عن الثائر الأممي.. السيّد حسن نصر الله
تاريخ النشر: 5th, March 2025 GMT
لم يكن استشهاد سيد شهداء الأمة، السيد حسن نصر الله، حدثاً مفصلياً وتاريخيًا في لبنان وحسب، بل طاول بثقله كل أحرار العالم على اختلاف مذاهبهم وتياراتهم الفكرية المتنوعة، وقد تجلّى ذلك في التشييع المليوني المهيب الذي أقيم في المدينة الرياضية، حين اجتمع الأحرار على قلب واحد، وصدحوا بلسان عربي وأعجمي: “إنّا على العهد يا نصر الله”.
يحضرنا في هذه المناسبة الأليمة التي ألمّت بنا أن نستحضر خطابه الاستثنائي والشامل الذي ألقاه في عام 2008 بذكرى أربعين القائد الكبير، الشهيد عماد مغنية، حين أجاب على السؤال الآتي: هل نستطيع أن نُزيل “إسرائيل” من الوجود؟ أجاب حينها: “نعم وألف نعم، يمكن أن تزول “إسرائيل” من الوجود”. لم يكن خطاب شهيدنا الأسمى حينها منطلقًا من دوافع عاطفية، بل كان يرتكز إلى الوقائع والتوصيف الموضوعي لحجم الخطر الإسرائيلي الحقيقي الذي يتربّص بشعوب المنطقة.
لنعد إلى التاريخ قليلاً، فبُعيد النكبة التي تعرّض لها الفلسطينيون في عام 1948 والتي أفضت إلى قتل وتهجير الآلاف من الفلسطينيين، وتلاها بعد ذلك حرب عام 1967، والتي انتهت بهزيمة العرب، على الرغم من الانتصار الجدلي الذي حققه العرب في ما بعد على “إسرائيل” في حرب عام 1973، حيث أسفرت هذه الحرب عن نتائج لم تخدم فلسطين على المدى البعيد، إذ انطلق قطار التطبيع من مصر مرورًا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وصولاً إلى الأردن. وهكذا أصبح الشعب الفلسطيني ضحية هذه الاتفاقيات، وصارت “إسرائيل” تملك اليد العليا في المنطقة بدعم من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
وللعلم، فإن هذه المرحلة أسست لفكرة مفادها، إن “إسرائيل” أضحت أمراً واقعًا في المنطقة العربية، بعدما استمدّت “شرعيتها” من الأمم المتحدة ككيان شرعي في المنطقة، بدعم من الدول الغربية. وفي تلك المرحلة بالذات، روّج المحللون الإسرائيليون والغربيون وبعض النخب العربية المرتهنة إلى الفكرة التي تقول، إنّ “إسرائيل” لا تُهزم، وقد أصبحت قدراً محتوماً، وعلينا التكيّف مع هذا الواقع المرير.
لقد سيطر الإحباط واليأس على الشعوب العربية، وأدرك الشعب الفلسطيني أنه تُرك لمصيره في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. استمر الوضع على ما هو عليه حتى ظهر إمام وقائد استثنائي يُدعى موسى الصدر، إذ تمكّن هذا المُغيّب الجليل من تشكيل النواة الأولى للمقاومة، وكان من بين هؤلاء المقاومين الأحرار، الشيخ راغب حرب، والسيد عباس الموسوي، والسيد حسن نصر الله.
وفي خضم كل ذلك، ظهرت المقاومة كخيار وحيد للمواجهة، وكان حزب الله الأكثر تأثيراً في تلك المرحلة، خاصة بعد العمليات النوعية التي نفذها ضد “إسرائيل”. ومن أبرز تلك العمليات كانت عملية الاستشهادي أحمد قصير التي حولت مقر الحاكم العسكري إلى أنقاض، وأسفرت عن مقتل 76 جنديًا وضابطًا من القوات الصهيونية وإصابة 188 آخرين. ومنذ ذلك الحين توالت العمليات والإنجازات النوعية حتى تحرير كل الأراضي اللبنانية في عام 2000، وتبعها بعد ذلك الانتصار في حرب تموز عام 2006. وكان لهذه الإنجازات والتراكمات النوعية التي حققتها المقاومة اللبنانية تأثير كبير في اندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين المُحتلّة، أو ما يُعرف بانتفاضة الأقصى عام 2000.
هنا تغير المشهد كلياً، وأرخى بظلاله على طبيعة الصراع بين “إسرائيل” وحركات المقاومة لناحية الأسلوب والتكتيك، والذي يُعبّر عنه بالحروب غير المتناظرة (Asymmetric Warfare) والذي انتهجته المقاومة في فلسطين ولبنان لتعويض فارق القوة الصلبة (Hard Power) التي تتميز بها “إسرائيل”. بالإضافة إلى ذلك، نجحت المقاومة اللبنانية في إنشاء حالة من الوعي الجماهيري، استطاعت أن تثبت فيه بأنّ الكيان الصهيوني قابل للزوال عندما تتوفر إرداة القتال، بمعزل عن الإمكانات المادية والدعم الغربي المفتوح الذي يتلقاه على الدوام. وهنا، نود أن نشير – بعيدًا عن الجمل الإنشائية – إلى أن العقيدة القتالية هي الأساس والقوة المحركة التي تدفع الأفراد للمضي قدماً نحو تحقيق النصر، وكما يشير المُفكر الأمريكي في العلاقات الدولية، كينيث والتز (Kenneth Waltz)، إلى أنّ الأيديولوجيا (Ideology) لها تأثير جماعي وقوي، حيث ترتبط بشكل وثيق بحق تقرير المصير (Self-determination)، مما يضمن عمليًا أن الشعوب التي تعاني من الاحتلال ستثور ضد المُحتلّ، فالأيديولوجيا أحد عناصر القوة الأساسية التي يمكن أن تحملها الشعوب. لذا، فإنّ أقوى إنسان في العالم هو ذلك الشخص الذي يحمل أفكارًا ثورية تدفعه إلى أن يكون مستعداً ليفني ذاته في سبيل قضية مشروعة، فكيف إذا كانت هذه القضية هي فلسطين؟ وقد رأينا كيف أن المقاومة في لبنان وفلسطين زاحمت الموت وذابت في الأرض. وهنا نستذكر كلام المتحدث باسم المقاومة الفلسطينية في غزّة، حينما توجّه للعدو الإسرائيلي قائلاً: أنتم أتيتم بأهمّ الأسلحة العسكرية والتكنولوجية، ونحن صنعنا أقوى الرجال في العالم قبل أن نصنع العتاد.
وفي معركة “طوفان الأقصى” التي مثلّت أكبر إخفاق عسكري في تاريخ الكيان الإسرائيلي، مما دفع بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى التحدث عن مستقبل “إسرائيل” في المنطقة، وخصوصاً مع التحديات الوجودية التي فرضها محور المقاومة. على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها المحور في دعمه لغزة، والتي تجسدت في استشهاد السيد حسن نصر الله وعدد كبير من القادة، فإنّ الهدف كان أن تنتصر غزة، وها هي اليوم تحرر أسراها من سجون العدو بعدما أجبرته على التفاوض وتبادل الأسرى.
صحيح أنّ “إسرائيل” اغتالت أهم قائد للمقاومة في المنطقة، إلا أن هذا الاغتيال لن يزيد المقاومة إلاّ عزمًا وزخمًا وصلابة في مواجهة المحتلين. فالمقاومة في جوهرها فكرة، ولا يمكن اغتيال الفكرة، بل على العكس من ذلك، تزداد المقاومة قوة بقدر ما تزداد حجم التضحيات. لذلك، فإننا على المسار السليم والمستقيم ولو كانت التضحيات جِساماً.
لقد كان شهيدنا الأعزّ، أمة في رجل، ومخلصاً في نصرته لفلسطين ودفاعه عن لبنان حتى فناء الذات في سبيل الله، والذي يُمثل ذروة العطاء. كان ضنيناً على فلسطين كضنين الأب على أبنائه، لذا فمن حقه علينا أن نحمل أهدافه ومشروعه لنصرة المستضعفين والمقهورين في هذا العالم البائس الذي لا مكان فيه إلاّ للأقوياء. وفي محضر طيفه، لا يسعنا إلاّ أن نقول” ألا إنّ نصر الله قريب”.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
إسرائيل وحربها الممنهجة
على الرغم من ظهور إسرائيل كوحش كاسر فإن الغرب، وفى صدارته الولايات المتحدة الأمريكية، يقوم باحتضانها، ويشمل الصهاينة برعايته، وهو ما شجعها على السطو وارتكاب الجرائم والمذابح ضد الفلسطينيين. ويجرى كل ذلك أمام العالم دون أن تساءل أو تحاسب أو تعاقب. واليوم وبعد دخول حربها فى غزة الشهر الثامن عشر تستمر فى ارتكاب القتل الممنهج ضد أبناء الشعب الفلسطينى الأبرياء من أطفال ونساء ليصل أعداد الشهداء إلى نحو 54 ألفا، وتتجاوز أعداد المصابين والمفقودين المائة ألف. هذا فضلا عن حملة التدمير وهدم البيوت على رؤوس قاطنيها، ومهاجمة المستشفيات بالاضافة إلى فرضها حصارًا تجويعا على الفلسطينيين.
برغم كل هذا لم يحرك المجتمع الدولي ساكنا، وعلى العكس وقف الغرب داعما لها، وتصدرت الولايات المتحدة الأمريكية منح الدعم للكيان الغاصب ماديا وعسكريا ومعنويا. أكثر من ذلك قامت بالتشويش على ما يرتكبه الكيان من جرائم، والعمل على مد طوق النجاة له فى المسرح الدولى ويجرى هذا دون أن يتم كبح جماح هذا الكيان الغاصب.وساير الغرب الموقف الأمريكى، لا سيما أنه قد اعتاد منذ 1957 ــ وهو العام الذي دشن بداية الصعود الأمريكي، وتراجع الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية ـــ أن يكون تابعا للموقف الأمريكى حيال الأحداث الجارية فى الشرق الأوسط.
وتعد الولايات المتحدة الأمريكية هنا هى الأكبر بامتلاكها حق النقض ( الفيتو)، الذى يرفع عن إسرائيل مغبة الوقوع فى مجال المحاسبة والمساءلة، فضلا عن كونه يبرئها من أى عقاب. وعوضا عن هذا هناك الدعم الأمريكى المالى الذى تحصل عليه إسرائيل والذى تجاوز 168 مليار دولار، ويظفر الدعم العسكرى بالجزء الأكبر إذ تبلغ نسبته نحو 78%، كما يتم مد إسرائيل بأسلحة متطورة لا تمنح لغيرها من دول المنطقة. وهناك الدعم الاقتصادى الذى يبلغ نحو 35 مليار دولار على مدار التاريخ الأمريكى لإسرائيل. الجدير بالذكر أنه منذ عملية السابع من أكتوبر جرى تخصيص أكثر من 14 مليار دولار كدعم عسكرى للكيان الصهيوني، وتم تحريك مجموعتين من حاملات الطائرات مزودتين بـ 150 طائرة حربية، كما تم تحريك غواصة نووية، وبالإضافة إلى ذلك جرى دعم سياسي كبير وصل إلى حد أن رأينا الرئيس الفرنسى " ماكرون" يبادر ويعلن عن استعداده لتشكيل تحالف دولي ضد حماس، على غرار التحالف الذى تم تشكيله من قبل ضد تنظيم داعش الإرهابى، وسارع رئيس وزراء بريطانيا "ريش سوناك" فأعلن تأييده ودعمه للاسرائيليين.
ونتساءل علام هذا الدعم الكبير لإسرائيل؟ وما الأسباب وراءه لا سيما أن إسرائيل من خلاله تبدو بوصفها الدولة الاستثناء التي يغمرها الغرب بكل ما تحتاجه، ويضفى عليها ولاء منقطع النظير، ولاء قد يصل إلى درجة القداسة؟ واليوم نقول فى معرض الرد على التساؤل:إذا عُرف السبب بطل العجب، وسيكون الجواب حاضرا، بل وسيكون التكالب على إرضاء إسرائيل مبررا عندئذٍ، إذ إن المحرك وراء ذلك هو مصلحة الغرب فى المنطقة، وإسرائيل هي النبتة الخبيثة التى تم زرعها فى المنطقة قسرا كى تكون أداة لتحقيق هذه المصلحة. وعليه فإن الحب والوله بالكيان الصهيونى لم ينبعا من فراغ، وإنما تحركهما المصالح المادية الكبيرة للغرب فى منطقة الشرق الأوسط.