#المشروع_العربي_الغائب
د. #حفظي_اشتية
الاعتداء الصهيوني الغربي على فلسطين والمشرق العربي خلال الفترة الماضية الأخيرة، وما سبقها منذ قرن من الزمان، يهيّج المشاعر، ويبعث الأسى، ويعصف بالوجدان، فتثور في النفس أسئلة قديمة تتجدد وتشتعل في قلب كل حرّ عربي يرفض الهوان.
وعنوانها الرئيس: أين مشروعنا العربي الموحَّد مما جرى ويجري وسيجري؟؟
مقالات ذات صلةخمسة عشر شهرا كل شهر منها يعادل دهرا مرت علينا نعاني كابوسا عليه نصحو وننام، ونحن نرى نظاما غربيا ظالما يؤازر نظاما صهيونيا غاصبا معتديا في هجمة إبادية لم تشهد الدنيا مثيلا لها حتى في الحروب العالمية، ضحيتها فئة مقاومة محدودة العدد والعتاد، صدورها عامرة بالإيمان، غير مزيَّنة بالنياشين، وشعب أعزل محاصر برا وبحرا وجوا، وذنبهم أنهم صامدون في أرضهم، ثاروا على ظالمهم وناهب حقهم يوما واحدا من الزمان ليذيقوه نزرا يسيرا مما أذاقهم عبر قرن، وليعيقوا مخططاته العدوانية، وليذكّروا العالم بعدالة قضيتهم المغيّبة المنسيّة.
فأين كان دور المشروع العربي في كل ما جرى وكان؟
مع التقدير بلا حدود للمقاومة الشريفة في لبنان النبيل واليمن الوفيّ، لا بدّ أن نعترف بعجزنا عن الوفاء بأبجديات الواجب تجاه إخواننا.
نعم،تحركنا دبلوماسيا، تعاطفنا معهم، قدمنا المساعدات الغذائية والدوائية، بكينا، جافانا المنام، فقدنا طعم كل فرحة، تمسمرنا أمام الشاشات يقتلنا القهر وتغمرنا الحسرة، دعونا بصدق وحرقة….إلخ، لكن، هل يكفي هذا؟ هل يغطي عجزنا الفاضح عن نصرة إخواننا في موقف جليّ جريء واضح بأنّ ما يتعرضون له هو ظلم وعدوان وطغيان؟
سارع بعضنا إلى لوم الشعب المظلوم لأنه ثار على الاحتلال والذل والسجن والألم والحصار، لكنه لم يقدم له الحل البديل عن ذلك بعد سبع وسبعين سنة من نكبته وسرقة وطنه، وبعد غرقه في سراديب المفاوضات العبثية العقيمة التي لم تحقق له إلا مزيدا من ضياع الأرض والمقدسات والفرقة والانقسام.
يلام هذا الشعب المظلوم لأنه تقبَّل اليد التي امتدت إليه لمساعدته وتدريبه وتسليحه وتمكينه من أدنى أساسيات العدة لمواجهة عدوه، فيعاب عليه ذلك، ويُتّهم بأنه أصبح أداة تنفيذية لمشارع الآخرين، وينسى اللائمون أن يتساءلوا عن المشروع العربي البديل الذي كان يمكن أن يُغني هذا الشعب عن التطلع إلى غيره، فلو تُرك القطا ليلا لنام، ولو وجد هذا الشعب عدلا في هذا العالم، وأملا في تحقيق السلام لجنح إليه، وقد فعل، لكنه لم يجنِ من لهّاية حل الدولتين إلا اليباب والسراب.
نشعر بالغصّة نحن العرب، ونحن نرى أنفسنا وبلادنا المقدسة مجرد حشائش تدوسها فِيَلة أصحاب المشاريع التي تصطرع فوق أجسادنا المفرقة الممزقة المتهالكة.
فهل كان هواننا هذا من قلة عدد؟ أو صغر مساحة؟ أو ضعف إمكانات وضآلة ثروات؟!
14 مليون كم2 ، وحاولي نصف مليار من البشر، وموقع هو قلب الدنيا، ومجمع بحارها ومحيطاتها، وعقدة طرقها وتجارتها، وثروات هائلة لا تكاد تنضب، وفوائض مالية تستعصي على الحصر تسكن في بلاد الأعداء وتستقر، وأرض رسالات سماوية، ودين خُتمت به أديان البشرية، وتاريخ مجيد طبع دنيا العالم القديم كلها بطابعه الفريد…. ألا يكفي هذا، وغيره كثير، ليكون لنا مشروعنا الذي ينافس وينادد المشاريع الأخرى في منطقتنا وعلى أرضنا المنهوبة المتناهشة؟!
ألا يكفي كل هذا ليكون لنا صوت مسموع يصيح في وجه الظالمين: كفّوا أيديكم عن أهل فلسطين، وأعطوا هذا الشعب حقه السليب بدلا من الدعوة إلى تهجيره وتشريده من بقايا وطنه مجددا بالمكر والألاعيب؟!
ألا يكفي كل هذا ليكون لنا زعيم مهيب يصرخ في وجه الرئيس الأمريكي: قف عند حدك. كفاك ظلما؛ فالشعب الذي تتباكى عليه، أسلحتكم هي التي دمرت بلاده، وأنتم ملزمون بإعمارها حقا وعدلا، وربيبتكم ــ بالتنسيق معكم ــ هي التي أمعنت فيه قتلا وجرحا وحرقا وأسرا وجوعا وعطشا وتشريدا وحصارا….. وأذاقته كل أنواع العذاب، وحمّلته أثقالا تنوء بحملها رواسي الجبال، ومنظمتكم الأممية التي اخترعتموها لخدمة مصالحكم هي التي أصدرت عشرات القرارات تنص على حقه في أرضه، وأنتم الذين أفشلتموها ورفضتم تنفيذها!!!
كفاك مَنّاً علينا بأن بلادك قدمت الكثير إلينا؛ فما قدّمتم إلينا إلا تدمير أوطاننا، وتشتيت شملنا، وبثّ الفرقة بيننا، واحتلال عواصمنا، وابتزازنا العلني السمج المهين، ونهب ثرواتنا لشراء أسلحتكم الكاسدة، وفي مشاريعكم التي لا يعود نفعها إلا عليكم.
أما فُتات مساعداتكم المجبول بالمنّ والأذى، فوالله ما حلّ لنا مشكلة مادية، ولا أقام اقتصادا، ولا سدّ ثغرا، ولا وفى بِدَين، طحينكم الأبيض خلاف لون قلوبكم هو الذي جعلنا نتخلّى عن زراعة أرضنا بقمحنا، فزرعناها مساكن تصطف أمامها سيارات مصانعكم، وطالما ظللنا نعتمد عليكم فلن نزداد إلا ذلا وفقرا.
مساعداتكم المقيتة المذلّة سنعيدها إليكم على “الجزمة” كما قالها زعيم عربيّ أبيّ لسابقيكم ذات لحظة عزّ، مضيفا حينها بصوت مجاهر على الملأ في رابعة النهار: إنّ من يتحدث معنا منكم بكلمة واحدة غير لائقة سنقطع لسانه.
نأمل ألّا نفارق الدنيا قبل أن نرى لحظة عزّ عربية، ونسمع كلمات مدوّية كهذه شرط أن تكون ناتجة عن مواقف راسخة، حساباتها دقيقة عميقة لا رجعة عنها؛ لتعيد لنا شرفا، وتجعل لحياتنا طعما، وتعالج فينا كرامة جريحة، فلقد عيل صبرنا من هذا الاستهتار والاستبداد بنا، والاستقواء والاستعلاء علينا.
لا حلّ لنا إلا بمشروع عربي صادق نقيّ قويّ، نقف فيه موحَّدين أمام “هولاكية” العالم الغربي الجديد. والامتحان الأول أمامنا هو تعزيز صمود الأردن ومصر اقتصاديا وسياسيا في وجه المطامع الخطيرة الزاحفة القادمة، فقد قدّم هذان البلدان لهذه القضية القومية الدينية منذ بداية الصراع تضحيات عزّ نظيرها من دماء أبنائهما واقتصادهما واستقرارهما، ولا ينكر ذلك إلا جاحد حاقد، أو جاهل غافل. ودعمهما الآن فيما يواجهان أصبح واجبا قوميا مقدسا، فهما البوابتان الأخيرتان أمام الاجتياح الطاغي الجارف للعروبة في آسيا وإفريقيا. ولا يظننَّ أحدٌ منا أنه بمنأى عنه، معصوم منه.
أما شعب فلسطين العظيم، النادر المثال، الذي نباهي به الأمم؛ لأنه علّمنا كيف تُصان الأوطان، وكيف نواجه المستكبرين غير هيّابين، فهو قطب الرحى في الصراع، وهو صامد رغم كل الأهوال، عصيّ المنال. وتمكينه في الثبات على أرضه بكل وسيلة ممكنة هو سبيل نجاتنا جميعا إن أردتم أن يبقى للعروبة بقايا مكان ومكانة تحت الشمس وفوق الثرى.
المشروع العربي الغائب
د. حفظي اشتية
الاعتداء الصهيوني الغربي على فلسطين والمشرق العربي خلال الفترة الماضية الأخيرة، وما سبقها منذ قرن من الزمان، يهيّج المشاعر، ويبعث الأسى، ويعصف بالوجدان، فتثور في النفس أسئلة قديمة تتجدد وتشتعل في قلب كل حرّ عربي يرفض الهوان.
وعنوانها الرئيس: أين مشروعنا العربي الموحَّد مما جرى ويجري وسيجري؟؟
خمسة عشر شهرا كل شهر منها يعادل دهرا مرت علينا نعاني كابوسا عليه نصحو وننام، ونحن نرى نظاما غربيا ظالما يؤازر نظاما صهيونيا غاصبا معتديا في هجمة إبادية لم تشهد الدنيا مثيلا لها حتى في الحروب العالمية، ضحيتها فئة مقاومة محدودة العدد والعتاد، صدورها عامرة بالإيمان، غير مزيَّنة بالنياشين، وشعب أعزل محاصر برا وبحرا وجوا، وذنبهم أنهم صامدون في أرضهم، ثاروا على ظالمهم وناهب حقهم يوما واحدا من الزمان ليذيقوه نزرا يسيرا مما أذاقهم عبر قرن، وليعيقوا مخططاته العدوانية، وليذكّروا العالم بعدالة قضيتهم المغيّبة المنسيّة.
فأين كان دور المشروع العربي في كل ما جرى وكان؟
مع التقدير بلا حدود للمقاومة الشريفة في لبنان النبيل واليمن الوفيّ، لا بدّ أن نعترف بعجزنا عن الوفاء بأبجديات الواجب تجاه إخواننا.
نعم،تحركنا دبلوماسيا، تعاطفنا معهم، قدمنا المساعدات الغذائية والدوائية، بكينا، جافانا المنام، فقدنا طعم كل فرحة، تمسمرنا أمام الشاشات يقتلنا القهر وتغمرنا الحسرة، دعونا بصدق وحرقة….إلخ، لكن، هل يكفي هذا؟ هل يغطي عجزنا الفاضح عن نصرة إخواننا في موقف جليّ جريء واضح بأنّ ما يتعرضون له هو ظلم وعدوان وطغيان؟
سارع بعضنا إلى لوم الشعب المظلوم لأنه ثار على الاحتلال والذل والسجن والألم والحصار، لكنه لم يقدم له الحل البديل عن ذلك بعد سبع وسبعين سنة من نكبته وسرقة وطنه، وبعد غرقه في سراديب المفاوضات العبثية العقيمة التي لم تحقق له إلا مزيدا من ضياع الأرض والمقدسات والفرقة والانقسام.
يلام هذا الشعب المظلوم لأنه تقبَّل اليد التي امتدت إليه لمساعدته وتدريبه وتسليحه وتمكينه من أدنى أساسيات العدة لمواجهة عدوه، فيعاب عليه ذلك، ويُتّهم بأنه أصبح أداة تنفيذية لمشارع الآخرين، وينسى اللائمون أن يتساءلوا عن المشروع العربي البديل الذي كان يمكن أن يُغني هذا الشعب عن التطلع إلى غيره، فلو تُرك القطا ليلا لنام، ولو وجد هذا الشعب عدلا في هذا العالم، وأملا في تحقيق السلام لجنح إليه، وقد فعل، لكنه لم يجنِ من لهّاية حل الدولتين إلا اليباب والسراب.
نشعر بالغصّة نحن العرب، ونحن نرى أنفسنا وبلادنا المقدسة مجرد حشائش تدوسها فِيَلة أصحاب المشاريع التي تصطرع فوق أجسادنا المفرقة الممزقة المتهالكة.
فهل كان هواننا هذا من قلة عدد؟ أو صغر مساحة؟ أو ضعف إمكانات وضآلة ثروات؟!
14 مليون كم2 ، وحاولي نصف مليار من البشر، وموقع هو قلب الدنيا، ومجمع بحارها ومحيطاتها، وعقدة طرقها وتجارتها، وثروات هائلة لا تكاد تنضب، وفوائض مالية تستعصي على الحصر تسكن في بلاد الأعداء وتستقر، وأرض رسالات سماوية، ودين خُتمت به أديان البشرية، وتاريخ مجيد طبع دنيا العالم القديم كلها بطابعه الفريد…. ألا يكفي هذا، وغيره كثير، ليكون لنا مشروعنا الذي ينافس وينادد المشاريع الأخرى في منطقتنا وعلى أرضنا المنهوبة المتناهشة؟!
ألا يكفي كل هذا ليكون لنا صوت مسموع يصيح في وجه الظالمين: كفّوا أيديكم عن أهل فلسطين، وأعطوا هذا الشعب حقه السليب بدلا من الدعوة إلى تهجيره وتشريده من بقايا وطنه مجددا بالمكر والألاعيب؟!
ألا يكفي كل هذا ليكون لنا زعيم مهيب يصرخ في وجه الرئيس الأمريكي: قف عند حدك. كفاك ظلما؛ فالشعب الذي تتباكى عليه، أسلحتكم هي التي دمرت بلاده، وأنتم ملزمون بإعمارها حقا وعدلا، وربيبتكم ــ بالتنسيق معكم ــ هي التي أمعنت فيه قتلا وجرحا وحرقا وأسرا وجوعا وعطشا وتشريدا وحصارا….. وأذاقته كل أنواع العذاب، وحمّلته أثقالا تنوء بحملها رواسي الجبال، ومنظمتكم الأممية التي اخترعتموها لخدمة مصالحكم هي التي أصدرت عشرات القرارات تنص على حقه في أرضه، وأنتم الذين أفشلتموها ورفضتم تنفيذها!!!
كفاك مَنّاً علينا بأن بلادك قدمت الكثير إلينا؛ فما قدّمتم إلينا إلا تدمير أوطاننا، وتشتيت شملنا، وبثّ الفرقة بيننا، واحتلال عواصمنا، وابتزازنا العلني السمج المهين، ونهب ثرواتنا لشراء أسلحتكم الكاسدة، وفي مشاريعكم التي لا يعود نفعها إلا عليكم.
أما فُتات مساعداتكم المجبول بالمنّ والأذى، فوالله ما حلّ لنا مشكلة مادية، ولا أقام اقتصادا، ولا سدّ ثغرا، ولا وفى بِدَين، طحينكم الأبيض خلاف لون قلوبكم هو الذي جعلنا نتخلّى عن زراعة أرضنا بقمحنا، فزرعناها مساكن تصطف أمامها سيارات مصانعكم، وطالما ظللنا نعتمد عليكم فلن نزداد إلا ذلا وفقرا.
مساعداتكم المقيتة المذلّة سنعيدها إليكم على “الجزمة” كما قالها زعيم عربيّ أبيّ لسابقيكم ذات لحظة عزّ، مضيفا حينها بصوت مجاهر على الملأ في رابعة النهار: إنّ من يتحدث معنا منكم بكلمة واحدة غير لائقة سنقطع لسانه.
نأمل ألّا نفارق الدنيا قبل أن نرى لحظة عزّ عربية، ونسمع كلمات مدوّية كهذه شرط أن تكون ناتجة عن مواقف راسخة، حساباتها دقيقة عميقة لا رجعة عنها؛ لتعيد لنا شرفا، وتجعل لحياتنا طعما، وتعالج فينا كرامة جريحة، فلقد عيل صبرنا من هذا الاستهتار والاستبداد بنا، والاستقواء والاستعلاء علينا.
لا حلّ لنا إلا بمشروع عربي صادق نقيّ قويّ، نقف فيه موحَّدين أمام “هولاكية” العالم الغربي الجديد. والامتحان الأول أمامنا هو تعزيز صمود الأردن ومصر اقتصاديا وسياسيا في وجه المطامع الخطيرة الزاحفة القادمة، فقد قدّم هذان البلدان لهذه القضية القومية الدينية منذ بداية الصراع تضحيات عزّ نظيرها من دماء أبنائهما واقتصادهما واستقرارهما، ولا ينكر ذلك إلا جاحد حاقد، أو جاهل غافل. ودعمهما الآن فيما يواجهان أصبح واجبا قوميا مقدسا، فهما البوابتان الأخيرتان أمام الاجتياح الطاغي الجارف للعروبة في آسيا وإفريقيا. ولا يظننَّ أحدٌ منا أنه بمنأى عنه، معصوم منه.
أما شعب فلسطين العظيم، النادر المثال، الذي نباهي به الأمم؛ لأنه علّمنا كيف تُصان الأوطان، وكيف نواجه المستكبرين غير هيّابين، فهو قطب الرحى في الصراع، وهو صامد رغم كل الأهوال، عصيّ المنال. وتمكينه في الثبات على أرضه بكل وسيلة ممكنة هو سبيل نجاتنا جميعا إن أردتم أن يبقى للعروبة بقايا مكان ومكانة تحت الشمس وفوق الثرى.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: حفظي اشتية المشروع العربی من الزمان هذا الشعب یکفی هذا هی التی فی أرضه لکنه لم ما جرى فی هذا فی وجه
إقرأ أيضاً:
لبنان .. البلد الذي ليس له شبيه
لبنان البلد الفريد في كل شيء. وطن الجمال ساحلاً وجبلاً، سهولاً وأوديةً. البلد الذي يجمع بين التنوع الديني والعرقي من مسلمين (سنة، وشيعة، ودروز)، ومسيحيين (موارنة، وروم أرثوذكس، وروم كاثوليك، وبروتستانت، وأرمن رسوليون، وغيرهم) مع جذور تاريخية عميقة فينيقية وكنعانية ما يمنحه طابعا خاصا من التعايش الديني والثقافي ليس له مثيل. إنه البلد الذي يجمع بين أصالة الشرق وروح المتوسط.
إن تاريخ لبنان غني متنوع يبدأ من الحضارات القديمة، مثل الفينيقيين (في العام ٣٠٠٠ ق.م وما بعدها) الذين أسسوا مدنًا تجارية مهمة، مثل: صيدا، وصور، وجبيل مروراً بالاحتلالات المتعاقبة للأشوريين والفرس والرومان والبيزنطينيين والصليبيين والمماليك والعثمانيين (خلال الفترة ١٥١٦-١٩١٨م ) حتى ظهرت دولة لبنان الكبير في سبتمبر من العام ١٩٢٠م بموجب الانتداب الفرنسي إلى أن أُعلنت الجمهورية اللبنانية في العام ١٩٢٦م، ونيل لبنان استقلاله التام عن فرنسا في ٢٢ نوفمبر ١٩٤٣م، وانتخاب الشيخ بشارة الخوري كأول رئيس للجمهورية اللبنانية ورياض الصلح كأول رئيس وزراء للبنان بعد الاستقلال.
وقد جاء هذا الاستقلال تتويجاً لمسار طويل من النضال السياسي ضد الفرنسيين ظهر على إثره الميثاق الوطني، وهو الاتفاق غير المكتوب الذي نظم أسس الحكم في لبنان في العام ١٩٤٣م، وما زال إلى الآن عاملًا مؤثرًا في السياسة اللبنانية.
وقد نشأ هذا الميثاق الوطني بعد مفاوضات بين القيادات السنية والشيعية والمارونية، ونص على أنه يجب أن يكون رئيس الجمهورية وقائد الجيش من الموارنة، وأن يكون رئيس مجلس الوزراء من السنة، وأن يكون رئيس مجلس النواب من الشيعة، وأن يكون نائب رئيس مجلس النواب ونائب رئيس مجلس الوزراء من الروم الأرثوذكس، وأن يكون نسبة النواب المسيحيين والمسلمين (٥:٦) -عدلت في اتفاق الطائف (٥:٥)-، وأن يكون رئيس الأركان العامة من الدروز.
وتضمن كذلك الميثاق الوطني قبول الموارنة الهوية العربية بدلاً من الهوية الغربية، وتخلي المسلمين عن مطمح الوحدة مع سوريا.
وقد مر لبنان بأحداثٍ جسام بعد استقلاله كان أكبرها الحرب الأهلية التي استمرت قرابة ١٥ عاما منذ العام ١٩٧٥م حتى توقيع اتفاق الطائف الذي مهد لإنهاء الحرب رسميًا في العام ١٩٩٠م. وهو الاسم الذي تعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان بوساطة سورية سعودية في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية بتاريخ ٣٠ سبتمبر ١٩٨٩م، وأقره لبنان بقانون بتاريخ ٢٢ أكتوبر ١٩٨٩م، وصدق عليه البرلمان اللبناني في ٥ نوفمبر من نفس العام، وذلك بعد نشاط مكثف للدبلوماسية السعودية وشخصيات وطنية لبنانية وشخصيات دولية.
وقد تكوّن هذا الاتفاق من ٤ مواد رئيسية: المادة (١) المبادئ العامة والإصلاحات: حيث نصت فقرات هذه المادة على المبادئ العامة، كتأكيد استقلال لبنان وهويته العربية والشكل السياسي للدولة، كجمهورية برلمانية ديموقراطية.
كما نصت فقرات هذه المادة على مجموعة من الإصلاحات السياسية التي تم الاتفاق عليها، كتوزيع مقاعد مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين إضافة إلى إصلاحات أخرى في مجالات مختلفة كالإدارة والتعليم والمحاكم.
تتناول المادة (٢) بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية فيما تتناول المادة (٣) تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وتتناول المادة (٤) العلاقات اللبنانية السورية. وقد وضع اتفاق الطائف إلغاء الطائفية هدفاً له، لكن هذا الهدف لم يتحقق حتى الآن.
ومنذ اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام ٢٠٠٥م شهد لبنان توترات سياسية وأمنية كبيرة؛ حيث أطل شبح الفتنة على البلاد مجدداً. وحاولت بعض الأطراف الداخلية والخارجية جر لبنان إلى حرب أهلية، لكن حكمة الوطنيين والمخلصين من رجالات لبنان أنقذت الموقف بتسوية عكست انهزام مشروع الفتنة؛ فكان اتفاق الدوحة، وهو الاتفاق الذي توصلت إليه القوى السياسية اللبنانية يوم الأربعاء ٢١ مايو ٢٠٠٨م في العاصمة القطرية الدوحة، لتنهي أزمة سياسية كبيرة استمرت ١٨ شهرا شهدت بعض الفترات منها أحداثا دامية.
ومن ضمن ما تعرض له لبنان من مخاطر هدد وجوده الاجتياح الإسرائيلي في السادس من يوليو ١٩٨٢م؛ حيث وصلت قوات الاحتلال الإسرائيلية إلى العاصمة بيروت. وكان الهدف المعلن تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وتأمين العمق الجغرافي للكيان الصهيوني، ولكن يبدو أن الاجتياح أتى بنتائج كارثية على الغزاة؛ حيث انفجرت شعلة المقاومة التي زرعها الإمام موسى الصدر في فترة السبعينيات مع تأسيس أفواج المقاومة اللبنانية (حركة أمل) التي تبعها لاحقا إنشاء حزب الله.
ومنذ ذلك الحين إلى الآن لم يسلم لبنان بشكل عام وجنوبه بشكل خاص من الاعتداءات المستمرة للكيان الصهيوني بحجة أو بدون حجة ما يجعل لبنان بشكل دائم تحت مرمى الاعتداءات والاستفزازات الصهيونية المستمرة كان آخرها الصراع بين حزب الله والكيان الصهيوني الذي بدأ في ٨ أكتوبر ٢٠٢٣م بعد يوم واحد من انطلاق عملية طوفان الأقصى في غزة. والذي استمر حتى ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤م عندما أعلن عن وقف إطلاق النار لمدة ٦٠ يوما التزم بهذا الاتفاق حزب الله، وخرقه الكيان الصهيوني خلال هذه المدة أكثر من١٣٥٠ مرة.
وسواء اتفقنا مع حزب الله وأجندته أو اختلفنا لا يمكن لأحد أن ينكر أن حزب الله شكل عبر هذه السنوات الطويلة حاجز صد لأطماع الكيان الصهيوني في اجتياح لبنان مجددا.
لبنان البلد الصغير حجماً والكبير مكانةً له في قلب كل عربي -ومنهم أهل سلطنة عمان- مكانة خاصة قل أن تجد لها نظيرًا. فهذا البلد ذو التاريخ العظيم والمكانة الاستثنائية في الحاضر، والذي أنجب جبران خليل جبران، وأمين الريحاني، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، وجوزيف حرب، وسعيد عقل، وأنسي الحاج، وفيروز، والرحابنة، ونصري شمس الدين، وغيرهم من القامات الأدبية والفنية، وكذلك العديد من الشخصيات والقامات الوطنية والسياسية والأكاديمية والاقتصادية -لا يتسع هنا المجال لذكرها-، والتي أثرَت الوطن العربي والعالم أجمع عبر عقود من الإبداع - كلٌ في مجاله - سيظل عصياً على الكسر. وسيظل لبنان التاريخ والحاضر ملتقى الحضارات والثقافات والجمال والإبداع. إنه بحق جوهرة الشرق الأوسط؛ البلد الذي ليس له نظير.
خالد بن عمر المرهون متخصص في القانون الدولي والشؤون السياسية