عاد اتفاق سلام جوبا إلى واجهة خطاب السياسة والحرب في يومنا هذا. وأنشر نص ورقة كنت قدمتها لمؤتمر انعقد في مركز الدوحة في العام الماضي ما وسعني لكي يدور النقاش المتجدد عن الاتفاقية فوق علم باتفاق قل من اطلع على نصوصه.

الاتفاقية التي لم يقرأها أحد
آفة الاتفاقية الكبرى، طالما كانت صفقة للعاجلة، زهادة صفوة الحكم والرأي في الاطلاع عليها حتى.

فأضرب كثيرهم عن قراءة نصها، أو الإجراءات التي انعقدت بموجبها. واشتجروا بقوة في ما ورد فيه نص. فأظهر الخطاب حول الاتفاقية قبل توقيعها وبعده لا جهلاً بالجهة في الدولة التي خولتها الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية للتفاوض مع المسلحين من أجل السلام فحسب، بل بمخرجات التفاوض نفسها أيضاً. فنشب خلاف حول الجهة المخولة بإدارة المفاوضات في الدولة: هل هي مجلس السيادة أم الحكومة الانتقالية؟ كما ثار الجدل بعد توقيع الاتفاقية بين دوائر سياسية مختلفة حول فصل الدين عن الدولة واحتد. وما كان له أن ينشأ أصلاً لو اطلع المجادلون على نص الاتفاقية.

فقال كثير من المدنيين بأن إجراءات السلام مما انعقد بالحكومة، بل وكالوا النقد الزعاف لما حسبوه تفريطاً منها بحق استأثر به العسكريون في مجلس السيادة دونها. وسنرى من نص الوثيقة الدستورية أن لا سند لانعقاد التكليف بالتفاوض على الحكومة. فجاء ذكر اختصاص السلام في الوثيقة الدستورية في موضعين مربكين. جاء التكليف ضمن اختصاصات مجلس الوزراء وسلطاته (١٦-٢) بقول الوثيقة إن من تبعات المجلس “العمل على إيقاف الحروب والنزاعات وبناء السلام” في حين كلفت الوثيقة مجلس السيادة ب”رعاية عملية السلام مع الحركات المسلحة” (١٢-س)، علاوة على تعيين رئيس وأعضاء مفوضية السلام “بالتشاور مع مجلس الوزراء” (١٢-٣). وقام المجلس برعاية عملية السلام مع المسلحين كما بدا له من الوثيقة الدستورية، وعين مفاوضي جوبا. ولا أعرف إن كان سماهم مفوضية السلام أم لا، أو إن كان شاور مجلس الوزراء. وليس مدعاة للتفاؤل باتفاقية يكتنفها هذا الارتباك في فقه تأسيسها نفسه.

ونرى من الإثارة السياسة عن الدين والدولة التي رشحت بعد الاتفاق أنه اتفاق لم يقرأه أحد. فأعترض الفريق شمس الدين كباشي، عضو مجلس السيادة وكبير المفاوضين عن الحكومة كما تقدم، على ميثاق تواصى عليه عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء، وعبد العزيز الحلو، زعيم الحركة الشعبية، في نوفمبر 2020 لأنه دعا إلى دولة مدنية. وسمى الكباشي اتفاق الرجلين عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. كما وقع الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، “إعلان مبادئ” مع الحلو (ابريل 2022) وأعقبه الحزب الشيوعي (مايو 2022) شدد على وجوب مدنية الدولة. ولو طالع أي من هذه الأطراف اتفاق جوبا لاستغنى عن التنمر واحدها على الآخر، أو كف عن المطالبة بما فرغت الدولة من التصديق عليه في الاتفاق.

فلسنا نعرف، متى وقفنا على مواد اتفاق جوبا عن علاقة الدين والدولة، وثيقة مهجسة بشأن فصلهما تبدي وتعيد فيه مثله. فجاء في المادة ٧،١ من اتفاق القضايا القومية من وثيقة جوبا وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة. ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وكريم المعتقدات على أن يُضَمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها”. وجاء عن مبادئ تقاسم السلطة في اتفاق دارفور وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة”. وجاء في اتفاق المنطقتين أن المواطنة بلا تمييز هي أساس كل الحقوق والواجبات “وتقتضي أن تقف الدولة على مسافة متساوية من الأديان والثقافات دون أي انحياز إثني أو ديني أو ثقافي يؤدي للانتقاص من هذا الحق. ويجب أن يضمن ذلك في الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية”. وأعطى الاتفاق المنطقتين، جبال النوبة والنيل الأزرق، صلاحية التشريع مراعاة لوضعهما الخاص كحق أصيل لا يتعارض مع الدستور القومي. فإما أن من ذكرنا من المؤرقين بفصل الدين عن الدولة لم يطلع على نص اتفاق دارفور، أم أن مدنية الدولة تكون بعبد العزيز الحلو أو لا تكون.

غير خاف أن فصل الدين عن الدولة من تلك الأمور التي يقال أن وقتها قد أزف. ولا يعرف التاريخ حصولاً لأمر مثل ذلك الذي أرهص وصار إلى التحقق. فحتى دولة الإنقاذ التي أعلنت الجهاد يوماً لأوبة الدين للدولة أعيتها الحيلة مع دعواها في أوبة الدين للدولة فتنازلت عن أكثر دعواها عن حاكمية الدين مع التجمل بعدم ذكر عبارة فصل الدين عن الدولة نصاً. فجاء في نص بروتكولات مشاكوس في ٢٠٠٢ بين الإنقاذ والحركة الشعبية ما يلي عن الدين والدولة بعد اعتراف بالتعدد الديني والإثني:
1-6 الاديان والاعراف والمعتقدات مصدر للقوة الروحية والالهام للشعب السوداني.
2-6 تضمن حرية المعتقد والعبادة والضمير لإتباع كل الاديان والمعتقدات والاعراف ولا يجوز التمييز ضد أي شخص على هذه الأسس.

3-6: تولي جميع المناصب، بما فيها رئاسة الدولة والخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات، يتم على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات او الأعراف
واسفرت هذه الزهادة في الالمام بنص اتفاق جوبا في الورشة التي انعقدت لمناقشته بعد سقوط الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2022. فلم تزد الورشة عن إعادة إنتاج خطاب المظلومية القومية (هامش بوجه مركز) في حضرة اتفاق لا أعرف مثله من رد هذه المظلومية بشكل محيط، إن لم نقل مبالغاً فيه. فوجدت الدكتور الباقر العفيف، من مفكري الهوية السودانية والناشط في خدمتها، عرض هذه المظلومية بحذافيرها في الورشة. ولم يكترث مع ذلك ليرى إن كان اتفاق جوبا قد رفعها عن أعراق السودانيين المختلفة وألسنتهم. فسأل العفيف في الورشة عما وراء هذه الحروب الطويلة التي ابتلينا بها. ورد ذلك إلى رفض المركز، الذي تقلَّدْته طواقم من الشمال العربي المسلم منذ استقلال السودان في 1956، التصالح مع الأعراق والثقافات غير العربية والإسلامية. وهذا فشل، في قوله، في إدارة التنوع ذي عواقب وخيمة. ورغم أن عروبة هذا الطاقم في رأيه مجرد زعم إلا أنه فشل في توطين نفسه في السودان، وبين أقوام غيرهم في الأعراق والثقافة.

فمن جوانب ترفع هذه الصفوة الشمالية العربية المسلمة عن غيرها، في قول العفيف، جعلهم تاريخ السودان في المناهج يبدأ بدخول العرب والإسلام إلى السودان في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين مسقطين تاريخاً جللاً سبق ذلك الدخول وهو تاريخ دولة كوش (2500 إلى 542 قبل الميلاد) العامر المذهل. وهو التاريخ، في قول آخر كشوف الآثار، الأصل للحضارة المصرية. ومع ذلك، في قول العفيف، يُطبق الجهل بتلك المأثرة بنا. فمتى سأل الصبيان أهلهم عن صُناع الآثار الكوشية التي يغشونها بظهر قراهم قالوا لهم هي لقوم أقدمين سبقونا إلى المكان ثم غادروا ولم يسمع منهم أحد بعد. ودعا العفيف، ناظراً للتجربة الإنجليزية، أن يكون تدريس الماضي السوداني على بينة “تواريخ”، أي أكثر من تاريخ للسودان، لا “تاريخاً” عربياً إسلامياً وحيد الجانب.

ولو كان الباقر نظر في اتفاق جوبا لوجده مهجساً بالتنوع الثقافي وإدارته كما لم يهجس عهد سوداني سبقه. فقال الاتفاق إن المواطنة المنقاة من العرق، والدين، والثقافة، والجنس، واللون، والنوع، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، والرأي السياسي، والإعاقة، والانتماء الجهوي أو غيرها من الأسباب، هي الفيصل في التشريع.
وكررت وثيقة الاتفاق هذه الصيغة بصور مختلفة في أبوابها الثلاثة جميعاً: اتفاق القضايا المصيرية، ومسار دارفور، ومسار مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق وغرب كردفان. فجاء في المادة ٧،١ من اتفاق القضايا القومية من وثيقة جوبا وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة، ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وكريم المعتقدات على أن يُضَمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها” كما تقدم.

ولاقى اتفاق جوبا تظلم العفيف من تاريخنا وحيد الصورة مشمراً كما لا تنتظره من اتفاق سياسي. فجاء في الفصل الثالث منه بحق لسكان المنطقتين، جبال النوبة والنيل الأزرق، المشاركة في إعادة كتابة تاريخ السودان لبيان مساهمات سائر شعوب السودان في ترسيخ الوحدة الوطنية. وكفل للمنطقتين إنشاء آليات لغرض تنزيل هذا الحق بتكامل مع المؤسسات القومية. وخص في فقرة تالية دراسة الرق، كتاريخ للتغابن في الأمة، بموضوعية. وهذا استحقاق للتاريخ في موضع غريب.
فهذه الفقرة التي عالجت سردية التاريخ، أو سردياته، عوراء في ما نعرف عن كتابة التاريخ. فحق “سكان” منطقة ما في كتابة التاريخ، أو إعادة كتابته، بآليات تتواضع عليها” بدعة. فقال المؤرخ والسياسي حسن عابدين إن التاريخ يكتبه المؤرخون من المنطقتين أو من باقي السودان وحتى للأجنبي. ولم نعرف بعد “آلية” لكتابته أو إعادة كتابته غير شُعب التاريخ في الجامعة التي ترعرع التاريخ المهني في كنفها الأوربي منذ القرن التاسع عشر.

وهذا الحق بدعة لأنه لم نسمع بنظام منع كتابة التاريخ كما يمنع الإضراب مثلاً. قد يهمل نظام في تمويل الجامعة كما فعلت الإنقاذ فيتبخر صرفها على البحث والباحثين في التاريخ وغير التاريخ. وقد تروج حكومة لتاريخ مزور أو استعلائي، أو قد تصادر كتاباً بعينه في التاريخ. ولكن لم نسمع بأن كتابة التاريخ مما يندرج ضمن حقوق السكان إلا في حدود حرية التعبير. وهي حرية تكفل لمهنيين في التاريخ، وفي شعب التاريخ بالجامعات خاصة، وضع أسبقيات بحثهم، وإحسان الصرف عليه، وموالاته بالإشراف، والحرص على نشره.

تعاني صفوة الحكم والمعارضة من انفصال الشبكي بين السياسة والثقافة. وهذه المعاناة في أصل الهرج في حياتنا الاجتماعية. فلا أدري مثلاً لماذا تأخرت الحركات المسلحة عن كتابة تاريخ أقاليمها يداً بيد مع تحريرها. هل استردفت أي منها أي معهد للدراسات العلمية عن بلدها سواء بإنشائه أو بعون من أنشأه مستقلاً؟ ولا عذر لها بفقر الجيب بالذات لأن الحركات، متى أرادت رباط الخيل، تدججت به من أي مصدر كان. فلم تلق أي منها السلاح لعدمه. فعطلت الحركة الشعبية لتحرير السودان مجلتها الثقافية الرشيقة متعللة بضيق ذات اليد مع أنها لو “فكت لها كم برين في السوق” لمولت المجلة إلى جنى الجنى. فمما يستغرب له المرء كيف يعني الثوري ببندقيته قبل كراسه. فما الذي سيلجم السلاح من الانفلات سوى الثقافة؟ فلماذا، والحال على ما عليه، تأتي الثقافة استدراكاً للمسلحين على موائد مفاوضات السلام لا استصحاباً؟
ونواصل

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الوثیقة الدستوریة الدین عن الدولة کتابة التاریخ مجلس السیادة اتفاق جوبا السودان فی

إقرأ أيضاً:

المفكر عادل نعمان: عذاب القبر ليس من المعلوم من الدين بالضرورة

أكد الدكتور عادل نعمان، الكاتب والمفكر ، أن أحمد بن حنبل قال: "من قال إن هناك إجماع فقد كذب"، متسائلًا: "هل يمكن أن نقول أن الأمة كلها أجمعت على شيء؟"، مشيرًا إلى أنه لا يوجد إجماع في بعض المسائل التي قد تخالف العقل الآن، لكنها كانت متفقًا عليها سابقًا لأنها استقرت في ذهن الناس آنذاك.

وقال خلال لقائه مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج «نظرة» المذاع على قناة «صدى البلد»، إن هناك علماء ومشايخ قالوا إنه لا يوجد عذاب في القبر، متسائلًا: "هل لو قلت إنه ليس هناك عذاب في القبر فأكون أنكرت شيئًا من الدين بالضرورة؟".

وأضاف أن مر علينا 1500 سنة وما زلنا نتحدث عن عذاب القبر، مشيرًا إلى أن الكلام المطروح اليوم ما هو إلا تجديد للأفكار القديمة، مؤكدًا أن كل شيء مطروح للنقاش، وأن الصدام والحوار واجبان.

وأوضح نعمان أن الإسراء والمعراج أنكرهم عدد كبير من العلماء، وأن السيدة عائشة قالت: "لم يخرج من مكانه، ما تسألوا السيدة عائشة"، مؤكدًا أن الإسراء موجودة.

وأضاف أن المعتزلة أنكروا الإسراء والمعراج، وأن فكره فكر معتزلي، وأؤمن بالإسراء، ولكن المعراج فيها نظر.

وأشار إلى أن أبو حنيفة كان يعتمد على الأحاديث القريبة من القرآن، وأن هناك أحاديث في البخاري تخالف العقل.

وأكد معارضته لجميع تيارات ما أسماه الإسلام السياسي، مشدداً على أن النجاة من التطرف تتطلب التمسك بمبدأ الدولة المدنية.

وأضاف أنه معارض لكل من ينادي بإقامة الدولة الدينية بلا استثناء، سواء كان إخوان أو سلفية أو غيرها.

وفي مناقشة للمصطلحات، أكد نعمان أن مصطلحي الدولة العلمانية والدولة المدنية واحد، لا فرق بينهما على الإطلاق، مبررا استخدام لفظ المدنية بأنه تعبير مفهوم لدى البعض، مبيناً أن الدولة المدنية هي السبيل الوحيد للنجاة من الأزمات الحالية.

كما أوضح نعمان أن تعريف الإسلام السياسي يشمل كل تيار ينادي بإقامة الدولة الدينية، حتى لو كان ذلك يتم بالمخادعة أو الوصول إلى الحكم ثم التحول لاحقاً إلى دولة خلافة.

واختتم نعمان: الهدف من التيارات الإسلامية إقامة الدولة الدينية لجميع الفصائل، سواء كانت الإخوان ، داعش، طالبان، أو السلفيين.

اقرأ المزيد..

ميدو: صلاح أسطورة الشرق الأوسط.. وحان وقت مغادرته ليفربول

مقالات مشابهة

  • هل يكون فصل الدين عن الدولة سببا في نجاحها؟
  • اتفاقية تعاون عسكري بين إثيوبيا والكونغو برازافيل
  • زيلينسكي: موقفنا التفاوضي قوي.. وهدفنا سلام عادل لأوكرانيا
  • أردوغان متفائل بشأن اتفاق سلام في أوكرانيا
  • عاجل | الملكة رانيا تشارك صورة عائلية وتوجه رسالة سلام وأمل
  • واشنطن تعلن عن اتفاقية مع المكسيك بشأن تقاسم المياه
  • رئيس منظمة السياسات الأمريكية في إفريقيا: لدينا شكوك جدية في قدرة اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا على الصمود
  • ترامب: نحضر لمرحلة جديدة في غزة.. والسلام بالشرق الأوسط أقوى من أي وقت
  • المفكر عادل نعمان: عذاب القبر ليس من المعلوم من الدين بالضرورة
  • تهديد بهدم قبر عزّ الدين القسّام.. ما الرسالة التي يسعى بن غفير إلى إيصالها؟