ماذا بعد هذه الصراحة؟
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
د. عبدالله باحجاج
ملتقى "معًا نتقدَّم"، أصبح منصة حوارية وطنية سنوية مُهمة، قابلة للتطوير، هي رباعية الأطراف المتمثلة في: صاحب السُّمو ذي يزن بن هيثم آل سعيد كراعٍٍ للملتقى في كل نسخةٍ، ويحرص على حضور الجلسات الصباحيةِ كلها.
وفي النسخة الثالثة كان سموه على منصة الحوار بصفته وزير الثقافة والرياضة والشباب، والأمانة العامة لمجلس الوزراء برئاسة معالي أمينها العام، الذي يحضر كل الجلسات الصباحية والمسائية، وأصحاب المعالي الوزراء المشرفون على القطاعات التي تمُس مصالح المواطنين، ومختلف فئات المجتمع.
هكذا نقرأ من المُسمَّى، وقد كان محتوى النسخة الثالثة- التي شاركتُ في كل جلساتها الصباحية والمسائية ليومين متتالين- على عكس النسخة الثانية، التي لم أشارك سوى في جلسة الهوية الوطنية، كان المحتوى مُعبِّرًا عن المُسمى، خاصةً في جلسات العمل والاستثمار والطاقة والمعادن والمحافظات. واللافت تلك الصراحة الرأسية بين الوزراء المُشرفين على تلكم القطاعات، وقد استوفقنا فيها صراحة كلٍ من معالي الأستاذ الدكتور محاد باعوين وزير العمل ومعالي عبدالسلام المرشدي رئيس جهاز الاستثمار العُماني، وقد رأينا أنها تستحق التوقف عندها؛ لأهميتها الوطنية من الناحيتين الاجتماعية والزمنية على وجه الخصوص.
وقال معالي وزير العمل إنَّ خطة التوازن المالي (2020- 2024) بكل إنجازاتها لم تُسهم في صناعة فرص عمل تتناسب مع نجاحها، وهذه الصراحة تتماهى مع أطروحاتنا الصحفية السابقة التي كانت تُنبِه للتأثيرات البنيوية الاجتماعية للخطة، وأهمية سرعة الاستدراك؛ حيث إن معاليه أوضح جانبًا مُهمًا من هذه الأبعاد المُتعلِّقة بقطاع العمل المُشرِف عليه، بينما كُنَّا نتوقع الحديث عن تأثيراتها الاجتماعية الأخرى من قِبل وزراء مشرفين على هذه الجوانب المهمة، وقد سبقوا وزير العمل، في اعتلاء منصة الحوار. والزمن هنا عامل مهم يستوجب الاعتداد به في ضوء تراكم أعداد الباحثين وملف المُسرَّحين من أعمالهم وتعقيدات الأوضاع المعيشية للكثير من المتقاعدين. صحيحٌ أن خطة التوازن المالي سيطرت على مديونية الدولة وحققت فوائض مالية وحسَّنت من مستويات التصنيف الائتماني للبلاد رغم ان السبب الأكبر يرجع في الأساس لارتفاع أسعار النفط، لكن مؤكد أن هذه إنجازات نُشيد بها. غير أنه لا يمكن إغفال تداعياتها، ولا ينبغي استدامتها لدواعي مستقبل الاستقرار في البلاد. وما أوضحه معالي وزير العمل أحد ملامح الوجه الآخر لخطة التوازن المالي، وملامح أخرى يمكن استجلائها من فرض الضرائب، والحد من الانفاق العام، ورفع الدعم أو تخفيفه عن الخدمات العامة.
أما موقف معالي عبدالسلام المرشدي رئيس جهاز الاستثمار العُماني فكان في مستوى صراحة معالي وزير العمل؛ إذ يرى أن هناك وظائف لا يقبلها لأقربائه، وبالتالي لا يرضاها للمواطنين. والموقفان يقتربان من الجوهر، فهما يتعلقان بملف الباحثين عن عمل؛ حيث إن عدم إنتاج خطة التوازن المالي لفرص عمل تتناسب مع نجاحها، لا يلغي دور الاقتصاد وسياسات تنويع الاقتصاد من إنتاج فرص عمل طوال سنوات الخطة. وهنا تساؤل ينبغي أن يُطرح: لماذا نجحت خطة التوازن ولم نرَ النجاح المماثل أو على الأقل المناسب في خطة التنويع الاقتصادي من ناحية إنتاج الوظائف وإحداث نقلة في القطاعات الخمسة ضمن رؤية "عُمان 2040"؟ وإنتاج الوظائف لم تعُد تحتكرها وزارة واحدة بعينها، أو قطاعات اقتصادية تقليدية، وإنما أغلب الوزارات مسؤولة عنها، فمثلًا جهاز الاستثمار العُماني عليه مسؤوليات كبرى في توفير وصناعة فرص العمل في ظل الثورة الصناعية الرابعة التي ستُحدِث ثورة ارتدادية على مستقبل الوظائف والمهن؛ مما يُحتِّم تأهيل مواردنا البشرية مع متطلبات الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، في ضوء ما أوضحناه في مقالنا السابق "كلية السلطان هيثم للذكاء الاصطناعي"، من أن وظائف ستندثر عام 2031، مقابل وظائف جديدة ستبرز أكثر عددًا ونوعًا. وهُنا دور جهاز الاستثمار في ربط استثماراته بهدفين استراتيجيين هما:
أولًا: تنويع مصادر الدخل، وهذا الهدف يسير إليه بنجاح كبير، ولا بُد من الإشادة بالفكر الاستثماري البرجماتي لجهاز الاستثمار، الذي يعمل بمنطق الأولويات والاستثمار النوعي، ويتكون من محفظتين أساسيتين؛ هما: محفظة الأجيال، وتشكل 40% من أصول الجهاز، وتستثمر في 40 دولة، أما الأخرى فهي محفظة التنمية الوطنية، وتُشكِّل 60% من أصول الجهاز، وتضم 160 شركة، وتعمل في جميع القطاعات من أجل تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمار وتقليل الاعتماد على النفط.
ثانيًا: صناعة جيل تقني عالي المهارات، وهنا نتساءل الى أي مدى يساهم جهاز الاستثمار في بناء اقتصاد رقمي وطني لتحقيق التنمية المستدامة في ظل الثورة الصناعية الرابعة؟
فمثلًا الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يُحقق هدفين أساسيين؛ هما: تكوين جيل تقني، وتنويع مصادر الدخل. وقد لجأ جهاز الاستثمار العُماني الى الاستثمار في تقنيات تطوير الطائرات المُسيَّرة مثلًا، فهل هذا الاستثمار يجمع بين تحقيق هذين الهدفين؟ ويمكن القياس عليه على بقية القطاعات غير التقليدية؛ كالاستثمار في الفضاء؛ لأنه إلى جانب فوائده المالية والاقتصادية والأمنية، فإن الحاجة الى كوادر عُمانية مؤهلة ومتخصصة لقيادة هذه المسارات غاية وطنية كبرى وعاجلة. وهنا نرى أنه ينبغي التفكير في مسألة عاجلة تتمثل في الجذب "الكمي والنوعي" لشركات عالمية في الذكاء الاصطناعي، خاصةً وأن بلادنا تملك موقعا جيواستراتيجيًا جاذبًا، في ظل سباق إقليمي مُتقدِّم تمكَّنت من خلاله دول من جذب شركات عالمية والدخول معها في شراكات لصناعة وظائف المستقبل لمواطنيها وإقامة الاقتصاد الرقمي.
والى جانب مقترحاتنا التي أوردناها في المقال السابق "كلية السلطان هيثم للذكاء الاصطناعي"، نقترح هنا استراتيجية وطنية للاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، حتى لعام 2030، تَبنى على إنجازات البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية المتقدمة الممتد من 2024 إلى 2026، وتُحدِّد النسب المئوية للإنجازات السنوية والتوطين والجذب.. إلخ.
وفي ظل عدم إنتاج خطة التوازن المالي فرصَ عملٍ تتناسب مع إنجازاتها سالفة الذكر، يستوجب على وزارة العمل الإسراع في إعداد خطتها لحل قضايا تجاوز وتلاعب الشركات الخاصة والحكومية بمسارات الإحلال والتعمين؛ ترجمةً للتوجيهات السامية العاجلة التي تناولناها في مقالات سابقة، بعدما كشف التقرير السنوي لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، صورًا مختلفة للاختلال والتلاعب. ونقترح أن يُصاحب التنفيذ تغطية إعلامية مُمنهجة؛ لدواعي صناعة الأمل، مع الاخذ بعين الاعتبار ملاحظات الباحثين عن عمل، والتي يعبرون عنها في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، بشأن صعوبة تسجيلهم في منصة "توطين"؛ مما قد يُفوِّت عليهم فرص المنافسة، بعد أن يكونوا قد استكملوا كل الشروط الموضوعية. وندعو وزارة العمل كذلك إلى الإسراع في دراستها لإعادة النظر في الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، وهو من الملفات التي نأمل من خلالها سد الذرائع من استغلالها للنفاذ لداخلنا العُماني.
وأخيرًا.. نقترح على الأمانة العام لمجلس الوزراء المُنظِّم السنوي لملتقى "معًا نتقدَّم"، عقد جلسة نقاشية مُغلقة، يحضرها مختصون من الجهات الحكومية وآخرون مختصون في الاقتصاد والاجتماع والأمن، ومفكرون مستقلون عُمانيون؛ لبحث ما يستوجب القيام به من إصلاحات على خطة التوازن الاجتماعي، بعد نجاح التوازن المالي، خاصةً وأن إطارها الزمي قد انتهى عام 2024، وبالتالي من الحكمة تقييمها وتقويمها وفق مرجعية رؤية "عُمان 2040".
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
المصري للدراسات الاقتصادية: الذكاء الاصطناعي أثر على وظائف قطاع التكنولوجيا في مصر
عقد المركز المصري للدراسات الاقتصادية، اليوم الأربعاء، ندوة بعنوان: "تحليل الطلب في سوق العمل المصري الربع الأول لعام 2025"، بالتركيز على وظائف تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات في مصر: قراءة استباقية لاتجاهات العقد القادم وتأثير الذكاء الاصطناعي، برعاية البنك الأهلى المصرى.
وكشفت أبرز نتائج التحليل خلال ربع الدراسة، عن زيادة عامة في عدد الوظائف بنسبة 4% مقارنة بالربع السابق، مع استمرار تمركز غالبية الفرص في إقليم العاصمة، فيما ظلت نسب التغير في توزيع الوظائف بين الأقاليم الأخرى محدودة. وأبرز التقرير تحديًا ملحوظًا في منطقتي الوجه البحري والوجه القبلي، اللتين تمثلان معًا 61% من عدد السكان، إذ لم تشهدا نموا يذكر في عدد الوظائف الجديدة، ما يعكس فجوة جغرافية مقلقة في توزيع الفرص.
التركز على وظائف المبيعات والتجزئة
ووفقا للتحليل، يستمر الطلب في التركز على وظائف المبيعات والتجزئة، وخدمة ودعم العملاء، إلى جانب قطاع تكنولوجيا المعلومات وتطوير البرمجيات، الذي كان محل تحليل معمق في هذا الربع. وأظهرت البيانات أن معظم الوظائف المطلوبة تشترط درجة البكالوريوس، فيما لا يعد النوع الاجتماعي من المتطلبات الأساسية في وظائف ذوي الياقات البيضاء، إذ تبين أن الغالبية الساحقة منها لا تميز بين الذكور والإناث.
كما أشار التحليل إلى أن نحو 60% من الوظائف تتطلب خبرة متوسطة إلى متقدمة، في حين تراجع الطلب على حديثي التخرج بشكل ملحوظ، وهو ما يتقاطع مع اتجاه عام في السوق نحو تفضيل الكفاءات ذات الخبرة، لا سيما في القطاعات التقنية. أما من حيث نمط العمل، فظلت معظم الوظائف تتطلب العمل من مقر الشركة، بينما كانت فرص العمل عن بعد أو بنظام "الهايبرد" الذى يجمع بين العمل من المكتب والعمل ع بعد، شبه منعدمة في هذا الربع.
في المقابل، أظهرت الوظائف المهنية والفنية (ذوى الياقات الزرقاء) نمطًا مشابها من حيث نسبة النمو العام، التي بلغت أيضًا 4%. وقد تركزت هذه الوظائف، بدورها، في العاصمة، مع ارتفاع في الطلب خاصة فى مجالات مثل التسويق، والقيادة والتوصيل، والتصنيع. وعلى عكس وظائف ذوي الياقات البيضاء، كانت غالبية الوظائف في هذا القطاع تتطلب ذكورا، وتعتمد على مؤهلات متوسطة، وتفتقر إلى المرونة في أنماط العمل.
وركز التحليل خلال الربع الأول من 2025 على دراسة متعمقة لوظائف تكنولوجيا المعلومات وتأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل فى هذا المجال حاليا ومستقبلا، حيث يؤثر الذكاء الاصطناعي بشكل كبير ومتزايد على سوق العمل، ووفقًا لاستطلاع عالمي شارك فيه المركز، فإن سوق العمل العالمي سيشهد ثلاث ظواهر متداخلة: الأولى هي دمج الذكاء الاصطناعي في الوظائف القائمة، ما يغير من توصيفاتها الوظيفية، والثانية هي خلق وظائف جديدة بالكامل في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، أما الظاهرة الثالثة فهي اختفاء تدريجي لوظائف تتسم بطابع تكراري وروتيني، وعلى رأسها إدخال البيانات.
ومن أبرز ما توصل إليه التحليل الخاص بقطاع تكنولوجيا المعلومات وتطوير البرمجيات، أن هذا القطاع سيظل حيويًا وأساسيًا في الاقتصاد الرقمي، لكنه يشهد تحولا جذريا في نوعية المهارات المطلوبة بسبب التقدم الهائل في قدرات الذكاء الاصطناعي. وأشار التحليل إلى أن نحو 30% من المهام المرتبطة بوظائف القطاع يمكن تنفيذها حاليا عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهي نسبة ترتفع في بعض التخصصات مثل تطوير البرمجيات الخلفية (Back-End Development)، بينما تنخفض في مجالات أكثر تعقيدا مثل الأمن السيبراني.
وبفضل قاعدة بيانات شملت أكثر من 4200 وظيفة تم الإعلان عنها في مصر جمعها الباحثون فى المركز خلال الأشهر الستة الأخيرة، طور الباحثون "مؤشر مخاطر الذكاء الاصطناعي" (AI Risk Index)، الذي يقيس مدى قابلية كل وظيفة داخل القطاع لأن تستبدل أو تتأثر بتقنيات الذكاء الاصطناعي. وقد صنف المؤشر الوظائف إلى ثلاث فئات: منخفضة، متوسطة، وعالية المخاطر، بناءً على تحليل مهاراتها الأساسية مقارنة بما يمكن للذكاء الاصطناعي تنفيذه حاليًا.
وأظهرت النتائج أن المهام التي تشمل توليد الأكواد البرمجية (Code Generation)، والاختبار الآلي، وتحليل البيانات، تندرج ضمن الفئة عالية المخاطر، فيما ظل تصميم الحلول، والتفكير التحليلي، والتواصل مع العملاء، من المهارات التي لا تزال الحاجة فيها ملحّة للبشر، وتُعد منخفضة المخاطر.
ولفت التقرير إلى وجود فجوة كبيرة تتعلق بالمبتدئين وطلبة الجامعات، حيث تبين أن وظائف التدريب والوظائف الأولية باتت أكثر عرضة لأن تستبدل بالذكاء الاصطناعي، مما يهدد بإحداث خلل في مسار تطوير الكفاءات المهنية على المدى الطويل، ويؤدي إلى ما يعرف بـ"اختفاء الطبقة الوسطى من الخبرات"، وهو تحد حذر منه المركز مرارا في تحليلات سابقة.
ومن بين المبادرات التي أطلقها المركز لمعالجة هذا الواقع، تم تطوير أدوات رقمية جديدة تتيح لأصحاب العمل، والطلاب، والجامعات، تحليل الفجوة بين المهارات المطلوبة في السوق والمحتوى الأكاديمي المتاح. حيث يمكن للمستخدمين إدخال المقررات أو المسميات الوظيفية، والحصول على تقييم مباشر لمخاطر الذكاء الاصطناعي وتأثيره المحتمل، بالإضافة إلى اقتراحات لتطوير المهارات بما يتماشى مع التغيرات المستقبلية.
وعقب الدكتور السيد يوسف القاضي عميد كلية الهندسة والتكنولوجيا بجامعة بدر بالقاهرة ورئيس جامعة بنها الأسبق، على عرض المركز، مطالبا بضرورة بناء قاعدة بيانات دقيقة وشاملة تتضمن كافة المهارات والخبرات المتاحة في سوق العمل المصري، مؤكدا أن غياب هذه القاعدة يؤثر سلبا على دقة دراسات الجدوى وعلى التخطيط الفعلي للاحتياجات المستقبلية من العمالة، خاصة في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها سوق العمل العالمي، حيث من المتوقع اختفاء 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025، مقابل خلق نحو 97 مليون وظيفة جديدة، وفقاً لتقارير دولية.
وتساءل الدكتور يوسف: "هل نحن في مصر مستعدون لهذه التحولات؟ هل رصدنا الوظائف المهددة؟ وهل حددنا المهارات المطلوبة للوظائف القادمة؟"، مشيرًا إلى ضرورة تأهيل الشباب للتعامل مع الثورة الصناعية الرابعة، لا سيما من خلال توسيع قاعدة التعليم التكنولوجي والفني، وهو ما بدأت الدولة بالفعل في الالتفات إليه عبر إنشاء الجامعات التكنولوجية وتطوير التعليم الصناعي الذي ظل مهملاً لسنوات.
وانتقد الدكتور يوسف آلية تنسيق القبول الجامعي القائمة على المجموع فقط، داعياً إلى اعتماد ما أسماه "المجموع الاعتباري"، بحيث يتم إعطاء وزن نسبي أكبر للمواد التخصصية المؤهلة لكل قطاع من القطاعات الجامعية، كالهندسة أو الطب، وذلك لضمان التحاق الطالب بالتخصص الذي يناسب قدراته الأكاديمية الحقيقية، وليس فقط درجاته في الثانوية العامة. وأوضح أن هذا الاقتراح قُدِّم من جامعة بنها منذ عام 2017 وبدأت الوزارة في الأخذ به بشكل جزئي.
وفيما يخص مخرجات التعليم الجامعي، أشار الدكتور يوسف إلى الفجوة القائمة بين الدراسة الأكاديمية وسوق العمل، مؤكداً أن معظم الشركات أصبحت تشترط وجود خبرة سابقة، وهو أمر لا يتوافر لدى الخريج الجديد. ودعا إلى ترسيخ مفهوم "التعليم مدى الحياة" بحيث يستمر الطالب في تنمية مهاراته وخبراته بشكل متواصل، سواء من خلال التدريب العملي، أو من خلال المنصات الإلكترونية والدورات الرقمية التي تتيح التعلم الذاتي والتفاعل المرن مع المعارف الحديثة.
وانتقد الدكتور يوسف اعتماد الجامعات على أساليب التلقين، قائلاً: "يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، التعليم التلقيني لم يعد مناسباً لهذا العصر، والمطلوب هو تطوير طرق التدريس لتشمل التعليم الذاتي، وتفعيل المهارات، وتدريب الطلاب على تقديم أنفسهم والتواصل بفعالية مع جهات العمل".
وطالب يوسف بضرورة تحديث اللوائح الدراسية في الجامعات بشكل دوري لتتواكب مع الإطار المرجعي الذي يصدره المجلس الأعلى للجامعات كل خمس سنوات، منتقدا الجامعات التي لا تزال تعمل وفق لوائح قديمة تعود إلى عام 2018، مشددا على أن متطلبات كل مرحلة تختلف عن الأخرى، وأن الجامعات مطالبة بمواكبة هذا التغيير لضمان جودة مخرجات التعليم.
من جانبه حذر محمد هنو رئيس مجلس إدارة جمعية رجال الأعمال بالإسكندرية والعضو المنتدي للشركة العربية للحاسبات، من التغيرات الجذرية التي يشهدها سوق العمل التكنولوجي نتيجة تسارع وتيرة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، مؤكدا أن التأثير الأكبر سيطال وظائف تطوير البرمجيات، ما يستدعي إعادة صياغة استراتيجيات التأهيل والتعليم.
وأوضح هنو أن العرض المقدم خلال الجلسة كان غنيًا بالمحتوى ومبنيا على معطيات تتقاطع مع ما يرصده العاملون في القطاع، مشيرا إلى أن أكبر التحديات في السوق المحلي تتمثل في ضعف الاعتماد على البيانات في اتخاذ القرارات، وهو ما يؤدي إلى فجوة بين الواقع والتخطيط"
وأضاف أن التطور التقني خلق نوعين رئيسيين من الوظائف داخل قطاع تكنولوجيا المعلومات: وظائف متعلقة بالبرمجيات مثل تطوير البرمجيات، وهندسة البيانات، ووظائف متعلقة بالبنية التحتية مثل الشبكات، إدارة الأنظمة، والأمن السيبراني.
وأشار إلى أن القطاع البرمجي يشهد بالفعل إحلالًا ملحوظًا للوظائف التقليدية، إذ بدأت شركات برمجيات في تقليص عدد العاملين، مستعيضة عن فرق كاملة بخبير واحد قادر على الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي. ولفت إلى أن الوظائف المبتدئة تشهد شبه توقف في التعيين، مقابل زيادة الطلب على أصحاب الكفاءات والخبرة”، وأوضح أن الذكاء الاصطناعي، رغم كفاءته العالية، لا يزال يرتكب أخطاء لا يمكن اكتشافها إلا بواسطة خبراء محترفين، ما يجعل من الضروري وجود عنصر بشري مؤهل يراقب الأداء ويصحح المسار.
وفي سياق متصل، دعا هنو إلى إعادة التفكير في نماذج التعليم الجامعي والتدريب المهني، مشيرًا إلى أن الاستمرار في نظام جامعي يمتد 4 أو 5 سنوات لم يعد مناسبًا لسرعة التغيرات التي يشهدها القطاع، مطالبا بتطبيق أنظمة تعليم مرنة ومختصرة تتراوح بين 6 أشهر و3 سنوات، مع اعتماد مبدأ التعلم أثناء العمل.
وسلط الضوء على تجربة الهند التي فرضت قانونًا يلزم الشركات بتوظيف نسبة من المتدربين ضمن هيكلها الوظيفي، مع تقديم الدولة حوافز مالية لتغطية جزء من رواتب هؤلاء المتدربين. وأوضح أن هذه التجربة خلقت توازنا حقيقيًا بين احتياجات السوق ومصلحة الشركات، مطالبا الحكومة بضرورة أن يكون لها دورا فى تقديم حوافز للشركات لزيادة الطلب على تعيين المتدربين وحديثي التخرج.
الدكتور هيثم حمزة القائم بأعمال رئيس مركز تقييم واعتماد البرمجيات بهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (إيتيدا)، أكد أن التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي لن يؤديا إلى اختفاء الوظائف التقنية بشكل فوري، موضحا أن هناك فجوات حقيقية في السوق المصري تحول دون الاعتماد الكامل على تقنيات الذكاء الاصطناعي، من أبرزها ضعف المهارات اللغوية، والقيود التنظيمية، وغياب الاستعداد المؤسسي للتحول.
وأوضح أن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات تمتلك عددًا من الأذرع المهمة التي تعمل على سد الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، مثل المعهد القومي للاتصالات، ومعهد تكنولوجيا المعلومات، وهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (إيتيدا). ولفت إلى أن مركز تقييم واعتماد هندسة البرمجيات، التابع لإيتيدا، يلعب دورا محوريا في تمكين شركات البرمجيات المصرية من المنافسة عالميا عبر برامج اعتماد وتدريب تراعي أحدث معايير الجودة الدولية.
وأشار إلى أن المركز يعمل منذ عام 2001 على تقديم برامج بناء قدرات تستهدف رفع كفاءة الشركات المحلية، مثل شهادة CMMI العالمية، إلى جانب تدريبات متقدمة في مجالات مثل DevOps، الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI)، اختبار البرمجيات، تحليل المتطلبات، وحوكمة تكنولوجيا المعلومات.
وكشف هيثم عن إطلاق ثلاث دورات تدريبية جديدة خلال العام الجاري، تركز على دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في عمليات تطوير البرمجيات، موضحًا أن أكثر من 120 شركة شاركت في تلك البرامج منذ نوفمبر الماضي، وهو ما يعكس الطلب المتزايد على المهارات التقنية المتخصصة.
وأكد أن أبرز التحديات التي تواجه مطوري البرمجيات في مصر ليست تقنية فقط، بل ترتبط بضعف المهارات اللغوية والقدرة على التوثيق وكتابة المستندات الفنية، مما يحد من جودة المخرجات ويصعب تصديرها أو تسويقها دوليًا. وأضاف: "مهندس البرمجيات المصري يمتلك كفاءة تقنية عالية، لكنه يعاني من فجوة في المهارات الاحترافية المرتبطة بالتواصل واللغة، وهي فجوة يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في سدها بشكل جزئي."
وأشار إلى أن العديد من الشركات المصرية لا تزال تتردد في تبني أدوات الذكاء الاصطناعي لأسباب تتعلق بالتكلفة، أو مخاوف مرتبطة بحماية البيانات واللوائح التنظيمية. وأوضح أن بعض الشركات الدولية التي تعمل من خلال مكاتبها في مصر تمنع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي محليا بسبب غياب التشريعات المنظمة، رغم استخدامها لها في مقارها بالخارج.
و دعا هيثم إلى اعتماد نهج التعلم مدى الحياة باعتباره الحل الأمثل لمواكبة التحولات المتسارعة في سوق العمل، مؤكدًا أن دور الجامعات، رغم أهميته، لا يكفي وحده لتأهيل الخريجين، وأن تحديث المهارات ينبغي أن يكون مستمرًا ومرنًا. كما أشار إلى مثال البرمجة بالتوجيه، التي شهدت اهتماما واسعا خلال العامين الماضيين، لكنها بدأت تفقد بريقها مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعكس سرعة التغيير وضرورة التوازن في التعامل مع موجات التقنية المتلاحقة.
مواجهة التحديات التي يواجهها السوق
من جانبها أكدت الدكتورة عبلة عبد اللطيف المدير التنفيذي ومدير البحوث بالمركز المصري للدراسات الاقتصادية، على أهمية دراسة السوق المصري وفهمه بشكل دقيق، مشيرة إلى ضرورة مواجهة التحديات التي يواجهها السوق بشكل صريح لأن الوضع الحالي حزين للغاية، وهذا واقع لا يمكن إنكاره، مشيرة إلى أن فريق عمل المركز يبذل دورا هاما فى دراسة وضع سوق العمل ويؤمن بأهمية الدراسات الاستباقية لمعرفة التحديات المستقبلية، حتى يكون هناك قدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة فى مواجهتها والبدء فى التعامل معها من الآن.
وشددت على ضرورة الاهتمام بتعليم اللغات لأن هذا ما يفرق الشباب فى سوق العمل المصري عن نظرائهم بالخارج، مؤكدة على دور الجامعات التكنولوجية وضرورة تطويرها بشكل أفضل. كما أكدت على أهمية التعليم الذاتي، وشددت على أهمية التعليم المستمر ولكن هذا لا يمكن أن يعتمد فقط على الجهود الفردية، بل يحتاج إلى دعم قوي من الدولة لإحداث تغيير حقيقي في النظام التعليمي.
جدير بالذكر أن تحليل الطلب على الوظائف في سوق العمل المصري الذى بدأه المركز بداية من يونيو 2021، يستهدف سد الفجوة الإحصائية والمعلوماتية في هذا المجال، حيث تركز معظم البيانات المتاحة من قبل الجهات الرسمية المحلية والدولية على جانب العرض فقط، حيث يقوك المركز برعاية البنك الأهلي المصري بتجميع ومعالجة وتحليل جميع إعلانات التوظيف الموثوقة المنشورة على الإنترنت، وإتاحة النتائج من خلال لوحة بيانات سهلة الاستخدام يتم تحديثها بشكل ربع سنوي، بما يمكن الجميع من رصد اتجاهات الطلب على المهارات في سوق العمل المصري وكيفية تغيره بمرور الوقت استجابة للتطورات الاقتصادية محليا وإقليميا ودوليا.