لجريدة عمان:
2025-05-20@13:38:24 GMT

حكاية حي شجاع

تاريخ النشر: 12th, December 2024 GMT

حكاية حي شجاع

لم تُكتب معركة القطمون بعد "حدثت قبل النكبة بأشهر قليلة" كما يجب أن تُكتب. تفاصيل كثيرة في هذه المعركة الشريفة الشجاعة التي خاض غمارها المناضل الشهيد إبراهيم أبو دية، ابن قرية بيت صوريف – الخليل، وأحد قادة منظمة الجهاد المقدس التي أسسها المناضل الكبير الشهيد عبد القادر الحسيني. يقع حي القطمون غربي القدس، ويعود تاريخ بنائه إلى منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر.

في ذلك الوقت بدأت العائلات المقدسية -وبالأخصّ الميسورة منها- الخروج للسكن خارج البلدة القديمة، فنشأت عدة أحياء خارج السور مثل الطالبية والبقعة والمصرارة والقطمون. وقد كان في حي القطمون عشية النكبة نحو مئتي بيت تعود في معظمها لعائلات فلسطينية مقدسية، وتمتد على مساحة 157 دونمًا.

يخبرنا الباحث في تاريخ القدس أنور بن باديس -الذي يعد حاليًا كتابًا عن تاريخ القطمون- أن "السيطرة على القطمون في معارك 48 كانت تعني بالنسبة للمناضلين العرب السيطرة على غربي القدس"، لكونه الحي الأعلى ارتفاعًا من بين الأحياء العربية الواقعة غربي القدس، إذ يقع على تلة تحمي وراءها مختلف الأحياء العربية، مما يعني أن التمكن منه يفتح الطريق على بقية مناطق غربي القدس، فضلًا عن أن القطمون يفصل مستعمرات جنوب القدس -مثل رمات راحيل وميكور حاييم- عن بقية الأحياء اليهودية.

تكتب هالة السكاكيني، ابنة المربي والمفكر المقدسي خليل السكاكيني، المهجّرة مع عائلتها من القدس عام 48، عن طفولتها وشبابها في القدس في الثلاثينيات والأربعينيات، وتسرد بأدق التفاصيل (غير الكافية طبعًا) حكاية العائلة المقدسية المثقفة العلمانية المتفتحة، المكوّنة من الأب خليل والأم سلطانة والأخ سري والأخت دمية والعمة ميليا، وقصص الجيران والأهل والمدارس والأحياء والأدباء والمفكرين والشوارع والمقاهي والمسارح والمدارس وبطولات المقاتلين. وفي سرد ساخن ومتوتر يقطع الأنفاس، نقرأ عن معركة القطمون البطولية التي صمد فيها البطل إبراهيم أبو دية، وهو يقاتل مع رفاقه القليلين حتى الرصاصة الأخيرة في آخر هجمات العصابات الصهيونية على آخر حي من أحياء القدس.

"نحن الآن العائلة الوحيدة الباقية في القطمون، فالإخوان سروجي أخرجا أسرتيهما قبل أيام، وكان السيد داوود طليل وأسرته والسيد إلياس منصور وعائلته قد غادروا إلى سوريا قبل أسبوع. وفي المساء أرسلنا في طلب أبي عطا وإبراهيم أبو دية، وأمضينا معهما واحدة أخرى من تلك السهرات اللطيفة التي كنا نقيمها مؤخرًا في البيت، وقد استمرت حتى الحادية عشرة تقريبًا، ناقشنا فيها إمكان حدوث هجوم آخر على القطمون. كان رأي أبو دية أن مثل هذا الهجوم سيحدث في وقت قريب، لكنه قال إنه مستعد لذلك".

مهم جدًا وصف معركة القطمون كما قدمته مذكرات ويوميات هالة السكاكيني. كانت هالة شاهدة عيان وشاهدة قلب على المعركة، وتحدثت واستضافت أبطالها في بيتها، وناقشتهم في الخطط العسكرية وقدمت الاقتراحات، بل وشاركت في دورة إسعاف لإنقاذ جرحى المعارك، وشجّعت المقاتلين وقدمت لهم الشراب والطعام، وفتحت بيتها لهم ليستريحوا ويخططوا بهدوء لصد الغزاة. لكن للأسف، معلومات هالة لا تكفي، فنحن نحتاج إلى شهود آخرين من زوايا مختلفة. كيف لم يتم مثلًا توثيق ما قاله المقاتلون أنفسهم؟ لنقل التفاصيل كاملة والأسئلة التي تبحث عن إجابات، مثل: لماذا هُزم رجال أبو دية؟ كيف كانت تصلهم إمدادات المؤن والسلاح؟ ما هي أسماء المقاتلين؟ وما مصيرهم؟ وكم شهيدًا سقط هناك؟ ما هي العائلات التي صمدت؟ ما هي الطرق التي خرجت منها عائلات الحي؟ ما هي عوامل نجاح القوة الصهيونية في اقتحام الحي؟ من هم قادة القوة؟ كيف تعاملوا مع البيوت؟ كم شهيدًا سقط بعد الاقتحام؟ وكم أسيرًا ومن هم؟ كيف تم اقتحام البيوت من قبل الصهاينة؟ ماذا نُهب وماذا خُرّب؟

"أمس نُقل أبو دية إلى مستشفى بيت صفافا، لأن جروحه بدأت تنزف من جديد. عند السادسة جاء السيد سروجي وأبلغنا أن أبو دية هرب من المشفى، بالبيجاما والشبشب. هذا هو أبو دية، وقد أرسل له الخال نجيب كنزة صوف، وأرسل له أبي جوارب صوف أيضًا. وعند التاسعة جاء إلينا أبو دية، فأدخل وجوده البهجة في أمسيتنا. إنه شخصية لن أنساها ما دمت حية، عندما يتحدث يسحرك، يستخدم جملًا قصيرة، كلماته قوية، ملاحظاته مبتكرة، ويشعرك أنه قادر على تخطي العقبات".

وثّقت هالة بعض أخبار معركة القدس الأخيرة، وبالمشاعر أيضًا. طيلة حديثها عن أبو دية، شعرتُ بوقوعها في حبّه. إلهي، من يقدر على عدم حب هذا البطل الذي نسيه التاريخ وأحيته هالة في مذكراتها كأجمل وأوفى ما يكون الإحياء.

أبحث عن تفاصيل المعركة الشهيرة فلا أجد سوى معلومات مكررة. مشكلة غياب الأرشيف وعدم احترام الذاكرة وعدم فهم أهمية توثيق الأحداث للأسف الشديد، تفوّق عدونا فيه علينا بمسافات. متى سنعرف أن أرشفة الأحداث وتوثيقها هو شكل من أشكال مقاومة العجز والخراب والتعلم من الأخطاء؟ متى؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: غربی القدس أبو دیة

إقرأ أيضاً:

معركة الوعي: كيف يحاول الكيزان إعادة التاريخ

 

معركة الوعي: كيف يحاول الكيزان إعادة التاريخ

احمد ود اشتياق

 

يعيش السودان في خضم صراع مرير، ليس فقط بالسلاح والنار، بل في ميدان آخر أشد خطورة وهو ميدان الذاكرة والوعي الجمعي. فبينما تتواصل الحرب وتتعقد الأزمة، تخرج من تحت الركام حملات دعائية تقودها القوى التي كانت جزءًا من النظام المباد، وعلى رأسها الحركة الإسلامية – الكيزان – في محاولة لإعادة صياغة التاريخ، وتقديم أنفسهم كحماة للوطن والمواطن، في سردية مشوهة تتجاهل دورهم الأساسي في الخراب الذي تمر به البلاد.

في هذه الرواية الجديدة، يحاول الكيزان تصوير خصومهم السياسيين كخونة وعملاء، ويصنعون من أنفسهم “الوطنيين الغيورين”، متناسين عشرات السنين من القمع والنهب والفساد وإشعال الحروب.
إنهم لا يكتفون بإخفاء الحقيقة، بل يشنّون حملة منهجية لتشويه ذاكرة الثورة، وتحويل الشهداء إلى “ضحايا مؤامرة”، والثوار إلى “أدوات خارجية”، في مشهد عبثي يراد له أن يتحول إلى حقيقة سياسية وثقافية جديدة.

تصريحات المصباح واتهامات العمالة وبيانات العسكر هذه ليست مجرد دعاية عابرة، بل هي عملية تحوير شاملة تستهدف جوهر الثورة السودانية ومعانيها.
أدواتها ليست البنادق، بل المنابر الإعلامية، وخطاب الكراهية، والمحتوى الموجّه الذي يعيد تدوير الأكاذيب القديمة في قالب جديد.
إنها محاولة لقتل الفكرة التي وُلدت في ديسمبر، وتكريس خطاب سلطوي يعيد السودان إلى زمن الطاعة والخوف.

وفي هذا المناخ، يُستدعى الماضي بكل ما فيه من تشويش، حيث تسعى تلك القوى إلى تبييض سجلها الملطخ، وتقديم نفسها كطرف عقلاني يسعى إلى “الاستقرار” في مقابل من تصفهم بـ”الفوضويين”. لكن الحقيقة تظل واضحة لمن عاش التجربة: لا استقرار بدون عدالة، ولا سلام بدون مواجهة الحقيقة.

و هنا تبرز أهمية التوثيق واهتمام القوى المدنية بالاعلام . فالمعركة ليست فقط سياسية أو عسكرية، بل معرفية وأخلاقية. يجب أن ندوّن ما جرى، ونحفظ أصوات الشهداء، ونعيد بث مشاهد الثورة التي لا يمكن إنكارها، ونسرد القصص الصغيرة التي صنعت المعنى الكبير. فالحقيقة وحدها هي القادرة على مواجهة هذا السيل الجارف من التضليل.

الثورة السودانية لم تكن لحظة عابرة، بل بداية طريق طويل نحو التغيير. وما يعيشه السودان اليوم هو اختبار لإرادة هذا الشعب في ألا يُختطف تاريخه مرة أخرى.
فالتغيير الحقيقي لا يأتي ببيان عسكري أو خطاب سياسي، بل يأتي من إصرار الناس على ألا يُخدعوا مرتين، وعلى أن يحتفظوا بذاكرتهم حيّة، عصية على الكسر، وقادرة على رسم المستقبل.
هكذا تُخاض معركة الوعي… لا بالرصاص، بل بالكلمة. لا بالإنكار، بل بالتوثيق. ولا بالهروب، بل بالمواجهة.

الوسومأحمد ود اشتياق الإرادة التغيير الحقيقة الشعب السوداني الكيزان بيان عسكري معركة الوعي

مقالات مشابهة

  • «هالة» تحوّل منزلها بالإسكندرية لورشة أميجورومي».. .فن الكروشيه المصري ينافس المستورد
  • بايدن ليس الأول.. رؤساء أمريكيون خاضوا معركة السرطان بصمت
  • ندوة في الزرقاء تناقش تمكين المرأة في الأحزاب السياسية برعاية النائب هالة الجراح
  • أول مقطع لموكب للملك عبد العزيز في مكة قبل معركة السبلة .. فيديو
  • حكاية طفل الأنابيب (5)
  • معركة الوعي: كيف يحاول الكيزان إعادة التاريخ
  • السرديات المضللة في حرب السودان… حكاية الغزو الأجنبي
  • عضو بإفتاء الغرياني: الدبيبة شجاع وخطابه أمس تاريخي
  • نقيب المهندسين يثمن خطاب السيسي في قمة بغداد: موقف شجاع يعكس صوت الأمة
  • عيد ميلاد الزعيم.. رامي إمام يهنئ والده: كل سنة وأنت في وسطينا