تنامي نفوذ الصين في أعالي البحار يهدد الأمن القومي الأمريكي
تاريخ النشر: 7th, March 2025 GMT
ظلت الولايات المتحدة على مدى عقود تتعامل مع أمن خطوط الملاحة العالمية كأمر مفروغ منه، مفترضة أن سفنها التجارية والحربية يجب أن تتحرك بسلاسة عبر بحار العالم.
لكن وفي ظل سيطرة حالة الرضا عن النفس على أمريكا، وسّعت الصين نفوذها البحري لضمان تدفق بضائعها وسفنها بانتظام، في الوقت الذي تطور فيه قدرتها على عرقلة سلاسل الإمداد الأمريكية، إذا أرادت ذلك، بحسب تحليل للباحثين مارك كيندي، وكريستا برزوزوفسكي، نشره مركز "ويلسون" الأمريكي.
ويقول مارك كيندي عضو الكونغرس السابق، ومدير معهد وهبة للمنافسة الاستراتيجية التابع لمركز ويلسون، وكريستا برزوزوفسكي مساعد وزير الأمن الداخلي لشؤون الأمن التجاري والاقتصادي، في تحليلهما إن "التدخل الصيني في عملية شحن عسكرية بأحد موانئ بولندا، يجب أن يكون جرس إنذار للولايات المتحدة من تنامي النفوذ البحري الصيني، الذي لم يعد تهديداً مجرداً للمصالح الأمريكية. فقد أصبح نفوذ الصين في الموانئ والخدمات اللوجستية العالمية حقيقة، يمكن أن تعرقل الاقتصاد الأمريكي وقدرة الولايات المتحدة على حشد قدراتها في حالة حدوث أزمة جيوسياسية".
While recent action securing ports at the Panama Canal is a start, America still has a blind spot to the maritime risks it faces on the high seas. Co-authored with @cmbrzozo. @WahbaInstitute @TheWilsonCenter #MaritimeRiskhttps://t.co/7lZWVtWcYH
— Mark Kennedy (@MarkKennedyUSA) March 6, 2025ويرى المحللان أن الولايات المتحدة ربما تكون القوة العظمى العالمية الوحيدة في التاريخ، التي تبدو راضية بموقف ضعيف بشكل مذهل عندما يتعلق الأمر بالتجارة البحرية. فالصين تمتلك أكثر من 5500 سفينة تجارية عابرة للمحيطات، بينما تمتلك الولايات المتحدة 80 سفينة فقط، كما أن القدرات الضخمة لقطاع بناء السفن في الصين تجعل أمريكا قزماً في هذا القطاع، حيث تعادل قدرة القطاع الصيني 232 مثل الطاقة الإنتاجية لبناء السفن في الولايات المتحدة.
وبينما استثمرت الصين في أكثر من 100 ميناء حول العالم، فإن الولايات المتحدة لا تمتلك سوى عدد قليل من الموانئ الاستراتيجية في العالم.، وحتى داخل حدود الولايات المتحدة نفسها، تسيطر كيانات أجنبية على الغالبية العظمى من الموانئ. وتعتمد الولايات المتحدة بشكل أساسي على شبكة معقدة من الحلفاء والمشغلين الأجانب - بعضهم أصدقاء وبعضهم غير ذلك - للحفاظ على انتظام سلاسل التوريد الخاصة بها.
ولا يقتصر التوسع البحري الصيني على طرق الشحن التقليدية. فبوصفها دولة "قريبة من القطب الشمالي"، سعت بكين بقوة إلى الوصول إلى طريق البحر الشمالي، ونشرت كاسحات الجليد، وبنت شراكات مع روسيا، واستثمرت في مشروعات استغلال ممرات التجارة والموارد الطبيعية في القطب الشمالي. والواقع أن عواقب هذا التمدد بالنسبة لمصالح الغرب ككل واضحة، فالصين تعمل على تأمين طرق بديلة لتجاوز قنوات الشحن التقليدية التي يسيطر عليها الغرب، في الوقت الذي تعمل فيه على زيادة نفوذها على التجارة العالمية.
كما أن سيطرة الصين على الخدمات اللوجيستية البحرية ستكون لها تداعيات عسكرية مباشرة، ناهيك عن التداعيات الاقتصادية. ففي أي صراع كبير، يمكن أن يعتمد الجيش الأمريكي على خطوط الشحن التجارية لنقل ما يزيد على 90% من احتياجاته، لذلك ستضطر الولايات المتحدة للاعتماد على سفن تحمل أعلام دول أجنبية، في ظل عدم امتلاكها أسطول خاص بها، وهي نقطة ضعف يمكن أن تستغلها الصين بسهولة.
وفي الوقت نفسه، تتمتع الصين بسيطرة رقمية واسعة على الخدمات اللوجيستية العالمية، من خلال تطبيق "لوجينك"، المدعوم من الدولة والذي يقدم خدمة المتابعة اللحظية للشحنات البحرية على مستوى العالم، كما يستخدم التطبيق في المراكز التجارية الرئيسية باليابان وكوريا الجنوبية أوروبا، وهو ما يعطي الصين رؤية واضحة لسلاسل الإمداد، ويمنحها ميزة محتملة في حال نشوب أي نزاعات اقتصادية أو جيوسياسية.
وفي حين حظر الكونغرس على وزارة الدفاع الأمريكية استخدام الموانئ التي تعتمد على تطبيق لوجينك، فإن التجارة الأمريكية مازالت تستخدم هذه الموانئ.
وهذا المستوى من السيطرة يمنح الصين قدرة متزايدة على فرض إرادتها وممارسة الضغط الاقتصادي عند الحاجة، وإعطاء الأولوية لمصالحها الخاصة على مصالح الدول المنافسة، بما في ذلك الولايات المتحدة وحلفائها. على سبيل المثال، تسمح هيمنة الصين على البنية التحتية للموانئ العالمية لها بوضع قواعد ولوائح جديدة للملاحة البحرية الدولية. ومن خلال السيطرة على الموانئ وسلاسل الخدمات اللوجستية المرتبطة بها، يمكن للصين وضع معايير جديدة لرسوم الشحن، والوصول إلى الموانئ، وسياسات الجمارك التي قد تضر بالشركات الأمريكية.
كما يمكن للصين بهذا النفوذ الاقتصادي، أن تضغط على الدول الأصغر حجماً للتوافق مع سياساتها أو المخاطرة باضطرابات التجارة. وإذا تصاعدت التوترات، فقد تعطل الصين الوصول إلى خدمات الشحن، أو تبطئ الخدمات اللوجستية، أو تجمع معلومات استخباراتية عن تحركات الجيش الأمريكي. ويعكس القرار الأخير لوزارة الدفاع الأمريكية بوضع شركة كوسكو الصينية للشحن على قائمة المخاطر التي تهدد الأمن القومي، القلق المتزايد بشأن قدرة الصين المتنامية على التحكم في الخدمات اللوجستية البحرية.
ويرى المحللان كيندي وبرزوزوفسكي أنه رغم حدة الخطر الصيني، ما تزال الاستجابة الأمريكية له هشة وغير متماسكة، حيث تتولى أجهزة حكومية متعددة أجزاء منفصلة من المشكلة الصينية. وتعمل وزارتا الدفاع والنقل بشكل وثيق مع الإدارة البحرية لتأمين الموانئ البحرية الاستراتيجية الأمريكية، وضمان مرونة الخدمات اللوجستية العسكرية، في حين تعمل وزارة الدفاع على إقامة بنية تحتية بحرية جديدة في الفلبين. وتراقب وزارة الأمن الداخلي وخفر السواحل الأمريكي السيطرة الأجنبية على البنية التحتية للموانئ الأمريكية، وخاصة وجود الرافعات الصينية الصنع التي يشتبه في أنها تستطيع جمع المعلومات الاستخباراتية.
واتخذت لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة التابعة لوزارة الخزانة، إجراءات أجبرت شركة كوسكو الصينية على بيع حصتها في محطة حاويات لونغ بيتش الأمريكية. وتحقق اللجنة البحرية الاتحادية في ممارسات الشحن غير العادلة الصينية. وفي الوقت نفسه، تعمل جهات مثل وزارة الخارجية ومؤسسة التمويل الإنمائي الدولية الأمريكية على توفير بدائل لاستثمارات الصين في موانئ الدول الأخرى، وإن كانت تفتقر في كثير من الأحيان إلى القوة المالية اللازمة لمواجهة الاستثمارات الضخمة لبكين. كما أنشأ مجلس الأمن القومي قطاعاً جديداً يركز على المخاطر البحرية، إلا أنه لا يزال ناشئاً ويفتقر إلى السلطات اللازمة، لحشد جهود الوكالات الأخرى في اتجاه التصدي لهذه التهديدات.
ويقترح كيندي وبرزوزوفسكي 4 محاور لتستعيد الولايات المتحدة ريادتها البحرية التجارية: أول هذه المحاور هو قيام الحكومة بتحديد الموانئ العالمية الحيوية للمصالح الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وتطوير القدرة على ضمان استمرار هذه الموانئ محايدة أو تحت سيطرة حلفاء لواشنطن. فالاكتفاء بتحذير الدول الأخرى من استقبال الاستثمارات الصينية لا يفيد. لكن على واشنطن تقديم بدائل قادرة على المنافسة لهذه الدول.
وأما المحور الثاني، فيستهدف التصدي لسيطرة الصين الرقمية على الخدمات اللوجيستية العالمية. فتطبيق لوجينك وغيره من التطبيقات والمنصات المدعومة من الصين يتيح لبكين وصولاً غير مسبوق لبيانات التجارة وأنماط الشحن على مستوى العالم. كما يجب تعزيز القدرات الأمريكية في مجال الأمن السيبراني. وعلى واشنطن دعم تطوير منصات لوجيستيات بديلة للعالم لمنع الصين من جمع البيانات وإمكانية التلاعب بتدفقات التجارة العالمية.
ويرتبط المحور الثالث بضرورة استثمار الولايات المتحدة في تنمية قدراتها البحرية، وتحسين التنسيق مع الدول الحليفة، كما يجب عليها مراجعة نوع الاستثمار المطلوب في القدرات المحلية، وطبيعة التنسيق المطلوب مع الحلفاء، من أجل ضمان امتلاك القدرات المطلوبة في مجال الشحن وبناء السفن.
وأخيراً، على الولايات المتحدة وضع استراتيجية متماسكة للأمن البحري، لضمان التنسيق بين جهود مختلف الوزارات والوكالات، والقدرة على مواجهة هذه المخاطر بسرعة وبطريقة فعالة.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: وقف الأب رمضان 2025 عام المجتمع اتفاق غزة إيران وإسرائيل صناع الأمل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية للولايات المتحدة الصين أمريكا الصين الخدمات اللوجستیة الولایات المتحدة الصین فی فی الوقت
إقرأ أيضاً:
التوازن الاستراتيجي: موقع الصين في ضوء المعادلة الأمريكية-السعودية المستجدة
شهد المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط تحولا مفصليا في أواخر عام 2025. ففي أعقاب الاجتماعات رفيعة المستوى الأخيرة بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والقيادة الأمريكية في واشنطن، أعادت الولايات المتحدة التأكيد على التزاماتها الأمنية تجاه المملكة. وفي حين يميل المحللون الغربيون غالبا إلى تأطير هذا التحالف المتجدد كخطوة تهدف إلى احتواء بكين، فإن القراءة المتأنية والعميقة للأحداث تكشف واقعا مغايرا؛ إذ لا تشير تطورات العلاقات الأمريكية-السعودية إلى خروج الصين من المشهد، بل تسلط الضوء على بيئة دولية معقدة ومتعددة الأقطاب، يظل فيها النفوذ الصيني بنيويا، اقتصاديا، وراسخا بعمق.
أسطورة "المعادلة الصفرية" في الجغرافيا السياسية
تسود سردية نمطية مفادها أنه لكي تكسب واشنطن، يجب أن تخسر بكين، بيد أن الديناميكيات الحالية في الرياض تدحض هذا المنظور "الصفري". لقد انتهجت المملكة العربية السعودية سياسة "السعودية أولا"، وهي استراتيجية ترتكز على تنويع الشراكات بدلا من الانحياز لمحور دون آخر.
بالنسبة للصين، يحمل هذا التوجه ميزة واضحة؛ فالسعودية لم تعد دولة تدور في فلك التوجيهات الغربية حصرا، بل باتت قوة وسطى تتمتع باستقلالية القرار. إن قرار الرياض بتحديث علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة هو خطوة براغماتية لتأمين حدودها. ومن المفارقات أن هذا الاستقرار الأمني يصب في مصلحة بكين، فبصفتها المشتري الأكبر للنفط السعودي، تحتاج الصين إلى استقرار الخليج العربي لضمان التدفق الحر للطاقة. وإذا كان الجيش الأمريكي يوفر المظلة الأمنية التي تحمي ممرات الشحن هذه، فإن بكين بذلك تضمن مصالحها في مجال الطاقة دون أن تتكبد الأعباء المالية والعسكرية الباهظة لشرطة المنطقة.
المحرك الاقتصادي الذي لا غنى عنه
بينما تقدم واشنطن الضمانات الأمنية والعتاد العسكري المتطور مثل مقاتلات "إف-35"، فإنها لا تستطيع بسهولة استنساخ الدور الذي تلعبه الصين في التحول الاقتصادي للمملكة. تتطلب "رؤية السعودية 2030" تنمية هائلة في البنية التحتية، والتصنيع الصناعي، والقدرات الإنشائية؛ وهنا تظل الصين الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
واعتبارا من تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، تواصل الشركات المملوكة للدولة في الصين هيمنتها على قطاعات البناء في "المشاريع العملاقة" السعودية مثل "نيوم". وتشير البيانات الحديثة إلى أن أكثر من 750 شركة صينية تعمل حاليا داخل المملكة، وفي الوقت الذي تركز فيه الولايات المتحدة على الدفاع وقطاعات تكنولوجية محددة مثل رقائق الذكاء الاصطناعي، تقوم الشركات الصينية ببناء العمود الفقري المادي للاقتصاد السعودي الجديد، بدءا من السكك الحديدية فائقة السرعة وصولا إلى مزارع الطاقة الشمسية.
علاوة على ذلك، تعكس أحجام التبادل التجاري حقيقة جلية: الصين لا تزال الشريك التجاري الأول للسعودية. ويخلق هذا التكامل الاقتصادي تكافلا بنيويا؛ حيث تصدر السعودية الطاقة لتغذية الصناعة الصينية، وتصدر الصين الآلات والسلع الاستهلاكية التي تستهلكها المملكة. هذا الاندماج المنهجي يخلق مرونة لا يمكن للاتفاقيات الدبلوماسية مع أطراف ثالثة تفكيكها بسهولة.
التكنولوجيا والسيادة الوطنية
شكلت التكنولوجيا، وتحديدا الذكاء الاصطناعي والمعادن النادرة، محورا رئيسا في المحادثات الأمريكية-السعودية الأخيرة، وقد سعت الولايات المتحدة إلى الحد من نشر البنية التحتية الرقمية الصينية لصالح البدائل الأمريكية. ومع أن هذا يمثل تحديا، إلا أنه يحفز الصين على التكيف.
لقد توجهت الصين نحو القطاعات التي تكون فيها القيود الأمريكية أقل صرامة، مثل تكنولوجيا الطاقة المتجددة، والمركبات الكهربائية، والبنية التحتية المدنية. وعلى سبيل المثال، شهدت الاتفاقيات المبرمة في عام 2025 توسعا لمصنعي السيارات الكهربائية الصينيين في إنشاء مرافق إنتاج محلية داخل السعودية.
إضافة إلى ذلك، فإن إصرار السعودية على مبدأ "السيادة التقنية" يعني حذرها من الاعتماد الكلي على مورد واحد. وقد أوصلت الرياض رسالة صريحة لبكين مفادها أن صفقاتها الأمنية مع واشنطن لا تحول دون التعاون التجاري مع الصين، وهو ما بدا واضحا حين طمأن المسؤولون السعوديون نظراءهم الصينيين قبيل قمة واشنطن بأن العلاقات التجارية ستظل قوية ومتينة.
واقع أسواق الطاقة
لا يزال النقاش حول "البترويوان" -تسعير النفط بالعملة الصينية- ورقة استراتيجية طويلة الأمد لبكين. ورغم أن الاتفاق الأمني الأمريكي يعزز مكانة الدولار على المدى القصير، فإن التحول الهيكلي في الطلب العالمي على النفط يميل لصالح الصين.
تعد الولايات المتحدة مصدرا صافيا للطاقة ومنافسا للمملكة العربية السعودية في أسواق النفط العالمية. في المقابل، تعتبر الصين زبونا استراتيجيا طويل الأمد ومضمونا. وتفرض حقيقة السوق الأساسية هذه على الرياض ضرورة إيلاء الأولوية لعلاقتها مع بكين لتأمين عوائدها المستقبلية. وتواصل الدولتان استكشاف اتفاقيات تبادل العملات والتسويات المالية عبر الحدود التي تقلل من عوائق التجارة، مما يضمن استمرار تعميق الترابط المالي بغض النظر عن المعاهدات الدفاعية.
إن إعادة تموضع العلاقات الأمريكية-السعودية في عام 2025 لا تمثل هزيمة للدبلوماسية الصينية، بل هي تكريس للنظام العالمي متعدد الأقطاب الذي دعت إليه الصين. وإن حقيقة اضطرار واشنطن الآن لتقديم ضمانات أمنية ملزمة ونقل للتكنولوجيا المتقدمة للحفاظ على نفوذها، هي بحد ذاتها دليل على الضغط التنافسي الذي تفرضه بكين بمجرد صعودها.
بالنسبة للصين، يمثل الوضع توازنا مستقرا؛ تتحمل الولايات المتحدة تكلفة الأمن الإقليمي، بينما تجني الصين ثمار التكامل الاقتصادي والوصول إلى الطاقة. وبعيدا عن كونها قد أُقصيت، تظل الصين ركيزة أساسية لمستقبل الشرق الأوسط، وتعمل في مسار موازٍ للنفوذ لا يمكن للقوة العسكرية الأمريكية إزاحته.