تفرض حقائق التاريخ وعوامل الجغرافيا التزامات على الدول لا مفر منها، فترغمها على إبرام تحالفات ومعاهدات وتربطها بجوارها الطبيعي والسياسي بشكل لا فكاك منه. هذه حقائق قبل أن تكون جزءا من أية أيدلوجية سياسية، وهذه الحقائق تتجلى عندما تصل حالة الخطر المحدق بالأوطان إلى مرحلة لا فكاك منها؛ مثلما حدث خلال الأيام الماضية بعد تصريحات الرئيس الأمريكي الجديد عن تهجير أهل غزة لمصر والأردن.
يمكن قول كثير من الأمور حول المصير المشترك لدول العالم العربي، ولكن يكفي موقف واحد كاشف ليظهر هذه الحقيقة بشكل لا مراء فيها. وهذه المرة جاءت الصرخة من الأنظمة وليس من الشعوب، فهذه الأخيرة خرجت من المعادلة الحسابية للتأثير خلال العام ونصف العام الماضي منذ اندلاع طوفان الأقصى، ووجدت الحكومات العربية نفسها أمام تهديد وجودي يستهدف شرعيتها ووجودها من قبل سيد البيت الأبيض الجديد، فكانت صيحة نداء للتوحد على أمر جامع يواجهون فيه ما يجري.
هذه المرة جاءت الصرخة من الأنظمة وليس من الشعوب، فهذه الأخيرة خرجت من المعادلة الحسابية للتأثير خلال العام ونصف العام الماضي منذ اندلاع طوفان الأقصى، ووجدت الحكومات العربية نفسها أمام تهديد وجودي يستهدف شرعيتها ووجودها من قبل سيد البيت الأبيض الجديد، فكانت صيحة نداء للتوحد على أمر جامع يواجهون فيه ما يجري
صيحة التنادي تلك شعارها كان الأفكار الجديدة والبديل لما يطرحه ترامب، وأنَّى للأفكار أن تأتي بعد موجات من التصحر الذي مارسته هذه الحكومات على رصيدها الاستراتيجي من الرأي العام؛ الذي كان سينفعها في يوم مثل هذا لتحتمي به في أتون هذه العاصفة الأمريكية الهوجاء. ولهذا غاصت أيدي الباحثين عن وجوه لها بعض التاريخ الدبلوماسي والعمل الفكري ولم تجد إعلاميا غير اثنين من المسئولين المصريين السابقين؛ الأمين العام السابق للجامعة العربية ووزير الخارجية المصري السابق عمرو موسى، والدكتور مصطفى الفقي، السفير السابق والمسئول السابق في رئاسة الجمهورية المصرية.
وكلا الرجلين لا ينتمي للفكر الناصري وحسب بل وللتنظيم الطليعي الذي تأسس في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، هذا الذي عفا على عهده وعهد أشياعه من الحكومات العربية الزمن، لكن البحث عن أصوات تتحدث عن الإطار العربي الجامع لم يسفر سوى عن هذه الأسماء.
إن من يتابع البيانات الصادرة عن وزارتي الخارجية المصرية والسعودية يكاد يظن أن كلا البلدين قد انضما فجأة إلى محور المقاومة، وأن العصر الذي نعيش فيه ليس 2025 وإنما الستينات من القرن العشرين؛ تصعيد في اللهجة الدبلوماسية تجاه إسرائيل واستنفار وطني وتضامن بلغة غير مسبوقة في المدى الزمني الذي يعود إلى عقود مضت. حتى الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع الذي انتهج سياسية عدم فتح أية ملفات خارجية حساسة، العالم العربي يعيد اكتشاف نفسه ويعيد اكتشاف أن قضية فلسطين هي قضيته المركزية، وأنها تتماس مع مصائر العرب من المحيط إلى الخليج بحسابات المصالح والمنافع والماضر قبل حسابات النخوة والنصرة والشهامة والديناضطر لأن يعبر عن رفضه لتصريحات الرئيس الأمريكي. فما الذي يجري؟ هل هي زوبعة دبلوماسية وإعلامية أم تحول كبير؟
الظاهر أن العالم العربي يعيد اكتشاف نفسه ويعيد اكتشاف أن قضية فلسطين هي قضيته المركزية، وأنها تتماس مع مصائر العرب من المحيط إلى الخليج بحسابات المصالح والمنافع والماضر قبل حسابات النخوة والنصرة والشهامة والدين، وأن محاولات الانعزال الفردي للدول للبحث عن مصالحها قصيرة الأجل ليست سياسية ناجعة ما تلبث أن تتهاوى أمام التحديات الكبرى.
مظاهر سيمفونية العزف الدبلوماسي العربي المشترك التي لونت مشاهد الأخبار في الأيام الماضية مرشحة للتكرار بأساليب وأشكال أخرى خلال الأيام القادمة، قبل انعقاد القمة الخماسية في العاصمة السعودية الرياض في العشرين من شهر شباط/ فبراير 2025 الحالي، وهي القمة المصغرة التي تسبق القمة العربية المقرر إجراؤها في نهاية الشهر الحالي نفسه. ورغم أنني لست ممن يعولون كثيرا على قرارات القمم العربية، لكني لست ممن يهملون هذه اللقاءات في اللحظات التاريخية المفصلية التي نمر بها؛ لسبب بسيط أنها تكشف عن كثير مما لا يقال.
x.com/HanyBeshr
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تهجير غزة العربي ترامب المصريين مصر الاردن غزة تهجير عرب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد رياضة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العالم العربی
إقرأ أيضاً:
استراتيجية الأسئلة والثورات العربية.. مشاتل التغيير (48)
إن حال الثورة والانتقال، وحال المفاهيم والخطاب.. كل ذلك يقع في قلب مدخل الأسئلة، الأسئلة التي يجب على كل ثقافة وحضارة أن تطرحها على الذات الحضارية فتكون موقفا حضاريا واعيا وبصيرا.. وعي بالذات واختصاصها، ووعي بالغير والآخر والتفاعلات والعلاقات معه على تنوع مستوياته وتجدد علاقاته، ووعي بالموقف الحضاري الذي يتطلب القدرة على التعرف على أركانه ومساراته ومقاصده.
مجمع الأسئلة الحضارية إنما يشكل منظومة تتعلق بالتعامل الإستراتيجي مع هذه الأسئلة وكيفية صوغها فضلا عن منظومة ترتيبها، وكذلك ملاحظة شأن العلاقات فيما بينها ضمن فعل مفض للتفاعل، وتفاعل مؤد للفاعلية. أسئلة النهضة وأسئلة الهوية وأسئلة التجديد والإصلاح والثورة والانتقال وأسئلة المستقبل، كلها منظومة من الأسئلة تشكل مدخلا مهما للتعرف على الخرائط الإدراكية الثقافية والتعامل معها بوعي وبصيرة، والأسئلة التي تتعلق بهذه الأنساق الثقافية والحضارية إنما تتولد عن منظومة كلية تتعلق برؤية العالم. فإن مفهوم الخصوصية، من هذه الرؤية الكونية ومعمارها ومجالات تميزها، وقدرات تفعيلها، تصل بين تأصيل الرؤية، وتنزيلها على واقع الحياة بما يشمله من أطراف وفواعل وسياسات وعلاقات وأبنية ومؤسسات وآليات وأدوات، هذا النظر المنهجي للأسئلة إنما يضع أسسا للانطلاق إلى الإجابات والاستجابات، ذلك أن أسئلة الثورة غير أسئلة النهوض ويجمع بينهما سؤال التغيير الكبير.
أ- كان السؤال في الموجة الأولى هو ما إذا كان العالم العربي مستعدا للديمقراطية؟ وقد بات من الواضح بعد 10 سنوات أن هذا كان السؤال الخطأ، وفقا للصحفي البريطاني- اللبناني أوس قاطرجي، الذي أشار الى أن الجمهور العربي فكك بشكل منهجي عقودا من الصمت القمعي بين عشية وضحاها. كان السؤال دائما ما إذا كان بقية العالم مستعدا لدعمهم، ويجب أن تكون الإجابة على هذا السؤال واضحة بعد مضي عقد من إراقة الدماء في الشرق الأوسط في ظل لا مبالاة كاملة تقريبا من القوى العالمية.
ب- لماذا حدثت الثورات العربية؟ أزالت الثورات العربية الغطاء الذي ظل يحجب مشكلات بنيوية في كثير من المجالات التي طفت كلها على السطح دفعة واحدة، فسهّل الأداء المغلوط القائل إن الثورة "سبب" إنتاج هذه المشكلات. ويكفي التذكير بما قاله عبدالرحمن الكواكبي بأن الاستبداد هو أصل البلاء وأعظمه، ولعل العالم العربي يعيش أشد أنواع الاستبداد المتمثل في حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية، فالعقود الطويلة من الاستعمار الغربي المباشر أو غير المباشر ومن ثم استبداد النظم العربية الحاكمة وتسلطها على مقومات الدولة والشعب والأفراد؛ شكلت حاجزا بين المواطن ومشكلات المجتمع.
وقد هزت التغيرات السياسية التي شهدها الربيع العربي دعائم الدولة الاستبدادية، كما أنها تسببت في قطع أشواط مهمة نحو التحول الديمقراطي بإنجاز تجارب انتخابية ناجحة ومحاولات جادة لصياغة دساتير جديدة في عدد من دول الربيع العربي، أو مراجعة دساتير موجودة وقائمة في دول عربية أخرى، إلا أن مصائر بعض دول الثورات العربية والانقلابات أو عدم نجاح الثورات بصورة قاطعة دفع البعض للتقليل مما تحقق، والقول إن التداعيات السلبية لظاهرة الربيع العربي أكثر بكثير من إيجابياتها على المستويات كافة.
من ناحية أخرى، لم تتغير الظروف التي أدت لاندلاع الثورات الشعبية العربية قبل عشر سنوات، بل ازدادت سوءا، وارتفعت البطالة، وتراجعت الحريات، وتضخم الفساد، وتعزز القمع والاستبداد، وهذه كلها ظروف مهيأة للثورة، وهي ظروف لا ينقصها سوى الشرارة التي لا يعرف أحد متى ستندلع؛ هي شرارة لن يقررها شخص، أو كاتب، أو سياسي، أو مركز دراسات، لأن حركة الشعوب لا تستطيع مراكز الدراسات أو أجهزة الأمن قراءتها، وبقدر ما هي حركة عظيمة بقدر ما هي مفاجئة و"غير متوقعة".
ج- الثورات العربية وفشل النظام الإقليمي كشف عن ضرورة التغييرات القادمة (عالم الأحداث كانت فيه أمور كثيرة دفعت للتساؤل عن متى يثور الناس، سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أو وقوع أحداث كبرى في الدول العربية أو أحداث النظام الإقليمي العربي والتدخلات الخارجية فيه)
وبالنظر إلى مفاصل زمنية عبر هذه السنوات يمكن التمييز بين أربع مراحل فرعية مرت بها التفاعلات الإقليمية بين القوى، وانطلقت هذه التفاعلات من "الثورات المتعاقبة"، ثم تمحورت حول الانقلابات والثورات المضادة التي حولت الثورات إلى حرب على الإرهاب، كما تشابكت حول إدارة الصراعات المسلحة العنيفة (حروب أهلية) في اليمن، وسوريا، والعراق وليبيا؛ وهي حروب بين نظم أو أشباه نظم وبين قوى وحركات مسلحة متعددة الأطياف، حروب وضعت على المحك مستقبل الدول القائمة ومستقبل النظم الحاكمة التي ثارت عليها الشعوب، بقدر ما تختبر مستقبل "الحركات الإسلامية السياسية" بكافة تياراتها (التي وضعت جميعها في كفة الإرهاب).وهذه المراحل المتمايزة الأربع هي كالآتي:
- صدمة اندلاع الثورات، وتشكل الموجة الأولى من التحالفات سريعة الأهداف (2011-2012).
- سفور الثورات والانقلابات المضادة: الموجة الثانية من ردود الفعل بقيادة هجوم مصري سعودي إماراتي (2013-2014).
- انفجار الحروب الأهلية: أدوار داعش، والحوثيين، وحفتر، والأسد، ورؤوس الحربة المحركة: السعودية-الإماراتية-المصرية، والدعم الخارجي المباشر (الروسي-الإيراني)، والتردد الأمريكي، والمناورة التركية القطرية، وانفجار الصراع الإيراني السعودي بعد عقد الاتفاق النووي (2014-2016)، وسيولة التحالفات وفشل استراتيجيات هجومية مضادة، وارتفاع التكلفة، وصعوبة التسويات السلمية، وارتفاع ثمن الحسم العسكري (2016- 2020).
- ومثلت المرحلة الراهنة، منذ صعود ترامب للسلطة، حتى سقوطه في الانتخابات الأخيرة، مرحلة كاشفة بقوة لمدى النجاح أو الفشل في تحقيق أهداف التحالفات المضادة للثورات العربية.
تمثل هذه المراحل الثورات والتغييرات التي لحقتها، ومناط هذه التغييرات هو مستقبل الشعوب والأوطان في مقابل مستقبل النظم؛ وذلك في ظل تجزئة وطنية وإقليمية تلعب فيها العوامل المذهبية والطائفية والدينية دورا أساسيا في تأجيج صراعات دموية داخلية بالأساس، تخفي وراءها أو تُظهِر مصالح استراتيجية كبرى توظف لخدمتها هذه العوامل، حماية ودعما لمصالح قوى إقليمية وعالمية.
د- الأسباب والعوامل الدافعة للطلب على التغيير واستمرارية الظاهرة الثورية: هل من تفسير لتغيير قادم وموجات تالية؟
هناك موجة جديدة من الثورات العربية قادمة لا محالة، فالوضع الاقتصادي بات أصعب بكثير في الوقت الراهن، نظرا إلى انهيار أسعار النفط بعد العام 2014. فقد تباطأ النمو، في ظل ارتفاع معدل الدين العام والبطالة، ولم يعد في متناول الأنظمة الحاكمة سوى موارد قليلة لتمويل شبكات الزبائنية. إذن، في حين أن التوق إلى الكرامة شكّل زاد الثورات السابقة، يبدو أن الجوع هو الدافع الأساسي للاحتجاجات الراهنة. وتُظهر الاحتجاجات والصعوبات الاقتصادية المستمرة في لبنان والعراق أن شهية الجمهور للتغيير الديمقراطي لا تزال مشتعلة بقوة، حتى بعد عقد من الاحتجاجات الإقليمية المدمرة والنزوح الجماعي واللامبالاة الغربية.
تستمر المنظمات الشيعية الإقليمية شبه العسكرية الإيرانية وتقنياتها الوحشية في تصعيد التوترات، وتجد المنظمات الأصولية السنية غير الحكومية أرضا خصبة في وسط الفوضى. كما باتت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أدت لاندلاع ثورات الربيع العربي أسوأ بكثير مما كانت عليه في عام 2011، وذلك قبل أن تدرك المنطقة تماما التأثير المالي لوباء فيروس كورونا.
لا توجد وسيلة للديكتاتوريات لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء إلى عام 2011، ولا توجد رغبة لدى شعوبها في قبول الوضع الراهن الذي يحرمها بشكل دائم من حقوقها. إن الشعوب أكثر تعطشا من أي وقت مضى؛ وتنتظر الآن الشرارة التالية. وعلى الرغم من تمكن قوى المضادين للثورة في الداخل، بمساعدة قوى خارجية عربية وأجنبية، من الإمساك بزمام الأمور، وتحقيق نتائج ونجاحاتٍ تباينت من حالةٍ إلى أخرى، فإنه في حالاتٍ قليلةٍ نجحت هذه الثورات المضادّة في التمكين لنظم حكم بديلة، وتبيّن لاحقا أنها بطش واستبداد وربما أكثر فسادا مما كانت عليه النظم القديمة. لكنها في حالاتٍ أخرى كثيرة لم تنجح إلا في بثّ تفجير النعرات القبلية والطائفية والمذهبية والعرقية، وفي إشعال الحروب الأهلية التي سرعان ما تحوّلت إلى حروبٍ بالوكالة لحساب قوى خارجية، بل وفتحت الباب أحيانا أمام تدخلاتٍ عسكريةٍ خارجية.
كما شهد العالم العربي، طوال السنوات العقد الأخير أو يزيد، موجاتٍ تلو أخرى من القتل والتدمير والنزوح والهجرات والتشرّد والبؤس، كما انغمست النخب الفكرية والسياسية التي كانت قد نجحت في تفجير ثورات "الربيع" في حملاتٍ لتبادل الاتهامات، وتحوّل العالم العربي خلال السنوات العشر السابقة إلى ساحة مستباحة للتدخلات الخارجية. وفي النهاية فإن دوافع الموجات الثورية التي تلت الموجة الأولى هي نفسها: حكومات متسلطة، متربعة فوق مواطنيها، وفوارق اجتماعية تتفاقم يوما بعد يوم، ومحاولات للهيمنة العسكرية على كافة منافذ الحياة العامة والخاصة، بالإضافة للعمل على زرع الفرقة بين القوى السياسية وبين أطياف الشعب نفسه استدعاء لسياسة الاستعمار "فرق تسد".
إن سؤال مشاتل التغيير يطرح نفسه في سياق يجيب على تلك الأسئلة السابقة؛ ويؤكد أنه ما لم نستفد من تلك التساؤلات والإجابة عليها بشكل علمي يشرح الظاهرة الثورية؛ سنظل ننتظر الإجابات من أناس غير معنيين بمسألة التغيير من داخل أو خارج. الفراغ والفجوات التي تتركها الأسئلة لا بد أن يُملأ، والفراغ يُملأ بك أو بغيرك، فهل تعلمنا الدرس من استراتيجية الأسئلة وإعادة طرحها وتقديم الإجابات والاستجابات الواعية والفاعلة؟
x.com/Saif_abdelfatah