أَعدم الناس وفقا لهذا الكتاب
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
إحدى الأسئلة المهمة التي طرحت على رئيس سوريا الانتقالي أحمد الشرع فـي الأسابيع الأولى بعد سقوط النظام: ما الذي تقرأه وماذا تفضّل من الكتب؟ كان هذا بعد أن انتهى الاجتماع معه وأجاب عن كل الأسئلة التي تتعلق برؤيته لانتقال الحكم، وتعددية المجتمع السوري، والمشاركة فـي الحكم من قبل مؤسسات المجتمع المدني، لكن السائل كان يقصد الكشف عما هو محتجب فـي العادة، مؤمنًا أن ما نفضله من الكتب وما نصرح به حول تفضيلاتنا دون إعداد مسبق قد يكشف عنا شيئًا مهما حاولنا إخفاءه لن ننجح فـي ذلك.
يختلف الأمر عند ترامب وحاشيته، إذ إن تفضيلهم لكتاب «Unhumans: The Secret History of Communist Revolutions (and How to Crush Them)» معلن. هذا الكتاب الذي يعتمد فـيه الكاتب على نماذج أبرزها فرانثيسكو فرانكو وأوغستو بينوشيه اللذان سحقا شعبيهما وتعاملا بعنف مع المعارضين والمنشقين. يعتقد الكاتب أن على ترامب وحكومته أن يتعاملا بالمثل مع اليسار الأمريكي، أو المنشقين مهما كان اللواء الذين ينضوون تحته. لا يعني هذا قتل واستبعاد المعارضين بحسب أفعالهم بحسب، بل وحتى بسبب «الأيدلوجيات» التي يؤمنون بها.
يجد الكاتب الأمريكي حي ناثان روبنسون ذلك مثيرًا للقلق، فكيف لكتاب كهذا أن يكون شعبيًا ممن هم فـي السلطة التنفـيذية. ويجعلنا نتساءل معه عن الحدود التي يستطيع أن يتخذ فـيها ترامب قرارات بهذا الصدد، إذ إن حكم البلاد الجمهوري الذي يعتمد على الدستور يقلص من إمكانية أن يتصرف الرئيس من تلقاء نفسه. أنا نفسي مع كل ما يحدث فـي أمريكا الآن بحثت عن مذكرات دراستي الجامعية عندما درسنا فـي قسم العلوم السياسية بجامعة الكويت نموذج الحكم الجمهوري والنموذج الأمريكي بشكل خاص، مع ذلك يبدو أن فهمنا للسياسية يجري الآن غربلته وإعادة موضعته إزاء كل ما يحدث.
قابل جي ناثان روبنسون كاتب هذا الكتاب وسأله عما يفكر فـيه، وإلى أي مدى ينبغي أن يكون ترامب ديكتاتوريًا ومن هم هؤلاء الأشرار الذين ينبغي عليه استبعادهم بل وقتلهم إن اقتضى الأمر. لكن إجاباته بحسب روبنسون كانت مبهمة ومع ذلك لا يمكن إلا أن تشعر بوقع الشؤم فـيها.
يستخدم الكتاب حجة أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية، أي الغوغاء، وأن نماذج كتلك التي أسلفت بالإشارة إليها أعلاه رأت أن الديمقراطية لا تنجح فـي حماية الأبرياء، لقد سمحت الديمقراطية بحسب إيمان الكاتب لكثير من العصابات بنهب وتخريب البلاد فـي إسبانيا وباريس دون أن يكون ذلك خرقًا للقانون.
توقفتُ عند هذا التصريح كثيرًا، إذ إن السؤال المهم فـي هذه الحالة هو المساحة التي سيتحرك فـيها اليمين الشعبوي فـي العالم كله ما لم يكن النظام ديمقراطيًا، والحدود التي نادى بها اليسار بالمناسبة وفـي سياقات عديدة، بين ميوعة حرية التعبير والفهم الحقيقي لهذه الحرية وأخلاقيات التعبير التي لا ينبغي أن تُطبع مع خطابات الكراهية مثلًا، تساءلت ترى ما الذي سيحدث لو كان هنالك حرية تعبير لا على مقاس السوق الحرة وإنما وفقًا للأدبيات التي لطالما ناقشها اليسار العالمي، الذي ينبغي أن ننزع عنه اليوم الديمقراطية بحسب الكاتب متهمين إياها لا اللاعبين والفاعلين الذين استغلوها لوصول وتكريس أنفسهم. هل يا ترى يحمل هؤلاء بذرة موتهم؟
وهكذا وبدلًا من نقد الديمقراطية وحكم الأقلية فـيها حتى وإن ادعت العكس أي أنها تمثيل للغالبية، ينبغي وحصرًا بعد وصول اليمينين المتشددين أن تُلغى وأن نعتمد على مواقفهم للانطلاق منها فـي حكم البلاد. ألا يبدو هذا تهريجًا؟ لكنني بالمناسبة لا أنفر من هذا التهريج، إن أهم ما تقدمه لنا هذه الأطروحة ومن يقف وراءها أنها تشكل نموذجًا متناغمًا بشدة مع طبيعة العالم الوحشي الذي نعيش فـيه. هذا ما يليق بهذا العالم فـي هذه اللحظة التاريخية. إن عالمًا شهدنا فـيه القتل العلني وتبخير الجثث فـي غزة لا يمكن أن ينتج عنه إلا حكما «كاريكتوريًا» كهذا، وشخصيات «كرتونية» أفضل من هذه التي نراها.
ومع ذلك لا يكف الكاتب فـي لقائه مع روبنسون للتمييز بين موقفه ومن يسميهم «اليمين الرجعي» الواضح فـي عنصريته، حتى وإن لم يكن هنالك ما يشير بوضوح للفرق بين موقفه وموقفهم. مرة أخرى يستغل هؤلاء إذن انعدام «ردلكة/ جذرية» الفضاء العام الذي يتحرك فـي سماء السوق الحرة المفتوح بلا نهاية، لإيهامنا بشيء ما، والتصرف بعكسه.
لم يمض وقت طويل على صدور هذا الكتاب، تُرى هل سيترجم للعربية، وكم واحدًا من أولئك الذين نعرفهم سيحمله بين يديه، مستخدمًا إياه لمزيد من التسلط والعنف الذي تمارسه الدول بحق الشعب وأفكاره وروحه وما يتطلع إليه. لا شك بأنهم كثر أولئك الذي يقولون على غير استحياء فـي مجالسنا الخاصة «لسنا مستعدين للديمقراطية... ليس بعد». فالتنويعات على ترامب ومن يشبهونه قريبة بشكل قد لا نتخيله أحيانًا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الکتاب
إقرأ أيضاً:
في حضرة الكتاب
محمد بن رامس الرواس
قبل الساعة الرابعة مساءً بقليل في الثالث والعشرين من أبريل 2025، بدا اليوم مُختلفًا، وشعرتُ أن له نكهة الانتظار الجميلة للحظات السعيدة المبهجة التي لا تُشبه سواها؛ إذ كنتُ على موعدٍ مع لحظات للامتثال في حضرة الكتاب، ومدعوًا لأتواجد في ديوان الحكمة والثقافة والعلم، بمعرض مسقط الدولي للكتاب في دورته التاسعة والعشرين.
أمسكتُ بيدينٍ مرتعشتين رعشة خفيفة، لا أخالُها إلّا بداية خوف بباكورة أعمالي، الأول كتاب "ثلاثون من أخلاق القرآن"، والثاني كتاب "من الطوفان إلى الصفقة". كانت نبضات قلبي تزداد خفقانًا مختلطة بغبطة داخلية، ومشاعر مختلطة بنفسي تغمرُها فرحة لا تُوصف بما تحمله يداي من قيمة دينية وثقافية ووثائقية؛ ففي تلك اللحظات شعرت بأن الكتابين اللذين بين يدي ليسا مجرد أوراق؛ بل حياة سكنتني فترة من الزمن، قررتْ اليوم أن تخاطب العالم من خلال إصداراتي.
وقبل أن أركب السيارة، تأملتُ غلاف "ثلاثون من أخلاق القرآن" فتذكَّرتُ البدايات قبل عامين، عندما بدأت استرشدُ بما كتبه كبار المفسرين في اختيار ثلاثين خلقًا قرآنيًا؛ فاستخدمت أسلوبي السهل البسيط واختصرتُ الديباجات حتى أصبح هناك كتاب لا يزيد عدد صفحاته عن 100 صفحة يحمل ثلاثين خلقًا قرآنيًا مجيدًا. راهنتُ على أسلوبي البسيط في الطرح كي يطلع القارئ في وقت قصير على خلاصة عظيمة لقيم ومبادئ ربانية، ثم التفتُ لتقع عيناي على كتابي الثاني "من الطوفان للصفقة"؛ فتذكرتُ أول مقالة كتبتها قبل 15 شهرًا ونيف، منذ أن بدأت الأحداث الجسام بطوفان الأقصى من غزة، فكانت رحلة مع الصورة والقلم والنصر والألم والانتصار والفرح والبكاء...
شعرتُ وأنا أقود السيارة أن الطريق إلى معرض الكتاب طويلًا وبعيدًا؛ فقد كانت كل دقيقة تمضي ببطء؛ فأدركتُ حينها أنني لستُ ذاهبًا إلى مجرد فعالية؛ بل إلى تظاهرة معرفية، وإلى لقاء مع المتلقين من القراء الكرام ورواد الفكر، الى لحظة الانتقال والتواصل مع الجمهور.
خرجتُ مسرعًا من السيارة عندما وصلتُ الى مواقف السيارات بمعرض الكتاب، مُتجِّهًا نحو المدخل الرئيسي لمركز عُمان للمؤتمرات والمعارض؛ في يوم الافتتاح 23 أبريل 2025؛ حيث تحتضنُ مسقط العامرة عاصمة الفكر والنور حدثًا ثقافيًا تترقبه القلوب والعقول عامًا بعد عام. وللمرة الثانية لا يزال الصوت الداخلي بنفسي والأفكار ذاتها بقلبي، يسبقانني بفرح خاصٍ لإصداري الأول "ثلاثون من أخلاق القرآن"؛ ذلك العمل الذي حرصت أن يكون مرآةً نقية تعكس ما في القرآن الكريم من أخلاق وقيم سامية ومبادئ إنسانية رفيعة، تتجاوز الزمان والمكان، إنه كتاب يتحدث مباشرة مع القلب والعقل ويرشد الى أفضل مبادئ الأخلاق في الحياة اليومية، إنها ثلاثون من أخلاق القران تسري في الروح وفي العمل والموقف والضمير.
أما كتابي الثاني "من الطوفان إلى الصفقة"؛ فهو توثيق لما شهدناه من تحولات عميقة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خلال واحدة من أكثر مراحله الصعبة ويضم 44 مقالًا كُتبت على امتداد زمنٍ ملتهب، تتبعتُ فيها تطورات العدوان وشموخ الصمود، وكشفتُ فيها خفايا آهات الأطفال والنساء وكبار السن، وهو شهادة قلم وفكر وأدب ومحاولة لإضاءة الحقيقة في زمن الضجيج كتبت هذه المقالات بالحبر لكن من وجع غزة، إنها مرحلة لا يجوز أن تمر دون أن تُوثق.
عندما اجتزتُ البوابة الداخلية للمعرض سمعتُ أصوات الزوار والجمهور والمشاركين والضيوف؛ فتبادر الى ذهني خوف لم أكن قد شعرت به من قبل إنها 674 دار نشر من 35 دولة أين سيكون كتابيَّ الاثنين بين كل أولئك، أن هذه ليست مجرد أرقام، هذا صدى لحوارات العقول، ونداء للعالم أن الثقافة لا تزال حيّة، تنبض، وتنمو في تراب عُمان الطيّبة. ولأنني أحمل في دمي عشق الحرف وفي وجداني تعظيم الكتاب، قلتُ لنفسي إن أهل عُمان محبون للقراءة والأدب، فهُم عُمَّار المجالس الأدبية في ولاياتهم، والعُماني سواء كان من كبار السن أو الشباب أو الأطفال، مُحبٌ للمعرفة وعاشق للكلمة ووَفِيٌّ للكتاب.
ولعل من المشاهد البديعة التي تأسر العين في مثل هذه الفعاليات، الحضور الطاغي للدشداشة العُمانية البهية بين أروقة المعرض تحمل رمزية حيّة للهوية والانتماء، وهذا المشهد المتكرر في معارض الكتب سواء بالسلطنة او خارجها بمعارض الكتب، إنما يدل على اعتزاز الإنسان العُماني بقيمه وبتراثه، وحرصه على الحضور بثقافته وهُويته في محافل الفكر كما في محافل الحياة، ومعرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي كانت سلطنة عُمان ضيف الشرف فيه، ليس ببعيد، لنستذكر تفاعل الجناح العُماني وتميزه بالثقافة والفن والإبداع، ما جعله محط أنظار رواد المعرض بالقاهرة.
في أروقة المعرض، التقيتُ بوجوهٍ أعرفها جيدًا، كُتّاب وأدباء عُمانيين ومن أبناء مجلس التعاون الخليجي، الذين لطالما جمعتني بهم الكلمة، وقرّبت بيننا روح الحرف، كان كلٌّ منهم فرح سعيد وكأنه في كرنفال تغمر عينيه ذات الفرحة التي تسكنني. كان مشهدًا جميلًا أن ترى نخبة من الأصدقاء والزملاء كلٌّ منهم جاء ليقدّم ثمرة فكره، ونتاج قلمه، بين أدب وتاريخ وفكر وعلم، في لوحة جماعية تنطق بالحلم الذي انتظروه حين يتحول الفكر إلى نص مطبوع، وصوت يقرأه الناس.
في تلك اللحظة، لم أكن وحدي. كنَّا جميعًا هناك، نشبه بعضنا في نبض الفرح، ونحمل مسؤولية الكلمة بوعي المحبة، ونؤمن أنَّ الكتاب ما زال ضوءًا سرمديًا، وأن الثقافة ما تزال ركيزة كبرى وأن لعُمان صوتًا لا يُخطئه السامعون.
وهكذا، وأنا أعبرُ نحو دار بورصة الكتب للنشر والتوزيع بالجناح الخامس، شعرتُ أني لا أُقدّم كتابين فحسب؛ بل أضع لبنتين في صرح ثقافي راسخ، وأغرس حلمًا جديدًا في أرض خضراء بالوعي، عسى أن يثمر نورًا في قلب قارئ أو يبذر فكرةً في ذهن شاب، أو يداوي خاطر إنسان أو يصلح شأن امرئ يبحث عن الطريق.
رابط مختصر