلة الدول الحبيسة في أفريقيا، ومن بينها إثيوبيا، تحتاج إلى حلول تنبع من داخل القارة، عبر الاتحاد الأفريقي والهيئات الإقليمية التي تستطيع ابتكار مسارات للتعاون الاقتصادي وتحسين البنية التحتية وتوفير الخيارات التجارية التي تقلل أسباب التوتر. ويرى أن أفريقيا تمتلك فرصًا واعدة لإطلاق مبادرات جديدة في مجالات الطاقة والتجارة والبنية التحتية، وأن استثمار هذا الهدوء النسبي يمكن أن يسهم في تهدئة الإقليم وتخفيف الضغوط التي تغذي الصراعات.
الوسومإثيوبيا إريتريا السودان القرن الأفريقي ساحل البحر الأحمر ميناء عصب