عربي21:
2025-05-21@18:04:10 GMT

حين سقط الخوف في سوريا

تاريخ النشر: 12th, December 2024 GMT

الثامن من ديسمبر 2024، الساعة الثالثة فجرًا، حيث كان الليل يختنق بصمت ثقيل، والعيون المجهدة تراقب شاشات صغيرة تنقل نبض الثورة. رسائل تتقافز، تغزو غرفنا المعتمة كأنها نذير فجر قادم. هناك، في دمشق، كانت سيارات الثورة تمزق سكون المدينة، تسير كأنها شهب من سماء غضبت أخيرًا. شعرتُ بشيء أكبر من الفرح، لحظة بدت وكأنها انفلاتٌ من قوانين الكون، فلتة سماوية اقتنصها شباب بعمر الزهور ليعيدوا كتابة التاريخ، ليُشعلوا وهج فجر لا يشبه سوى فجر الرسالات الأولى.



لم يكن ذلك اقتحامًا لشوارع دمشق فحسب، بل اقتحامًا لعتمة امتدت لسنوات. كان إعلانًا صامتًا بأن الحرية ليست وهمًا، بل نبضًا حقيقيًا ينبع من قلب الحياة. في تلك اللحظة، فهمنا أن الثورة ليست فقط انتصارًا على طاغية، بل انتصارٌ على الخوف، وأن الأمل، مهما بدت الطرق إليه وعرة، يولد من أكثر اللحظات ظلمة.

في صباح اليوم التالي للثامن من نوفمبر، بعد يوم واحد فقط من سقوط الطاغية في دمشق، بدا العالم وكأنه يُعاد تشكيله أمام أعيننا، كأننا نراه للمرة الأولى دون ذلك الحجاب الثقيل من الرعب الذي كان يخنقه. كنا نسمع طويلاً قصصًا يتلوها علينا أصدقاؤنا السوريون، عن ليلٍ طويل لا يشرق بعده فجر، عن سجون بُنيت من أحجارٍ لا تمسك الأرض بل الأرواح، عن وجوهٍ انطفأت فيها الحياة وعيونٍ لم تعرف النور. كنا نصغي لتلك الحكايات بدهشة العاجز، لكن شيئًا منها لم ينفذ حقًا إلى قلوبنا، حتى لحظة السقوط.

لم تكن الحرية كما تخيلناها، ولم يكن سقوط الطاغية نهاية القصة. كانت هناك صور، أصوات، حكايات صادمة كأنها خرجت من كوابيس لا تنتهي. رأينا السجون لا كأماكن، بل كعوالم من القهر والظلام، رأينا الوجوه التي نُسيت خلف القضبان، والأرواح التي تآكلت في زنازين ضيقة، ورأينا، لأول مرة، ثقل الخوف الذي لم يغادر السوريين إلا لينتقل إلينا. حينها، انكشفت الحقيقة كأنها صفعة موجعة على وجه الزمن. لم تكن الحرية كما تخيلناها، ولم يكن سقوط الطاغية نهاية القصة. كانت هناك صور، أصوات، حكايات صادمة كأنها خرجت من كوابيس لا تنتهي. رأينا السجون لا كأماكن، بل كعوالم من القهر والظلام، رأينا الوجوه التي نُسيت خلف القضبان، والأرواح التي تآكلت في زنازين ضيقة، ورأينا، لأول مرة، ثقل الخوف الذي لم يغادر السوريين إلا لينتقل إلينا.

ذلك الصباح لم يكن صباح الفرح، بل صباح الإدراك. أدركنا أن سقوط الطاغية ليس نهاية الطغيان، وأن الألم الذي خلفه لا يزول بالسقوط. كانت الحرية التي حلمنا بها بعيدة، غارقة في دموع من عاشوا القهر، وفي صمت من عجزوا عن الحديث. سقط الطاغية، لكن الحكاية بقيت مفتوحة على وجعها، على أملها، وعلى ذلك الفراغ الثقيل الذي تركه الخوف وهو يغادر المشهد.

يوما واحدا  كان كافيا ليعيد كتابة تاريخ الخوف في وجوهنا، ليضعنا أمام مرآة عكست بشاعة الطغيان التي ظلت بعيدة، ليفهمنا المعاني المتوارية خلف الحكايات المُره التي تناقلها لنا الهاربون من الجحيم. كنا نسمع، كأنما نصغي لأصداء بعيدة من عالم آخر، قصصًا عن سجون أشبه بمقابر للأحياء، وعن رجال خلقوا من الظل والسياط، وعن وجوه أُطفئت ملامحها خلف أقنعة من الألم.

كانت حكايات الأصدقاء السوريين، أصداء صرخات مكتومة، ووجع يتردد في زوايا لا مكان لها في الذاكرة، في عيونهم ضوء يشكوا الاغتيال وملامح ما زالت هاربة من أشياء عصية عن فهمنا وأحاسيسنا.

لكن يوما واحدا  كان كافيا ليرفع الحجب عن وعينا، وتسقط الأقنعة، وتتهاوى الغشاوة، ليس عن الطاغية وحده، بل عن العالم بأسره. كان كافيا لنشعر، لأول مرة، أن الطغيان ليس حاكما ولا نظاما ، بل وحشا يلتهم الأرواح ببطء، ويترك خلفه قلوبا لا تنبض إلا بالرهبة.

حين سقط الطاغية، انكشفت الحقيقة أمامنا كحريق في غابة صامتة. رأينا في أعين السوريين بقايا ليل طويل، ورأينا في صمتهم أصداء صراخ لم يتوقف. لكن الغريب أن الخوف الذي عاشوه، حين غادرهم، لم يتبدد في الهواء. انتقل إلينا. تسلل إلى قلوبنا نحن، الذين ظننا أن سقوط الطغاة يعني نهاية الألم.

حينها، انساب الخوف من قلوبهم إلينا كجريان نهر ملوث عبر الأجيال. رأينا الدموع تتدفق من أعين عرفت الألم أكثر مما عرفت الأمل، وحينها فقط فهمنا. فهمنا أن الطغيان ليس رجلاً أو نظامًا، بل هو حضور أشبه باللعنة، يستعمر القلوب قبل الأرض، ويقتل الروح قبل الجسد.

في تلك اللحظة، أدركنا أن السجون التي كنا نسمع عنها لم تكن مجرد جدران صامتة أو قضبان باردة. كانت عالماً بأكمله، عالماً تتجلى فيه أبشع صور الإنسانية: سادية تُعيد تعريف الألم، قسوة تُقزم الجحيم، وأصوات تُطفئ ضوء الشمس.

في صور السجون، في شهادات الناجين، رأينا شيئًا يتجاوز الوصف. كأن كل زنزانة كانت وطناً صغيرًا للخوف، كل جدار كان شاهدًا على مأساة، وكل قطرة دم سالت كانت توقيعًا على عقد جديد بين الجلادين والموت. الأطفال، النساء، الرجال — كلهم كانوا وجوهًا باهتة من لوحات عذاب متكررة، لكن وراء العذاب، كان هناك شيء آخر. كان هناك روح، تقاوم بعناد، ترفض أن تتحول إلى ذكرى.

تذكرنا الصور المسربة يومًا للقتل من خلف الجدران في صور أطفال خلف القضبان، ووجوه شاحبة تحمل في ملامحها تاريخًا من القهر. نساء يتأرجحن بين الصمت والصراخ، بين المقاومة والانهيار. رجال انحنت ظهورهم تحت ثقل العذاب، لكن أرواحهم بقيت صامدة، تُذكرنا بأن الحرية دائمًا أقوى من الطغيان، وإن طال الظلام.

في لحظة السقوط،

وفي لحظة السقوط، لم تكن الفرحة خالصة. كانت ممزوجة بحزن غريب، بفراغ عجيب في القلب، كأن الحرية التي تمنيناها لهم جاءت بتكلفة أثقلت كواهلنا جميعًا. فهمنا أن سقوط الطغاة ليس النهاية، بل بداية مواجهة طويلة مع أشباحهم، مع آثارهم التي لا تُمحى بسهولة.

أمام لحظة الفرح التي ترقبناها بزوغ الفجر، حينما برزت العناوين العريضة في القنوات، ورسائل التكبير في الجوال، عجزنا عن الصراخ، لم نرقص احتفالًا، بل بكينا. لم تكن دموع الفرح كما تخيلناها يومًا، بل دموع ثقيلة، مثقلة بصدمة الإدراك. أدركنا فجأة أن الطغيان لم يكن مجرد شخص أو حكم. كان لعنة استوطنت الأرض، جعلتنا جميعًا غرباء عن أرواحنا، عن أوطاننا، عن أحلامنا.

سوريا، التي كانت يوما قصة تروي على مسامعنا، أصبحت مرآة نرى فيها وجوهنا الحقيقية. صرنا نعرف أن كل طاغية هو انعكاس آخر للطغاة الذين زرعوا الخوف في أعماقنا منذ الأزل. صرنا نعرف أن كل زنزانة في دمشق، كل فرع أمني، كل اسم سجين، هو رسالة مكتوبة بدم ودموع، تخبرنا أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.

في لحظة السقوط، لم تكن الفرحة خالصة. كانت ممزوجة بحزن غريب، بفراغ عجيب في القلب، كأن الحرية التي تمنيناها لهم جاءت بتكلفة أثقلت كواهلنا جميعًا. فهمنا أن سقوط الطغاة ليس النهاية، بل بداية مواجهة طويلة مع أشباحهم، مع آثارهم التي لا تُمحى بسهولة. شكراً سوريا لأنك منحتنا درسًا في الشجاعة، شكراً لأنك أظهرت لنا أن الوقوف في وجه الطغيان ليس خيارا ، بل واجب. وأن الخوف، مهما تجذر في الأرواح، لا يمكنه أن يصمد أمام إرادة شعب أراد الحياة.

شكراً، يا سوريا. شكراً لأنكِ كنت الدمعة التي أيقظتنا. شكرا لأنك أظهرت لنا أن الحياة بلا حرية موت مقنع. شكرا لأنك، رغم الألم، أعطيتنا معنى جديدا للأمل.

لقد حان أواننا نحن ايضا . أوان أن نحرر أنفسنا من الطغاة الذين يسكنوننا، ومن الخوف الذي ورثناه جيلا بعد جيل. لم تعد العروبة قناعًا يختبئ خلفه الجبناء، ولم يعد التدين الزائف قداسة تكمم الأفواه. صار الوقوف في وجه الطغاة، في وجه إيران وحزب الله والحوثيين وكل من سلبوا الأوطان، فرضًا لا يحتمل التأجيل.

حان أوان أن نعيد بناء أوطاننا، ليس على أنقاض الطغاة فقط، بل على أنقاض الخوف الذي خلفوه فينا. لم يعد هناك مكان في هذا العالم للمبررات أو البحث عن متكأ أخلاقي وشرعي، فما رأيناه حتى اليوم يحرك في العالم كل مكامن الإنسانية، لم يعد بعدها قداسة إلا للحرية، ولا قيمة إلا للكرامة.

تعلمنا من سوريا، اليوم، أن الحرية ليست حلمًا ننتظره..

*ناشط حقوقي يمني

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا سوريا سياسة رأي تحولات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لحظة السقوط الخوف الذی أن الحریة أن سقوط لم یکن لم تکن

إقرأ أيضاً:

مصورة تعيد إنشاء صور رحلات والدتها من التسعينيات..كيف كانت النتيجة؟

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تقضي المصورة البريطانية روزي لاغ غالبية وقتها مع والدتها هايلي تشامبيون.

قالت لاغ لـCNN: "والدتي هي أفضل صديقة لي. نتناول الفطور معًا، نذهب إلى صالة الألعاب الرياضية معًا، نخرج في نزهات معًا، ونتحدث عن أي شيء وكل شيء تقريبًا".

لذلك، عندما بدأت لاغ، التي تبلغ من العمر 22 عامًا، التخطيط لمغامرة سفر مدتها ثلاثة أشهر إلى جنوب شرق آسيا، وهي أول رحلة طويلة لها مع حبيبها، شاركت أفكار السفر فورًا مع والدتها.

بدورها، بدأت والدة لاغ تتحدث عن ذكرياتها خلال فترة إقامتها في تايلاند وماليزيا، حيث عملت لفترة في منتصف فترة التسعينيات. وأخبرت ابنتها أن لديها مجموعة من الصور من تلك الفترة، مخبأة داخل صندوق في مكان ما بالمنزل.

شجعتها لاغ للبحث عن الصور، إذ كانت مهتمة بذلك جزئيًا كمصورة، خاصة أنها أحبت أيضا فكرة إلقاء نظرة على سنوات شباب والدتها وقصة الحب التي جمعت بين والديها. 

قامت البريطانية هايلي تشامبيون، في الصورة، بالسفر في أنحاء جنوب شرق آسيا في التسعينيات. وبعد مرور 30 عامًا، سارت ابنتها روزي على خطى والدتها وأعادت إنشاء لقطات والدتها خلال تلك الرحلة. Credit: Courtesy Hayley Champion/Rosie Lugg

علمت لاغ أن والدتها ووالدها التقيا خلال فترة التسعينيات أثناء تدريسهما لرياضة الغوص في ماليزيا، لكنها لم تكن تعرف الكثير عن تلك الفترة من حياتهما هناك.

وتتذكر قائلة: "أخذتني أمي في جولة بين جميع صور الأفلام التي تحتفظ بها في العلّية".

وكانت قد التقطت الصور باستخدام كاميرا "Olympus mju"، وهي كاميرا فيلم صغيرة فضية اللون طُرحت للبيع لأول مرة في عام 1991، وكانت تشامبيون تحملها في حقيبتها بالعقد الذي تلى ذلك.

وقد شهدت هذه الكاميرا نهضة في موقع "eBay" خلال السنوات الأخيرة، لكن لاغ وقعت في حب صور والدتها التي التقطتها بهذه الكاميرا في أوائل العشرينيات من عمرها، حيث كانت تبتسم للكاميرا، وتتناول الزلابية، وتستكشف الأسواق، وتسير على الشواطئ الرملية.

كانت تلك الصور بمثابة نافذة رائعة تطل بها على حياة والدتها ورحلاتها قبل ثلاثة عقود.

مقالات مشابهة

  • حرية وطن
  • بعد 43 سنة بسجون الأسد.. الطيار السوري الططري يتنفس هواء الحرية بدمشق
  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • عاش الجيش والذين يقاتلون معه، فقد حققوا ما كانت تحسبه السيدة زينب الصادق مستحيلا!
  • مصورة تعيد إنشاء صور رحلات والدتها من التسعينيات..كيف كانت النتيجة؟
  • بوتين: المكالمة مع ترامب كانت صريحة
  • ما قصة الجاسوس إيلي كوهين الذي حصلت إسرائيل على أرشيفه من سوريا؟
  • 3 نصائح لتحقيق الحرية المالية .. فيديو
  • غزة من وسط النار يولد الصمود وتكتب الحرية بوهج الألم
  • أحمد سعد بعد نجاح حفلاته في استراليا: كانت أسطورية