ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الإنسانية
تاريخ النشر: 19th, February 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لقد أصبح التلاعب بالمفاهيم الحقوقية أداة سياسية تستخدمها الدول الكبرى بحسب أهوائها ومصالحها الاستراتيجية فحين يكون الضحية ينتمي لدولة حليفة للقوى الغربية تتسارع الإدانات وتتصاعد الضغوط وتفرض العقوبات وتستنفر المنظمات الحقوقية بينما حين يكون الضحية من طرف لا يخدم هذه المصالح يتم تجاهله أو التغطية عليه.
خذ على سبيل المثال القضية الفلسطينية التي تعكس بوضوح أحد أكثر مظاهر ازدواجية المعايير في العصر الحديث إذ يتعرض الشعب الفلسطيني منذ عقود لاحتلال عسكري وحصار اقتصادي وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي من قتل وتدمير منازل واعتقالات تعسفية ومع ذلك نجد أن الإدانات الدولية خجولة وعقيمة لا تتجاوز حدود الكلمات بينما حين يتعلق الأمر بدول أخرى يتم التحرك بسرعة فائقة لفرض العقوبات واتخاذ إجراءات صارمة. إن الكيل بمكيالين هنا واضح تمامًا حيث يتم منح بعض الدول حصانة غير معلنة ضد المحاسبة بينما يتم فرض رقابة صارمة على دول أخرى.
الأمر ذاته ينطبق على تعامل القوى الدولية مع قضايا اللاجئين فعندما نزح الملايين من السوريين والعراقيين نتيجة الحروب التي غذتها التدخلات الخارجية تم التعامل معهم كعبء أمني وتهديد ديموغرافي أما عندما تدفقت موجات اللاجئين الأوكرانيين جراء الأزمة الأخيرة قوبلوا بحفاوة واستقبال مفتوح وتم تسخير موارد ضخمة لإيوائهم. الفرق هنا لم يكن في حجم المأساة أو طبيعة المعاناة بل في الخلفية العرقية والسياسية للضحايا حيث يكشف هذا التمييز العنصري غير المعلن عن عمق التحيز الغربي في التعاطي مع الأزمات الإنسانية.
في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يتكرر المشهد ذاته في قضايا الحروب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان حيث تتجاهل الدول الكبرى التدخل أو حتى الإدانة طالما أن مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية مؤمنة. فكم من الأنظمة القمعية التي مارست انتهاكات صارخة ولكنها ظلت محمية من أي محاسبة لأنها تقدم خدمات اقتصادية أو سياسية للقوى العظمى في المقابل نجد أن دولًا أخرى يتم إخضاعها لعقوبات صارمة لمجرد أنها خرجت عن الخطوط الحمراء التي رسمتها القوى الغربية.
حتى على مستوى وسائل الإعلام هناك تحيز صارخ في نقل الأخبار والتفاعل مع القضايا الإنسانية فالانتهاكات التي يرتكبها أعداء القوى الكبرى يتم تضخيمها وتصويرها كجرائم ضد الإنسانية بينما يتم تمرير أو تبرير الانتهاكات التي ترتكبها الأنظمة الحليفة ويتم تطويع المصطلحات لتخفيف وقع الجرائم ففي حين يتم وصف بعض المقاتلين بأنهم إرهابيون يوصف آخرون بأنهم مناضلون من أجل الحرية وفقًا للمصلحة السياسية لا لمعيار موضوعي ثابت.
ازدواجية المعايير لا تقتصر على السياسة الدولية بل تمتد إلى المؤسسات الحقوقية والمنظمات الإنسانية التي يفترض بها أن تكون محايدة ومستقلة لكنها كثيرًا ما تتورط في التسييس والانحياز، فبعض المنظمات تتبنى قضايا بعينها وتغض الطرف عن أخرى رغم أنها لا تقل خطورة والسبب يعود إلى التمويلات التي تتلقاها أو الضغوط التي تمارس عليها من القوى الكبرى ما يجعلها تفقد دورها الحقيقي كمدافع نزيه عن حقوق الإنسان.
إن استمرار هذا النهج الانتقائي يهدد بفقدان الثقة في النظام الدولي ويغذي مشاعر الغضب والإحباط لدى الشعوب المظلومة كما يعزز مناخًا عامًا من اللامبالاة حيث يدرك الناس أن حقوق الإنسان ليست سوى أداة ضغط تستخدم عند الحاجة وليس مبدأً ثابتًا يحكم العلاقات الدولية.. هذه الحقيقة تدفع نحو ازدياد النزاعات والاضطرابات في مناطق عدة لأن من يشعر بالظلم والتجاهل لن يجد أمامه سوى خيارات يائسة للرد على المعايير المزدوجة.
العالم بحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم العدالة الإنسانية بحيث لا يكون مرتبطًا بمصالح القوى الكبرى بل ينطلق من أسس ثابتة تحترم كرامة الإنسان أينما كان. يجب أن تكون القوانين الدولية ملزمة للجميع دون تمييز وأن تخضع جميع الدول للمحاسبة على حد سواء كما ينبغي أن تعمل المنظمات الحقوقية باستقلالية تامة بعيدًا عن أي ضغوط سياسية أو تمويلات مشبوهة.
لقد أثبت التاريخ أن ازدواجية المعايير لا تؤدي إلا إلى مزيد من الأزمات والانقسامات وأن التعامل العادل مع القضايا الإنسانية هو الطريق الوحيد لضمان استقرار العالم وتحقيق سلام حقيقي وليس مجرد شعارات جوفاء آن الأوان لأن يتخلى المجتمع الدولي عن نفاقه وأن يتبنى نهجًا أكثر صدقًا وعدالة تجاه حقوق الإنسان.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: ازدواجية المعايير القضية الفلسطينية المؤسسات الحقوقية ازدواجیة المعاییر حقوق الإنسان
إقرأ أيضاً:
السفينة مادلين التي أبحرت ضد التيار بشراع الإنسانية
ارتقى الإمام المنبر ليخطب خطبة الجمعة التي صادفت أول أيام عيد الأضحى المبارك، ولأن هذا اليوم كان يوم عيد، اختزل الإمام خطبته في كلمات بسيطة كان له دويٌّ في نفسي كدويّ المدافع؛ فلقد أبدى الإمام شعورًا بالخيبة والخذلان مما يحدث في قطاع غزة، وجاءت نبرات صوته المتقطعة الواهنة دليلا على مدى العجز وقلة الحيلة في تقديم المساعدات لأهالي غزة، المضروب عليهم الحصار والمحرومون من الماء والغذاء، وكيف لا نستطيع كشعوب ودول متاخمة ومجاورة للقطاع بأن نمد لهم يد العون ولو بشربة ماء أو كسرة خبز، توقَّف الشيخ للحظة ليطرد غصة اعترضت حلقه، فقام أحد المصلين بتقديم المساعدة للشيخ بإعطائه قارورة ماء صغيرة ليطرد الغصة التي اعترضته، فتناولها الشيخ وبعد ارتشافه لبعض الماء، راحت الغصة عنه، لكن غصة قلبه كانت أمضى وأشد، فانساحت الدموع من مقلتيه غزارًا، لتعبّر عن مدى الهوان الذي يعيشه المحاصرون في غزة، ولسان حاله يقول: لقد وجدت من أعانني بشربة ماء، فمن يعين هؤلاء المضروب عليهم الحصار بشربة مثلها تبل ظمأهم، وكسرة خبز يتبلغون بها، وقطعة قماش تقيهم صر البرد وقيظ الحر، وعهد أمان يلوذون به من ضراوة الخوف وبشاعة الدمار والموت!
ودَّع المصلون المسجد، وكلٌ ذهب إلى غايته وأنا معهم، لكن حديث الشيخ ظل يلازمني، وتبينت مدى العجز وقلة الحيلة، واستصغرت كل ما من شأنه لا يضيف بعدًا عمليًّا للقضية الفلسطينية، فالتنديد والشجب، وسكب الكلمات الرنانة لا تسمن ولا تغني من جوع، بعدها انصرفت لشؤون حياتي كالعادة، لكن الصفحة ما زالت مفتوحة لم تطو بعد، فما هي إلّا ساعات معدودات حتى كان خبر السفينة مادلين، هذه السفينة التي قرّر بحّارتها ومَن على متنها من نشطاء إنسانيين، أن يشقوا سدف الليل بنور الحرية وعدم الاكتفاء بالتنظير والتنديد والشجب، بل قرّروا خوض الغمار عمليًّا من خلال محاولة تقديم المساعدات الإنسانية للشعب المحاصر في قطاع غزة من خلال تقديم المساعدات من ماء وغذاء وكساء وأدوية.
السفينة مادلين التي أبحرت من ميناء «كاتانيا» في جزيرة «صقلية» الإيطالية، أفردت شراع الحرية، لم تهَب خطر الموت، حمل كل من على متنها باختلاف عقائدهم وجنسياتهم رسالة الوفاء للإنسانية، وتضامنهم مع إخوانهم في الإنسانية الذين يرزحون تحت نير الحصار الذي جرّعهم ويلات الخراب والدمار الذي يودي بهم إلى الموت اللحظة تلو الأخرى.
ربما نكون قد سمعنا عن رحلات بحرية لسفن عديدة، جابت البحار وقطعت أمواجه لتحقيق أهداف وغايات تصبوا إليها، فشد الرحال والإبحار يعني التوق إلى الحرية مهما كانت الأهوال والمخاطر، وعندما يتم فرد الشراع فذلك تأكيد على الانطلاق من القيود نحو رحابة الوجود الإنساني، وقد حفل التاريخ الإنساني بالعديد من الحالات الإنسانية التي أرادت التحرر من ربقة الطغيان والعبودية واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولعل سفينة «باونتي» البريطانية خير شاهد على ذلك؛ فلقد غادرت السفينة إنجلترا وأبحرت تقصد جزيرة «تاهيتي» لجلب نوع مخصوص من النباتات، وكان يقود السفينة قبطان يدعى «وليم بلان» كان طاغية مستبدًا، يسوم البحارة سوء العذاب، وينتقص منهم، ويعاملهم معاملة السوء، فحمل له البحّارة البغض والشنآن، ولأنهم كانوا يتوقون إلى حريتهم وإنسانيتهم، قرّروا التخلص من هذا الطاغية، والإبحار بالسفينة نحو جزيرة «تاهيتي» فاتخذوها دار مقام لهم، ولاذوا بها وبطبيعتها وبسمائها الصافية، وأقاموا مع أهلها الطيبين، واجهوا خطر الموت وعقوبة التمرد من أجل الحياة، لم يكتفوا بالتظاهر وترديد الكلمات، بل تمردوا وأبحروا نحو غايتهم، وهي الظفر بحريتهم وبإنسانيتهم، ورغم ما كانوا يعلمونه من مغبة تمردهم إلّا أن ذلك لم يَحُل بينهم وبين تنفس هواء الحرية.
بحارة «باونتي» كان هدفهم إنسانيا نبيلا، لكنه كان يتمحور حول الذات، أمّا بحارة «السفينة مادلين» فهدفهم تجاوز الذات، وتجاوز العِرق والجنسية والمعتقد، فكان هدفهم أسمى وأجلّ وهو الانتصار لقيم الحق والحرية والعدالة، الانتصار للإنسانية، لقد استطاعت هذه السفينة التي هي عبارة عن قارب صغير، أن تعبّر عن قوة الإرادة الإنسانية، وعن روح وضمير الإنسان، لم تخش أهوال البحر ولا صخب أمواجه، ولا رياحه العاتية، ولا الأخطار الأنكى والأشد من أهوال البحر المتمثل في طغيان الكيان الصهيوني، الذي ما إن رصد السفينة، حتى تعقبها وأعلن اعتقال الناشطين على متنها، ومنعهم من بلوغ وجهتهم قطاع غزة المحاصر لكسر الحصار، وتسليم ما لديهم من معونات ومساعدات إنسانية لأهالي القطاع، وتم وضع النشطاء الذين كانوا على متنها رهن الاعتقالات والتحقيق معهم من خلال الكيان الصهيوني.
لقد أثبتت السفينة مادلين أن الإنسانية لم تمت بعد وأن هناك مَن يضحي من أجلها، وأن لديهم الاستعداد للإبحار في لجة الحياة المتلاطمة، يجابهون الصراعات والتحديات من أجلها، لا يخشون الطغيان والظلام والفساد، وفي رأيي أن هذه الإبحار الذي قام به هؤلاء الناشطون على متن هذا القارب الصغير سيظل من أهم الرحلات التي سوف يتم تخليدها في ضمير الإنسانية عبر الزمن؛ لأنهم لم يستهدفوا من رحلتهم غاية شخصية أو مصلحة ذاتية، بل كانت غايتهم هي الحب والوفاء للإنسانية.