عبر أنشطة وفعاليات ثقافية.. برامج رمضان في جدة التاريخية تعزز التراث والأصالة
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
البلاد – جدة
تحتضن منطقة جدة التاريخية فعاليات موسم رمضان 2025 الذي ينظمه برنامج جدة التاريخية التابع لوزارة الثقافة، ويهدف من خلاله إلى إحياء التراث الثقافي وتعزيز الهوية الوطنية عبر أنشطة وفعاليات ثقافية ومجتمعية متنوعة تحمل ملامح رمضانية عريقة، وتعكس روحانيات مستمدة من قيمنا وعاداتنا التي اكتسبها المجتمع السعودي وحافظ بها على الموروث الثقافي والاجتماعي رغم التطور المتسارع في كافة مجالات الحياة.
يحظى زوار جدة التاريخية بتجربة فريدة تمتد طوال الشهر الكريم، حيث يحتضن موسم رمضان 2025 أنشطة وفعاليات متنوعة تستمر حتى نهايته، موفرةً للزوار فرصة استكشاف أجواء رمضان التقليدية وقضاء أوقات مفعمة بالروحانيات ضمن بيئة تراثية غنية بالتاريخ والثقافة، تعزز قيمة منطقة جدة التاريخية كوجهة للزوار في ليالي رمضان، وموقعاً بارزاً ضمن مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
يضم الموسم مجموعة متنوعة من الأنشطة المتميزة التي تنقل الزوار إلى أجواء رمضان الأصيلة، حيث تتاح لهم فرصة التجول في البيوت التاريخية والاستمتاع بجولات استكشافية في المباني التراثية بالمنطقة، إلى جانب الأسواق التقليدية التي تعكس أجواء الماضي بعرض المنتجات المحلية والمأكولات التراثية. كما تتوفر ورش عمل متخصصة لتعليم الحرف التقليدية مثل الخط العربي وصناعة الفخار، مما يسهم في تعزيز الوعي بالحرف اليدوية وإبراز قيمتها الثقافية.
كما يقدم الموسم فعاليات خاصة بالعائلات والأطفال، تشمل أنشطة ترفيهية تفاعلية تهدف إلى تعريف الأجيال الجديدة بالثقافة السعودية وتعزيز ارتباطهم بالتراث، إلى جانب جولات تاريخية في الحارات القديمة لإبراز تقاليد الشهر الكريم في بيئة تعكس الأصالة والروحانية.
يأتي ذلك ضمن جهود برنامج جدة التاريخية الهادفة إلى الحفاظ على التراث المعماري والثقافي للمنطقة، حيث يعمل البرنامج على ترميم وتأهيل المباني التاريخية وإعادة إحيائها مع المحافظة على هويتها الأصلية، إضافةً إلى تقديم تجربة ثقافية متكاملة تعكس أصالة المنطقة، ودعم المواهب الشابة وتمكينها من خلال توفير منصات لعرض أعمالهم وتسويقها، وإشراكهم في الأنشطة الثقافية والفنية التي تبرز إمكاناتهم. وكذلك توفير تجربة مميزة للزوار، مما يسهم في جعل المنطقة وجهة ثقافية مهمة تماشيًا مع أهداف رؤية السعودية 2030.
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: جدة التاریخیة
إقرأ أيضاً:
المتاحف العربية بين الرقمنة الواعية واستنساخ النموذج الغربي
تجد المتاحف العربية نفسها أمام تحديات مصيرية في ظل التسارع الرقمي العالمي تتعلق بدورها الثقافي والتعليمي، وموقعها في فضاء رقمي لا يعترف بالحدود التقليدية، وهو ما انعكس في تباين استراتيجيات المؤسسات المتحفية بين محاولات للمواءمة المحلية وتوجهات تقليدية تنسخ التجارب الغربية.
في هذا الاستطلاع الذي يضم أصواتا من سلطنة عمان وسوريا ومصر والجزائر، يناقش خبراء المتاحف والباحثون المتخصصون خمسة محاور محورية تتمثل في مدى تفاعل المتاحف مع جمهورها الرقمي، إمكانيات توظيف الذكاء الاصطناعي دون التفريط في الهوية، أثر الرقمنة على الوظيفة التعليمية، التحديات التي تعترض رقمنة التراث غير المادي، وأخيرا معادلة الأصالة والمعاصرة في العروض المتحفية.... هي قراءة متعددة الزوايا في مستقبل المتاحف العربية، تقترح نماذج، وتنتقد أخرى، وتبحث في سبل صناعة تجربة متحفية عربية ذات طابع رقمي أصيل.
ترى الباحثة أيام بنت يوسف السنيدية، إدارية خدمات الزوار بمتحف "عُمان عبر الزمان"، أن المتاحف العربية تشهد تحولات نوعية في التفاعل مع جمهورها الرقمي، إلا أن وتيرة هذا التحول تختلف من دولة إلى أخرى بحسب الرؤى المؤسسية والموارد التقنية المتاحة. وتشير إلى أن متحف "عُمان عبر الزمان" تمكن من اتخاذ خطوات واضحة نحو رقمنة واعية، من خلال توظيف تقنيات الواقع المعزز والعروض التفاعلية التي تُمكّن الزائر من الاقتراب من لحظات التاريخ دون إخراجها من سياقها العُماني الأصيل، بما يعكس خصوصية الهوية الثقافية للمكان.
وتؤكد "السنيدية" أن توظيف الذكاء الاصطناعي والوسائط المتعددة لا يعني طمس الهوية أو استبدال الإنسان، بل يمثل وسيلة حديثة لتوصيل المحتوى الثقافي بشكل أكثر تأثيرا وجاذبية. وتوضح أن التقنية ليست نقيضا للثقافة، بل هي وعاء جديد قادر على حملها بأساليب معاصرة، شريطة أن تنبع البرمجيات والمحتوى من الرواية الذاتية للمجتمع المحلي، لا من نماذج مستوردة تفرض منظورا خارجيا. وتقدم مثالا على ذلك باستخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل الحكايات الشفهية وتحويلها إلى تجارب تفاعلية تُحاكي روح الموروث وتعيد تقديمه بطرق مشوقة.
وتشير إلى أن الرقمنة قد وسعت من دور المتاحف كمؤسسات تعليمية، حيث أتاحت للزوار التفاعل مع المعروضات بطرق مبتكرة تُحفّز الفهم والتعلّم، خاصة لدى الأجيال الشابة. لكنها تحذّر من أن الإفراط في التركيز على العروض التقنية قد يُضعف المحتوى الثقافي للمتحف إذا لم يُراعَ التوازن بين الوسائل التكنولوجية والرسالة المعرفية. وتشدّد على أن الرقمنة يجب أن تظل أداة لخدمة المعرفة وتعزيزها، لا بديلا عن القيم والمضامين الثقافية.
وفيما يتعلق برقمنة التراث غير المادي، ترى "إدارية خدمات الزوار بمتحف "عُمان عبر الزمان" أن هذا المجال يواجه تحديات كبيرة، كونه قائما على التقاليد اليومية والعادات التي تنتقل عبر التفاعل الحيّ بين الأجيال، وليس فقط على المعلومات. وتضيف أن التراث غير المادي يحتوي على مشاعر وقيم وأساليب حياة يصعب اختزالها في ملفات رقمية، مما يستدعي دراسة معمقة لطبيعة هذا التراث، والبحث عن وسائل عرض تفاعلية تبقيه حيا. وتشير إلى أهمية تقديم عروض حية للفنون الشعبية والعادات التقليدية، بحيث يرى الزائر التجربة كما كانت تُمارَس، ويتفاعل معها، فلا يتحول التراث إلى مجرد مادة محفوظة تفتقر للتفاعل الحقيقي.
وتخلص الباحثة أيام بنت يوسف السنيدية إلى أن المطلوب من إدارات المتاحف هو امتلاك فهم عميق للرسالة الثقافية التي يحملها المتحف، والعمل على تقديمها بأساليب حديثة دون أن يُمسّ جوهرها، مؤكدة أن دمج التقنيات الحديثة في العروض المتحفية يجب أن يتم دون الإخلال بدقة المعلومة أو مصداقية السرد التاريخي، مشددة على ضرورة إشراك المختصين في التراث والثقافة إلى جانب خبراء التقنية، لضمان أن تعكس التجربة المتحفية المعاصرة روح الأصالة، وتُجسد المعاصرة لا أن تهمّشها.
سوء أساليب العرض
حول "تفاعل المتاحف العربية مع جمهورها الرقمي" ترى الدكتورة مياسة يونس ديب، مديرة المعهد التقاني للآثار والمتاحف في سوريا، أن المتاحف العربية لم تتمكن حتى اليوم من تحقيق تفاعل فعّال مع جمهورها الرقمي، مقارنة بالمتاحف الأوروبية التي قطعت شوطا كبيرا في هذا المجال. وتُرجع ذلك إلى "ضعف المحتوى، وسوء أساليب العرض، وغياب الاهتمام بالجانب الجمالي في التجربة الرقمية"، مشيرة إلى أن "التركيز ما يزال منصبا على الحضور الفيزيائي أكثر من الاستثمار في الرقمنة". وتلفت إلى غياب أرشيف رقمي متكامل يتيح للزوار التعرف على محتويات المتحف قبل زيارته، معتبرة أن "العرض الرقمي غير الجاذب قد لا يشجع الجمهور على زيارة المتحف أصلا". وتذكر تجربة ناجحة نسبيا في مصر، حيث جرى توظيف الفيديوهات الموجّهة للأطفال والكبار لجذب الجمهور الرقمي، لكنها تؤكد أن "المتاحف العربية ما زالت تفتقر إلى بنية رقمية ناضجة، والتي إذا تم تطويرها يمكن أن تفتح آفاقا جديدة للعائدات الخارجية".
أما عن "توظيف الذكاء الاصطناعي والوسائط المتعددة دون تذويب الخصوصية الثقافية" فتؤكد مديرة المعهد التقاني للآثار والمتاحف في سوريا أن إدارات المتاحف مطالبة بـ"الاطلاع المستمر على تطورات العصر، والاستفادة من التجارب العالمية الناجحة، كمتاحف اللوفر والميتروبوليتان والأرميتاج"، لكنها تشدد في الوقت ذاته على أهمية الحفاظ على الأصالة في العرض المتحفي. وترى أن تجديد طريقة عرض القطع الأثرية لا يعني التخلي عن الهُوية، بل "يجب أن يُبنى المحتوى المتحفي على الرواية الشفوية التي تمنح المتحف طابعا إنسانيا ومعايشا للزائر". وتقترح "ديب" تعزيز هذا البُعد من خلال ربط المعروضات بأشخاص ومجتمعات معاصرة، كمثال: "ربط الأواني الفخارية بقصص صنّاع الفخار المحليين، واستخدام هذه القصص لتقديم محتوى تفاعلي يعكس التراث ويعيد إنسنة المتحف".
وحول "دور الرقمنة في تعزيز وظيفة المتحف التعليمية" ترى "ديب" أن المتاحف العربية لا تزال تؤدي وظيفة تربوية أكثر من كونها تعليمية، حيث "تعتمد على الزيارات المدرسية والأنشطة التفاعلية التي تهدف إلى تعريف الطلاب بماضيهم وتاريخ بلادهم".
وتوضح أن الرقمنة قد وسّعت هذا الدور التربوي، لكنها لم تُفعّل بعد البُعد الأكاديمي الحقيقي للمتحف كمؤسسة تعليمية، قائلة: "لكي يصبح المتحف مؤسسة تعليمية، يجب أن يتيح قواعد بيانات موثقة، تسهم في إنتاج بحوث علمية، ورسائل ماجستير، ومقالات أكاديمية، وتتيح فرص الترميم والتطوير العملي للمهتمين". وتحذّر من أن الرقمنة، إذا لم تُستخدم بطريقة مناسبة، فقد تُفقد المتاحف رسالتها، مؤكدة أن "الرقمنة سلاح ذو حدين".
وعن "التحديات التي تواجه رقمنة التراث غير المادي في المتاحف" توضح الدكتورة مياسة ديب أن التحديات تبدأ من غياب الحصر الشامل للتراث غير المادي في مختلف المحافظات، مؤكدة أن "الرقمنة لا يمكن أن تسبق التوثيق".
وتقول إن التراث غير المادي، مثل البخور مثلا، يختلف في تفاصيله بين المناطق، مما يستدعي توثيقه من مصادر متعددة، سواء عبر السجلات الورقية أو الفيديوهات البسيطة، تمهيدا لرقمنته لاحقا، وتضيف أن "التحدي الأول هو جمع المعطيات بدقة، والتحدي الثاني هو إنشاء قاعدة بيانات مركزية تتيح لجميع الجهات إدخال وتحديث المعلومات المتعلقة بتراثهم غير المادي، مما يسهل دراسته وتحليله علميا لاحقا".
وحول "موازنة الأصالة مع المعاصرة في العروض المتحفية" تشدد الدكتورة مياسة يونس ديب، مديرة المعهد التقاني للآثار والمتاحف في سوريا على إمكانية توظيف الذكاء الاصطناعي في المتاحف دون المساس بالخصوصية الثقافية، من خلال "سرد القصص التراثية بأساليب حديثة، كابتكار شخصيات افتراضية تتحدث عن التراث، أو إنتاج محتوى رقمي مثل البودكاست والمقاطع المصورة القصيرة (Reels) عبر شخصيات مؤثرة". وتؤكد أن استخدام الذكاء الاصطناعي "أمر ضروري"، لكن الأهم هو "الوعي بكيفية توظيفه بما يخدم الثقافة ويحافظ على خصوصيتها، دون أن يحلّ محلّها أو يفرغها من مضمونها".
إتاحة إفتراضية
يرى الدكتور محمد أحمد عبد السلام، أستاذ إدارة المتاحف والمواقع الأثرية بجامعة عين شمس، أن المتاحف العربية استطاعت أن تحقق نوعا من الإتاحة الافتراضية عبر توظيف أدوات الواقع المعزز ومنصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية الرسمية، حيث تمتلك ما يزيد عن 90% من المتاحف العربية قنوات افتراضية تُمكّنها من التعبير عن ذاتها رقميا، تشمل محتوى مسموعا ومرئيا ومقروءا. ويُقدّر أن حوالي 40 إلى 45% من هذه المتاحف تُجيد تحديث هذا المحتوى الرقمي بشكل مقبول، مشيرا إلى وجود شواهد على ذلك، بالرغم من أننا لسنا من ضمن الدول أو المتاحف الخمسة الأولى عالميا في هذا المجال.
ويستعرض الدكتور عبد السلام نموذجا رائدا يتمثل في المتحف البريطاني، الذي يعد الأكثر تقدما في الإتاحة الافتراضية على مستوى العالم، حيث استقطب ما يزيد عن 291 مليون مشاهدة لفيديو ترويجي واحد فقط عن معرض مؤقت حول "القرن الخفي" في الصين، وهو رقم يوضح مستوى التفاعل الرقمي الهائل الذي وصلت إليه هذه المؤسسات. ويشير إلى أن متاحف عالمية مثل اللوفر، والمتروبوليتان، وفيكتوريا وألبرت، تلي المتحف البريطاني في التقدم الرقمي. ويأسف لتراجع بعض المتاحف المصرية مثل متحف النسيج ومتحف الفن الإسلامي، رغم أنهما احتلا المركزين الرابع والخامس عالميا على فيسبوك عام 2016 من حيث التفاعل، لكن بسبب ضعف الاستدامة، وانعدام الدعم المالي والإداري، أُغلقت صفحاتهما أو تراجعت، ما شكّل خسارة كبيرة للمشهد الرقمي العربي.
ورغم هذه الإخفاقات، يؤكد عبد السلام أن المتاحف العربية تمتلك الآن قنوات للتواصل المتحفي، وأن الإتاحة الرقمية باتت جزءا من المشهد المتحفي العربي، لكنها بحاجة إلى استدامة حقيقية، وتطوير علمي ومنهجي يربط بين الموارد البشرية المدربة والإدارة الفعالة للمؤسسات المتحفية.
وفيما يتعلق بتوظيف الذكاء الاصطناعي والوسائط المتعددة، يرى الدكتور عبد السلام أن هذه الوسائل ليست تهديدا للهوية الثقافية، بل على العكس، يمكن أن تُستخدم للترويج لها وتعزيزها، بشرط أن يكون المتحف هو من يُنتج المحتوى ويوجهه، لا أن يكتفي بدور المتلقي. ويشدد على أهمية أن يكون أمناء المتاحف هم من يزودون أدوات الذكاء الاصطناعي بالمادة الخام، ثم يقومون بمراجعة ما يُنتج لاحقا، ما يضمن الحفاظ على الهوية والدقة والرصانة. كما يؤكد أن التوثيق اليدوي يجب أن يبقى ملازما للتسجيل الإلكتروني، حفاظا على الذاكرة المتحفية، وأن الجمع بين الكلاسيكية والحداثة هو ما يضفي على المتحف قيمة وهيبة، كما هو الحال في المتاحف العالمية الكبرى التي تمتلك أرشيفا ورقيا راسخا إلى جانب انفتاحها الرقمي.
وحول دور الرقمنة في تعزيز وظيفة المتحف التعليمية، يشير إلى أن الدراسات الحديثة، خصوصا تلك الصادرة عن "مجموعة المتاحف التعليمية" في المملكة المتحدة، أظهرت أن أكثر من 75% من محتوى التعليم المتحفي يُقدَّم الآن عبر قنوات افتراضية، مقابل 25% فقط يُقدَّم حضوريا. ويؤكد أن المتاحف مؤسسات تعليمية غير نظامية ولكنها ذات تأثير واسع، تقدم التوجيه والخبرة والمعرفة بشكل غير تقليدي، يخاطب الزوار بمختلف فئاتهم العمرية والثقافية. ويضرب مثالا بجائحة كورونا، حيث تحولت معظم مؤسسات التعليم الرسمي وغير الرسمي إلى القنوات الافتراضية، وكانت المتاحف أحد أبرز النماذج في ذلك. ويؤكد أن المتحف الذي يمتلك واقعا افتراضيا مؤثرا هو متحف لا حدود له، ويمكنه الوصول إلى الجميع.
أما فيما يتعلق بتحديات رقمنة التراث غير المادي، فيؤكد عبد السلام أن هذا المجال يواجه صعوبات كبيرة تتعلق بنقص الموارد المالية والبشرية، وبغياب الفهم العميق لماهية هذا النوع من التراث. ويشير إلى أن المتاحف ليست فقط مؤسسات لحفظ التراث المادي، بل هي معنية أيضا بحفظ وتعزيز التراث غير المادي، وهو ما يتطلب كوادر مدربة تجمع بين فهم الموروث الثقافي والقدرة على توظيف أدوات الرقمنة الحديثة. ويستعرض في هذا السياق تجربة جامعة عين شمس، التي أنشأت برنامجا أكاديميا متخصصا في "نظم المعلومات الأثرية"، يتيح للطلبة دراسة التراث المادي وغير المادي معا، ويمنحهم أدوات التعامل مع البرمجيات وتقنيات الميتافيرس والواقع المعزز وغيرها، بما يسد النقص في الكفاءات اللازمة لرقمنة هذا النوع من التراث.
وفيما يخص موازنة الأصالة مع المعاصرة في العروض المتحفية، يوضح أن هذه "ضريبة متحفية" لا بد من دفعها، لأن المتحف كمؤسسة مرنة يجب أن يحافظ على مقتنياته وأصالته، وفي الوقت نفسه يسعى إلى التجديد والتحديث لمواكبة تطلعات الأجيال الجديدة. ويشير إلى أن المتاحف الذكية والمستدامة هي التي توازن بين التوثيق والتسجيل والصيانة والنشر العلمي من جهة، وبين الإتاحة الرقمية الواسعة من جهة أخرى، بحيث تقدم المعلومة بأساليب حديثة دون أن تفرّط في قيمتها الثقافية.
ويضرب مثالا بتجارب عالمية مثل متحف المتروبوليتان، الذي ينظم عروض أزياء حديثة داخل قاعات الآثار المصرية، دون أن يؤثر ذلك على هيبة المعروضات أو أصالتها. ويقترح إمكانية استلهام هذه الفكرة عربيا، عبر تقديم عروض أزياء للأزياء التراثية العمانية والخليجية والإسلامية داخل المتاحف، ما يخلق تفاعلا حيّا بين التراث والجمهور، ويقدّم الأصالة في صورة معاصرة جذابة. ويختم بالتأكيد على أن المتحف الناجح هو الذي يستطيع أن يخاطب الجميع، بلغتهم، وثقافتهم، ووعيهم، دون أن يتنازل عن أصالته.
بين التحول الواعي والتسطيح
يقول الدكتور وليد لعياضي، باحث أول في مركز البحث في التقنيات الصناعية بالجزائر، إن المتاحف العربية تقف اليوم عند مفترق طرق بين التحول الرقمي الواعي والمحاكاة السطحية للنماذج الغربية. فرغم امتلاكها "مجموعة كبيرة من التراث الثقافي العالمي"، إلا أن محدودية التقدم الرقمي لا ترتبط فقط بالعوائق التقنية أو الموارد المالية، بل تعود كذلك إلى "الدور السياسي للثقافة، ومحاولات السيطرة عليها والتأثير في مضمونها واتجاهها".
ويؤكد أن التجارب الخليجية تقود خطوات متقدمة في التفاعل مع الجمهور الرقمي، مثل شراكة متحف قطر الوطني مع شركة مايكروسوفت لتطوير منصة "NMoQ Explorer" التي توظف الذكاء الاصطناعي لتقديم "تجربة متحف افتراضية" تتيح للزائرين استكشاف المجموعات والمعارض والخرائط بسهولة. ومع ذلك، تُظهر الأبحاث الحديثة أن "الذكاء الاصطناعي يعزز تجربة الزائر بدلا من زيادة عدد الحضور"، ما يعني أن معيار النجاح لم يعد مرتبطا بعدد الزيارات فقط، بل بجودة التفاعل وتأثيره المعرفي.
وفي سياق توظيف الذكاء الاصطناعي دون المساس بالخصوصية الثقافية، يشير إلى مبادرات مثل مشروع "INTERWOVEN"، الذي يُظهر كيف يمكن للذكاء الاصطناعي "أن يكتشف خيوطا مشتركة دقيقة بين القطع" مع الحفاظ على السرديات الثقافية الأصيلة، حيث أن الذكاء الاصطناعي "يدعم التخطيط والحفاظ على مواقع التراث والمدن، ويُسهم في إنشاء تجارب افتراضية تثري السياحة الثقافية وتُعزز التفاعل المجتمعي" دون أن يؤدي إلى تذويب الهوية.
ويعتبر أن الرقمنة تعزز من الوظيفة التعليمية للمتحف، إذ تسهم في تحويله إلى "مساحة مترابطة" ترتقي بتجربة الزوار، وتمكّنه من "إعادة تشكيل نفسه كمنصة رقمية"، عبر استحداث غرف للنقاش وحلقات عمل رقمية تعزز التفاعل واستيعاب التقنيات الحديثة، وتشجع على تكثيف التعاون الإقليمي بين المتاحف.
أما عن تحديات رقمنة التراث غير المادي، فيشير "لعياضي" إلى خصوصية هذا النوع من التراث الذي "ينتقل من جيل إلى آخر عبر الأداء الجسدي والتفاعل الاجتماعي، ويتطور باستمرار"، ما يجعله أكثر صعوبة في التوثيق الرقمي. ويعتبر أن من أنجح المبادرات في هذا المجال "استخدام الفيديو لتوثيق ممارسات التراث الثقافي غير المادي، مثل تقاليد التطريز والممارسات الدينية"، مع إشراك المجتمعات المحلية في هذا الجهد لضمان أصالته واستمراريته.
ويؤكد أن تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة يتطلب من المتاحف "إعادة التفكير في أدوارها وفهمها الذاتي وقدراتها"، لتتحول إلى "أماكن للتغيير لا مجرد مواقع للعرض". ويرى أن التحدي الأكبر لا يكمن في الجانب التقني، بل في "نقص الدوافع والحوافز اللازمة لإعادة صياغة السرديات الوطنية ضمن سياق ثقافي وسياسي مقيد".
ويقدّم "لعياضي" جملة من التوصيات الاستراتيجية، تشمل على مستوى الإدارات المتحفية: ضرورة تطوير استراتيجيات رقمية تنبع من السياق الثقافي المحلي، لا من مجرد تقليد نماذج غربية؛ والاستثمار في بناء قدرات محلية متخصصة في التقنيات الرقمية؛ إلى جانب إنشاء "منصة إقليمية رقمية آمنة وفاعلة" لعرض الأعمال الفنية. أما على مستوى السياسات الثقافية، فيدعو إلى تطوير أطر قانونية تحمي التراث الرقمي وتضمن عدالة الوصول إليه، واعتماد مفهوم "دبلوماسية الرقمنة" كوسيلة لتعميق التفاعل الثقافي بين الدول والمجتمعات، مع الموازنة بين الحفاظ على السرديات الوطنية والانفتاح على الحوار الثقافي.
ويختم الدكتور وليد لعياضي باحث أول، في مركز البحث في التقنيات الصناعية بالجزائر بالتأكيد على أن المتاحف العربية لا تواجه خيارا بين الأصالة والمعاصرة، بل تملك فرصة نادرة لريادة نموذج متجدد يجمع بين التقنيات المتقدمة والهوية الثقافية الغنية، شريطة توفر رؤية بعيدة المدى وإرادة سياسية صادقة تدعم تحوّلا رقميا واعيا يعزز الخصوصية الثقافية بدلا من أن يذيبها.