سواليف:
2025-12-12@21:34:30 GMT

المشروع العربي الغائب

تاريخ النشر: 3rd, February 2025 GMT

#المشروع_العربي_الغائب

د. #حفظي_اشتية

الاعتداء الصهيوني الغربي على فلسطين والمشرق العربي خلال الفترة الماضية الأخيرة، وما سبقها منذ قرن من الزمان، يهيّج المشاعر، ويبعث الأسى، ويعصف بالوجدان، فتثور في النفس أسئلة قديمة تتجدد وتشتعل في قلب كل حرّ عربي يرفض الهوان.

وعنوانها الرئيس: أين مشروعنا العربي الموحَّد مما جرى ويجري وسيجري؟؟

مقالات ذات صلة التراشقات لا تمنع مخططات التهجير للأردن 2025/02/02

خمسة عشر شهرا كل شهر منها يعادل دهرا مرت علينا نعاني كابوسا عليه نصحو وننام، ونحن نرى نظاما غربيا ظالما يؤازر نظاما صهيونيا غاصبا معتديا في هجمة إبادية لم تشهد الدنيا مثيلا لها حتى في الحروب العالمية، ضحيتها فئة مقاومة محدودة العدد والعتاد، صدورها عامرة بالإيمان، غير مزيَّنة بالنياشين، وشعب أعزل محاصر برا وبحرا وجوا، وذنبهم أنهم صامدون في أرضهم، ثاروا على ظالمهم وناهب حقهم يوما واحدا من الزمان ليذيقوه نزرا يسيرا مما أذاقهم عبر قرن، وليعيقوا مخططاته العدوانية، وليذكّروا العالم بعدالة قضيتهم المغيّبة المنسيّة.

فأين كان دور المشروع العربي في كل ما جرى وكان؟

مع التقدير بلا حدود للمقاومة الشريفة في لبنان النبيل واليمن الوفيّ، لا بدّ أن نعترف بعجزنا عن الوفاء بأبجديات الواجب تجاه إخواننا.

نعم،تحركنا دبلوماسيا، تعاطفنا معهم، قدمنا المساعدات الغذائية والدوائية، بكينا، جافانا المنام، فقدنا طعم كل فرحة، تمسمرنا أمام الشاشات يقتلنا القهر وتغمرنا الحسرة، دعونا بصدق وحرقة….إلخ، لكن، هل يكفي هذا؟ هل يغطي عجزنا الفاضح عن نصرة إخواننا في موقف جليّ جريء واضح بأنّ ما يتعرضون له هو ظلم وعدوان وطغيان؟

سارع بعضنا إلى لوم الشعب المظلوم لأنه ثار على الاحتلال والذل والسجن والألم والحصار، لكنه لم يقدم له الحل البديل عن ذلك بعد سبع وسبعين سنة من نكبته وسرقة وطنه، وبعد غرقه في سراديب المفاوضات العبثية العقيمة التي لم تحقق له إلا مزيدا من ضياع الأرض والمقدسات والفرقة والانقسام.

يلام هذا الشعب المظلوم لأنه تقبَّل اليد التي امتدت إليه لمساعدته وتدريبه وتسليحه وتمكينه من أدنى أساسيات العدة لمواجهة عدوه، فيعاب عليه ذلك، ويُتّهم بأنه أصبح أداة تنفيذية لمشارع الآخرين، وينسى اللائمون أن يتساءلوا عن المشروع العربي البديل الذي كان يمكن أن يُغني هذا الشعب عن التطلع إلى غيره، فلو تُرك القطا ليلا لنام، ولو وجد هذا الشعب عدلا في هذا العالم، وأملا في تحقيق السلام لجنح إليه، وقد فعل، لكنه لم يجنِ من لهّاية حل الدولتين إلا اليباب والسراب.

نشعر بالغصّة نحن العرب، ونحن نرى أنفسنا وبلادنا المقدسة مجرد حشائش تدوسها فِيَلة أصحاب المشاريع التي تصطرع فوق أجسادنا المفرقة الممزقة المتهالكة.

فهل كان هواننا هذا من قلة عدد؟ أو صغر مساحة؟ أو ضعف إمكانات وضآلة ثروات؟!

14 مليون كم2 ، وحاولي نصف مليار من البشر، وموقع هو قلب الدنيا، ومجمع بحارها ومحيطاتها، وعقدة طرقها وتجارتها، وثروات هائلة لا تكاد تنضب، وفوائض مالية تستعصي على الحصر تسكن في بلاد الأعداء وتستقر، وأرض رسالات سماوية، ودين خُتمت به أديان البشرية، وتاريخ مجيد طبع دنيا العالم القديم كلها بطابعه الفريد…. ألا يكفي هذا، وغيره كثير، ليكون لنا مشروعنا الذي ينافس وينادد المشاريع الأخرى في منطقتنا وعلى أرضنا المنهوبة المتناهشة؟!

ألا يكفي كل هذا ليكون لنا صوت مسموع يصيح في وجه الظالمين: كفّوا أيديكم عن أهل فلسطين، وأعطوا هذا الشعب حقه السليب بدلا من الدعوة إلى تهجيره وتشريده من بقايا وطنه مجددا  بالمكر والألاعيب؟!

ألا يكفي كل هذا ليكون لنا زعيم مهيب يصرخ في وجه الرئيس الأمريكي: قف عند حدك. كفاك ظلما؛ فالشعب الذي تتباكى عليه، أسلحتكم هي التي دمرت بلاده، وأنتم ملزمون بإعمارها حقا وعدلا، وربيبتكم ــ بالتنسيق معكم ــ هي التي أمعنت فيه قتلا وجرحا وحرقا وأسرا وجوعا وعطشا وتشريدا وحصارا….. وأذاقته كل أنواع العذاب، وحمّلته أثقالا تنوء بحملها رواسي الجبال، ومنظمتكم الأممية التي اخترعتموها لخدمة مصالحكم هي التي أصدرت عشرات القرارات تنص على حقه في أرضه، وأنتم الذين أفشلتموها ورفضتم تنفيذها!!!

كفاك مَنّاً علينا بأن بلادك قدمت الكثير إلينا؛ فما قدّمتم إلينا إلا تدمير أوطاننا، وتشتيت شملنا، وبثّ الفرقة بيننا، واحتلال عواصمنا، وابتزازنا العلني السمج المهين، ونهب ثرواتنا لشراء أسلحتكم الكاسدة، وفي مشاريعكم التي لا يعود نفعها إلا عليكم.

أما فُتات مساعداتكم المجبول بالمنّ والأذى، فوالله ما حلّ لنا مشكلة مادية، ولا أقام اقتصادا، ولا سدّ ثغرا، ولا وفى بِدَين، طحينكم الأبيض خلاف لون قلوبكم هو الذي جعلنا نتخلّى عن زراعة أرضنا بقمحنا، فزرعناها مساكن تصطف أمامها سيارات مصانعكم، وطالما ظللنا نعتمد عليكم فلن نزداد إلا ذلا وفقرا.

مساعداتكم المقيتة المذلّة سنعيدها إليكم على “الجزمة” كما قالها زعيم عربيّ أبيّ لسابقيكم ذات لحظة عزّ، مضيفا حينها بصوت مجاهر على الملأ في رابعة النهار: إنّ من يتحدث معنا منكم بكلمة واحدة غير لائقة سنقطع لسانه.

نأمل ألّا نفارق الدنيا قبل أن نرى لحظة عزّ عربية، ونسمع كلمات مدوّية كهذه شرط أن تكون ناتجة عن مواقف راسخة، حساباتها دقيقة عميقة لا رجعة عنها؛ لتعيد لنا شرفا، وتجعل لحياتنا طعما، وتعالج فينا كرامة جريحة، فلقد عيل صبرنا من هذا الاستهتار والاستبداد بنا، والاستقواء والاستعلاء علينا.

لا حلّ لنا إلا بمشروع عربي صادق نقيّ قويّ، نقف فيه موحَّدين أمام “هولاكية” العالم الغربي الجديد. والامتحان الأول أمامنا هو تعزيز صمود الأردن ومصر اقتصاديا وسياسيا في وجه المطامع الخطيرة الزاحفة القادمة، فقد قدّم هذان البلدان لهذه القضية القومية الدينية منذ بداية الصراع تضحيات عزّ نظيرها من دماء أبنائهما واقتصادهما واستقرارهما، ولا ينكر ذلك إلا جاحد حاقد، أو جاهل غافل. ودعمهما الآن فيما يواجهان أصبح واجبا قوميا مقدسا، فهما البوابتان الأخيرتان أمام الاجتياح الطاغي الجارف للعروبة في آسيا وإفريقيا. ولا يظننَّ أحدٌ منا أنه بمنأى عنه، معصوم منه.

أما شعب فلسطين العظيم، النادر المثال، الذي نباهي به الأمم؛ لأنه علّمنا كيف تُصان الأوطان، وكيف نواجه المستكبرين غير هيّابين، فهو قطب الرحى في الصراع، وهو صامد رغم كل الأهوال، عصيّ المنال. وتمكينه في الثبات على أرضه بكل وسيلة ممكنة هو سبيل نجاتنا جميعا إن أردتم أن يبقى للعروبة بقايا مكان ومكانة تحت الشمس وفوق الثرى.

المشروع العربي الغائب

د. حفظي اشتية

الاعتداء الصهيوني الغربي على فلسطين والمشرق العربي خلال الفترة الماضية الأخيرة، وما سبقها منذ قرن من الزمان، يهيّج المشاعر، ويبعث الأسى، ويعصف بالوجدان، فتثور في النفس أسئلة قديمة تتجدد وتشتعل في قلب كل حرّ عربي يرفض الهوان.

وعنوانها الرئيس: أين مشروعنا العربي الموحَّد مما جرى ويجري وسيجري؟؟

خمسة عشر شهرا كل شهر منها يعادل دهرا مرت علينا نعاني كابوسا عليه نصحو وننام، ونحن نرى نظاما غربيا ظالما يؤازر نظاما صهيونيا غاصبا معتديا في هجمة إبادية لم تشهد الدنيا مثيلا لها حتى في الحروب العالمية، ضحيتها فئة مقاومة محدودة العدد والعتاد، صدورها عامرة بالإيمان، غير مزيَّنة بالنياشين، وشعب أعزل محاصر برا وبحرا وجوا، وذنبهم أنهم صامدون في أرضهم، ثاروا على ظالمهم وناهب حقهم يوما واحدا من الزمان ليذيقوه نزرا يسيرا مما أذاقهم عبر قرن، وليعيقوا مخططاته العدوانية، وليذكّروا العالم بعدالة قضيتهم المغيّبة المنسيّة.

فأين كان دور المشروع العربي في كل ما جرى وكان؟

مع التقدير بلا حدود للمقاومة الشريفة في لبنان النبيل واليمن الوفيّ، لا بدّ أن نعترف بعجزنا عن الوفاء بأبجديات الواجب تجاه إخواننا.

نعم،تحركنا دبلوماسيا، تعاطفنا معهم، قدمنا المساعدات الغذائية والدوائية، بكينا، جافانا المنام، فقدنا طعم كل فرحة، تمسمرنا أمام الشاشات يقتلنا القهر وتغمرنا الحسرة، دعونا بصدق وحرقة….إلخ، لكن، هل يكفي هذا؟ هل يغطي عجزنا الفاضح عن نصرة إخواننا في موقف جليّ جريء واضح بأنّ ما يتعرضون له هو ظلم وعدوان وطغيان؟

سارع بعضنا إلى لوم الشعب المظلوم لأنه ثار على الاحتلال والذل والسجن والألم والحصار، لكنه لم يقدم له الحل البديل عن ذلك بعد سبع وسبعين سنة من نكبته وسرقة وطنه، وبعد غرقه في سراديب المفاوضات العبثية العقيمة التي لم تحقق له إلا مزيدا من ضياع الأرض والمقدسات والفرقة والانقسام.

يلام هذا الشعب المظلوم لأنه تقبَّل اليد التي امتدت إليه لمساعدته وتدريبه وتسليحه وتمكينه من أدنى أساسيات العدة لمواجهة عدوه، فيعاب عليه ذلك، ويُتّهم بأنه أصبح أداة تنفيذية لمشارع الآخرين، وينسى اللائمون أن يتساءلوا عن المشروع العربي البديل الذي كان يمكن أن يُغني هذا الشعب عن التطلع إلى غيره، فلو تُرك القطا ليلا لنام، ولو وجد هذا الشعب عدلا في هذا العالم، وأملا في تحقيق السلام لجنح إليه، وقد فعل، لكنه لم يجنِ من لهّاية حل الدولتين إلا اليباب والسراب.

نشعر بالغصّة نحن العرب، ونحن نرى أنفسنا وبلادنا المقدسة مجرد حشائش تدوسها فِيَلة أصحاب المشاريع التي تصطرع فوق أجسادنا المفرقة الممزقة المتهالكة.

فهل كان هواننا هذا من قلة عدد؟ أو صغر مساحة؟ أو ضعف إمكانات وضآلة ثروات؟!

14 مليون كم2 ، وحاولي نصف مليار من البشر، وموقع هو قلب الدنيا، ومجمع بحارها ومحيطاتها، وعقدة طرقها وتجارتها، وثروات هائلة لا تكاد تنضب، وفوائض مالية تستعصي على الحصر تسكن في بلاد الأعداء وتستقر، وأرض رسالات سماوية، ودين خُتمت به أديان البشرية، وتاريخ مجيد طبع دنيا العالم القديم كلها بطابعه الفريد…. ألا يكفي هذا، وغيره كثير، ليكون لنا مشروعنا الذي ينافس وينادد المشاريع الأخرى في منطقتنا وعلى أرضنا المنهوبة المتناهشة؟!

ألا يكفي كل هذا ليكون لنا صوت مسموع يصيح في وجه الظالمين: كفّوا أيديكم عن أهل فلسطين، وأعطوا هذا الشعب حقه السليب بدلا من الدعوة إلى تهجيره وتشريده من بقايا وطنه مجددا  بالمكر والألاعيب؟!

ألا يكفي كل هذا ليكون لنا زعيم مهيب يصرخ في وجه الرئيس الأمريكي: قف عند حدك. كفاك ظلما؛ فالشعب الذي تتباكى عليه، أسلحتكم هي التي دمرت بلاده، وأنتم ملزمون بإعمارها حقا وعدلا، وربيبتكم ــ بالتنسيق معكم ــ هي التي أمعنت فيه قتلا وجرحا وحرقا وأسرا وجوعا وعطشا وتشريدا وحصارا….. وأذاقته كل أنواع العذاب، وحمّلته أثقالا تنوء بحملها رواسي الجبال، ومنظمتكم الأممية التي اخترعتموها لخدمة مصالحكم هي التي أصدرت عشرات القرارات تنص على حقه في أرضه، وأنتم الذين أفشلتموها ورفضتم تنفيذها!!!

كفاك مَنّاً علينا بأن بلادك قدمت الكثير إلينا؛ فما قدّمتم إلينا إلا تدمير أوطاننا، وتشتيت شملنا، وبثّ الفرقة بيننا، واحتلال عواصمنا، وابتزازنا العلني السمج المهين، ونهب ثرواتنا لشراء أسلحتكم الكاسدة، وفي مشاريعكم التي لا يعود نفعها إلا عليكم.

أما فُتات مساعداتكم المجبول بالمنّ والأذى، فوالله ما حلّ لنا مشكلة مادية، ولا أقام اقتصادا، ولا سدّ ثغرا، ولا وفى بِدَين، طحينكم الأبيض خلاف لون قلوبكم هو الذي جعلنا نتخلّى عن زراعة أرضنا بقمحنا، فزرعناها مساكن تصطف أمامها سيارات مصانعكم، وطالما ظللنا نعتمد عليكم فلن نزداد إلا ذلا وفقرا.

مساعداتكم المقيتة المذلّة سنعيدها إليكم على “الجزمة” كما قالها زعيم عربيّ أبيّ لسابقيكم ذات لحظة عزّ، مضيفا حينها بصوت مجاهر على الملأ في رابعة النهار: إنّ من يتحدث معنا منكم بكلمة واحدة غير لائقة سنقطع لسانه.

نأمل ألّا نفارق الدنيا قبل أن نرى لحظة عزّ عربية، ونسمع كلمات مدوّية كهذه شرط أن تكون ناتجة عن مواقف راسخة، حساباتها دقيقة عميقة لا رجعة عنها؛ لتعيد لنا شرفا، وتجعل لحياتنا طعما، وتعالج فينا كرامة جريحة، فلقد عيل صبرنا من هذا الاستهتار والاستبداد بنا، والاستقواء والاستعلاء علينا.

لا حلّ لنا إلا بمشروع عربي صادق نقيّ قويّ، نقف فيه موحَّدين أمام “هولاكية” العالم الغربي الجديد. والامتحان الأول أمامنا هو تعزيز صمود الأردن ومصر اقتصاديا وسياسيا في وجه المطامع الخطيرة الزاحفة القادمة، فقد قدّم هذان البلدان لهذه القضية القومية الدينية منذ بداية الصراع تضحيات عزّ نظيرها من دماء أبنائهما واقتصادهما واستقرارهما، ولا ينكر ذلك إلا جاحد حاقد، أو جاهل غافل. ودعمهما الآن فيما يواجهان أصبح واجبا قوميا مقدسا، فهما البوابتان الأخيرتان أمام الاجتياح الطاغي الجارف للعروبة في آسيا وإفريقيا. ولا يظننَّ أحدٌ منا أنه بمنأى عنه، معصوم منه.

أما شعب فلسطين العظيم، النادر المثال، الذي نباهي به الأمم؛ لأنه علّمنا كيف تُصان الأوطان، وكيف نواجه المستكبرين غير هيّابين، فهو قطب الرحى في الصراع، وهو صامد رغم كل الأهوال، عصيّ المنال. وتمكينه في الثبات على أرضه بكل وسيلة ممكنة هو سبيل نجاتنا جميعا إن أردتم أن يبقى للعروبة بقايا مكان ومكانة تحت الشمس وفوق الثرى.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: حفظي اشتية المشروع العربی من الزمان هذا الشعب یکفی هذا هی التی فی أرضه لکنه لم ما جرى فی هذا فی وجه

إقرأ أيضاً:

جلال كشك.. الذي مات في مناظرة على الهواء مباشرة وهو ينافح عن رسول الله

يقدّم الكاتب والباحث المصري جمال سلطان في هذا المقال، الذي تنشره "عربي21" بالتزامن مع نشره على صفحته في فيسبوك، قراءةً حميمة ومكثّفة في سيرة واحد من أكثر المثقفين العرب إثارة للجدل وحضورا في معارك الوعي خلال النصف الثاني من القرن العشرين: محمد جلال كشك.

فمن خلال استعادة شخصية كشك وتجربته الفكرية وتقلباته وتحولاته وصراعاته، لا يكتب سلطان مجرد شهادة شخصية، بل يعيد تفكيك مشهد ثقافي وسياسي كامل، كانت فيه مصر ـ والعالم العربي ـ تتشكل تحت وطأة الإيديولوجيات الكبرى، والمشاريع السلطوية، وصدامات الهوية، ومحاولات التأريخ والهيمنة على الذاكرة.

تتكشّف في هذه السطور صورة كاتب عركته التجارب، واشتعل بالأسئلة، وامتلك جرأة لا تلين في مواجهة ما اعتبره زيفا أو تزويرا للوعي، حتى آخر لحظة في حياته.

طاقة صحفية وفكرية مذهلة

كنت في شبابي مغرما بالكاتب الراحل الكبير محمد جلال كشك، وما زلت، كان الرجل طاقة صحفية وفكرية مذهلة، ولديه صبر ودأب على القراءة والكتابة بشكل تحار فيه العقول، ويكفي أنه كان يقرأ كتب الراحل الكبير أيضا محمد حسنين هيكل ويجري مقارنات صبورة بين ما يكتبه هيكل في النسخة الانجليزية التي تصدر للتسويق الخارجي وما يكتبه في النسخة العربية ، ليكشف عن تناقضات في الروايتين، وهو جهد صعب للغاية، كما كان كتابه المهم "ودخلت الخيل الأزهر" أهم موسوعة حديثة في تسجيل جرائم الغزو الفرنسي لمصر، والعملاء الذين خدموه في الداخل، والكتاب أثار ضجة في حينه، كما كان كتاباه: كلمتي للمغفلين، وثورة يوليو الأمريكية، من أخطر الكتب التي صدرت عن تجربة ثورة يوليو وعبد الناصر، وهو ما قلب عليه القوميين والناصريين بشدة، وهو كان يبادلهم كراهية بكراهية وله كتابات أخرى في هذه المعارك .

لذلك كانت سعادتي كبيرة عندما قدمتني له الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم، خاصة عندما قرأ كتابا لي صدر في أول التسعينات الماضية "أزمة الحوار الديني"، وأبدى إعجابه الشديد به، وكان مندهشا أن كاتبا شابا يكتب بتلك اللغة والمعلومات، ودعاني لزيارته في شقته بالزمالك وأكرمني كرما حاتميا مما جعلني أحكي تلك "العزومة" الفاخرة لصافي ناز على سبيل التباهي بأنها أتتني من كاتب كبير في قيمة وقامة جلال كشك، فلما بلغه كلامي وغزلي في العزومة غضب، واعتبر أن "العزومة" وما فيها من أسرار البيوت وأنني بذلك لم أحترم بروتوكل الزيارات، فلم يكررها ثانية، وبصراحة كان محقا في ذلك وقد تعلمت من هذا الموقف فيما بعد، لكني وقتها خسرت الكثير من الحمام المحشي والمشوي وخلافه، رغم أنه ـ رحمه الله ـ لم يكن يأكل إلا قليلا بسبب إصابته بالسكر والكوليسترول وأمراض أخرى اجتمعت عليه .

شهدت أفكار محمد جلال كشك تحولات، مثل تحولات عبد الوهاب المسيري وعادل حسين وطارق البشري وجيل كبير من المثقفين المصريين، بدأ حياته الفكرية والسياسية ماركسيا وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي، ثم تركه وتركهم وقدم نقدا عنيفا للماركسية ومنظماتها في الستينيات ونشر سلسلة مقالات أزعجت الاتحاد السوفيتي، حتى ردت عليه صحيفة البرافدا واعتبرت أن وجود جلال كشك في الصحافة المصرية هو إساءة للاتحاد السوفييتي، وكانت علاقات عبد الناصر وقتها قد توثقت بموسكو، فأوقفه عبد الناصر عن الكتابة وعن العمل كلية ثلاث سنوات كاملة، ولم يعد إلا بعد النكسة، فعاد إلى مؤسسة أخبار اليوم، ثم ترك مصر كلها وهاجر، وقضى حقبة من حياته في بيروت في حالة لجوء اختياري بعد مضايقات عصر السادات، حتى كانت الثمانينيات حاسمة في توجهه إلى الفكرة الإسلامية، والانحياز للإسلام كحضارة وهوية للأمة وشرط لنهضتها.

لم يمكث جلال كشك بعدها سوى ثلاثة أشهر فقط، وكان من كرم الله عليه أن مات بأزمة قلبية وهو في مناظرة على الهواء ضد نصر حامد أبو زيد يدافع فيها عن رسول الله في وجه خطابات علمانية وغربية متطرفة، فقبضت روحه وهو على هذه الحال.كان جلال كشك يجمع بين الجدية والصرامة في الكتابة وبين خفة الظل والصراحة في المواجهة، وعندما ابتلي في سنواته الأخيرة بسرطان البروستاتا، كان يتردد على لندن للعلاج والفحص، وفي آخر زيارة طبية، أجرى التحاليل، فقال له الطبيب أن أمامه ما بين ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر فقط في الدنيا ثم يموت، ويومها كتب مقالا مؤثرا للغاية في مجلة أكتوبر، وكان لها شأن في تلك الأوقات، كان عنوانه "أنعي لكم نفسي"، وحكى فيه ما جرى وأنه ينتظر الموت خلال ستة أشهر على الأكثر، هي كل ما بقي له من الدنيا، ويودع قراءه، ورغم الحزن والمفاجأة، إلا أنه لم يتخل عن خفة ظله في هذا المقال، فحكى فيه أنه بعد أن تسلم من المستشفى اللندني التحليل الذي يؤكد قرب وفاته، فوجئ باتصال يأتيه من شركة أمريكية متخصصة في "دفن الموتى"، وقالوا له: مستر جلال نحن لدينا تجهيزات راقية للجنازات، ومقابر مميزة وبأسعار مناسبة ويمكن أن نحجز لك مقبرة تسرك!!، وراح في المقال يلعن سلسفيل جدودهم، ولم يمكث جلال كشك بعدها سوى ثلاثة أشهر فقط، وكان من كرم الله عليه أن مات بأزمة قلبية وهو في مناظرة على الهواء ضد نصر حامد أبو زيد يدافع فيها عن رسول الله في وجه خطابات علمانية وغربية متطرفة، فقبضت روحه وهو على هذه الحال.

كان جلال كشك شرسا في معاركه الفكرية، موسوعي الثقافة، قوي الحجة، حاضر الذهن، صاحب جلد وصبر غير عادي على البحث والكتابة، لذلك كان مزعجا جدا لأكثر من تيار فكري ، وبشكل خاص كان مكروها من الأقباط المتطرفين، ومن استصحبوا الوعي الطائفي من المثقفين في كتاباتهم عن تاريخ مصر، ولذلك كان يكرهه بشدة الناقد المعروف لويس عوض وكذلك غالي شكري ، خاصة وأنه في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" كشف عن دور "المعلم يعقوب" والفيلق القبطي الذي شكله للقتال بجوار الجيش الفرنسي الذي احتل مصر، وكان لويس عوض يثني في كتاباته على "المعلم يعقوب" عميل الاحتلال الفرنسي ويعتبره بطلا .

أيضا، يكرهه الناصريون بشدة، لأنه صاحب أهم الكتب التي كشفت عن الدعم الكبير الذي قدمته المخابرات الأمريكية "CIA"، لانقلاب ضباط حركة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، وكان كتاباه "كلمتي للمغفلين"، و"ثورة يوليو الأمريكية" أشبه بزلزال ضرب الوعي الخرافي الذي سوقته آلة الدعاية الناصرية على مدار عقود، وذلك بسبب ما حواه الكتاب من وثائق وأدلة دامغة على الاتصالات واللقاءات السرية التي كانت تجري بين عبد الناصر وبعض ضباطه وبين السفارة الأمريكية، والترتيبات الأمريكية لدعم وحماية انقلاب الضباط ومنع جيش الاحتلال الانجليزي من التدخل، حيث كان جيشهم يرابط في منطقة القناة، على بعد ساعة واحدة من القاهرة.

أيضا، كان يحظى بكراهية شديدة من محبي الأستاذ محمد حسنين هيكل، ومجاذيبه، لأنه القلم الوحيد الذي جرؤ على إهانة هيكل وإحراجه، بل وإعلان احتقاره وتحديه، في مقالات كثيرة، وفي كتب أيضا، وكشف تناقضاته، كما كشف تمريره لمعلومات غير صحيحة على الإطلاق، وتعتبر تضليلا للرأي العام، وكان له صبر عجيب في تتبع هيكل وإحراجه، ولذلك كان الناصريون وأنصار هيكل أكثر من شنعوا على جلال كشك، وأطلقوا حوله الشائعات والشبهات، ورموه بالاتهامات المرسلة والسخيفة والكاذبة التي يسهل إطلاقها على أي أحد، بدون أي دليل، محض كراهية وبهتان وتصفية مرارات عالقة في النفوس.

تتفق أو تختلف مع جلال كشك ، الذي توفاه الله في العام 1993 ، إلا أنك لا يمكن أن تتجاهل أن الثقافة العربية والصحافة العربية خسرت بموته قلما جبارا، وطاقة لا تكل ولا تمل من إثارة المعارك الفكرية والصحفية التي أحدثت استنارة حقيقية في جيل بكامله من المثقفين المصريين والعرب أراد البعض لهم أن يرسفوا في أغلال الزيف والبهتان، يرحمه الله .

مقالات مشابهة

  • "الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه
  • أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية
  • خبير سياسي: مصر الوحيدة التي تواجه المشروع الدولي لتقسيم سوريا وتفكيك الدولة
  • النقد الغائب.. والنقاء المهدد!
  • جلال كشك.. الذي مات في مناظرة على الهواء مباشرة وهو ينافح عن رسول الله
  • أرسنال يواصل تألقه أوروبيا في ليلة "عودة الغائب"
  • الفرق بين الورم والسرطان.. ما الذي يجب معرفته؟
  • من الذي فتح باب حمام الطائرة الرئاسية رغمًا عن ترامب «فيديو»
  • ترامب يتهم “نيويورك تايمز” بالخيانة.. والصحيفة ترد: الشعب يستحق الاطلاع على صحة القائد الذي انتخبه
  • العثور على جثمان الطفل الذي جرفته السيول في كلار