نجيب الشابي للجزيرة نت: الحل في تونس بالعودة للحكم الديمقراطي لا حكم الفرد
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
تونس- قال زعيم جبهة الخلاص المعارضة نجيب الشابي، في حوار خاص للجزيرة نت بمناسبة الذكرى الـ14 للثورة التونسية، إن الأوضاع السياسية والاقتصادية في تونس شهدت تدهورا خطيرا بعد 25 يوليو/تموز 2021، مؤكدا أن الحكم الفردي الذي استحوذ عليه الرئيس قيس سعيد لم يكن حلا للأزمة بل فاقمها.
وأضاف الشابي أن الخوف أصبح جاثما على المجتمع التونسي بمنظماته وأحزابه بسبب القمع، مشيرا إلى غياب أي مؤشرات تدل على تراجع النظام عن استبداده.
في ما يلي الحوار:
اليوم يوافق الذكرى الـ14 للثورة التونسية، فما تقييمكم للأوضاع خاصة بعد 25 يوليو/تموز 2021 تاريخ إعلان الرئيس قيس التدابير الاستثنائية؟الثورة التونسية كانت مفاجئة للتونسيين وللعالم بأسره، لأنها لم تكن منتظرة، وأفرزت فراغا على مستوى الدولة، خاصة في رأس السلطة (بعد هروب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011).
هذا فتح مجالا لإحداث التغيير الذي حمل كثيرا من تطلعات التونسيين والعالم بأسره الذي نظر لهذه التجربة بتفاؤل كبير.
وهذا الفراغ دفع بالنخب السياسية المعارضة إلى واجهة السلطة، غير أنها لم تكن متهيئة لذلك، بالنظر إلى أن النظام القمعي السابق كان يقصيها من الحياة العامة، باعتبار أن هناك شخصيات معارضة كانت تحت الإقامة الجبرية أو كانت في المنفى أو في السجن أو ممنوعة حتى من العمل الإداري.
إعلانفبالتالي لما تولت قوى المعارضة الحكم (بعد سقوط نظام بن علي) لم تكن مهيأة، وأضاعت وقتا طويلا في الصراع الحزبي من أجل النفوذ، مما ولّد خيبة أمل كبيرة لدى عامة المواطنين وانتهى الوضع إلى ما انتهى إليه في 25 يوليو/تموز 2021 تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيد التدابير الاستثنائية واستحواذه على جميع السلطات.
هذا يعني أن الرئيس قيس سعيد استغل عدم الاستقرار الحكومي وشلل مؤسسات الدولة ليحدث انقلابا، بمعنى أنه استولى على كامل السلطات وأخضع لسلطته السلطتين القضائية والتشريعية والتنفيذية.
ألم تنتبه السلطة السياسية قبل محطة 25 يوليو/تموز 2021 إلى ما يمكن أن يحدث لها بسبب استفحال الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة أنها مارست الحكم لنحو عقد كامل، وعلى الأقل أصبحت لديها معرفة بدواليب الدولة؟هذا السؤال يهم الفئة التي كانت حاكمة قبل 25 يوليو/تموز 2021 دون استثناء، فكل الأحزاب التي شاركت في الحكم كانت مسؤولة بدرجة أولى عن الصراع على النفوذ بما فيها حركة "النهضة" وحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل والتيار الديمقراطي" و"حركة نداء تونس" وحزب "تحيا تونس"، وهو ما أدى إلى خلق نفور لدى الرأي العام وخلق عدم استقرار حكومي وشلل مؤسساتي، استغله الرئيس قيس سعيد المنتخب عام 2019 ليُحدث تغييرا آلت بموجبه كل السلطات التنفيذية والتشريعية إليه، ووضع يده على السلطة القضائية منذ 25 يوليو/تموز 2021.
خلافا لما حدث في كوريا الجنوبية مؤخرا حيث خرج المواطنون لمنع الرئيس الكوري من عزل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ والاستيلاء على كل السلطات، خرج في تونس الناس يهللون بما حدث في 25 يوليو/تموز 2021 التي قام بموجبها الرئيس بإعلان التدابير الاستثنائية وتجميد البرلمان والاستحواذ على كامل السلطات.
إعلانلكن اليوم بعد ثلاث سنوات ونصف، اتضح أن العودة للحكم الفردي لم يكن حلّا للتونسيين لأنه كانت لديهم انتظارات (تطلعات) اجتماعية ملحة، بينما نلاحظ اليوم أن الأوضاع الاجتماعية أصبحت أسوأ مما كانت عليه قبل 25 يوليو/تموز 2021 بسبب شح المواد الأساسية وغلاء الأسعار وتراجع النمو إلى 0% سنة 2023، وهي بالكاد تناهز 1% سنة 2024، مع ارتفاع نسبة البطالة إلى 16% وارتفاع نسبة التضخم 7% رغم تراجع الأسعار عالميا في عديد المنتجات، هذا إضافة إلى ارتفاع نسبة الفقر بحسب المعطيات الرسمية.
هذا إلى جانب تعطل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ولجوء الدولة إلى التداين من السوق الداخلية، من البنك المركزي التونسي والبنوك المحلية، مما شوّش على تمويل الاستثمار الخاص. فضلا عن لجوء الدولة إلى تقليص حجم الواردات ضمن خطط التقشف في احتياطي العملة الصعبة مما قلّص من واردات المواد الأولية الموجهة للتصنيع الداخلي وبالتالي تقلص الإنتاج وانخفض النمو الاقتصادي.
بالتالي، ما وصلنا إليه بعد ثلاث سنوات ونصف من الانقلاب الذي وقع في تونس يدل على أن الحكم الفردي ليس الحل فضلا على أنه عمق الأزمة السياسية في البلاد. ففي الوقت الذي نجري فيه هذا الحوار قل وندر من الزعامات السياسية أو رموز الإعلام أو رموز منظمات المجتمع المدني التي ليست وراء القضبان.
هناك حالة من الإحباط يرافقها سكون وصمت لدى الأحزاب والمنظمات الحقوقية؟ هل هذا مرده الخوف من القمع أم أنها حالة من الاستقالة من الشأن العام؟في جانب منه الخوف الذي له تأثير على الجسم الاجتماعي والمجتمع المدني والأحزاب السياسية والمواطن العادي، لكن ليس هذا فقط حيث أن خيبة الأمل للتونسيين من التجربة السياسية لما قبل 25 يوليو/تموز 2021 لا تزال تؤثر في الجسم الاجتماعي، والمواطن التونسي -حسب اعتقادي- ليس لديه طموح للتغيير السياسي حاليا، خاصة أن أزمة الثقة في الأحزاب السياسية لا تزال مستمرة من جهة، بينما لا تزال الأحزاب السياسية سجينة الصراعات الماضية لما قبل 25 يوليو/تموز، وأبسط دليل على ذلك أنه في الذكرى الـ14 للثورة التونسية هناك مسيرتان احتجاجيتان منفصلتان للمعارضة (أمس الثلاثاء) بسبب الانقسام في المعارضة.
إعلانولكن عدم الاستقرار الحاصل في تونس هو عنوان المرحلة، وبالتالي الحل ليس في الاستمرار على هذا الوضع، بل في العودة إلى الحكم الديمقراطي عبر حوار وطني جامع لا يقصي أي أحد ويتطرق إلى الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية الملحة حتى تنهض تونس من جديد ونعود إلى انتخابات حرة ونزيهة بنهاية هذا المسار. الحل في العودة للحكم الديمقراطي، وليس في الحكم الفردي.
دون أدنى شك يقوم التغيير الذي وقع في سوريا بالتأثير بعمق في المواقف العربية سواء في السلطة أو لدى الرأي العام. والدرس الذي يجب استنتاجه من الحدث السوري هو أن أكثر من 5 عقود من الدكتاتورية الوحشية الضارية، من حيث التعذيب والقتل والمقابر الجماعية وغيره، ذهبت خلال أيام معدودة أدراج رياح الحرية التي هي قدر كل شعوب المنطقة والعالم بأسره، وبالتالي كل من سيعطل الحرية في الوقت الراهن محكوم عليه بالفشل آجلا أم عاجلا.
ولكن ما أخشاه هو أن تعلق الناس أمنيات واهية بأن تراجع منظومة الحكم الحالية نفسها بحل قريب نابع من إرادتها يقوم على الحوار بين السلطة والمعارضة. وأظن أن بين هذا التمني وما يجري في أرض الواقع بونا شاسعا.
وبالتالي على جميع القوى الديمقراطية أن تعول على نفسها وأن تجتمع لتهيئة هذا الحوار الوطني والضغط على السلطة من أجل تنظيم هذا الحوار الوطني، عوضا عن التوهم بأن تصدر مبادرة سياسية من السلطة للتحاور مع هذا الطرف أو ذاك.
وأنا شخصيا، لا أعتقد أن هنالك مؤشرات قادمة من السلطة تفيد بأن ثمة توجها لإحداث انفراج سياسي أو إطلاق سراح الإعلاميين أو المساجين السياسيين الذين يقبعون في السجون بتهم واهية تتعلق بالتآمر على أمن الدولة باعتبار أننا نستمع كل يوم إلى عمليات توقيف وملاحقات جديدة.
إعلان ما موقفك من الاتهامات الموجهة للسياسيين المعارضين الذين يواجهون خطر أحكام سجنية قاسية في ما تُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة؟في الحقيقة، إن المساجين السياسيين المعتقلين ليسوا أشخاصا نكرات، إذ لديهم عقود من الزمن في الحقل السياسي ومعروفون بطابعهم السلمي وتمسكهم بالقانون، وأنا واحد منهم محال على هذه المحاكمة رغم أنه ليست لدينا أي علاقة لا بالإرهاب ولا بالتآمر على أمن الدولة. وكل الذين اليوم وراء القضبان وقع الاستماع إليهم مرة واحدة خلال 22 شهرا مرت منذ فبراير/شباط 2023، وسيحالون إلى المحاكمة بتهم خطيرة جدا لا أساس لها في الواقع، وربما تفكر السلطة بأن هناك ضرورات أمنية تدفع لمحاكمتهم عن بُعد وهضم حقهم في المحاكمة العلنية.
للأسف الشديد، ليس لدي أي مؤشر في الواقع يجعلني أستشعر وجود انفراج في هذه القضية بالذات. لكني أتمنى أن نذهب على الأقل في محاكمة مفتوحة يحضرها الإعلام ليتأكد الرأي العام أنها قضية مفتعلة لا أساس لها من الصحة.
الرئيس قيس سعيد تجول قبل يومين من الذكرى الـ14 للثورة التونسية وسط تهليل من مواطنين، ألا تعتقد أنها رسالة بأنه يحافظ على شعبيته؟لا يوجد أحد في السلطة ليس له أنصار، فحتى بشار الأسد قبل أن يسقط بساعات كان لديه أنصار، وبالتالي هذه المظاهر لا تعني شيئا، ثم أن حالة الإحباط والانكسار التي يعيش عليها المواطن التونسي ليست صفة بنيوية في شخصيته الاجتماعية لأنه يحاول أن يتأقلم مع الوضع.
لكني أعتقد أن خيبة الأمل الحاصلة في تونس ستتبعها مرحلة من التغيير، ولا أحد يتوقع متى سيحدث ذلك أو كيف سيحدث؛ ذلك أن التغيير في تونس انطلق إثر صفعة ووجهتها إحدى الشرطيات لبائع متجول قام بإحراق نفسه أمام محافظة سيدي بوزيد في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 فتفجرت الثورة وانهار النظام في 14 يناير/كانون الثاني 2011.
إعلان جبهة الخلاص كانت من أبرز تشكيلات المعارضة للرئيس قيس سعيد، لكن دورها تراجع واختزلت نشاطاتها ببعض البيانات والمسيرات. هل تشهد الجبهة انقسامات أثرت على أدائها؟الجبهة هي جزء من المكونات السياسية التونسية وتتأثر بما يتأثر به التونسيون. انطلاقتها بعد 25 يوليو/تموز 2021 كانت انطلاقة قوية ونجحت في حشد آلاف المواطنين للاحتجاج ضد تفرّد الرئيس سعيد بالحكم، لكن بعد دخول تونس مرحلة من التضييق والقمع واعتقال عشرات القيادات السياسية وغلق مقرات جبهة الخلاص، وحركة النهضة أحد مكونات الجبهة، وتفشي شعور الخوف في الأوساط السياسية تأثرت الجبهة في أدائها بهذا المناخ.
ثم جاءت الانتخابات الرئاسية الأخيرة وخلقت خلافات داخل جبهة الخلاص بين من كان يرى أن الانتخابات فرصة للتغيير ومن كان يقول إن الانتخابات مجرد تجديد بيعة للرئيس قيس سعيد، وإن كل الإجراءات اتخذت حتى تكون الانتخابات مسرحية.
وهذا الخلاف استفحل لدرجة أن الجبهة عجزت عن إصدار موقف موحد سواء بالذهاب للمشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها. لكن حاليا الجبهة متماسكة واستعادت مسارها ليس فقط بإصدار البيانات، بل عبر الدعوة للتظاهر السلمي في الشارع، حيث سنجدد دعوة لبقة لمكونات المعارضة لتنسيق العمل فيما بينها والتحضير لمؤتمر وطني جامع لكل القوى للاتفاق على خريطة طريق لإخراج تونس من أزمتها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الرئیس قیس سعید جبهة الخلاص فی تونس من أجل
إقرأ أيضاً:
نتنياهو على موعد مع كابوس في تموز .. هل قررت الحاخامية تفكيك إسرائيل؟
#سواليف
في حين يستعد #الجيش_الإسرائيلي لإصدار أكثر من 54 ألف أمر #تجنيد لطلاب #المدارس_الدينية_الحريدية بدءا من يوليو/تموز المقبل، في تطبيق فعلي لقرار المحكمة العليا الصادر في يونيو/حزيران 2024، والذي أنهى الإعفاءات طويلة الأمد الممنوحة للحريديم من الخدمة العسكرية.
تفجرت #احتجاجات واسعة بين #المتدينين_اليهود ضد هذا الإجراء، وزادت ضغوط الأحزاب الحريدية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين #نتنياهو مهددة بالانسحاب من الائتلاف مما يعرض الحكومة للانهيار، وما يهدد أيضا بأكبر أزمة اجتماعية تشهدها #إسرائيل من الداخل.
وفي مقال رأي موسع عن هذه الأزمة الداخلية، تناول الكاتب إيهاب جبارين المتخصص في الشأن الإسرائيلي الأبعاد العميقة لهذه المشكلة التي تتجاوز البعد القانوني أو السياسي، لتطال جوهر الدولة وهوية المجتمع.
مقالات ذات صلةفهذه الفئة الدينية، التي تحظى بإعفاء تقليدي من الخدمة العسكرية منذ “صفقة بن غوريون” في الأربعينيات، باتت تُشكّل عبئًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا متزايدًا، وسط تصاعد الاحتجاجات من فئات واسعة في المجتمع الإسرائيلي، لا سيما بعد صدور حكم المحكمة العليا في يونيو 2024 الذي ألغى الإعفاء وأوقف تمويل مدارس اليشيفوت الدينية الرافضة للتعاون مع قانون التجنيد.
وآتيا نص المقال :
في قلب السياسة الإسرائيلية، حيث تتصادم رؤى الهوية والمساواة، تبرز قضية تجنيد الحريديم كقنبلة موقوتة تهدد استقرار الائتلاف الحاكم، بل وجوهر الدولة نفسها.
ليست هذه مجرد معركة قانونية حول إلزامية الخدمة العسكرية، بل هي سؤال وجودي: هل إسرائيل دولة قومية موحدة، أم طيف من الطوائف المتصارعة؟ هل يمكن للدولة أن تستمر في تحمّل أعباء مجتمع يرفض المشاركة في الدفاع والإنتاج، بينما يطالب بحقوق متساوية؟
هذا المقال يغوص في أعماق هذه الأزمة، مستندًا إلى مصادر عبرية وتحليلات داخلية، ليقدّم قراءة جديدة تتجاوز السرديات الإعلامية التقليدية.
الجذور التاريخية
تعود جذور إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية إلى “صفقة بن غوريون” في أواخر الأربعينيات، حين وافق رئيس الوزراء الأول ديفيد بن غوريون على إعفاء محدود لطلاب اليشيفوت (المدارس الدينية) من التجنيد، مقابل عدم معارضتهم العلنية للمشروع الصهيوني.
كان الهدف آنذاك استيعاب اليهود المتدينين في نسيج دولة ناشئة، لكن هذا الإعفاء، الذي بدأ ببضع مئات، توسّع مع الزمن ليشمل عشرات الآلاف. بحسب تقرير لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي (2023)، فإن حوالي 66 ألف شاب حريدي في سن التجنيد يحصلون على إعفاء سنويًا، مما يشكل 13٪ من إجمالي المجندين المحتملين.
هذا التوسّع أثار غضبًا متزايدًا في أوساط العلمانيين والقوميين، الذين يرون في الإعفاء خرقًا لمبدأ المساواة في تحمّل الأعباء. صحيفة هآرتس العبرية وصفت هذا الوضع في افتتاحية (يونيو/ حزيران 2024) بأنه “قنبلة اجتماعية تهدد تماسك المجتمع الإسرائيلي”، مشيرة إلى أن الإعفاء لم يعد مجرد امتياز ديني، بل هو رمز للانقسام العميق بين الدين والدولة.
لماذا يرفض الحريديم التجنيد؟
للوهلة الأولى، قد يبدو رفض الحريديم للتجنيد مجرد تمسّك ديني بالدراسة التوراتية، لكن القراءة العميقة تكشف أسبابًا معقدة:
الهوية الدينية: الدراسة في اليشيفوت ليست مجرد نشاط تعليمي، بل جوهر الهوية الحريدية. الحاخام عوفاديا يوسف، في فتوى شهيرة (1980)، وصف الخدمة العسكرية بأنها “خروج عن الدين”، معتبرًا أن التّوراة هي “الدرع الحقيقي” لإسرائيل.
الخوف من الثقافة العلمانية: الجيش، بطبيعته العلمانية والاختلاط الاجتماعي فيه، يُنظر إليه كتهديد للقيم الحريدية، خاصة مع الزواج المبكر وأسلوب الحياة المحافظ.
الفجوة التعليمية: نظام اليشيفوت لا يدرّس مواد مثل الرياضيات والإنجليزية، مما يجعل الشباب الحريدي غير مؤهّل للاندماج في وحدات الجيش التقنية. تقرير لوزارة الدفاع (2024) أشار إلى أن 70٪ من الحريديم المحتمل تجنيدهم يفتقرون إلى المهارات الأساسية للخدمة.
النسيج الاجتماعي: التجنيد يهدد بتفكيك البنية الاجتماعية الحريدية، التي تعتمد على العزلة الثقافية والزواج المبكر.
الضغط الحاخامي: قادة الحريديم، مثل الحاخام شتاينمان (توفي 2017)، اعتبروا التجنيد “حربًا على التوراة”، وهو خطاب لا يزال يتردد في الأوساط الدينية.
هذه الأسباب تكشف أن رفض التجنيد ليس مجرد نزوة، بل هو انعكاس لصراع أعمق بين هوية دينية منغلقة، ودولة تسعى لفرض معايير موحّدة.
التجنيد والتعليم: العقدة المركزية
لا يمكن فهم أزمة التجنيد دون النظر إلى التعليم الحريدي. نظام اليشيفوت، الذي يتلقى تمويلًا حكوميًا يصل إلى 1.2 مليار شيكل سنويًا (بحسب ميزانية 2024)، يركّز حصريًا على الدراسات الدينية، متجاهلًا مواد مثل العلوم والرياضيات.
هذا النظام ينتج شبابًا غير مؤهلين ليس فقط للخدمة العسكرية، بل لسوق العمل أيضًا. تقرير البنك المركزي الإسرائيلي (2023)، حذّر من أن 50٪ من الرجال الحريديم لا يشاركون في سوق العمل، مما يشكّل عبئًا اقتصاديًا متزايدًا.
السؤال المطروح: هل يمكن للجيش أن يكون أداة لدمج الحريديم في المجتمع؟
تجربة وحدات “نتسح يهودا”، التي صُممت خصيصَى للحريديم، أظهرت نجاحًا محدودًا، إذ لم تجذب سوى 1200 مجند سنويًا (بيانات الجيش، 2024).
في المقابل، يخشى الحريديم أن يكون الجيش أداة “لتصهين” هويتهم، وهو ما عبّر عنه الحاخام إلياكيم ليفر في خطاب (2024): “الجيش ليس مكانًا لتعليم التوراة، بل لتدميرها”، وبهذا يخاف الحريديم أن يكون الجيش مجرد فاتح شهية لكسر التابوهات، إذ إن كسر تابوه التعليم قد يكون مسرّعًا لانحلال المجتمع الحريدي.
قرار المحكمة العليا: نقطة اللاعودة
في يونيو/ حزيران 2024، أصدرت المحكمة العليا حكمًا تاريخيًا ألغى إعفاء الحريديم من التجنيد، وأمرت بوقف تمويل اليشيفوت التي ترفض التعاون مع قانون التجنيد.
هذا القرار، الذي جاء بعد عقود من الجدل، أشعل فتيل أزمة سياسية حادّة. عائلات جنود الاحتياط، الذين يتحمّلون عبء الحروب المستمرة، نظّموا احتجاجات واسعة، مطالبين بـ”مساواة في الأعباء”. صحيفة يديعوت أحرونوت (يوليو/ تموز 2024) نقلت عن ضابط احتياط قوله: “نحن ننزف في الجبهة، بينما يجلسون في اليشيفوت. هذا ليس عدلًا”.
القرار وضع حكومة بنيامين نتنياهو في مأزق. أحزاب الحريديم، مثل “شاس” و”يهدوت هتوراه”، هدّدت بالانسحاب من الائتلاف، بينما واجه نتنياهو ضغوطًا من شركاء آخرين، مثل يولي إدلشتاين ويوآف غالانت، لتمرير قانون التجنيد. هذا الانقسام يعكس هشاشة التحالف الحاكم، الذي يعتمد على توازن دقيق بين القوميين والمتدينين.
يولي إدلشتاين: مفتاح اللعبة
يبرز يولي إدلشتاين، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، كلاعب مركزي في هذه الأزمة. بصفته عضوًا بارزًا في حزب الليكود، لكنه غير تابع بالكامل لنتنياهو، يمتلك إدلشتاين القدرة على تجميد أو تسريع مشروع قانون التجنيد. مصادر عبرية (موقع واللا، يوليو/ تموز 2024) تشير إلى أن إدلشتاين ينسّق بشكل غير معلن مع يوآف غالانت وبيني غانتس، مما يجعله محورًا محتملًا لتحول سياسي.
إدلشتاين نفسه، في مقابلة مع “القناة 12” (أغسطس/ آب 2024)، قال: “القانون ليس مجرد ورقة سياسية، بل ضرورة وطنية”. هذا التصريح يعكس طموحه لقيادة تغيير أوسع، ربما على حساب نتنياهو، إذ قد تكون هذه الورقة التي تكسر صمت الليكود عن احتكار نتنياهو واستعباده للحزب.
هل تنهار صفقة الدين والدولة؟
إعفاء الحريديم لم يكن مجرد ترتيب إداري، بل هو جزء من “العقد المؤسس” بين الدولة والطائفة الحريدية. هذا العقد، الذي أرسى توازنًا بين الصهيونية والدين، يواجه خطر الانهيار.
تهديدات الحريديم بالانسحاب من الائتلاف، كما عبّرت عنها صحيفة هاموديع الحريدية (يوليو/ تموز 2024)، تشير إلى تمرد محتمل على هذا العقد. في الوقت نفسه، الدولة تجد صعوبة متزايدة في تمويل مجتمع يعتمد على الإعانات دون المساهمة في الاقتصاد أو الجيش.
السيناريوهات المحتملة تشمل الآتي:
جيش مهني: تحوّل الجيش إلى نموذج تطوّعي، مما يقلل الاعتماد على التجنيد الإلزامي، لكنه يتطلب إصلاحات اقتصادية ضخمة.
استقلال طائفي: تعميق العزلة الحريدية، مما قد يؤدي إلى دولة داخل دولة.
فرض التجنيد: تطبيق القانون بالقوة، مما قد يشعل مواجهات داخلية.
بين التوراة والبندقية.. من يحكم إسرائيل؟
قضية تجنيد الحريديم ليست مجرد نزاع حول المساواة، بل مرآة تعكس هشاشة الهوية الإسرائيلية. بين التوراة والبندقية، وبين الدين والقومية، تقف إسرائيل عند مفترق طرق. قرار المحكمة العليا، وتحركات شخصيات مثل إدلشتاين، قد يحدّدان ما إذا كانت الدولة قادرة على فرض معايير موحدة، أم ستظل رهينة توازنات طائفية.
السؤال المفتوح هو: هل تستطيع إسرائيل تجاوز هذا الانقسام دون تفكيك “العقد المؤسس” الذي قامت عليه؟ الإجابة ليست واضحة، لكن الزمن لن يمنح الحكومة رفاهية التأجيل.
منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ومع استمرار الحرب على غزة، تبلورت الأزمة بشكل حاد. آلاف جنود الاحتياط من الطبقة الوسطى والعلمانية يُستدعون للجبهة، بينما يبقى آلاف من الحريديم في مدارسهم الدينية بتمويل حكومي كامل.
صرخات الغضب لم تأتِ من المعارضة أو الإعلام فقط، بل من أهالي القتلى والجنود أنفسهم. لافتات مثل: “أين أنتم يا حماة التوراة؟”، و”دم ابني ليس أرخص من صلاتكم”، أصبحت جزءًا من مشهد احتجاجي يتحدى التابو.
في استطلاع لمعاريف (نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، عبّر 73٪ من الإسرائيليين عن دعمهم لتجنيد الحريديم، ليس بدافع الحقد الطبقي فقط، بل لأن الحرب كشفت عمق التمييز البنيوي بين من يُعتبر “ابن الدولة”، ومن يُعامل كضيف دائم في ظلها.
في قلب هذه الأزمة يقف بنيامين نتنياهو، الزعيم الذي بنى حكمه على التحالف بين اليمين القومي واليمين الديني، ليجد نفسه الآن عالقًا بين أوامر الأمر الواقع وضغوط الشارع من جهة، وابتزاز الحاخامات وتهديدات شركائه من جهة أخرى.
تمرير القانون يعني تفجير ائتلافه، وسقوط حكومته تحت سيف الحريديم. أما التراجع، فيعني الإهانة القضائية والسياسية، وخسارة ما تبقى من شرعيته أمام الجمهور العلماني والجنود الذين ينزفون في الجبهات.
المقرّبون من نتنياهو (كما نقلت “القناة 13” في تقرير خاص، أغسطس/ آب 2024) يؤكّدون أنه يبحث عن “مخرج وسط” يُرضي الجميع، لكن في الواقع، لا يوجد حل وسط في هذه المعادلة: “إما الخضوع للحاخامية، أو الخضوع للدولة العميقة. إما التضحية بالحكم، أو التضحية بمبدأ المساواة”.
وبهذا، تصبح أزمة تجنيد الحريديم أيضًا أزمة حكم لنتنياهو نفسه، الذي اعتاد اللعب على التناقضات، لكنه اليوم قد يُضطر لحسم موقف لا يحتمل المناورة.