ماذا بعد هذه الصراحة؟
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
د. عبدالله باحجاج
ملتقى "معًا نتقدَّم"، أصبح منصة حوارية وطنية سنوية مُهمة، قابلة للتطوير، هي رباعية الأطراف المتمثلة في: صاحب السُّمو ذي يزن بن هيثم آل سعيد كراعٍٍ للملتقى في كل نسخةٍ، ويحرص على حضور الجلسات الصباحيةِ كلها.
وفي النسخة الثالثة كان سموه على منصة الحوار بصفته وزير الثقافة والرياضة والشباب، والأمانة العامة لمجلس الوزراء برئاسة معالي أمينها العام، الذي يحضر كل الجلسات الصباحية والمسائية، وأصحاب المعالي الوزراء المشرفون على القطاعات التي تمُس مصالح المواطنين، ومختلف فئات المجتمع.
هكذا نقرأ من المُسمَّى، وقد كان محتوى النسخة الثالثة- التي شاركتُ في كل جلساتها الصباحية والمسائية ليومين متتالين- على عكس النسخة الثانية، التي لم أشارك سوى في جلسة الهوية الوطنية، كان المحتوى مُعبِّرًا عن المُسمى، خاصةً في جلسات العمل والاستثمار والطاقة والمعادن والمحافظات. واللافت تلك الصراحة الرأسية بين الوزراء المُشرفين على تلكم القطاعات، وقد استوفقنا فيها صراحة كلٍ من معالي الأستاذ الدكتور محاد باعوين وزير العمل ومعالي عبدالسلام المرشدي رئيس جهاز الاستثمار العُماني، وقد رأينا أنها تستحق التوقف عندها؛ لأهميتها الوطنية من الناحيتين الاجتماعية والزمنية على وجه الخصوص.
وقال معالي وزير العمل إنَّ خطة التوازن المالي (2020- 2024) بكل إنجازاتها لم تُسهم في صناعة فرص عمل تتناسب مع نجاحها، وهذه الصراحة تتماهى مع أطروحاتنا الصحفية السابقة التي كانت تُنبِه للتأثيرات البنيوية الاجتماعية للخطة، وأهمية سرعة الاستدراك؛ حيث إن معاليه أوضح جانبًا مُهمًا من هذه الأبعاد المُتعلِّقة بقطاع العمل المُشرِف عليه، بينما كُنَّا نتوقع الحديث عن تأثيراتها الاجتماعية الأخرى من قِبل وزراء مشرفين على هذه الجوانب المهمة، وقد سبقوا وزير العمل، في اعتلاء منصة الحوار. والزمن هنا عامل مهم يستوجب الاعتداد به في ضوء تراكم أعداد الباحثين وملف المُسرَّحين من أعمالهم وتعقيدات الأوضاع المعيشية للكثير من المتقاعدين. صحيحٌ أن خطة التوازن المالي سيطرت على مديونية الدولة وحققت فوائض مالية وحسَّنت من مستويات التصنيف الائتماني للبلاد رغم ان السبب الأكبر يرجع في الأساس لارتفاع أسعار النفط، لكن مؤكد أن هذه إنجازات نُشيد بها. غير أنه لا يمكن إغفال تداعياتها، ولا ينبغي استدامتها لدواعي مستقبل الاستقرار في البلاد. وما أوضحه معالي وزير العمل أحد ملامح الوجه الآخر لخطة التوازن المالي، وملامح أخرى يمكن استجلائها من فرض الضرائب، والحد من الانفاق العام، ورفع الدعم أو تخفيفه عن الخدمات العامة.
أما موقف معالي عبدالسلام المرشدي رئيس جهاز الاستثمار العُماني فكان في مستوى صراحة معالي وزير العمل؛ إذ يرى أن هناك وظائف لا يقبلها لأقربائه، وبالتالي لا يرضاها للمواطنين. والموقفان يقتربان من الجوهر، فهما يتعلقان بملف الباحثين عن عمل؛ حيث إن عدم إنتاج خطة التوازن المالي لفرص عمل تتناسب مع نجاحها، لا يلغي دور الاقتصاد وسياسات تنويع الاقتصاد من إنتاج فرص عمل طوال سنوات الخطة. وهنا تساؤل ينبغي أن يُطرح: لماذا نجحت خطة التوازن ولم نرَ النجاح المماثل أو على الأقل المناسب في خطة التنويع الاقتصادي من ناحية إنتاج الوظائف وإحداث نقلة في القطاعات الخمسة ضمن رؤية "عُمان 2040"؟ وإنتاج الوظائف لم تعُد تحتكرها وزارة واحدة بعينها، أو قطاعات اقتصادية تقليدية، وإنما أغلب الوزارات مسؤولة عنها، فمثلًا جهاز الاستثمار العُماني عليه مسؤوليات كبرى في توفير وصناعة فرص العمل في ظل الثورة الصناعية الرابعة التي ستُحدِث ثورة ارتدادية على مستقبل الوظائف والمهن؛ مما يُحتِّم تأهيل مواردنا البشرية مع متطلبات الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، في ضوء ما أوضحناه في مقالنا السابق "كلية السلطان هيثم للذكاء الاصطناعي"، من أن وظائف ستندثر عام 2031، مقابل وظائف جديدة ستبرز أكثر عددًا ونوعًا. وهُنا دور جهاز الاستثمار في ربط استثماراته بهدفين استراتيجيين هما:
أولًا: تنويع مصادر الدخل، وهذا الهدف يسير إليه بنجاح كبير، ولا بُد من الإشادة بالفكر الاستثماري البرجماتي لجهاز الاستثمار، الذي يعمل بمنطق الأولويات والاستثمار النوعي، ويتكون من محفظتين أساسيتين؛ هما: محفظة الأجيال، وتشكل 40% من أصول الجهاز، وتستثمر في 40 دولة، أما الأخرى فهي محفظة التنمية الوطنية، وتُشكِّل 60% من أصول الجهاز، وتضم 160 شركة، وتعمل في جميع القطاعات من أجل تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمار وتقليل الاعتماد على النفط.
ثانيًا: صناعة جيل تقني عالي المهارات، وهنا نتساءل الى أي مدى يساهم جهاز الاستثمار في بناء اقتصاد رقمي وطني لتحقيق التنمية المستدامة في ظل الثورة الصناعية الرابعة؟
فمثلًا الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يُحقق هدفين أساسيين؛ هما: تكوين جيل تقني، وتنويع مصادر الدخل. وقد لجأ جهاز الاستثمار العُماني الى الاستثمار في تقنيات تطوير الطائرات المُسيَّرة مثلًا، فهل هذا الاستثمار يجمع بين تحقيق هذين الهدفين؟ ويمكن القياس عليه على بقية القطاعات غير التقليدية؛ كالاستثمار في الفضاء؛ لأنه إلى جانب فوائده المالية والاقتصادية والأمنية، فإن الحاجة الى كوادر عُمانية مؤهلة ومتخصصة لقيادة هذه المسارات غاية وطنية كبرى وعاجلة. وهنا نرى أنه ينبغي التفكير في مسألة عاجلة تتمثل في الجذب "الكمي والنوعي" لشركات عالمية في الذكاء الاصطناعي، خاصةً وأن بلادنا تملك موقعا جيواستراتيجيًا جاذبًا، في ظل سباق إقليمي مُتقدِّم تمكَّنت من خلاله دول من جذب شركات عالمية والدخول معها في شراكات لصناعة وظائف المستقبل لمواطنيها وإقامة الاقتصاد الرقمي.
والى جانب مقترحاتنا التي أوردناها في المقال السابق "كلية السلطان هيثم للذكاء الاصطناعي"، نقترح هنا استراتيجية وطنية للاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، حتى لعام 2030، تَبنى على إنجازات البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية المتقدمة الممتد من 2024 إلى 2026، وتُحدِّد النسب المئوية للإنجازات السنوية والتوطين والجذب.. إلخ.
وفي ظل عدم إنتاج خطة التوازن المالي فرصَ عملٍ تتناسب مع إنجازاتها سالفة الذكر، يستوجب على وزارة العمل الإسراع في إعداد خطتها لحل قضايا تجاوز وتلاعب الشركات الخاصة والحكومية بمسارات الإحلال والتعمين؛ ترجمةً للتوجيهات السامية العاجلة التي تناولناها في مقالات سابقة، بعدما كشف التقرير السنوي لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، صورًا مختلفة للاختلال والتلاعب. ونقترح أن يُصاحب التنفيذ تغطية إعلامية مُمنهجة؛ لدواعي صناعة الأمل، مع الاخذ بعين الاعتبار ملاحظات الباحثين عن عمل، والتي يعبرون عنها في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، بشأن صعوبة تسجيلهم في منصة "توطين"؛ مما قد يُفوِّت عليهم فرص المنافسة، بعد أن يكونوا قد استكملوا كل الشروط الموضوعية. وندعو وزارة العمل كذلك إلى الإسراع في دراستها لإعادة النظر في الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، وهو من الملفات التي نأمل من خلالها سد الذرائع من استغلالها للنفاذ لداخلنا العُماني.
وأخيرًا.. نقترح على الأمانة العام لمجلس الوزراء المُنظِّم السنوي لملتقى "معًا نتقدَّم"، عقد جلسة نقاشية مُغلقة، يحضرها مختصون من الجهات الحكومية وآخرون مختصون في الاقتصاد والاجتماع والأمن، ومفكرون مستقلون عُمانيون؛ لبحث ما يستوجب القيام به من إصلاحات على خطة التوازن الاجتماعي، بعد نجاح التوازن المالي، خاصةً وأن إطارها الزمي قد انتهى عام 2024، وبالتالي من الحكمة تقييمها وتقويمها وفق مرجعية رؤية "عُمان 2040".
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«التنظيم والإدارة» ينظم ورشة عمل حول دور الذكاء الاصطناعي في تطوير العمل الحكومي
نظم الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة بالتعاون مع المنظمة العربية للتنمية الإدارية، اليوم، ورشة عمل بعنوان "تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير الإدارة الحكومية العربية"، شارك فيها العاملين بالجهاز وعدد من الوزارات، وذلك في إطار جهود دعم مسار التحول الرقمي وتعزيز جاهزية المؤسسات الحكومية العربية لاستخدام التقنيات الحديثة في تطوير الأداء والارتقاء بالخدمات.
افتتح ورشة العمل المهندس حاتم نبيل، رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، مؤكدا في كلمته أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مفهومًا مستحدثًا، بل يعود تاريخه إلى خمسينيات القرن الماضي حين بدأت أولى المحاولات لمحاكاة التفكير البشري وتقديم حلول تقنية مبتكرة، قبل أن يتطور ليصبح اليوم جزءًا أساسيًا من عمل الأفراد والمؤسسات على مستوى العالم.
الذكاء الاصطناعي يمثل أداة داعمة للبشر
وأوضح رئيس الجهاز أن الذكاء الاصطناعي يمثل أداة داعمة للبشر والمؤسسات في تنفيذ مهامهم بكفاءة أعلى، ولا ينبغي النظر إليه كبديل للعنصر البشري، مشددًا على أهمية تطبيق حوكمة واضحة لاستخدام هذه التقنيات والاعتماد على مصادر بيانات موثوقة تضمن مصداقية المخرجات ودقتها.
وأشار المهندس حاتم نبيل إلى أن تبني الحكومات لتطبيقات الذكاء الاصطناعي يتطلب توافر مجموعة من المحاور الأساسية، تشمل توفير البيانات والمعلومات، وتطوير الأطر الحاكمة والتشريعات المنظمة، وتنمية القدرات والمهارات الرقمية للعاملين، بالإضافة إلى بناء بنية تحتية قوية تمكن من تقديم خدمات قائمة على الذكاء الاصطناعي.
وأكد في ختام كلمته ضرورة الاستعداد الجيد لتطويع هذه التكنولوجيا لتطوير العمل الحكومي وخدمة المواطن ، قائلاً إن الخطوة الأولى تبدأ بفهم الذكاء الاصطناعي وتعزيز الوعي بكيفية استخدامه بشكل مسؤول وفعّال داخل مؤسسات الدولة.
وتضمنت الورشة شرحًا مستفيضًا، قدمه الدكتور يسار جرار – عضو مجلس أمناء كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية ورئيس تحرير تقرير «حال الحكومات العربية 2026» – حول «الذكاء الاصطناعي وإعادة تصميم مستقبل الحكومات»، حيث استعرض المفاهيم العامة للذكاء الاصطناعي وتطوره.
وتناول الدكتور يسار جرار أبرز التجارب الدولية في توظيفه داخل الحكومات، كما ناقش أهمية الحوكمة والاستخدام المسؤول، والأطر العالمية المنظمة لهذا المجال، بالإضافة إلى المهارات والأدوات التي بات موظف الحكومة بحاجة إليها للتعامل بكفاءة مع الأدوات الذكية، وصولًا إلى نموذج عملي يساعد المؤسسات الحكومية على تصميم وتطبيق مشروعات الذكاء الاصطناعي وفق مراحل واضحة تشمل تحديد القيمة، وتقييم الجاهزية، وتصميم الحلول، والتنفيذ والتكامل، ثم المتابعة والتحسين المستمر.
وشهدت الورشة جلسة حوارية موسعة لبحث الاستخدامات والفرص المتاحة أمام الحكومات العربية في تبني الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن لهذه التقنيات أن تُحدث تحولًا مباشرًا في مستوى الخدمات وسرعتها ودقتها، إلى جانب دورها في رفع كفاءة العمل وتعزيز قدرات الاستشراف والتعامل مع التحديات.
كما ناقشت الجلسة التحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي مثل الالتزام بالحوكمة، حماية الخصوصية، جودة البيانات، التحيز في الخوارزميات، ومدى استعداد البنية التحتية الحالية لاستيعاب هذا التحول، مع التأكيد على أهمية بناء ثقة المواطنين في الاستخدام المسؤول للتقنيات الحديثة داخل المؤسسات الحكومية.
ويأتي تنظيم هذه الورشة في إطار جهود الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة لتعزيز الابتكار الحكومي، ودعم عملية بناء القدرات، وتبني الحلول الرقمية المتقدمة التي تسهم في تطوير الإدارة العامة وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين.