تدمير قبر الشاعر أبو العلاء المعرّي أول الغيث في مطر الجولاني
تاريخ النشر: 9th, January 2025 GMT
بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لم يدم طويلاً، القناع ( السلمي )، الذي ارتدته (هيئة تحرير الشام).. ولم تصمد رسائل التطمينات التي قدمها أبو محمد الجولاني – أحمد الشرع – إلى المجتمع الدولي – كما لم تقوَ أيام العسل ( الجولانية) على الوقوف أمام العقيدة السلفية الدموية، والنزعة الإجرامية المتجذرة في اعماق هذا التنظيم الإرهابي.
لذا استطيع القول اليوم، إن الأقنعة والمساحيق المدنية والديمقراطية، لم تثبت كثيراً أمام القوة الآيدلوجية العنفية، والذكورية المتأصلة لدى الجولاني وافراد تنظيمه، إذ سرعان ما سقط المكياج أمام أول امتحان حقيقي يخوضه نظام تحرير الشام ورئيسه .. فالقضية برأيي أكبر من مكياج تشذيب اللحية، أو ارتداء بدلة وربطة عنق.. فمن وعى وتثقف على مؤلفات وأفكار وعقائد ابن تيمية، وتربي على يد عتاة التطرف والكراهية كالزرقاوي والظواهري وابو بكر البغدادي لايمكن أن يصبح (ديمقراطياً) ورجلاً مسالماً و ( حباباً ) بمجرد ان يخلع بدلة القتل، ويرتدى (القاط ) وربطة العنق ..!
قد يتهمني بعض القراء بالتشاؤم، والاستعجال بإطلاق الرأي على الرجل، لكن الحقيقة واضحة وضوح الشمس، فما يجري في سوريا اليوم ينذر بمستقبل مظلم، وأيام سود لهذا البلد المظلوم، وهذا الشعب الجميل الذي يكفيه عذابه ومعاناته على مدى نصف قرن على يد عصابة الأسد، وتكفيه كؤوس المر التي تجرعها في معتقلات المخابرات، و أقبية ( الشبيحة ) والمليشيات وغيرها من مجاميع البعث الفاشية ..
إن الشعب السوري لا يستحق هذا الاضطهاد والاذى والتدمير والوجع المتواصل، فهو الشعب الذي قدم للثقافة والشعر والموسيقى والمسرح العربي والإنساني أعظم الأسماء والرموز الإبداعية.
وما يحصل اليوم في حمص مثلاً، من اغتيالات واختطاف وتغييب، وما يرافق ” الحملة الأمنية ” التي أعلنت عنها إدارة العمليات العسكرية لملاحقة من سمّتهم
” فلول النظام” في ظل محاولات التعتيم وقطع الاتصالات واختلاق المبررات والأكاذيب بحجج واهية، لهو أمر يدعو للأسى، ويكشف أيضاً عن حقيقة هذا التنظيم التكفيري العفن، ويفضح سياسة التسويق والتلميع التي تقودها تركيا وقطر بقوة، وتدعمها أمريكا وبعض دول اوربا .. فمحافظة حمص لم تكن الوحيدة التي تعاني، إنما ثمة محافظات ومناطق أخرى عديدة تعرضت من قبل عناصر هيئة تحرير الشام إلى فوضى وإطلاق نار واستعراضات للقوة، وهجمات واعتداءات على خلفيات طائفية بحتة.
وبحسب مصادر أهلية، فإن مسلحين ملثّمين يتبعون لإدارة العمليات، قاموا بإطلاق النار بشكل كثيف في أحياء المدينة، قبل أن يقوموا بتحطيم أبواب المنازل واقتحامها. كما تم القبض على عدد من الضباط في الجيش المنحل واقتيادهم إلى جهة مجهولة، بعد أن تم الاعتداء عليهم بالضرب أمام السكان، وإذلال بعضهم عبر إجبارهم على تقليد أصوات حيوانات امام عوائلهم وأطفالهم. إن ما جرى بأحياء حمص قد جرى مثله في مناطق الريف، حيث حصلت فيها أعمال انتقام وهجمات مسلحة منظمة، ذهب ضحيتها عدد من المواطنين، بينهم شقيقة وخالة الفنان الشعبي السوري المعروف (بهاء اليوسف). وإذا كانت ( ديمقراطية) الجولاني لا تستوعب مغنياً شعبياً مثل بهاء اليوسف، فكيف ستستوعب فنانين ذوي ألسنة طويلة لاذعة مثل دريد لحام وياسر العظمة و ايمن زيدان وباسم ياخور وغيرهم، وكيف إذاً ستقبل بوقوف فنانات جميلات كميادة الحناوي وأصالة نصري وامل عرفه وغيرهن على مسارح دمشق واللاذقية وغيرها؟!.
وهنا اود أن أستعين بالبيان الذي أصدرته قبل يومين مجموعة ” السلم الأهلي في حمص”وهي مجموعة أنشأتها فاعليات أهلية في المحافظة بعد سقوط نظام الأسد، وذلك «لضمان تعزيز السلم الأهلي في مدينة حمص، وبناء جسور التواصل بين جميع مكوّنات المجتمع بمختلف أطيافهم”، وقد كشفت فيه بعض جوانب الاعتداءات التي يتعرض لها سكان حمص.. وذكر البيان: « أنه تم تسجيل حالات تفتيش للهواتف المحمولة من دون مبرّر قانوني، وتدمير ممتلكات شخصية في حمص، مثل الآلات الموسيقية، وطرح أسئلة بطرق مهينة حول الانتماءات الطائفية. كما تم توثيق العديد من الحالات المشابهة بالصور ومقاطع الفيديو في عدة مناطق مثل شارع محمد الفاضل، و إسكندرون، ومحيط خزان المياه في الزهراء، ومحيط ساحة السبع شجرات في السبيل.
كما تم تسجيل استخدام مفرط للقوة في حالات (تفتيش ) عدة، تم فيها إجبار النساء والرجال على الوقوف بشكل منفصل مع توجيه إهانات لفظية وشتائم إليهم. وفي أحياء أخرى مثل المضابع، سُجلت الكثير من حالات الضرب والشتم لمواطنين ومواطنات، أو شتم بعض النساء لأنهن لم يكنّ يرتدين أوشحة على رؤوسهن، فضلاً عن إطلاق النار في الهواء في الأحياء مع دخول القوات إليها، بطريقة عشوائية تثير الذعر والرعب غير المبرر .
وفيما أكدت المجموعة توثيق حالات فرضت فيها القوات العسكرية على بعض الموقوفين ” إصدار أصوات مشابهة لأصوات بعض الحيوانات، بغرض الحط من قيمتهم كبشر، وهي ممارسات تذكّرنا بممارسات النظام البعثي السابق، وتُعتبر انتهاكاً صارخاً للكرامة الإنسانية” وقد أشار البيان إلى أن المجموعة الأهلية حاولت التواصل مع قادة الهيئة السياسية لتوضيح الموقف ومعالجة هذه التجاوزات، من دون أن تتلقّى أي ردود حتى الآن، كما طالبت بتشكيل فرق مدنية مرافقة للعملية الأمنية، وإدانة الانتهاكات، والتوقيفات، موضحة أنه «تم تسجيل 118 حالة توقيف خلال الحملة في يوم واحد»، مطالبةً بـ«الكشف عن قوائم الموقوفين وإبلاغ ذويهم بأماكن احتجازهم والتهم الموجّهة إليهم».
وتأتي هذه الأحداث بعد نحو أسبوع على مواجهات ذات خلفية طائفية شهدتها بعض المحافظات السورية مثل اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص وبعض مناطق دمشق أيضاً ..
إن تجاوزات واعتداءات عناصر هيئة تحرير الشام لم تتوقف بحق الأبرياء حتى يوم أمس، حيث قام بعض أفراد القوة الأمنية التابعة لهيئة تحرير الشام في كليات (جامعة حماة)، برفض تسليم أوراق الامتحان إلى الطالبات (السافرات ) إلا بعد تقديمهن تعهداً خطياً بارتداء الحجاب بعد انتهاء الامتحانات ..!
لقد حصل هذا مع جميع الطالبات بما في ذلك الطالبات غير المسلمات !. إن هذا النظام التكفيري الذي هدم أمس قبر أبي العلاء المعري، وهو الشاعر الذي أضاء ظلمات الفكر بعبقريته الفذة، رغم أن المعري (سوري )، مولود في حلب ومتوفى فيها أيضاً.. أقول: إن نظاماً غير قادر على استيعاب شعر وفلسفة شاعر متوفى قبل حوالي 1200 سنة، شاعر لم ينتقد جرائم الجولاني، أو يشتم الحاج أردوغان، أو يلعن الشيخ القرضاوي، كيف سيتعامل مع مسرحيات الماغوط الناقدة حد التدمير، أو يتقبل غزليات نزار قباني ، أو يوافق على غناء سارية السواس وفرقتها الغجرية المثيرة؟!.
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات تحریر الشام
إقرأ أيضاً:
تجليات الطبيعة والطفولة في «وعود اليمامة لجسد معطوب»
يقدم الشاعر أحمد الرمضاني تجربته الأولى، ويمزج في هذه التجربة ما هو شعري بما هو سردي، دون أن يُصنّف هذا الإصدار، فهي نصوص تقترب من تخوم السرد وتشتبك مع اللحظة الشعرية وتفجرها، محاولة الإمساك بالصورة الشعرية بإتقان السارد وخيال الشاعر، من خلال لغة نابضة بالحياة والتحولات، تجربة ينحاز فيها الرمضاني إلى ما هو بسيط وعادي وعميق في الآن ذاته، ينحاز إلى اليومي والطفولي والجمالي والحنيني فينا، من العتبة الأولى نجد الانحياز التام إلى تجليات الطبيعة ومظاهرها، فهذه اليمامة الواقفة على غصن العنوان لها حضورها ووعودها وحنينها وخطاباتها في نصوص المجموعة، والجسد المعطوب بالفقد واليتم والألم يُشفى بالحنين والطفولة، فهذا الجسد المنكسر بالوجع يبحث عن صوت يشفيه، عن صوت طائر أو ظلال شجرة أو صوت الماء في السواقي ليشرق، فكل ندوب اليتم والفقد الطافحة في الجسد المعطوب لهما ما يشفيهما داخل ظلال النصوص، فعلى المتلقي والمنصت لهذه النصوص أن ينصت إلى هذه الوعود الخفيّة التي تتلوها يمامة الشاعر، فصوت اليمامة ووعودها يندسان في تناقضات وتشظيات المعنى داخل النصوص، فيأتي هذا الصوت الجمالي الشفاف والمرادف للسلام مع نعيق الغراب الذي يحمل كل صيحات الشؤم والخراب، «حلّقت نوارس وضحكات أطفال، وبلا مبالاة لطيفة رفرفت حولي، وباللامبالاة ذاتها تجاهلت نعيق غراب يراقب المشهد عن كثب ... في تلك اللحظة المحتدمة بالتناقضات... تذكرتُ وعود اليمامة» ص26، فهذا المشهد الشاعري السينمائي يختتم بوعود اليمامة رغم نعيق الغراب، فيمامة الشاعر تنثر وعودها وأحلامها داخل النصوص، وتكشف لنا رغبة الشاعر في القبض على لحظة سلام طفوليّ، فروح الشاعر القلقة من الرحيل والفقد والغياب الجمالي لكل ما هو طفولي، دفعت -هذه الروح- للانغماس الكليّ في جوهر الطبيعة بكل تفاصيلها وأزمنتها وفصولها.
«البيوت التي ترحل عنها الأم يطوّقها الصمت إلى الأبد، العيون تسرح في الزوايا كي لا تلتقي عينًا أخرى، فيتحطّم زجاج في القلب والذاكرة، والآذان تبحث عن ضجيج عابث كي لا يستدرجها الصمت فتسمع وقع خطوات الموت وهو يقرع أجراس البيوت... ويهرب بعيدًا ... بعيدًا...» ص25.
كل هذا الفقد واليتم والغياب الجارف الذي يُطارد روح الشاعر نجد تجلياته ومظاهره في الطفولة والطبيعة والراحلين والموتى، فالغياب يسبر معنى الحنين في روح الشاعر، والألم الذي يحاصر قلق الشاعر، يغتسل بظلال الطبيعة، فالحضور الطاغي للطبيعة في نصوص المجموعة هو تعويض جماليّ حالم عن غياب الطفولة وفقد الأم، فحلّت هذه الطبيعة مكان هذا الغياب الشاعري والمجازي، لتمنح الشاعر أمومة أبديّة، يذهب الشاعر إلى الطبيعة ليرمم فقده، ويلتحم مع الطفولة ليؤسس له نظرته الخاصة للعالم والأشياء.
«تلك النسمة الباردة التي لا تكاد تلمس رأسي
كفيلة بأن توقد الحنايا والضلوع
كفيلة بأن أمسك بزمام اللحظة وأشاغب الأبد». ص17
فالنسمة الباردة تكفي الشاعر لتتفجر بداخله هذه العوالم المختلفة، عوالم يهرب إليها، يتمسك بها، ليشكل لحظته الأبديّة.
حتى في النوم تظلُّ حواس الشاعر ومشاعره متيقّظة ومتأهبة إلى صوت يمامة في الفجر، ويخشى أن تتلو هذه اليمامة وعودها وهو غارق في نومه وغيابه،
«وأنا نائم تبقى حواسي متأهبة، أذناي توّاقتان إلى صوت يمامة في الفجر». ص31
هذا الحضور الطاغي للطبيعة ومظاهرها على عوالم نصوص المجموعة وثيماتها يدفعنا إلى السؤال عن دوافع الهرب التي يتشبث بها الشاعر؟ ولماذا وجد جنته وكينونته في هذه الطبيعة التي لا تفارق الطفولة؟ هنا نلحظ بأن طفولة الأرضِ تُمثّلها هذه الطبيعة الحُلميّة التي يُحاول الشاعر الإمساك بها، كما يحاول بكل صوره ولغته الإمساك بطفولته.
«فقاقيع تهرب من فم شاعر يؤنس بها عزلة مكتظة بوجوه الراحلين أو سهام تثقب القلب وتكشف حُجبا وسماوات
من أنتِ؟
من نحن؟». ص15
فنحن هنا أمام غاية لهذا الهروب والارتماء في الطبيعة، وهو البحث عن عزلة؛ لكنها ليست عزلة خالصة، بل عزلة مكتظة بوجوه وأرواح الراحلين أو سهام تكسر قلب الشاعر، فالراحلون يشكّلون هاجسًا شعريًّا ووجوديًّا للشاعر، فنجد ذلك مُتمثلًا في نصين داخل المجموعة، نص: الفراشة التي أغراها النور، ونص معنون: إلى روح العم عبد الله الحسيني، يتسلل هذا الغياب إلى روح النصوص لينثر الألم الوجوديّ للموت، لكن الشاعر يصرُّ على استحضار الطبيعة ليكسر جبروت الموت المرعب، ليجعل من الطبيعة مساحة لكسر الغياب والفقد الذي يكسر روحه:
«القلوب مُعِشبة بالغياب
مورقة بالفقد». ص52
وحين نتتبع الحضور الشاعري الحلمي لهذه الطبيعة في الديوان نجد -هذا الحضور- مقترنا بثيمتين أساسيتين في النصوص، وهما: الطفولة والقرية. فالطفولة بكل تجلياتها امتزجت بتفاصيل الطبيعة، وهذا الامتزاج والالتحام بينهما لا يأتي إلا في ساحة القرية وتفاصيلها وعوالمها، وتمثل القرية حالة حُلمية مفقودة، فالشاعر يبحث عن قرية الطفولة البعيدة عن تشوهات الحداثة والمدينة، ويقترن هذا الحضور الثنائيّ بين الطبيعة والقرية ويتجلّى في الفجر، أول الفجر تحديدا «القمر فجرا لا يزال مرابطًا، أيها الصخريّ الذي يسحرنا بالنور، نحن أيضًا من طين يمكننا أن نشعَّ لولا عطبٍ قديمٍ في الروح». ص38 ، تنحاز النصوص بشكل كليّ إلى هذا المُثلث من الثيمات: الطفولة والقرية والطبيعة، تحضر أحيانا متلازمة ومتتالية، وأحيانًا أخرى منفردة، تحضر بدلالاتها المباشرة، أو تلميحًا لها، ويتشبث الشاعر بمعجمها، وبهذا التلازم تتشكل لنا الصورة الشعريّة في النصوص، «رأيت الفجر بأم عيني يكتحل زرقة البحر، ورأيته مرةً يترجل من شجرة الغاف الكبيرة، رأيت أحد الفلاحين يحمل الفجر على كتفه كفأس رشيقة ويفلق صخرة الليل ... رأيت الفجر». ص39، فتشكلت الصورة الشعرية في المقطع السابق من خلال مفردات الطبيعة: البحر والغاف، والفلاح الذي يلتحم بالطبيعة، كلُّ ذلك مع الضديّة التي تحملها الدلالات الزمنيّة بين الليل والفجر، فمن خلال بوابة الطبيعة وضديةّ الزمن شكّل الشاعر صوره وخطابه الشعريّ.
وهذا ما نجده كذلك في المقطع التالي، حيث تفجرت الصورة الشعرية من خلال مجموعة من تمظهرات الطبيعة، بدءًا من الجبال ومرورًا بالبحر والغيم، وليس انتهاءً بشتلات الزعتر، ولا يمكننا أن نغفل دور الرعاة المرتبط بفاعليته مع روح الطبيعة والطفولة.
«مرحى يا جبال الحجر الأزليّة أكُلّما شممتُ رائحة البحر في غيمة زاجلة، جُنّت في خواصرك شتلات الزعتر، وارتجل الفرح الجارف أغانيه في عيون الأطفال والرعاة الهائمين؟!». ص20
يحفر أحمد الرمضاني الذاكرة، يستحضر صورها وشخوصها، أشجارها وحيواناتها، يصطاد من لغة الأطفال وأحلامهم شذراته، ويحوّل ألمه الشخصي إلى تجربة إنسانيّة عميقة، ففي نصه «التفاحة الحمراء»، حيث يتتبع الشاعر مكانا واحدا، هو المستشفى، الذي شهد رحيل الأم، وولادة الطفلة، وإصابته بالمرض، تتداخل الأزمنة والمشاعر ويتعمق الشعور بالألم، «أخبرني الطبيب في إحدى زياراته أن هذا النوع من (الساركوما) عادةً ما يصيب الأطفال، قلتُ إذن هي حالة من الاثنتين؛ إما أن المرض يراني طفلًا وهذا نبلُ منه، أو أن جسدي تصدّى لأحد سهام القدر كانت في طريقها إلى جسد طفل ضعيف فالتقفها عنه، وهذا يرضيني كثيرًا». ص61، حتى في أصعب اللحظات وأقساها لا يتخلّى الشاعر عن استحضار روح الطفولة ليخفف من سهام المرض، فهو في كلتا الحالتين يرضى بما أصاب جسده وروحه.
تحضر الطبيعة بكل تجلياتها في نصوص أحمد الرمضاني بوصفها مرتكزًا جماليًّا أساسيًّا، فلا يخلو مقطع من نصوص المجموعة دون أن نجد ظلالا لهذه الطبيعة، طبيعة يذهب إليها بحنينه الطفوليّ، وبأحلامه الشاعرية، بوصفها الفقد والحضور، ينحت الرمضاني جوهر هذه الطبيعة، يبحث عن روحه في ظلالها، «أجمل استشفاء روحيّ ممكن أن تتجول بين قوافل النخل المُقمِر في قريتك المنعزلة، منسيًّا وناسيًا ومتناسيًا». ص13. فقوافل النخيل الممتدة هي من تشفي روح الشاعر من جروح الحياة والفقد، ومع هذا التشافي الذي يرغب فيه، فهو يبحث عن عشبة العزلة، فيريد أن يكون منسيًّا من البشر، وناسيًا كل ما يشغله عن هذا التماهي الروحيّ، أو أنه يذهب إلى لعبة النسيان بكل وعيه وإصراره، فهو ليس سائحًا بل عاشق لهذه الطبيعة، «من الفلج أسرق شروده، ولامبالاته كأن أكون نخلة تعانق مئذنة وتصغي معي إلى الصمت في تدفقه الدائم، سريانه في عروق القرية». ص18، لا يكتفي بما تمنحه إياه الطبيعة، بل يريد أن يسرق بشكل جمالي شرود الفلج، وأن يصبح نخلة تعانق المئذنة، كل هذا التوغل في روح الطبيعة ليس لمعرفة مكنوناتها، بقدر ما هي رغبة شاعرية للكشف عن جوهر الطبيعة وتجلياتها المفقودة، وهذه التجليات مرتبطة بطفولة الشاعر.
ورغم الحضور الكثيف لمظاهر الطبيعة وما تحمله من دلالات على الحياة والوجود، إلا أن الموت وصوره يحضران بكثافة في النصوص، وكأن هذه الحياة التي تنبثق من روح الطبيعة لا تتشكل إلا من خلال نقيضها؛ وهو الموت.
«ولأني أمشي حافي القلب منذ دفنت أمي
لم ألتفت ولم أتلفت
أصبح القلق كلبي الذي لا ينبح
والزمن
ديكًا يصيح في الظهيرة
فلتعوِ الريح
ولتقمِ الحروب». ص42.
فالموت الذي يسبر الشاعر مجاهيله ودروبه لا يقتصر على الموت الواقعي المباشر، بل مرتبط كذلك بالغياب والفقد، فغياب الطفولة، وروح القرية ونمط معيشتها، وصوت الطيور، والأشجار التي تحضر في ذاكرة الشاعر بوصفها رفيقة للطفولة، كل ذلك هو موت بشكل مجازيّ يسبره الشاعر بمخيلته وحنينه.
«النخلة الوحيدة في طرف القرية تفرد شعرها للريح منعتقة وحرّة لا تفكر وربما لا تحلم، الماء القليل الراشح في النسغ القادم من أقاصي الفلج يدسُّ فيها معنى خفيًّا للحياة..
النخلة الوحيدة مثل شاعر غريب». ص8
تذهب نصوص أحمد الرمضاني إلى عوالم الطفولة والموت والطبيعة، ويسبر معنى الأمومة المفقودة، ويُشيّدُ عالمًا طفوليًّا حالمًا، لكنّه في الوقت ذاته غائب، يحاول استرجاعه، وبين هذه العوالم تحضر الأشجار والطيور لتأثث عالم الشاعر الذي لم يغادر طفولته، أو الطفل الذي كان يتلمس الشعر بكل حواسه ومخيلته وخيالاته.