كشف تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" عن مشاركة مرتزقة كولومبيين في الحرب بالسودان إلى جانب قوات الدعم السريع.

وذكر التقرير الذي أعده كل من بينوا فوكون وجابرييل شتاينهاوزر، وكيجال فياس وسمر سعيد، أنه للوهلة الأولى، تبدو مقاطع الفيديو المهتزة التي تم التقاطها بالهاتف المحمول في السهول القاحلة في منطقة دارفور بالسودان، مثل العديد من مقاطع الفيديو الأخرى التي خرجت من الحرب الأهلية الوحشية في البلاد: رجال يرتدون زيا مموها يقفون بجوار صناديق الأسلحة، ويعرضون غنائم معركتهم.

ثم يقلب أحد الرجال أوراق السجناء الذين تم الاستيلاء عليهم حديثا وممتلكاتهم الشخصية.

"انظروا إلى هذا، إنهم ليسوا سودانيين"، يقول بلهجة عربية مائلة إلى لهجة الزغاوة المحلية، ويحمل جواز سفر صادرا عن حكومة كولومبيا على بعد حوالي 7000 ميلا: "هؤلاء هم الأشخاص الذين يقتلوننا"، كما جاء في المقطع.

وبينت الصحيفة أن لقطات الفيديو تشكل إشارة واضحة إلى أن الحرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة تحولت إلى ساحة معركة للقوى الأجنبية، حيث اجتذبت المقاتلين والأسلحة من أماكن بعيدة مثل أمريكا اللاتينية وأوروبا.

وأوضحت أن العديد من الحكومات الإقليمية تتنافس على تأكيد نفوذها مع تصاعد القتال، وعلى رأسها الإمارات من جهة ومصر من جهة أخرى - مع عواقب مدمرة على سكان السودان البالغ عددهم 48 مليون نسمة، والذين أصبح بعضهم الآن يعاني من المجاعة.

وتابعت بأنه على المحك هناك التنافس للسيطرة على ممرات الشحن في البحر الأحمر، وبعض أكبر احتياطيات الذهب في أفريقيا، والمياه المتنازع عليها في نهر النيل. والآن أصبح المرتزقة أداة متزايدة الأهمية لتأمين ميزة استراتيجية.

وأكد التقرير، أنه تم توظيف المقاتلين الكولومبيين الذين تم أسرهم الشهر الماضي في دارفور في وقت سابق من هذا العام من قبل شركة مقرها أبو ظبي تسمى Global Security Services Group (GSSG)، وفقا لمقابلات مع أكثر من اثني عشر مسؤولا دوليا وقدامى المحاربين الكولومبيين، بالإضافة إلى مراجعة ملفات تعريف وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الويب الخاصة بالشركة.

وتصف الشركة نفسها بأنها المزود الأمني الخاص المسلح الوحيد للحكومة الإماراتية وتدرج ضمن عملاءها وزارات الشؤون الرئاسية والداخلية والخارجية في الدولة الخليجية.



وفي أوغندا، حيث دربت GSSG القوات المحلية في عمليات مكافحة الإرهاب وحماية كبار الشخصيات، قدمت الشركة نفسها على أنها تعمل نيابة عن الحكومة الإماراتية، حسبما قال متحدث باسم الجيش،
ولم تستجب GSSG وممثلو الشركة للمكالمات والرسائل الإلكترونية ورسائل LinkedIn التي تطلب التعليق بحسب الصحيفة.

التقرير ذكر أنه تم نقل المجندين الكولومبيين جوا إلى الأراضي الليبية التي يسيطر عليها أمير الحرب خليفة حفتر قبل عبورها إلى معقل قوات الدعم السريع في دارفور. ووفقا لتقارير الأمم المتحدة، كان حفتر مدعوما منذ فترة طويلة من قبل الإمارات.

كما تقوم الإمارات بشحن الأسلحة وغيرها من المواد الحربية إلى قوات الدعم السريع، وفقا لما ذكرته صحيفة "وول ستريت جورنال" سابقا، وهي النتائج التي دعمها أيضا خبراء الأمم المتحدة.

وتعد الدولة الخليجية الغنية بالنفط وجهة معظم صادرات الذهب الرسمية وغير الرسمية للسودان، وقد أعرب المسؤولون الإماراتيون عن قلقهم بشأن ما يرون أنه قوى إسلامية تدعم الجيش السوداني.

ونفت وزارة الخارجية الإماراتية تقديمها الدعم أو الإمدادات لقوات الدعم السريع أو أي طرف آخر في الحرب، وقالت إنها تواصل الدعوة إلى حل سلمي للصراع. ولم ترد على أسئلة مفصلة حول صلاتها بمجموعة GSSG.

وعلى الجانب الآخر من الصراع، تقف مصر، التي تسعى للحصول على دعم السودان في مواجهتها مع إثيوبيا بشأن سد عملاق على النيل، كما نفت وزارة خارجيتها شن غارات جوية في السودان لمساعدة الجيش السوداني. ويقول كبار المسؤولين العرب بشكل خاص إن مصر نشرت طائرات خفيفة لتقديم الدعم، وألقت قنابل على مواقع قوات الدعم السريع في دارفور وولاية سنار بوسط البلاد، حيث استعاد الجيش السوداني مؤخرا عددا من البلدات من قوات الدعم السريع.

وتخضع منطقة دارفور لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، وقد دعت الولايات المتحدة مرارا وتكرارا الحكومات الأجنبية إلى البقاء بعيدا عن الصراع الذي بدأ في نيسان/ أبريل 2023.

وأشارت إلى أن القتال تصاعد، مما أدى إلى خلق ما يعتبر الآن على نطاق واسع أكبر أزمة إنسانية في العالم.

وبحسب بعض التقديرات، قتل ما يصل إلى 150,000 شخصا ويعاني نحو 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف السكان، من مستويات أزمة الجوع، وأُجبر واحد من كل أربعة سودانيين على ترك منازلهم، كما أُعلنت المجاعة في مخيم بدارفور يستضيف ما بين 500,000 ألف ومليون نازح، والذين تعرضوا في الأيام الأخيرة أيضا لهجمات من قوات الدعم السريع. وتهدد الأدوار البارزة للمرتزقة والحكومات الأجنبية بتمديد المعاناة.

وقال، إنه مع مخزونها الكبير من قدامى المحاربين في حرب المخدرات المدربين على الأسلحة الأمريكية، كانت كولومبيا منذ فترة طويلة هدفا للمجندين من مجموعات الأمن والمرتزقة في الخارج.

وقبل عقد من الزمان، أرسلت الإمارات، من خلال المتعاقدين العسكريين، كولومبيين للقتال في الحرب الأهلية في اليمن.

وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، بدأت شركة توظيف مسجلة في بوغوتا، كولومبيا تسمى International Services Agency، أو A4SI، في نشر إعلانات على موقعها على الإنترنت تبحث عن مشغلي مسيّرات ومتخصصين في الأمن السيبراني وحراس شخصيين للعمل في أفريقيا.

وبذات الوقت تقريبا، تم نشر إعلان وظيفة موجز على مجموعات الدردشة الخاصة بالمحاربين القدامى الكولومبيين، حيث عرضت رواتب تتراوح من 2,600 دولار إلى 6,000 دولار شهريا للمتقدمين ذوي الخبرة العسكرية للعمل في الشرق الأوسط وأفريقيا.



واستضافت الشركة تجمعات تسويق في قاعات المدن في مدن في جميع أنحاء كولومبيا، بما في ذلك في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر في ميديلين، حيث تجمع حوالي 80 من أفراد الجيش والشرطة الكولومبيين السابقين لسماع عرض من أحد شركات التجنيد الذين يسعون إلى نشر قوة من 200 جندي في أفريقيا.

ويقول المقاولون العسكريون الكولومبيون المطلعون على جهود التجنيد إن شركة A4SI كانت تبحث عن قناصة ومترجمين من الإسبانية إلى الإنجليزية، بحسب التقرير.

وقال المقاولون إن العشرات من الجنود السابقين وقعوا عقودا مع GSSG، التي كانت تعمل مع A4SI لعدة سنوات. ولم تستجب A4SI للمكالمات والرسائل الإلكترونية التي تطلب التعليق ولم يرد أحد على الباب في اثنين من مكاتب الشركة في بوغوتا.

وأوضح مسؤولان من شمال أفريقيا إن عدد الكولومبيين الذين مروا عبر ليبيا لدعم العمليات في السودان بلغ حوالي 160.

وأكد مسؤولون من الشرق الأوسط وأفريقيا إن المقاولين الكولومبيين هم جزء من حملة من الإمارات لدعم حليفتها قوات الدعم السريع بعد أن خسرت الأرض أمام الجيش السوداني وداعميه المصريين حول العاصمة الخرطوم وفي وسط السودان. كما اشترى الجيش السوداني مسيّرات من إيران، التي ذكرت الصحيفة سابقا أنها تريد بناء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر في البلاد.

وتسيطر قوات الدعم السريع الآن على معظم دارفور، وهي قريبة من السيطرة على مدينة الفاشر المحاصرة.

وأشارت "وول ستريت جورنال" إلى أن العقود التي وقعها الكولومبيون مع GSSG لم تذكر السودان أو الانتشار في منطقة حرب نشطة، كما قال المقاولون العسكريون الكولومبيون والجنود المتقاعدون. وقال أحد المقاولين: "لقد خدعوا عمليا".

ويقول قدامى المحاربين الكولومبيين ومسؤولون من الشرق الأوسط وأفريقيا، إن المجندين سافروا إلى الإمارات من كولومبيا.

وكان كريستيان لومبانا مونكايا، الذي ظهرت وثائقه في مقاطع فيديو دارفور، عريفا متقاعدا سافر من بوغوتا إلى دبي في 6 تشرين الأول/ أكتوبر وبقي هناك لعدة أسابيع، وفقا للأختام الموجودة على جواز سفره والصور المنشورة على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي.

ومن الإمارات، تم إرسال الكولومبيين إلى مطار في بنغازي، وهي مدينة في شرق ليبيا يسيطر عليها حفتر، أمير الحرب الليبي، ثم إلى قاعدة جوية قديمة بالقرب من الحدود السودانية، وفقا لمسؤولين من الشرق الأوسط وأفريقيا، بالإضافة إلى قدامى المحاربين الكولومبيين المطلعين على العمليات.



وفي المرة التالية التي ظهرت فيها علامات المقاولين الكولومبيين كانت في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، عندما نشر متحدث باسم قوة الحماية المشتركة لدارفور، وهي تحالف من الجماعات المسلحة التي تقاتل ضد قوات الدعم السريع إلى جانب الجيش السوداني، مقاطع فيديو غير واضحة للقافلة التي تم اعتراضها على حسابه على فيسبوك.

وقال إن قوة التحالف استولت على العديد من المقاتلين الأجانب، بعضهم قُتل، إلى جانب المركبات والأسلحة، واتهم الإمارات بتنظيم حركة المقاتلين والأسلحة عبر دارفور. وأظهر أحد مقاطع الفيديو ملصقات تحمل أسماء بلغارية على صندوق يحمل قذائف هاون عيار 81 ملم. وقالت وزارة الاقتصاد البلغارية، التي تشرف على صادرات الأسلحة من البلاد، إنها لم تصدر أي تصاريح للمبيعات إلى السودان.

كما ناقش وزير خارجية كولومبيا تورط المقاولين الكولومبيين في الحرب مع نظيره في الحكومة السودانية المدعومة عسكريا في 3 كانون الأول/ ديسمبر. وقالت الوزارة إنها تعمل من خلال القنوات الدبلوماسية لإعادة العسكريين السابقين إلى ديارهم، الذين قالت إنهم خُدعوا في العملية.

ولم يتسن الاتصال بلومبانا مونكايا أو أي من أفراد أسرته للتعليق على الأمر. ولم يتسن تحديد ما إذا كان قد نجا من الهجوم على القافلة أم لا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية مرتزقة الدعم السريع السودان الإمارات حفتر السودان الإمارات مرتزقة حفتر الدعم السريع سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرق الأوسط وأفریقیا قوات الدعم السریع الجیش السودانی فی السودان إلى جانب فی الحرب

إقرأ أيضاً:

من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟

في لحظة فارقة من عمر الحرب السودانية، وبينما يقترب الجيش من حسم المعركة ميدانيًا، تلوح في الأفق تسوية دولية تُهدّد بأن تُفرغ هذا النصر من محتواه السياسي.

فبين سطور اللقاء الأخير لوزير الخارجية الأميركي مع أطراف الرباعية، ظهرت إشارات مقلقة توحي بأن الغرب لا يسعى إلى سلام يُنهي الحرب فحسب، بل إلى اتفاق يُبقي على توازن هشّ بين الدولة والتمرد؛ خوفًا من أن يتحوّل نصر الجيش إلى عقبة كأداء أمام بسط النفوذ الدولي مقابل الإرادة الوطنية، وتبرير ذلك من خلال مزاعم منع تحول النصر إلى حكم عسكري عضوض.

فهذا "السلام" المشروط لا يبدو بريئًا. فهو لا يستند إلى الوقائع الميدانية بقدر ما يستجيب لحسابات النفوذ، ويعيد إنتاج التوازنات التي سبقت الانفجار. وهنا يُطرح السؤال بصراحة مؤلمة: هل يُمكن بناء سلام عادل دون الاعتراف بمن انتصر ومن انهزم؟ وهل يُطلب من الجيش أن ينتصر في الميدان، ثم يُساوي نفسه سياسيًا مع من تمرّد ضد الدولة وارتكب الجرائم الفظيعة ضد المواطنين العزل؟

في هذا التحليل نحاول الغوص في خلفيات التحرك الدولي، ونفكك منطق "السلام الناقص"، ونبحث في مآلاته على مستقبل السيادة، والانتقال السياسي المدني في السودان.

في هذا الإطار، تتقدّم مجموعة الرباعية الدولية بمبادرات متسارعة؛ لإنهاء الحرب في السودان، غير أن هذه المبادرات، رغم شعاراتها الإنسانية، لا تبدو بعيدة عن حسابات المصالح السياسية والأمنية.

والرباعية هي دول تتولى التنسيق حول المسار السياسي والدبلوماسي منذ ما قبل اندلاع الحرب، وتلعب الآن دورًا تريده مركزيًا في صياغة ملامح تسوية ليس بالضرورة تستجيب للمصلحة الوطنية، أو الإرادة الشعبية السودانية.

لكن اللافت أن هذه الأطراف، وخصوصًا الغربية منها، باتت تتحدث بلهجة زاعمة بأن يؤدي الحسم العسكري الكامل لصالح الجيش إلى "إعادة إنتاج الحكم العسكري"، كما وصفته بعض مراكز التفكير الأميركية، بينما تتجاهل خطوة تعيين رئيس وزراء مدني بصلاحيات واسعة، وهو الأمر الذي رحب به الاتحاد الأفريقي، فضلًا عن القوى السياسية السودانية الفاعلة، عدا تلك القليلة المرتبطة بالأجندة الخارجية.

إعلان

كل ذلك يجري وكأنما يُراد للجيش أن يُقاتل وحده، ويُحاسَب وحده، ثم يُمنع من ترجمة نصره إلى شرعية سياسية. هذا الموقف يُعيد إلى الأذهان النموذج الذي فُرض على أكثر من دولة في الإقليم: انتصارات ميدانية تُعطلها صفقات ناعمة تحفظ للمتمردين موقعًا شكليًا في "السلام"، وتفتح أبواب السلطة باسم "الشمولية السياسية".

لكن السؤال الذي يتجنبه صناع هذه الصفقة هو: هل يُمكن بناء سلام حقيقي بالتماهي مع الانتهاك؟ وهل المطلوب إطفاء الحرب أم ترسيخ ازدواجية الدولة؟

توازن وهمي وحسابات أجنبية

حين تتكثف الدعوات الدولية للسلام في لحظة يتقدم فيها الجيش ميدانيًا، لا يبدو الأمر بريئًا من الناحية السياسية.

فالرباعية- وعلى رأسها واشنطن- ظلت لعدة أشهر تتعامل مع مليشيا الدعم السريع كطرف سياسي لا كمجموعة متمردة، رغم ما ارتكبته من فظائع موثّقة، وحين بدأت موازين القوة تميل بوضوح لصالح الجيش السوداني، بدا أن السقف الدولي قد انخفض فجأة من دعم "الانتقال المدني" إلى فرض "وقف إطلاق نار عاجل".

كما فرضت واشنطن عقوبات على السودان بزعم استخدام الجيش أسلحة كيميائية استنادًا إلى تقرير صحفي. هذا التغير في اللغة والتكتيك يكشف ضمنيًا عن اعترافٍ دولي غير معلن بأن التمرد قد خسر المعركة ميدانيًا. فمليشيا الدعم السريع- التي كانت تسيطر على مناطق واسعة في بدايات الحرب- صارت اليوم تترنّح في جيوب معزولة، وتعتمد في بقائها على حرب مدن وقصف عشوائي لا يغيّر الواقع العسكري.

ومع ذلك، لا تُترجم هذه الهزيمة في الخطاب السياسي الغربي، بل يُعاد تأهيل المليشيا سياسيًا عبر المطالبة بإشراكها في التسوية، بحجة أنها "طرف فاعل" لا يمكن تجاوزه.

لكن ما يُقلق أكثر من إعادة تأهيل التمرد، هو أن هذا الإقرار المبطّن بالهزيمة لا يُبنى عليه موقف واضح لصالح الدولة، بل يُستغل للضغط على الجيش لتقديم تنازلات سياسية تُفرغ انتصاراته من مضمونها السيادي.

فهل يُراد للجيش أن ينتصر فقط ليُمنع من حماية الدولة؟ أم أن الغرب يخشى من نهاية الحرب أكثر مما يخشى استمرارها، لأن النهاية تعني أن أحد الطرفين سيفرض واقعًا جديدًا لا يخضع للإملاء الخارجي؟

في كثير من النزاعات، يكون السلام تتويجًا للنصر. لكن في الحالة السودانية، يبدو أن هناك من يسعى إلى فصل المسارين قسرًا: أن يتوقّف القتال دون أن يُعترف بانتصار طرف على آخر، وأن يُفرض على الدولة أن تُصافح من حمل السلاح ضدها دون شروط.

هذا هو جوهر "السلام الناقص" الذي تدفع به بعض العواصم الغربية عبر الرباعية. سلام يُطلَب فيه من الجيش أن يوقف المعركة وهو في موقع القوة، ويقبل بتسوية تُعيد دمج عناصر التمرد في المشهدين: السياسي والعسكري، بحجة "الاستقرار".

إن أخطر ما في هذه المعادلة هو محاولة فرض توازن سياسي وهمي على حساب الحقائق الميدانية. فالدعوات لإشراك الدعم السريع في مستقبل الحكم لا تأتي احترامًا لمطالب شعبية، بل تلبيةً لاعتبارات خارجية تخشى أن تتحوّل سيطرة الجيش إلى مشروع حكم وطني يصعب التحكم فيه من الخارج. هكذا يتحوّل النصر إلى عبء، والانتصار إلى خطر ينبغي احتواؤه، لا ترجمته.

إعلان

لكن هذا المنطق يُهدد بتكرار الكارثة: كيف يمكن بناء سلام حقيقي مع مليشيا ارتكبت تطهيرًا عرقيًا؟ كيف يُطلب من الضحايا أن يتعايشوا مع الجناة باسم "الحل السياسي الشامل"؟ وهل تُبنى دولة القانون على قاعدة اللاعقاب والمساواة الزائفة بين الدولة والتمرد؟

هذا النوع من السلام لا ينهي الحرب، بل يُجمّدها في صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، تمهيدًا لجولة قادمة من الصراع.

إن النصر العسكري، حين لا يجد ترجمته السياسية، يصبح فخًا. فالجيش السوداني، الذي قاتل وحده في مواجهة تمرد مسلح متوحش ومدعوم خارجيًا، لم يكن يدافع عن نفسه فقط، بل عن كيان الدولة ومؤسساتها وسيادتها.

وبالتالي، فإن حرمان الجيش من ثمرة هذا النصر- بحجة التوازن أو "اللامركزية السياسية"- لا يعني سوى تقويض سلطة الدولة الوطنية لحساب مراكز نفوذ مليشياوية أو محمية خارجيًا.

إن فرض "نصر غير مكتمل" على الجيش يحمل ثلاث نتائج كارثية:

إضعاف المؤسسة العسكرية معنويًا وسياسيًا: كيف يُطلب من جيش قدّم آلاف الشهداء أن يقبل تسوية تساوي بينه وبين من حاربه؟ كيف يُطالَب بالصبر على حماية شعبه، ثم يُمنع من حصد شرعية حماية الشعب؟ تفريغ التحول المدني من مضمونه: إذ لا يُمكن الحديث عن تحول ديمقراطي حقيقي في ظل وجود مليشيات خارج المؤسسة العسكرية الرسمية، ولا بوجود "شركاء سلام" لا يؤمنون بالدولة إلا إذا كانت ضعيفة. إضعاف ثقة الشارع في العملية السياسية: فالجمهور السوداني الذي دعم الجيش واستنفر أبناءه لجانبه؛ رفضًا للفوضى والقتل والاغتصاب، سيشعر بأن تضحياته ذهبت سدى إذا أُعيد دمج الجناة في السلطة.

إن أخطر ما في هذا النصر غير المكتمل، أنه لا يؤسس لسلام، بل لتعايش هش بين قوة تقاتل من أجل الدولة، وأخرى تستفيد من بقاء الدولة على شفا الهاوية.

الرباعية.. دور مشبوه وتجربة فاشلة

في الوقت الذي تتسارع فيه المبادرات الغربية لفرض تسوية تُبقي على جزء من التمرد ضمن بنية الحكم، تتصاعد في الداخل السوداني أصوات تحذّر من مصادرة القرار الوطني باسم "الحل الدولي".

فالتوازن الحقيقي ليس بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، بل بين رغبة الداخل في سلام يعيد للدولة هيبتها، وبين رغبة الخارج في تسوية تحفظ النفوذ وتُبقي البلاد تحت الوصاية الناعمة أو الفجّة. هذه الفجوة بين الداخل والخارج تتجلى بوضوح في الخطاب السياسي:

القوى الوطنية المستقلة ترفض أي مشروع يعيد دمج مليشيا الدعم السريع، وتطالب بسلام قائم على المحاسبة ونزع السلاح وتفكيك المليشيات. الشارع السوداني الذي دفع ثمن الحرب من روحه وجسده، يُدرك أن أي تسوية لا تعترف بمن انتصر ومن خان، ستكون مجرّد هدنة قبل انفجار جديد. بينما تواصل الرباعية الدولية الترويج لفكرة السلام "الشامل" الذي لا يُقصي أحدًا، حتى وإن كان هذا "الأحد" هو الجلاد.

وهنا يطرح الواقع سؤالًا لا يمكن تجاهله: هل أصبح القرار السياسي السوداني رهينة لموازين القوى الدولية؟ أم أن اللحظة الراهنة تستدعي جبهة وطنية عريضة تُعيد التفاوض من موقع القوة، لا من تحت سقف الابتزاز الدبلوماسي؟ إن من يُريدُ السلام حقًا، يجب أن يسأل أولًا: سلام مع من؟ وعلى أي أساس؟ لأن السلام ليس نزع سلاح فقط، بل استعادة معنى الدولة.

احذروا عودة الرباعية للواجهة

إن الرباعية، التي نشأت عمليًا عقب سقوط نظام البشير في 2019، دون تفويض شعبي أو دولي واضح، رفعت شعار: "دعم الانتقال الديمقراطي"، لكن تجربتها عكست مقاربة فوقية، سعت إلى فرض ترتيبات سياسية لا تنبع من الداخل السوداني، بل من حسابات إقليمية ودولية.

تاريخ الرباعية يشي بميلها إلى استثمار الهشاشة السياسية في السودان، خاصة خلال فترة حكومة عبدالله حمدوك، التي لم تحظَ بتفويض انتخابي، مما فتح الباب أمام تدخلات مباشرة في الشأن السوداني، أبرزها دعم مشروع "دستور المحامين" الذي وُجهت له انتقادات؛ لكونه يكرّس هيمنة نخبوية مدنية غير توافقية، ويمهد الطريق لتدخلات أجنبية تحت غطاء قانوني سياسي.

إعلان

 كما كان للدعم الذي حظي به الاتفاق الإطاري من قبلها – والذي ساوى بين المؤسسة العسكرية ومليشيا الدعم السريع – دورٌ كبير في خلق حالة من الانقسام الحاد داخل الساحة السياسية السودانية. وهو ما رأته تقارير حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" تهديدًا لاستقرار الدولة ووحدتها.

السلام الحقيقي من الداخل لا من العواصم

إن الحل الحقيقي لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يولد من رحم تسويات جزئية مفروضة، بل من حوار وطني شامل، ينطلق من الداخل، ويشارك فيه كل مكونات المجتمع. سلامٌ يُعيد هيكلة العلاقة بين المدنيين والعسكريين على أسس وطنية، لا على إملاءات دولية.

ويجب أن يكون هذا السلام قائمًا على:

نزع السلاح من المليشيات. دمج من تنطبق عليه الشروط في القوات المسلحة وفق قانونها. محاسبة من تورط في جرائم أو انقلابات. استعادة ثقة الشارع في مسار وطني حقيقي، لا شراكة وهمية مع من قادوا البلاد إلى الهاوية.

الخلاصة أن السيادة لا تُهدى، بل تُنتزع. فلم يعد السودان تلك الحديقة الخلفية التي تعبث بها الأيدي الأجنبية. لقد تغيّر الزمن، وتغيّر الوعي. وإذا كانت الرباعية تريد أن تكون فاعلًا إيجابيًا، فعليها أن تدعم خيارات الشعب لا أن تصادرها، وأن تُعلي من شأن الدولة لا أن تُساويها بالتمرد.

السلام لا يُبنى على التغاضي، ولا على التجميل السياسي للجراح. السلام الحق، هو الذي يستند إلى العدالة، ويُعيد الاعتبار للدولة، ويمنح الأمل للمواطن بأن دماء أبنائه لم تذهب سدى. فإما سلام يُعيد للسودان سيادته، أو تسوية تُعيد إنتاج أزمته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • طيران الجيش السوداني يقصف مواقع عدة
  • تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك
  • السودان يطالب المجتمع الدولي بتصنيف ميليشيا الدعم السريع جماعة إرهابية
  • الخرطوم: “الدعم السريع” ارتكبت “إبادة جماعية” والدول الراعية للمليشيا متورطة في الجريمة
  • من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟
  • هل تمهّد التطورات الاخيرة في إنهاء حرب السودان المنسية؟
  • السودان: دولتان عربية وإفريقية تعترفان برعاية مليشيا “الدعم السريع”
  • حميدتي: سيطرة «الدعم السريع» على المثلث الحدودي تهدف لتأمين السودان ومحاربة التهريب
  • إسرائيل والدعم السريع
  • مسؤولة أممية: خطر الإبادة الجماعية في السودان لا يزال مرتفعاً وسط هجمات عرقية تقودها للدعم السريع