لجريدة عمان:
2025-12-11@04:40:02 GMT

الإمام جابر بن زيد

تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT

ولد الإمام جابر بن زيد اليحمدي في عمان في بلدة فرق مع بدايات القرن الأول الهجري. وتذكر بعض الروايات أن والد الإمام جابر التقى بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وروى عنه حديثًا واحدًا.

لا يوجد في المصادر المتوفرة ما يشير إلى الفترة الزمنية التي ترك فيها جابر بن زيد عمان، هل هاجر من عمان في ريعان شبابه لتلقي العلم أم أن الهجرة كانت منذ أيام والده الذي انتقل به وأسرته إلى البصرة للاستقرار فيها؟ حيث إن هجرات الأزد وغيرها من القبائل العربية إلى البصرة لم تتوقف طوال القرن الأول الهجري، وكانت هجرة الأزد من داخل عمان بسبب الظروف الاقتصادية التي يعاني منها الداخل العماني نتيجة فترات الجفاف التي تعتري المنطقة بين الحين والآخر، ولأن داخل عمان يقوم اقتصاده على الزراعة، ففترات الجفاف الطويلة تشكل تحديًا طاردًا يدفع الإنسان إلى البحث عن مدن أخرى أكثر استقرارًا اقتصاديًا للعيش فيها، فكانت البصرة خيارًا متاحًا للأزد بسبب استقرار جماعة منهم شاركت في فتح البصرة، فوصلت الأخبار إلى أزد عمان عن غنى البصرة ونشاطها الزراعي القائم على الأنهار مما يعني استقرارًا اقتصاديًا غير قائم على المخاطر.

فهاجرت أعداد من أزد عمان إلى البصرة، ويبدو أن والد جابر قد ارتحل إلى البصرة وقرر الاستقرار فيها، وفي البصرة كبر جابر ومنها قرر الترحال بين الحواضر الإسلامية الأبرز في تلك الفترة مكة المكرمة والمدينة المنورة، من أجل الالتقاء بالصحابة والسماع منهم وتلقي العلم من أفواه ورثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا السفر بين مكة والمدينة والبصرة شكل شخصية الإمام جابر العلمية، فجعل منه شخصًا ملمًا بالكثير من التفاصيل حول العلوم الدينية؛ لأنه استقى هذه المعرفة من مصدرها الأصلي، ومن أبرز الشخصيات التي استقى منها الإمام جابر العلم السيدة عائشة -رضي الله عنها- زوجة المصطفى ورفيقة دربه، فناقشها جابر في الكثير من الأمور الدينية واستفاد من علمها الغزير. والتقى جابر عددًا كبيرًا من الصحابة من حيث أحصاهم بنفسه وقال: إنه تلقّى العلم من سبعين بدريًا، وهذه إشارة ذات دلالة عميقة على مقدار المعرفة التي يمتلكها، والتي شكلت وصقلت شخصيته لتصنع منه شخصًا واثقًا من علومه ومعارفه. وهذا نجده ينعكس على أسلوب الإمام جابر في نقل المعرفة، فلا نجده يحرص على إبراز نفسه في حلقات العلم بالمسجد، بل على النقيض من ذلك نجده شخصًا واثقًا من نفسه ويعرض علمه على الفئة المتخصصة من طلاب العلم ممن يرغب في الاستزادة من المعرفة، ويسعى للتخصص في مجال العلوم الدينية.

شهد النصف الثاني من القرن الأول الهجري بداية ظهور صراعات سياسية بين المسلمين، وكانت مرحلة حكم الخليفة الراشدي الثالث سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بداية هذه التحولات السياسية، وفي عهد الخليفة الراشدي الرابع سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- تطورت هذه التحولات إلى صراعات عسكرية، وظهرت في عهده الطبقة البرجوازية القريشية في المجتمع المسلم بشكل طاغٍ تعلن رغبتها في تولي مناصب سياسية أكبر وتحقيق أرباح مالية من وراء هذه المناصب، وتسترت هذه الطبقة بالمطالبة بدم سيدنا عثمان بن عفان لتنحية سيدنا علي بن أبي طالب عن منصب الخلافة، الذي كان مصرًا على اتباع نهج سياسة عمر بن الخطاب في تجاهل طلقاء قريش وخاصة بني أمية، هذه الفئة التي كان قد ميزها عثمان بن عفان ومنحها الكثير من الامتيازات السياسية والاقتصادية. مما جعل الكثير من المسلمين يجد في تمييز قريش دون غيرها من القبائل وبني أمية بشكل خاص وإعطائهم صلاحيات ومناصب قد يكونون غير مؤهلين لها سببًا في حدوث صراع سياسي وفكري بين الكثير من المسلمين وخاصة العرب منهم. هذا الصراع جعل من جابر بن زيد اليحمدي شخصية مفكرة ومتأملة لما آل إليه وضع المسلمين وإلى ما قام به بنو أمية من تشكيل مبادئ الإسلام ورسمه بما يتماشى مع مصالحهم الشخصية ومطامعهم الذاتية، وفي الوقت نفسه حرص بنو أمية على نشر هذه الأفكار بين الناس، وخاصة فكرة أحقيتهم بالخلافة وفكرة توريث أبنائهم منصب الخلافة وإن كان الأبناء غير مؤهلين لهذا المنصب الحساس.

وعلى الرغم من إمكانيات الإمام جابر بن زيد العلمية، إلا أنه آثر الابتعاد عن الأضواء، فهو لم يجلس للتدريس في جامع البصرة إلا بعد أن شارك الحسن البصري في ثورة ابن الأشعث، ولا يعني ذلك أن جابر اعتزل الناس، بل كان موجودًا بينهم، وإنما تفرغ لمهمة أكبر من إعطاء الدروس وهي مهمة الفتيا. وتميز جابر في فتواه، فلقد كان له مسار خاص فيه، فهو لم يقبل جميع الروايات كما نقلت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عن صحابته، بل حرص على إعمال العقل فيها وتقييمها، وأخذ منها ما يراه من الممكن أن يكون حديثًا مرويًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وترك كل ما كان يشكك فيه من روايات. قال النووي عنه: «له مذهب يتفرد به»، كما تفرغ الإمام جابر بن زيد للعمل على التنظيم السياسي السري للمبادئ السياسية التي كان ينشدها، مثل تولية السلطة لمن هو أجدر بها دون اعتبار للعرق أو الجاه.

كان جابر بن زيد يظهر الجانب المستضعف من شخصيته، فكان يبدو شخصية ضعيفة لا حول لها ولا قوة، فعمرو بن دينار كان يقول عن جابر: «لو رأيته لقلت لا يحسن شيئًا». ساعده على ذلك بنية جسده النحيلة، وأنه كان أعور. وحين عرض على جابر منصب القضاء رفض بشدة ذلك وادعى الضعف وعدم قدرته على تحمل أعباء المنصب، ووصل به الأمر إلى أنه قرر الفرار من البصرة في حالة إجباره على الأمر، حيث قال في إحدى المرات: «لو ابتليت بالقضاء لركبت راحلتي وهربت». والهدف من إظهار الشخصية الضعيفة كان إبعاد الأنظار عنه والتفرغ لمهمته السياسية.

كانت مرحلة الكتمان مرحلة حتمية لدى الإمام جابر ومن معه من أعوانه، ومنهم عبدالله بن إباض الذي حرص في بداية تأسيس الفكر الإباضي على الكتمان، ويتضح ذلك من خلال عجز الكثير من المؤرخين عن تحديد توجهات ابن إباض الفكرية، فمنهم من ذكر أن ابن إباض اعتنق فكر الثعالبة، ومنهم من ذكر أنه اتجه للفكر المعتزلي. ولم يكن عبد الله بن إباض هو المتحدث الرسمي الوحيد للحركة الإباضية، فقد تولى ضمام بن السائب الأزدي، وهو من أزد عمان ممن سكن البصرة، مهمة طرح أفكار الإباضية على جمهور الناس وتعريفهم بها، فقد كان محاورًا ومناظرًا من الطراز الرفيع قادرًا على إفحام خصمه.

بالرغم من تعرض ضمام للسجن على يد الحجاج بن يوسف الثقفي إلا أن ذلك لم يمنعه من طرح أفكاره والتصريح بها، خاصة في المرحلة الثانية من تأسيس الفكر الإباضي مرحلة الإعلان واقناع الجماهير بأهداف الفكر وتوجهاته، مع الحفاظ على قدر معين من السرية للقيادات الأساسية.

أدرك جابر بن زيد أن قبائل الأزد هم خير عون وسند له، وكان يناقش أفكاره مع الغني منهم والفقير فهو يرى في كل فرد منهم منفعة من نوع خاص، تواصل جابر مع آل المهلب الأسرة الأبرز من العتيك في البصرة لأنهم أصحاب سلطة سياسية ومالية. وتوجه جابر في خطابه للمرأة المهلبية كما توجه للرجال من آل المهلب، فتواصل مع خيرة بنت ضمرة القشيرية زوجة المهلب بن أبي صفرة وأم ابنه عيينة، وكانت امرأة ذات شأن ومال فاقت زوجها المهلب، حيث سددت عنه مالا كان يطالبه به الحجاج، وكانت خيرة من المكانة بمكان في المجتمع البصري بحيث كانت تهدى لها اقطاعيات من قبل ولاة بني أمية، حيث أهداها الحجاج بن يوسف اقطاعيتين.

تواصل جابر بن زيد مع هند بنت المهلب وعمتها عاتكة بنت أبي صفرة إيمانا منه بدور المرأة في التنظيم السياسي الذي كان يسعى جابر إلى الإعداد له. كثرة اللقاءات بين هند بنت المهلب وجابر بن زيد كانت مدعاة أحيانا للشك من قبل عامة الناس، فكثيرا ما كانت هند تواجه أسئلة الناس عما إذا كانت جزءا من التنظيم الإباضي فكانت هند حريصة على نفي ذلك، و تذكر أن لقاءاتها مع جابر كانت تدور حول الأمور الفقهية الدينية.

تمكن جابر بن زيد من إقناع قبائل أخرى غير الأزد وهم بنو تميم، ولقد انضم من هذه القبيلة أعداد كبيرة وكان لهم دور قيادي في الحركة الإباضية.

آمن جابر بن زيد بأهمية التدوين ودوره في حفظ العلم فشجع طلبة العلم لديه على الكتابة، ومثّل هو هذا الجانب خير تمثيل حيث كتب كتابا أسماه ديوان جابر لتوثيق مذهبه، ولم يتبق من هذا الديوان أي ثر، وأنشأ نظام مراسلات دقيقًا بينه وبين أتباعه الموجودين في البصرة أو خارج البصرة في الأقاليم الإسلامية، هذا النظام قائم على السرية وعلى الدقة في طرح المعلومة بشكل دقيق ومختصر وخال من التفاصيل، بحيث لو قعت الرسالة في يد أحد أعوان الدولة الأموية لا تكون تفاصيل الرسالة واضحة المعلومات وغير معروف من هو صاحب الرسالة أو لمن تم إرسال الرسالة.

توفي الإمام جابر بن زيد اليحمدي في البصرة سنة 93هـ / 712م، وصلى عليه قطن بن مدرك الكلابي، وقال قتادة: «مات أعلم من على ظهر الأرض».

ومن تلامذته الذين كتبوا عنه ضمام بن السائب الأزدي الذي كتب كتابين، الأول ضم الأحاديث التي جمعها عن جابر بن زيد والثاني حول رأي الإباضية في خلق القرآن بعنوان «الحجة على الخلق في معرفة الحق».

من تلامذة جابر بن زيد حيان الأعرج عمرو بن دينار وقتادة وأيوب السختياني، وأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة الذي كان الأكثر قربا من جابر ومنظر الفكر الإباضي من بعده، وأبو عبيدة هو مولى لبلال بن مرداس بن أدية التميمي، من أصل فارسي، ولم يأت اختيار أبي عبيدة لخلافة جابر من فراغ فهو مولى أبو بلال وتربى في بيته وتغذى من أفكاره وقد يكون أبو بلال هو من أشار على جابر بتدريب أبي عبيدة ليكون خليفته من بعده.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم الإمام جابر بن زید إلى البصرة الکثیر من فی البصرة جابر فی بن أبی

إقرأ أيضاً:

الاعتصام بالله .. معركة الوعي التي تحدد معسكرك، مع الله أم مع أعدائه

في عالم تتقاذفه موجات الفتن الفكرية والدينية والسياسية، يبرز مفهوم الاعتصام بالله كقضية قرآنية مركزية تُعيد الإنسان إلى أصله الإيماني، وتحدد له بمن يجب أن يتعلق، ومن يجب أن يبتعد عنه. فـالقرآن الكريم لم يطرح الاعتصام كخيار إضافي، بل كمنهج نجاة ،  ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

توجيه إلهي صريح يُلزم الإنسان أن يعرف بمن يعتصم، حتى لا يجد نفسه من حيث لا يشعر معتصماً بأهل الباطل أو خاضعاً لهيمنة أهل الكفر. فالاعتصام بالله ليس مجرد شعور، بل موقف وخطّ وانتماء.

يمانيون / تقرير / طارق الحمامي

الاعتصام بالله يوقظ في نفس المؤمن حالة من الوجل الإيماني، خشية التقصير، وخشية الانزلاق إلى موالاة أعداء الله،  هذا الخوف البنّاء هو ما يرفع الإنسان إلى مستوى التعلق الحقيقي بالله، ويجعله يرى أن أي بديل أو ملجأ غير الله لا يعدو أن يكون سراباً، فالله سبحانه وتعالى  لم يجعل في علاقتنا به بديلاً عنه، والقرآن الكريم جعله الله سبحانه وتعالى كتاب توجيه وحركة، يعيد ارتباط الأمة بالله تعالى، وأن يمنع حصول أي انفصال بين الإنسان وبين الله، غير أن مساراً طويلاً من الانحراف في التاريخ الإسلامي أدّى إلى فصل القرآن عن الله، حتى أصبح كثير من الناس يتعاملون معه كمتنٍ روحي منفصل عن الواقع، وفي هذا يقول الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه : (( الله سبحانه وتعالى لم يجعل شيئاً بديلاً عنه في علاقتنا به، وحتى القرآن الكريم ليس بديلاً عن الله إطلاقاً, بل هو من أكثر ما فيه، وأكثر مقاصده، وأكثر ما يدور حوله هو أن يشدك نحو الله ، الله ليس كأي رئيس دولة، أو رئيس مجلس نواب يعمل كتاب قانون فنحن نتداول هذا الكتاب ولا نبحث عمن صدر منه، ولا يهمنا أمره، ما هذا الذي يحصل بالنسبة لدساتير الدنيا؟ دستور يصدر، أنت تراه وهو ليس فيه ما يشدك نحو من صاغه، وأنت في نفس الوقت ليس في ذهنك شيء بالنسبة لمن صاغه, ربما قد مات، ربما قد نفي، ربما في أي حالة، ربما حتى لو ظلم هو لا يهمك أمره. لكن القرآن الكريم هو كل ما فيه يشدك نحو الله، فتعيش حالة العلاقة القوية بالله، الشعور بالحب لله، بالتقديس لله، بالتعظيم لله، بالالتجاء إليه في كل أمورك، في مقام الهداية تحتاج إليه هو، حتى في مجال أن تعرف كتابه.{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً}، ألم يتحدث القرآن عن التنوير، والنور, والفرقان، التي يجعلها تأتي منه؟ ليس هناك شيء بديلاً عن الله إطلاقاً)) .

 

فصل القرآن والرسول صلوات الله عليه وآله عن الله .. مسألة خطيرة صنعت ضلالاً واسعاً

أهل الظلال في تقديمهم الفهم المغلوط للقرآن الكريم، ساهموا في صناعة حالة من الانفصال بين القرآن والرسول صلوات الله عليه وآله وسلم، وذلك حين جعلوا السنّة في بعض مراحلها منفصلة عن مرجعيتها الإلهية.
ومع مرور الزمن، وصلت الأمة إلى حالة أكثر خطورة، انخفضت قداسة النبي صلوات الله عليه وآله وسلم في الوعي العملي،

بينما ارتفع تقديس الرواة والمحدّثين تحت مسمى علماء السنة، حتى غدا قولهم عند بعض الناس فوق النص ومرجعيته.

هذا المنحى أحدث تشويهاً في العلاقة بين المسلم ومصادر الهداية، وأن إعادة الأمور إلى نصابها تبدأ بإرجاع مركزية التوجيه إلى القرآن والرسول باعتبارهما متصلين بالله لا منفصلين عنه،

يقول الشهيد القائد رضوان الله عليه : (( الذين يقولون: قد معنا كتاب الله وسنة رسوله, نفس الشيء بالنسبة لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) هو هاديا إلى الله، أليس كذلك؟ هاديا إلى الله، فُصل الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) في ذهنية الأمة عن القرآن، وهو رجل قرآني بكل ما تعنيه الكلمة، فُصل عن القرآن، ثم قسموه هو فأخذوا جانباً من حياته، جانباً مما صدر عنه وسموه سنة، فأصبحت المسألة في الأخير: الله هناك، رسوله هناك! هناك بدائل نزلت: قرآن، وكتب حديث. ولاحظنا كيف أصبح الخطأ رهيباً جداً جداً في أوساطنا؛ لأننا فصلنا كتاب الله عن الله، وفصلنا رسول الله …  ))

 

طريق الأنبياء ..  طريق شاقة نحو الجنة

القرآن يؤكد أن طريق النجاة المؤدي إلى الجنة ليست سهلة ولا قصيرة، فهي طريق الأنبياء الذين حملوا الرسالة، وجاهدوا، وقدّموا النموذج العملي، والمواقف العملية ، مهما كانت هذه المواقف شاقة ، مهما كانت خطورتها ،  ولا سبيل للوصول إلى الجنة إلا أن يقيس الإنسان نفسه بميزان الأنبياء، وأن يجعل من رسول الله صلوات الله عليه وآله، معياراً لحركته وسلوكه وخياراته.

فالاعتصام بالله ليس مجرد خطاب نظري، هو منهج سلوك يبدأ من الداخل، ويترجم بالمواقف، والولاء لله تعالى ولرسوله والمؤمنين من أولياءه .

 

تحذير من واقع خطير .. كلام مع الله ومواقف مع أعداء الله

من أخطر الظواهر الدينية المعاصرة  تلك التي يظهر فيها الإنسان متديناً بلسانه أو قلمه، بينما مواقفه تميل إلى أعداء الله، هذه الازدواجية تشكل تهديداً لسلامة الإيمان، لأن القرآن يؤكد أن الموقف هو معيار الصدق، فالحديث عن الله لا يصنع إيماناً، ما لم يرافقه انتماء عملي إلى مواقف عملية تتجسد في الواقع جهاداً وتضحية، والكلمة ليست مجرد صوت، بل هي جهاد، غير أن خطورة الكلمة تتضاعف عندما تصبح خارج إطار الهداية، أو عندما تتحول إلى أداة تبعد الناس عن الله بدل أن تقرّبهم منه، أن تكون دعوة إلى الله تدفع الناس نحو الجهاد في سبيل الله بمعناه الشامل، الفكري، والعملي، والأخلاقي. فالكلمة المنفصلة عن هذا الإطار قد تُحدث ضجيجاً لا قيمة له.

 

التقوى .. البوصلة التي تمنع الانحراف وتردّ الإنسان إلى الله

التقوى في القرآن الكريم ليست مجرد حالة شعورية، بل منظومة وعي وسلوك،  وهي  قائمة على ثلاثة أسس،  المراقبة الدائمة لله، والحذر من التقصير، والخوف من العقوبة الإلهية.

فالإنسان الذي يغفل عن التقوى يعرض نفسه لغضب الله وسخطه، لأن التقوى هي جوهر الاعتصام بالله، وهي التي تحمي المؤمن من الانجرار إلى ولاءات منحرفة أو مواقف مضللة، يقول الشهيد القائد رضوان الله عليه : (( {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102) القضية مهمة جداً يجب أن تخافوا من الله من أن يحصل من جانبكم تقصير فيها، أن يحصل من جانبكم أي إهمال، أي تقصير، أي تفريط, القضية مهمة جداً جداً، هو يقول لنا هكذا، يذكرنا بأن نتقيه فالقضية لديه مهمة، وبالغة الخطورة، وبقدر ما تكون هامة لديه، وبالغة الخطورة أي أنه سيكون عقابه شديداً جداً على من فرط وقصر فيها، فيجب أن نتقيه أبلغ درجات التقوى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أقصى ما يمكن فالقضية خطيرة جداً، وهامة جداً لديه، ولن يسمح لمن يقصر، لن يسمح لمن يفرط، لن يسمح لمن يهمل))

 

كيف سقطت الدول العربية والإسلامية في الضعف حين اعتصمت بأعدائها

تاريخ الأمة وواقعها المعاصر يقدم شواهد واضحة على أن التخلي عن الاعتصام بالله يقود بلا استثناء إلى الذلّ والضعف والتبعية.
فكثير من الدول العربية والإسلامية اختارت أن تجعل مصدر أمنها وسياساتها قائماً على الاعتماد على قوى الهيمنة المعروفة بمعاداتها للإسلام، واستبدال مرجعية القرآن بمرجعية الأجنبي، واختارت هذه الدول الاحتماء بغيرها عبر قواعد عسكرية، واتفاقيات أمنية، وتحالفات تُمنَح فيها السيادة للعدو المستعمر، والنتيجة ، فقدان الاستقلالية ،والعجز عن حماية نفسها، وهذه نتيجة طبيعية لأن الاعتصام بغير الله لا يجلب إلا الضعف.

 

ختاماً 

يقدم مفهوم الاعتصام بالله من خلال الرؤية القرآنية، مشروعاً لإعادة تشكيل الوعي الديني والوجودي للمسلم،  إنه ليس مجرد توجيه روحي، بل بوصلة حياة تحدد المعسكر الذي ينتمي إليه الإنسان، وتمنع اختلاط الولاء، وتعيد القرآن والرسول إلى مقام القيادة والتوجيه.

إن أخطر ما يواجه الأمة ليس فقدان المعرفة، بل فقدان المعيار، ومعيار النجاة  هو الاعتصام بالله وحده، والسير في طريق الأنبياء، والالتزام بالتقوى، والحذر من كل انحراف يلبس ثوب الدين بينما جذوره ممتدة نحو أعداء الله.

مقالات مشابهة

  • حكم الوضوء بماء المطر وفضله.. الإفتاء توضح
  • دين الله وسط.. أمين الإفتاء يحذر من التشدد في إصدار الأحكام والفتاوى
  • مشروعية زيارة الأماكن التي تحتوي على التماثيل
  • أهمية الحفاظ على الآثار التي يعود بعضها إلى العصر الإسلامي
  • الاعتصام بالله .. معركة الوعي التي تحدد معسكرك، مع الله أم مع أعدائه
  • فاطمة الزهراء عليها السلام.. سيدة النور وأقرب الناس إلى رسول الله ﷺ
  • القوابعة: قوائم المكلفين بخدمة العلم تعكس تعزيز الروح الوطنية
  • هل الساحر لا توبة له عند الله ؟
  • هل تدرك الركعة بالركوع ؟
  • أصوم لأنقص وزنى فهل أثاب على ذلك؟.. الإفتاء تجيب