«الفن هو الاختبار الأكثر انفتاحا لتصور العالم»..

أندريه مالرو

لا تستطيع المجتمعات أن تنهض اقتصاديا إلا عبر تحصيل نقاط قوتها الثقافية من داخل سياق اجتماع أفرادها لإنجاز عمليات البناء والتطوير اعتمادا على الفاعلين الذين يوفرون بإسهاماتهم الإبداعية رؤى وأفكارا لصالح تطوير الوعي العام وتثبيت الهوية الجمعية، والمجتمعات التي حققت قدرا من التقدم والرفاه وعت أهمية دور الثقافة والفنون كتجلٍ يكشف عن طبيعة الذات الاجتماعية محل العمل والإصلاح، فاللحظات الكبرى في تاريخ البشرية كانت في جوهرها انتفاضة معرفية أفسحت المجال للهوية الثقافية أن تتنفس وتثمر، وقد كانت الفنون الجسر الذي عبرت عليه الأشكال الكبرى الصانعة للمعرفة المشتركة بين أفراد المجتمع وربطهم بالذاكرة المحتشدة بـ«اللغة والتاريخ والأساطير ومفهوم العالم والقيم وقواعد السلوك ومعاني الوجود» وبذا تمتّنت الصلة بين الإبداع والوعي وانفتحت آفاق التمدن.

وفي الأنثروبولوجيا الثقافية الحديثة اُتخِذ من مفهومي (الحضارة «Civilization» – الثقافة «Culture») القاعدة الأساسية لفهم حَراك المجتمع وتطور بنياته الثقافية، فعبر 3 قواعد بات من الممكن إمساك لحظات الترقي الاجتماعي، فالثقافة مبدأ رئيسي لتنظيم العلاقات الاجتماعية بل وتبريرها، وما أنظمة التفكير التي يحشدها الأفراد لصالح فهم ذواتهم والعالم الذي ينتمون إليه، وبالتالي يحققون وجودهم عبره إلا نتيجة من نتائج عمليات ربط الاجتماعي بالثقافي وصولا إلى تأسيسات إيميل دوركايم حول «المؤسسات الاجتماعية» كونها التعبير الأشمل على هوية وطبيعة المجتمعات. والحقيقة أنه ولغياب الدرس الاجتماعي العربي فإنه سيظل من العصي علينا أن نفهم العلاقات بين مجمل البنى الاجتماعية، وهذا ما سيعيق عمليات البناء ويقعدنا عن تفعيل الثقافي لأجل الإصلاح والتطوير والإعمار.

والفن هو المقاربة الأكثر حساسية للحقائق التي تحيط بنا، فإنه حاجتنا للتأمل كمحرك للوعي، محاولتنا لتفعيل الخيال وترويضه وصولا إلى تجسيد أحلام اليقظة كلحظة جمال أكمل، والفنون هي الميادين الأوسع لتحقيق الحوار الاجتماعي كونها تقوم على عمليات تشاركية، حيث يجتمع أشخاص من مشارب ثقافية متنوعة للتعاون بشكل سلمي لأجل تطوير مجتمعهم والتعبير عنه بمختلف الأدوات؛ بـ«اللون والصورة والكلمة واللحن والنحت...إلخ». وعلاوة على ذلك، تعمل الأنشطة الفنية والثقافية على تعزيز تبادل الأفكار والنقاش المفتوح حول الاختلافات وتذيب الفوارق وتحقق الهدف الأسمى من الاجتماع الإنساني وهو التعايش، والذي بدوره يسهم بشكل كبير في تحقيق التفاهم المتبادل وبناء ثقافة التسامح، وبالتالي في بناء الثقة والتماسك الاجتماعي.

إن العلاقة بين الإبداع الثقافي والتنمية الاجتماعية تمر عبر 3 محاور هي: «السياق المجتمعي، والعمل الإبداعي الجماعي، والمحور الشخصي التكويني» وهذه هي أبعاد مفهوم الإبداع، وهو المفهوم المعروف في سياق العلوم الاجتماعية بـ«المفهوم/الشجرة» وذلك للدلالة على ارتباطه بكل الفاعليات الاجتماعية مهما بدا صَغُرْ حجمها لكنها تظل تمارس تأثيرا في جملة السياق الاجتماعي، فأفعال «النجارة، الحدادة، الزراعة...إلخ»، هي أعمال إبداعية بامتياز رغم أن هؤلاء يغيبون عن تصورنا للفعل الفني في المجتمع إلا أنهم يمارسون أعمالا إبداعية مدعومة بقيم وأشكال تغذي الوعي، وكذلك الألوان والأصوات والأشكال تؤثر مباشرة في سلوكنا ومزاجنا ووعينا النفسي، ذلك أن إيقاعا لحنيا قد يدفعنا إلى حالات من الإنتاج والصحة الجمالية، أو صوت يتفارع فيوقظ منمنمات في الذاكرة الوجدانية ما يسمح لنا بتحسين حالات الاتصال بالآخر، ويزرع فينا عمليات التكيِّف والانسجام، وكل هذا يحقق وظيفة الفن، فللفن وظائفه الداخلية والخارجية، وكل فعل اجتماعي أيا كانت تجلياته ومظاهره يصنع فينا صدى لحياتنا ويطور حساسيتنا تجاه ذواتنا ومجتمعاتنا.

كما أن عملية الإبداع عملية اجتماعية شاملة، والعناصر التي تشكل عملية الإبداع هي: «الأصالة، والإنتاجية، والخيال» كون الإبداع مفهوم معقد ومتعدد الأبعاد يجمع بين الجوانب والعمليات المعرفية، وكذلك الجوانب العلائقية مثل العلاقات مع المجموعات، والسياقات، والمحيط الاجتماعي والثقافي. والمؤثرات التي ينغمس فيها الإنسان ويتفاعل معها، وأي نشاط ثقافي هو مظهر حيوي لوجودنا، مظهر مرتبط ببناء أشكال جديدة للحياة، ويظهر الإبداع الثقافي ويتجلى في كل ممارسات الحياة اليومية، ومن هنا تنبع أهمية العمل الإبداعي كونه يشكل رافدا أساسيا من روافد التعبير عن الهوية الثقافية للمجتمع، وبالضرورة أن تستند عمليات التطوير والتنمية في الواقع على أسس من أصول معرفية تكون بمثابة التجلي الأكبر لما يحمله المجتمع من معتقدات وأفكار وعقائد ثقافية .

ومن الأشغال الرئيسة التي يجب أن يضعها من يقومون على إدارة الفعل الثقافي ألا يغيب عندهم أهمية الأبعاد الاجتماعية لأي نشاط ثقافي، ولفعل ذلك فإنه ينبغي أن تضع المؤسسات الثقافية على عاقتها تثوير الطاقات والعمل على صقلها بالتدريب المستمر، وربطها بشبكة من العلاقات بينها وبين الفضاء العام، فالدور الذي تلعبه الفنون والثقافة يعد الدور الأكبر والأهم في عمليات التنمية المستدامة بسبب أن أي عملية إبداعية أصيلة وصادرة عن الوعي الذاتي للفرد الاجتماعي، وعيه بموقعه، بهويته، بتمثيله للمجتمع، أي عملية كهذه تشكل هدفا مركزيا في الفعل الثقافي كونها تعزز وتقوي من العلاقات بين البنى والتكوينات المؤسسة للواقع وهذا هو الهدف العزيز.

إن دعوتنا لوزارات الثقافة العربية أن تعمل على تجسير الصلة بين الإبداع والمجتمع، وذلك هو الدور الذي ينتظرها بجعل الثقافة والفنون روافع للبناء، ولتفعل ذلك فإن أولى مهامها الاشتغال على بناء الفاعل الثقافي؛ فاعل واعٍ بدوره تجاه مجتمعه، ومؤمن بأصالة دوره التنويري.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الهيئة الملكية لمحافظة العُلا واليونسكو تختتمان مؤتمر (الابتكار في حفظ التراث الوثائقي لخدمة التنمية المستدامة في العُلا والمملكة)

المناطق_واس

اختتمت الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، بالشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فعاليات المؤتمر الدولي “الابتكار في مجال التراث الوثائقي لتحقيق التنمية المستدامة في العُلا والمملكة العربية السعودية”، الذي انعقد بمقر منظمة اليونسكو في باريس خلال الفترة من 29 إلى 30 أبريل 2025، ضمن إطار برنامج “ذاكرة العالم”.

وشهد المؤتمر حضور أكثر من 50 خبيرًا دوليًا متخصصًا في الأرشفة، وصون الوثائق، وإدارة مؤسسات الذاكرة، إلى جانب ممثلين رفيعي المستوى من 36 منظمة وهيئة دولية، وأكثر من 150 مشاركًا حضروا شخصيًا، إضافة إلى 600 مشارك افتراضي من 80 دولة.

أخبار قد تهمك نائب وزير الخارجية يلتقي سفير نيبال لدى المملكة 5 مايو 2025 - 11:43 مساءً السفير الحصيني يستقبل مسؤولة مصرية 5 مايو 2025 - 8:46 مساءً

وسلطت الجلسات النقاشية الضوء على أهمية التراث الوثائقي كونه عنصرًا محوريًا في حفظ الذاكرة الجماعية، ودوره في دعم التعليم، وتعزيز التفاهم بين الثقافات من خلال الحوار وتبادل المعارف، كما أكد المشاركون على أهمية التعاون الدولي، وبناء القدرات، وتبني الحلول الرقمية المبتكرة لضمان الوصول طويل الأمد إلى الأصول الوثائقية، لا سيما في المناطق المتأثرة بالنزاعات أو التغيرات البيئية.

وجددت الهيئة الملكية لمحافظة العُلا تأكيد التزامها بدعم التنمية المستدامة، من خلال الحفاظ على التراث وتبادل المعرفة، وذلك في إطار شراكتها الإستراتيجية مع منظمة اليونسكو، والتي تهدف إلى تمكين المؤسسات الثقافية الوطنية وتعزيز المشاركة المجتمعية.

وعلى هامش المؤتمر، أُقيم معرض “كلمات عن الذاكرة: إطلالة على التراث الوثائقي للمملكة العربية السعودية” في مقر منظمة اليونسكو، حيث استعرضت الهيئة جهودها في حفظ الذاكرة الجماعية عبر مخطوطات إسلامية، وخرائط تاريخية، وصور أرشيفية، وعروض رقمية، إلى جانب تجربة واقع افتراضي نقلت الزوار في رحلة إلى جبل عكمة أحد المواقع السعودية المدرجة ضمن سجل ذاكرة العالم لاستكشاف النقوش التاريخية الغنية، التي تسرد روايات وحضارات تعاقبت على العُلا عبر القرون.

كما شاركت وزارة الثقافة بجناح خاص ضمن المعرض، وسلط الضوء على مركز الذاكرة الثقافية السعودية، ومبادرات رقمية شملت “الركن الثقافي” وخطوط الكتابة العربية التي تم إطلاقها مؤخرًا، في تجسيد واضح لالتزام المملكة بحفظ الإرث الثقافي وتعزيز الهوية البصرية الوطنية.

واستعرض ممثلو اللجان الوطنية، ولجان ذاكرة العالم، والمؤسسات الثقافية من مختلف أنحاء العالم العربي، خططهم الإستراتيجية التي شملت تشكيل لجان وطنية متخصصة لبرنامج “ذاكرة العالم”، وتعزيز مواءمة السياسات بين الجهات الحكومية والمجتمع المدني، إلى جانب تطوير آليات وطنية جديدة لحصر وتسجيل التراث الوثائقي.

وسلّطت النقاشات الضوء على أهمية التعاون الإقليمي، حيث أعلنت عدة دول التزامها بدعم الترشيحات المشتركة لسجل “ذاكرة العالم” الدولي، والتي تعكس التاريخ المشترك والروابط الثقافية العابرة للحدود، كما تم تقديم خطط لتطوير منصة رقمية وأطلس وثائقي إقليمي لبرنامج “ذاكرة العالم” في دول الخليج، إلى جانب حملات توعوية وورش عمل لبناء القدرات؛ تهدف إلى دعم وتمكين مؤسسات الذاكرة الجديدة والناشئة في المنطقة.

ويُعدُّ هذا المؤتمر امتدادًا للشراكة القائمة بين الهيئة الملكية لمحافظة العُلا ومنظمة اليونسكو ضمن برنامج “ذاكرة العالم الدولي”، ومعهد الممالك، الذي يتطور ليصبح مركزًا علميًا إقليميًا رائدًا في مجالات البحث وصون التراث الثقافي.

مقالات مشابهة

  • العلوم الإنسانية والاجتماعية ودورها في تحقيق أهداف التنمية.. ندوة بآداب عين شمس
  • العاصمة الإدارية: إطلاق مشروع سكني ذكي يتوافق مع رؤية التنمية المستدامة
  • أبوظبي أول مركز خبرة إقليمي بمجال «التعليم من أجل التنمية المستدامة» في الخليج
  • للنحل أهمية كبيرة في تعزيز التنمية الزراعية المستدامة.. تعرف إليها؟
  • استفاد منها القضاة والأسلاك الأمنية..اختتام الورشة التكوينية في مجال حماية التراث الثقافي
  • التنمية الاجتماعية تدعو الدائنين والمدينين لمراجعة لجان حل الجمعيات
  • وزيرة التضامن الاجتماعي لـ النواب: مصر من أنجح دول المنطقة بملف الحماية الاجتماعية
  • التضامن الاجتماعي: اللجنة العليا للتشريعات بالوزارة ساهمت في إنجاز الملفات القانونية
  • "التضامن الاجتماعي": فريق التدخل السريع يتعامل مع 500 بلاغ خلال أبريل بنسبة إنجاز 100%
  • الهيئة الملكية لمحافظة العُلا واليونسكو تختتمان مؤتمر (الابتكار في حفظ التراث الوثائقي لخدمة التنمية المستدامة في العُلا والمملكة)