إيمان الشنطي.. الاحتلال ينهي حياة المذيعة الشابة لكن يظل صمودها و«بنان»
تاريخ النشر: 12th, December 2024 GMT
في غزة، حيث لا تتوقف أصوات القصف، وحيث تتحول أرواح البشر إلى مجرد أرقام تتداولها وسائل الإعلام، هناك قصص إنسانية تتجاوز حدود المأساة، تكشف عن معاناة متجددة وصمود لا يعرف الحدود، إيمان الشنطي، المذيعة في إذاعة الأقصى الفلسطينية، واحدة من تلك القصص التي تبقى عالقة في الذاكرة، بعدما كانت صوتًا للحقيقة وسط الحصار والدمار، وصورة حية للصمود الذي لا يموت.
إيمان الشنطي، لم تكن مجرد مذيعة فلسطينية شابة، بل كانت رمزًا للأمل في لحظات اليأس، ومنارة تشع الضوء حتى اللحظة الأخيرة، في ظل الموت الذي يترصد كل من يرفض الركوع، لكن غارة إسرائيلية وحشية استهدفت منزلها، كانت انتقامًا من صوتها الذي شق الظلام، ومن عائلتها التي رفضت الاستسلام للعدوان العسكري الإسرائيلي والنزوح من منطقة الشيخ رضوان، شمال قطاع غزة.
كانت، إيمان الشنطي، واحدة من أولئك الذين رفضوا مغادرة منازلهم، رغم تهديدات الاحتلال التي لا تفرق بين امرأة أو طفل، كانت تؤمن أن البقاء في منطقتها أحد أشكال المقاومة المعنوية، وأن جدران منزلها، رغم قسوتها، حصن معنوي ضد الاحتلال، وأن قلبها، الذي لا يمكن أن يُسكت، سيظل يدافع عن أرضها وأطفالها. كانت تدرك أن إرثها المعنوي لا يمكن أن يُمحى بالدمار.
رغم الظروف القاسية، كانت أكثر من مجرد إعلامية تنقل الأخبار، بل جسرًا من الأمل لشعبها، وبينما كان القصف يحيط بها من كل جانب، كانت ثابتة في مكانها، تأبى أن تفر من تحديات الاحتلال، ترى في بقاءها في غزة مقاومة معنوية، نضالًا شخصيًا ضد الاحتلال ورفضًا لأن تصبح جزءًا من قطيع يسعى للنجاة بأي ثمن.
علاقة عمرها ستة أشهر
قبل ستة أشهر، لم أكن أعرف، إيمان الشنطي، شخصيًا، لكن في تلك الفترة القصيرة، أصبحت جزءًا من نافذة أُطل منها على المعاناة المستمرة لسكان شمال غزة، عبر سلسلة من التحقيقات الصحفية عن الوضع الميداني والإنساني، متتبعة قصص أولئك الذين يواجهون قوات الاحتلال بأجسادهم العارية وأسلحتهم الوحيدة: الإيمان بالأرض والشجاعة، كان صوت إيمان يتسلل إلى الأفق، ليؤكد أن غزة لا تُختصر في جدرانها المدمرة أو أصوات القصف المتناثر في الهواء، بل هي تضحية مستمرة من أجل بقاء الهوية.
علمتني سنوات المهنة والمسار الأكاديمي، لاحقا، أن توثيق المعلومات أساس المصداقية في العمل الصحفي، حيث يتطلب الاعتماد على مصادر متنوعة وموثوقة لتجنب الانحياز وضمان صحة المعلومات من خلال التقاطع بين أكثر من مصدر، كان هذا النهج حاضراً في التعاون المهني النسبي بيني وبين، إيمان، كنت أحرص على مراعاة السياق الكامل للمعلومات وعدم اقتطاع التصريحات أو تحريفها، واستخدام الأدلة الداعمة مثل الوثائق والصور للتحقق من أي مزاعم، مما يضمن تجنب المبالغات أو التأثير على الموضوعية.
إيمان الشنطي، كانت رمزًا للإنسانية والكرم في ظل الظروف الصعبة التي كانت تعيشها. رغم سنها الصغير (38 عامًا)، كانت مثالًا حيًا للمرأة الفلسطينية الصامدة، لم تكن مجرد ناقلة للأخبار، بل إنسانة في قلب الحدث، تمزج بين المعاناة الشخصية والإصرار على خدمة الآخرين، هذا التوازن بين ما تعيشه وما تقدمه للآخرين هو ما جعلها تبرز وتترك أثرًا عميقًا فيمن حولها.
قسوة الظروف تظهر المحاسن
رغم قسوة الظروف في غزة، من انقطاع متكرر للإنترنت وضعف وسائل الاتصال، كانت، إيمان الشنطي، دائمًا تسعى لتقديم المساعدة. لم تكن تكتفي بنقل الأخبار، بل كانت تساهم بشكل كبير في تيسير التواصل مع المصادر وتسهيل العمل الصحفي في ظل هذه الظروف المأساوية. ورغم أنها كانت نفسها تواجه الجوع والنزوح بسبب القصف، إلا أنها كانت تركز اهتمامها على رصد أوضاع العائلات المتضررة، وتقديم المساعدة لهم.
كحال الكثير من أهل غزة، كانت تعيش في ظروف إنسانية قاسية، حيث انقلبت حياتها إلى صراع يومي من أجل البقاء. فقدت الكثير من وزنها، وكان الهزال يطفو على وجوه أطفالها الأربعة: بلال، عمر، ألما، وبنان، نتيجة سوء التغذية الذي عانى منه الجميع في ظل الحصار الخانق. ما كان يصل إليهم من معلبات كان مجرد أمل عابر، مواد حافظة يبدو أنها متواطئة مع الاحتلال لإنهاء حياة الصامدين الذين أصبحوا ينسون طعم الطعام الطبيعي.
رغم هذا الواقع المؤلم، كانت، إيمان الشنطي، دائمًا نموذجًا للكرم النادر، تتقاسم ما يصلها من مواد غذائية مع جيرانها، مؤمنة بأن «الصدقة تجلب البركة»، معتقدة أن العطاء في مثل هذه الأوقات هو جسر للنجاة الروحية بين الجميع. ظروفها الصعبة حولتها إلى رمز للمقاومة حتى في أصغر تفاصيل حياتها.
ومن خلال محادثاتنا، كانت إيمان تروي لي عن معاناتها اليومية مع أطفالها، وعن الأيام التي اضطروا فيها إلى أكل أوراق الشجر بسبب حصار الاحتلال، الذي كان يعمد إلى تعذيب سكان الشمال ويمنع المساعدات عنهم. كانت تروي كل ذلك بصوت مليء بالإيمان والصبر، صوت نادر أن تجد له مثيلًا، مهما كانت الظروف.
لكن في بعض الأحيان، كانت إيمان تجد نفسها غير قادرة على التحدث، فصوتها كان يتقطع بسبب التعب الشديد، وأحيانًا كانت الكلمات تتوقف في حلقها، لأن نفسها المنهكة لم تعد تحتمل، لم تكن قادرة على إخفاء مأساتها عن الآخرين، كان وجعها يعكسه صوتها المخنوق في كل محادثة، كما أتذكر جيدًا تلك اللحظة التي تحدثت فيها عن كيف أن كل شيء في حياتهم أصبح أزمة، من الطعام إلى أبسط احتياجاتهم اليومية مثل المنظفات. كانت تقول لي: «حتى أبسط الأشياء أصبحت حلمًا».
الأربعاء.. يوم النهاية الدرامية
الأربعاء الماضي كانت النهاية الدرامية، حيث تم استهداف بناية ملش التي كانت تقيم فيها إيمان مع أسرتها. استشهدت إيمان وزوجها وأطفالها الثلاثة: بلال، عمر، وألما، بينما نجت ابنتها «بنان» (11 عامًا)، لكنها أصبحت تعيش حياة كالموت وسط الدمار الذي استهدف كل مظاهر الحياة في قطاع غزة المنكوب. هي اليوم واحدة من مئات الأطفال الذين فقدوا كل شيء في لحظاتٍ من العنف المروع، أطفال اختفت عائلاتهم بالكامل تحت وطأة الغارات الجوية والقصف العشوائي.
من منظرها، بدت «بنان» كأنها خرجت من مشهد سينمائي يروي نهاية العالم. كانت وسط ركام منزلها، عيناها البنيتان، المطفأتان، تحملان براءة ضائعة، تبحثان عن تفسير لما حدث حولها، لكنهما لا تجدان أي إجابة. لقد سلبتها الصدمة القدرة على التعبير عن مأساتها. جسدها الهزيل، الذي أنهكته شهور من سوء التغذية، بالكاد يستطيع حمل رأسها المثقل بذكريات لا تُحتمل: ذكرى أمٍ فقدتها، وأبٍ رحل، وأشقاء سقطوا أمام عينيها.
تركت إيمان طفلتها «بنان» وحيدة في عالم قاسي يدافع عن المنحرفين، يحتفي بهم، ويكرمهم، لكنه يستهدف الأسوياء، الأبرياء، ويجور على حقهم في الحياة. هذه الطفلة الصغيرة التي حرمتها غارات الاحتلال وأسلحته المتقدمة من دفء وحنان أمها، التي أصبحت رقم 193 في سجل الصحفيين والإعلاميين الذين استهدفتهم قوات الاحتلال بقسوة، ومنذ بداية العدوان على غزة في الثامن من أكتوبر عام 2023، بحسب إحصاءات منتدى الإعلاميين الفلسطينيين.
رسائل الواقع المر.. والصمود
قبل لحظات من وفاتها، كتبت إيمان رسالة قصيرة، كلماتها كانت تعبيرًا عن العذاب الذي كانت تشعر به في تلك اللحظات المأساوية، وسط القصف المتواصل على تخوم منطقتها: «معقول إنه لساتنا عايشين لحتى الآن». كانت تعبر عن القصف المتواصل في الجوار، على تخوم المنطقة التي تعيش فيها، حيث سبق قصف منزلها رصد عملية المراقبة الدورية التي تقوم بها الطائرات المسيرة «الكواد كابتر»، والتي تحوم كـ«ظل قاتم يخيم على القلوب». كانت هذه الطائرات بمثابة آلة موت تحلق فوقهم، مما يجعل خسارتهم حتمية، موجهة نحو أهداف صامتة بعيدة، يعيشها الجندي خلف شاشته بأقصى درجات البرود.
في بداية العام، التقطت إيمان صورة لواحدة من الساحات الواسعة في غزة، التي تحولت إلى منطقة مقابر فردية وجماعية، دون أن تعلم أنها ستكون واحدة من هؤلاء الذين سيُدفنون هناك في نهاية العام. كتبت إيمان، بصوتٍ مليء باليقين: «هنا دفن الكثيرون، دون أن يراهم أحد من أهاليهم. أيقنت أنني ربما أكون التالية، أو أحد أفراد أسرتي، أو جميعنا. أعلم أن أحدًا من عائلتي أو أهلي لن يلقي النظرة الأخيرة عليّ، أو يحتضن جسدي. أيها الموت: أنا أعرفك جيدًا. لا اعتراض على قضاء الله وقدره. فالحمد لله رب العالمين».
رحلت، إيمان الشنطي، ولكن رسالتها التي تركتها كانت أقوى من الموت الذي اختطفها. كان آخر ما كتبته بمثابة دعوة للأمل رغم كل المأساة التي كانت تحيط بها: «نسأل الله عن المعجزة التي يهبنا إياها، فنجدها تسكن في أعماق صبرنا، صبرٌ من عند الله، يملؤنا بالرضا واليقين. معجزة أن نبقى ثابتين على الإيمان، أن نُبقي قلوبنا متوهجة بيقين أن التحرير آتٍ، ليس لغزة وحدها، بل لفلسطين كلها، من النهر إلى البحر. معجزة أن يُغرس في أطفالنا قوة لا تلين، وعناد كالنخل لا ينحني، ليواصلوا طريق التحرير».
إيمان الشنطي، لم تكن مجرد صحفية، بل كانت رمزًا للإصرار على الحياة، مهما كانت الظروف، ورغم أن حياتها انتهت في تلك اللحظة المفجعة، إلا أن كلماتها الحية كانت بداية لإشعال الشعلة التي ستظل تضيء في قلوب كل من يعرفها، وتستمر في تذكير الجميع بأن المقاومة لا تموت، وأن الأمل في التحرير سيكون دائمًا حكاية تتردد على ألسنة الأجيال القادمة.
اقرأ أيضاً3 مجازر ضد العائلات.. ارتفاع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة لـ 44835 شهيدًا
استشهاد 39 فلسطينيا جراء قصف الاحتلال مناطق متفرقة من قطاع غزة
الاحتلال الإسرائيلي يطالب مجددا بإخلاء مناطق واسعة في المغازي بوسط غزة
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: أهل غزة إيمان الشنطي استشهاد إيمان الشنطي الصحفية إيمان الشنطي العدوان العسكري الإسرائيلي حصار الاحتلال غارة إسرائيلية غزة قطاع غزة منطقة الشيخ رضوان إیمان الشنطی واحدة من قطاع غزة فی غزة لم تکن ا کانت کانت ا ما کان
إقرأ أيضاً:
العنف.. "الساكن فينا"
"الناس مبترحمش" جملة قالتها خالة عروس المنوفية تعقيبا على سؤال حول شكوى العروس بعد أسبوع واحد من الزواج من إهانة زوجها لها ولماذا لم تبق عند أهلها، هذه هى العادات المتوارثة فى كل القري والأوساط الشعبية، التى تجبر الفتاة على تحمل الحياة مع زوج لايحفظ كرامتها، وبيت عائلة يتعامل معها باستعباد وتملك، وفى النهاية تجد نفسها محاطة بكلمات لا يتفهم من يعظون بها حجم ما تتحمله الزوجة الشابة من قهر ومعاناة.
عشرون عاما قضتها العروس الشابة فى منزل والديها، قبل أن يأتيها الشاب الذى ارتضته زوجا لها، وسط مباركة الأهل البسطاء الذين بذلوا كل جهدهم لتجهيزها بمستلزمات فوق طاقتهم المادية، وهو ما أكدته والدتها ردا على سؤال لماذا لم تطلب الطلاق؟ فقالت: "لسه أبوها بيسدد الديون".
الزوجة الشابة التى فاجأتها أعراض صحية فى الأيام الأولى من الزواج، لم يتحملها الزوج الذى قيل إنه كان يتعاطي المخدرات، وأنهم أقنعوه بأن الزواج سيكون مكافأة له على التوقف عن التعاطي، ضرب مبرح وإهانات هو ملخص الشهور الأربعة من عمر الزواج القصير، قبل أن تلقي الفتاة حتفها قتلا نتيجة تعرضها لاعتداءات جسدية عنيفة وضربات فى الجسد والرأس أدت لتوقف الوظائف الحيوية، ووفاتها فى الحال هى وجنين فى الشهر الثالث، وفقا لما جاء فى تقرير الطب الشرعي.
خالتها قالت إنها فى المرة الأخيرة التى جاءتها تشكو من سوء معاملة الزوج، أكدت الفتاة أنها إذا عادت الى منزل الزوجية هذه المرة، فإنها ستعود لأهلها مقتولة، لم يصدق الأهل بالطبع كلام ابنتهم وهو ما يحدث دوما، متوهمين أن صغر السن وقلة الخبرة هما السبب فى عدم قدرتها على التحمل، وهو ما جعل جدتها لأمها تنصحها بكلمة: "عيشي" لترد عليها: "بحاول أعيش"، لتضطر الفتاة لتحمل الضرب والإهانة يوما بعد يوم، ولم يقو جسدها النحيل ومتاعب الحمل على التحمل لتخر صريعة بين يديه، ليحاول إخفاء جريمته فيحملها ويهبط بها على السلالم لتقع منه مرة أخري، وتظل ملقاة لمدة ست ساعات قبل أن تتولى إحدى الجارات تبليغ أهلها.
"استحملى وبلاش تخربي بيتك"هى جملة من بين كثير من الجمل من هذا النوع التى تجبر فتيات صغيرات تم تزويجهن فى سن مبكرة يتعرضن للعنف من الزوج وأهله، وفى النهاية إما أن تكمل الزوجة الشابة حياتها فى ذل وقهر لأنها لم تجد سندا من أهلها يصون كرامتها، وإما أن يتم تطليقها لتعاني مشوارًا طويلا من التجريح من مجتمع لايرحم، أو أن يتم قتلها على يد زوج لم يعرف للرجولة أى معني، وهو ما شاهدناه من حوادث مماثلة فى الفترة الأخيرة.
تدخلات أهل الزوج فى تفاصيل حياة زوجة الابن هو ميراث من الاستهانة لم نبرأ منه برغم الحياة الحديثة شكلا وليس مضمونا فى "الأرياف"، التحكم والتدخل فى كل شيء وحتى فى زيارة أهلها، بالاضافة بالطبع الى خدمة العائلة كلها دون أدني حد من الخصوصية، ودون مراعاة لأى ظروف مرضية يمكن أن تمر بها وسط تحكمات "الحماة"وبطش الزوج.
كنا فى زمان سابق نري البيوت الكبيرة التى تضم الأبناء والأحفاد ويملؤها الدفء، ولم يكن العنف هو السمة الغالبة كما نري الآن، ولكن الآن تبدل الحال وأصبح القتل هو السبيل الوحيد للخلاص، بدلا من الطلاق الذى أقره الشرع كحل لمثل هذه الحالات.
ماذا حدث للمجتمع؟ سؤال يجب أن يتدارسه علماء النفس والاجتماع قبل فوات الأوان.