في غزة، حيث لا تتوقف أصوات القصف، وحيث تتحول أرواح البشر إلى مجرد أرقام تتداولها وسائل الإعلام، هناك قصص إنسانية تتجاوز حدود المأساة، تكشف عن معاناة متجددة وصمود لا يعرف الحدود، إيمان الشنطي، المذيعة في إذاعة الأقصى الفلسطينية، واحدة من تلك القصص التي تبقى عالقة في الذاكرة، بعدما كانت صوتًا للحقيقة وسط الحصار والدمار، وصورة حية للصمود الذي لا يموت.

إيمان الشنطي، لم تكن مجرد مذيعة فلسطينية شابة، بل كانت رمزًا للأمل في لحظات اليأس، ومنارة تشع الضوء حتى اللحظة الأخيرة، في ظل الموت الذي يترصد كل من يرفض الركوع، لكن غارة إسرائيلية وحشية استهدفت منزلها، كانت انتقامًا من صوتها الذي شق الظلام، ومن عائلتها التي رفضت الاستسلام للعدوان العسكري الإسرائيلي والنزوح من منطقة الشيخ رضوان، شمال قطاع غزة.

كانت، إيمان الشنطي، واحدة من أولئك الذين رفضوا مغادرة منازلهم، رغم تهديدات الاحتلال التي لا تفرق بين امرأة أو طفل، كانت تؤمن أن البقاء في منطقتها أحد أشكال المقاومة المعنوية، وأن جدران منزلها، رغم قسوتها، حصن معنوي ضد الاحتلال، وأن قلبها، الذي لا يمكن أن يُسكت، سيظل يدافع عن أرضها وأطفالها. كانت تدرك أن إرثها المعنوي لا يمكن أن يُمحى بالدمار.

رغم الظروف القاسية، كانت أكثر من مجرد إعلامية تنقل الأخبار، بل جسرًا من الأمل لشعبها، وبينما كان القصف يحيط بها من كل جانب، كانت ثابتة في مكانها، تأبى أن تفر من تحديات الاحتلال، ترى في بقاءها في غزة مقاومة معنوية، نضالًا شخصيًا ضد الاحتلال ورفضًا لأن تصبح جزءًا من قطيع يسعى للنجاة بأي ثمن.

علاقة عمرها ستة أشهر

قبل ستة أشهر، لم أكن أعرف، إيمان الشنطي، شخصيًا، لكن في تلك الفترة القصيرة، أصبحت جزءًا من نافذة أُطل منها على المعاناة المستمرة لسكان شمال غزة، عبر سلسلة من التحقيقات الصحفية عن الوضع الميداني والإنساني، متتبعة قصص أولئك الذين يواجهون قوات الاحتلال بأجسادهم العارية وأسلحتهم الوحيدة: الإيمان بالأرض والشجاعة، كان صوت إيمان يتسلل إلى الأفق، ليؤكد أن غزة لا تُختصر في جدرانها المدمرة أو أصوات القصف المتناثر في الهواء، بل هي تضحية مستمرة من أجل بقاء الهوية.

علمتني سنوات المهنة والمسار الأكاديمي، لاحقا، أن توثيق المعلومات أساس المصداقية في العمل الصحفي، حيث يتطلب الاعتماد على مصادر متنوعة وموثوقة لتجنب الانحياز وضمان صحة المعلومات من خلال التقاطع بين أكثر من مصدر، كان هذا النهج حاضراً في التعاون المهني النسبي بيني وبين، إيمان، كنت أحرص على مراعاة السياق الكامل للمعلومات وعدم اقتطاع التصريحات أو تحريفها، واستخدام الأدلة الداعمة مثل الوثائق والصور للتحقق من أي مزاعم، مما يضمن تجنب المبالغات أو التأثير على الموضوعية.

إيمان الشنطي، كانت رمزًا للإنسانية والكرم في ظل الظروف الصعبة التي كانت تعيشها. رغم سنها الصغير (38 عامًا)، كانت مثالًا حيًا للمرأة الفلسطينية الصامدة، لم تكن مجرد ناقلة للأخبار، بل إنسانة في قلب الحدث، تمزج بين المعاناة الشخصية والإصرار على خدمة الآخرين، هذا التوازن بين ما تعيشه وما تقدمه للآخرين هو ما جعلها تبرز وتترك أثرًا عميقًا فيمن حولها.

قسوة الظروف تظهر المحاسن

رغم قسوة الظروف في غزة، من انقطاع متكرر للإنترنت وضعف وسائل الاتصال، كانت، إيمان الشنطي، دائمًا تسعى لتقديم المساعدة. لم تكن تكتفي بنقل الأخبار، بل كانت تساهم بشكل كبير في تيسير التواصل مع المصادر وتسهيل العمل الصحفي في ظل هذه الظروف المأساوية. ورغم أنها كانت نفسها تواجه الجوع والنزوح بسبب القصف، إلا أنها كانت تركز اهتمامها على رصد أوضاع العائلات المتضررة، وتقديم المساعدة لهم.

كحال الكثير من أهل غزة، كانت تعيش في ظروف إنسانية قاسية، حيث انقلبت حياتها إلى صراع يومي من أجل البقاء. فقدت الكثير من وزنها، وكان الهزال يطفو على وجوه أطفالها الأربعة: بلال، عمر، ألما، وبنان، نتيجة سوء التغذية الذي عانى منه الجميع في ظل الحصار الخانق. ما كان يصل إليهم من معلبات كان مجرد أمل عابر، مواد حافظة يبدو أنها متواطئة مع الاحتلال لإنهاء حياة الصامدين الذين أصبحوا ينسون طعم الطعام الطبيعي.

رغم هذا الواقع المؤلم، كانت، إيمان الشنطي، دائمًا نموذجًا للكرم النادر، تتقاسم ما يصلها من مواد غذائية مع جيرانها، مؤمنة بأن «الصدقة تجلب البركة»، معتقدة أن العطاء في مثل هذه الأوقات هو جسر للنجاة الروحية بين الجميع. ظروفها الصعبة حولتها إلى رمز للمقاومة حتى في أصغر تفاصيل حياتها.

ومن خلال محادثاتنا، كانت إيمان تروي لي عن معاناتها اليومية مع أطفالها، وعن الأيام التي اضطروا فيها إلى أكل أوراق الشجر بسبب حصار الاحتلال، الذي كان يعمد إلى تعذيب سكان الشمال ويمنع المساعدات عنهم. كانت تروي كل ذلك بصوت مليء بالإيمان والصبر، صوت نادر أن تجد له مثيلًا، مهما كانت الظروف.

لكن في بعض الأحيان، كانت إيمان تجد نفسها غير قادرة على التحدث، فصوتها كان يتقطع بسبب التعب الشديد، وأحيانًا كانت الكلمات تتوقف في حلقها، لأن نفسها المنهكة لم تعد تحتمل، لم تكن قادرة على إخفاء مأساتها عن الآخرين، كان وجعها يعكسه صوتها المخنوق في كل محادثة، كما أتذكر جيدًا تلك اللحظة التي تحدثت فيها عن كيف أن كل شيء في حياتهم أصبح أزمة، من الطعام إلى أبسط احتياجاتهم اليومية مثل المنظفات. كانت تقول لي: «حتى أبسط الأشياء أصبحت حلمًا».

الأربعاء.. يوم النهاية الدرامية

الأربعاء الماضي كانت النهاية الدرامية، حيث تم استهداف بناية ملش التي كانت تقيم فيها إيمان مع أسرتها. استشهدت إيمان وزوجها وأطفالها الثلاثة: بلال، عمر، وألما، بينما نجت ابنتها «بنان» (11 عامًا)، لكنها أصبحت تعيش حياة كالموت وسط الدمار الذي استهدف كل مظاهر الحياة في قطاع غزة المنكوب. هي اليوم واحدة من مئات الأطفال الذين فقدوا كل شيء في لحظاتٍ من العنف المروع، أطفال اختفت عائلاتهم بالكامل تحت وطأة الغارات الجوية والقصف العشوائي.

من منظرها، بدت «بنان» كأنها خرجت من مشهد سينمائي يروي نهاية العالم. كانت وسط ركام منزلها، عيناها البنيتان، المطفأتان، تحملان براءة ضائعة، تبحثان عن تفسير لما حدث حولها، لكنهما لا تجدان أي إجابة. لقد سلبتها الصدمة القدرة على التعبير عن مأساتها. جسدها الهزيل، الذي أنهكته شهور من سوء التغذية، بالكاد يستطيع حمل رأسها المثقل بذكريات لا تُحتمل: ذكرى أمٍ فقدتها، وأبٍ رحل، وأشقاء سقطوا أمام عينيها.

تركت إيمان طفلتها «بنان» وحيدة في عالم قاسي يدافع عن المنحرفين، يحتفي بهم، ويكرمهم، لكنه يستهدف الأسوياء، الأبرياء، ويجور على حقهم في الحياة. هذه الطفلة الصغيرة التي حرمتها غارات الاحتلال وأسلحته المتقدمة من دفء وحنان أمها، التي أصبحت رقم 193 في سجل الصحفيين والإعلاميين الذين استهدفتهم قوات الاحتلال بقسوة، ومنذ بداية العدوان على غزة في الثامن من أكتوبر عام 2023، بحسب إحصاءات منتدى الإعلاميين الفلسطينيين.

رسائل الواقع المر.. والصمود

قبل لحظات من وفاتها، كتبت إيمان رسالة قصيرة، كلماتها كانت تعبيرًا عن العذاب الذي كانت تشعر به في تلك اللحظات المأساوية، وسط القصف المتواصل على تخوم منطقتها: «معقول إنه لساتنا عايشين لحتى الآن». كانت تعبر عن القصف المتواصل في الجوار، على تخوم المنطقة التي تعيش فيها، حيث سبق قصف منزلها رصد عملية المراقبة الدورية التي تقوم بها الطائرات المسيرة «الكواد كابتر»، والتي تحوم كـ«ظل قاتم يخيم على القلوب». كانت هذه الطائرات بمثابة آلة موت تحلق فوقهم، مما يجعل خسارتهم حتمية، موجهة نحو أهداف صامتة بعيدة، يعيشها الجندي خلف شاشته بأقصى درجات البرود.

في بداية العام، التقطت إيمان صورة لواحدة من الساحات الواسعة في غزة، التي تحولت إلى منطقة مقابر فردية وجماعية، دون أن تعلم أنها ستكون واحدة من هؤلاء الذين سيُدفنون هناك في نهاية العام. كتبت إيمان، بصوتٍ مليء باليقين: «هنا دفن الكثيرون، دون أن يراهم أحد من أهاليهم. أيقنت أنني ربما أكون التالية، أو أحد أفراد أسرتي، أو جميعنا. أعلم أن أحدًا من عائلتي أو أهلي لن يلقي النظرة الأخيرة عليّ، أو يحتضن جسدي. أيها الموت: أنا أعرفك جيدًا. لا اعتراض على قضاء الله وقدره. فالحمد لله رب العالمين».

رحلت، إيمان الشنطي، ولكن رسالتها التي تركتها كانت أقوى من الموت الذي اختطفها. كان آخر ما كتبته بمثابة دعوة للأمل رغم كل المأساة التي كانت تحيط بها: «نسأل الله عن المعجزة التي يهبنا إياها، فنجدها تسكن في أعماق صبرنا، صبرٌ من عند الله، يملؤنا بالرضا واليقين. معجزة أن نبقى ثابتين على الإيمان، أن نُبقي قلوبنا متوهجة بيقين أن التحرير آتٍ، ليس لغزة وحدها، بل لفلسطين كلها، من النهر إلى البحر. معجزة أن يُغرس في أطفالنا قوة لا تلين، وعناد كالنخل لا ينحني، ليواصلوا طريق التحرير».

إيمان الشنطي، لم تكن مجرد صحفية، بل كانت رمزًا للإصرار على الحياة، مهما كانت الظروف، ورغم أن حياتها انتهت في تلك اللحظة المفجعة، إلا أن كلماتها الحية كانت بداية لإشعال الشعلة التي ستظل تضيء في قلوب كل من يعرفها، وتستمر في تذكير الجميع بأن المقاومة لا تموت، وأن الأمل في التحرير سيكون دائمًا حكاية تتردد على ألسنة الأجيال القادمة.

اقرأ أيضاً3 مجازر ضد العائلات.. ارتفاع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة لـ 44835 شهيدًا

استشهاد 39 فلسطينيا جراء قصف الاحتلال مناطق متفرقة من قطاع غزة

الاحتلال الإسرائيلي يطالب مجددا بإخلاء مناطق واسعة في المغازي بوسط غزة

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: أهل غزة إيمان الشنطي استشهاد إيمان الشنطي الصحفية إيمان الشنطي العدوان العسكري الإسرائيلي حصار الاحتلال غارة إسرائيلية غزة قطاع غزة منطقة الشيخ رضوان إیمان الشنطی واحدة من قطاع غزة فی غزة لم تکن ا کانت کانت ا ما کان

إقرأ أيضاً:

“مادلين».. سفينة الحرية التي كسرت حاجز الصمت وفضحت قرصنة الاحتلال

 

في مشهد يعيد إنتاج التاريخ الاستعماري القائم على القمع والعدوان، أقدمت دولة الاحتلال الإسرائيلي على قرصنة بحرية مكتملة الأركان، باعتراض واحتجاز سفينة «مادلين»، إحدى سفن «أسطول الحرية»، في عرض المياه الدولية.
هذه السفينة، التي أبحرت من موانئ الضمير العالمي محمّلة بالمساعدات الإنسانية والأمل، لم تكن تحمل سوى رسالة إنسانية تهدف إلى كسر الحصار المفروض على أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة.
إن اعتقال المتضامنين الدوليين، ومن بينهم نواب برلمانيون وفنانون ونشطاء من مختلف الجنسيات، لمجرد أنهم حملوا مساعدات غذائية وطبية لأطفال يموتون جوعًا وعطشًا، يكشف مدى توحش الاحتلال واستهتاره بكل الأعراف والمواثيق الدولية. هذه الجريمة ليست سوى امتداد مباشر لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل منذ أكثر من 600 يوم على القطاع، والتي أودت بحياة ما يزيد عن 55 ألف شهيد، وأكثر من 115 ألف جريح، وخلّفت أكثر من 15 ألف مفقود تحت الأنقاض، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
القرصنة الإسرائيلية بحق «مادلين» تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وتعبّر عن الطبيعة الاستعمارية العنصرية لهذا الكيان، الذي لا يقيم اعتبارًا للقانون أو للضمير العالمي. إن استهداف سفينة إنسانية بهذا الشكل، عبر الحصار والتشويش الجوي والهجوم البحري المباشر، وصولًا إلى الترهيب والاختطاف، يُعدّ جريمة دولية موصوفة، لا يجب أن تمرّ دون رد ومساءلة.
إننا في مواجهة جريمة مركّبة، تبدأ من حصار شعب وتجويعه، وتمتد إلى تجريم كل من يحاول مدّ يد العون له. والمطلوب اليوم ليس فقط إطلاق سراح أبطال «مادلين» وسفينتهم، بل تحرك دولي عاجل لعزل دولة الاحتلال ومحاسبتها على جرائمها، ورفع الحصار الظالم عن غزة بشكل كامل وفوري. كما أننا ندعو إلى تصعيد التحرك الشعبي العالمي وتسيير المزيد من سفن الحرية، لأن رسالة «مادلين» لا يمكن أن تُغرقها آلة القمع.
في المقابل، لا يسعنا إلا أن نحيي أحرار العالم الذين خاطروا بأرواحهم من أجل كسر الحصار، وفي مقدمتهم النائبة الأوروبية ريما حسن، وكل من رافقها في هذه الرحلة الإنسانية. لقد وصلت رسالتهم إلى قلوب أبناء شعبنا، وإن لم تصل إلى موانئه، وسيسجّل التاريخ أسماءهم في سجلّ نضالنا، إلى جانب شهدائنا وأسرانا ومقاومينا.
«مادلين» لم تكن مجرد سفينة، بل كانت صوتًا للحرية في وجه الظلم، وصرخة عالمية في وجه الإبادة. وإن اختطافها لن يُسكت هذا الصوت، بل سيزيده صدى. لأن الشعوب الحرة لا تُهزم، ولأن إرادة الحياة أقوى من سطوة الحصار.
ستُكسر القيود، سينكسر الحصار، وستنتصر فلسطين.

* عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

مقالات مشابهة

  • حادث سير مروع ينهي حياة قاضٍ متقاعد على طريق كركوك – بغداد
  • صوفان: وجود شخصيات على غرار فادي صقر ضمن هذا المسار له دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد.. نحن نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا في مرحلة السلم الأهلي مضطرون لاتخاذ قرارات لتأمين استقرار نسبي للمرحلة
  • الأمم المتحدة: معظم القمح الذي تم توزيعه في غزة تم نهبه بسبب الاحتلال
  • “مادلين».. سفينة الحرية التي كسرت حاجز الصمت وفضحت قرصنة الاحتلال
  • رجل ينهي حياة زوجته أمام والديها ثم يحاول الانتحار
  • الغاء المباراة الودية بين منتخبي تونس وجمهورية إفريقيا الوسطى التي كانت ستلعب بالدار البيضاء
  • زوج ينهي حياة زوجته في البحيرة بسبب خلافات أسرية
  • إسحق بريك: حماس هزمت الجيش الإسرائيلي الذي يقدم نفسه على أنه الأقوى
  • والدة جندي إسرائيلي قتيل : جثة ابني تلاشت وكذلك القوة التي كانت معه
  • والدة جندي إسرائيلي قتل بكمين خان يونس: جثة ابني تلاشت وكذلك القوة التي كانت معه