بعد أربع سنوات من الانهيار الاقتصادي، تسعى النخب السياسية في لبنان، التي تتقن فن البقاء في السلطة، إلى تحقيق انتعاش عبر سبل تتجنب الإصلاحات الصارمة التي يطالب بها صندوق النقد الدولي.

ويقول خبراء اقتصاديون ومسؤولون سابقون شاركوا في وضع خطة الإصلاح التي وافق عليها صندوق النقد الدولي عام 2020، إن القيادة السياسية وشركاءها في القطاع المصرفي ينفذون عمدا "خطة ظل" للقضاء على الاتفاق، وإلقاء عبء إنقاذ النظام المالي على عاتق رجل الشارع اللبناني الذي انزلق بالفعل إلى هاوية الفقر بسبب الأزمة، بحسب أسوشيتد برس.

ولن يجبر تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي، التي تشمل عمليات تدقيق حسابات مصرف لبنان (البنك المركزي) والمصارف الأخرى التي كانت سرية منذ فترة طويلة، النخب السياسية على تحمل الكثير من تكلفة إصلاح الانهيار المالي فحسب، بل يقول خبراء إنه سيهدد أيضا شبكات الفساد والمحسوبية والهدر التي سمحت لهم بحلب خيرات البلاد لسنوات.

وقال آلان بيفاني، المدير العام السابق بوزارة المالية ومهندس خطة الإنعاش، لأسوشيتد برس: "لم أكن أتخيل أبدا أن هؤلاء الناس سيظلون يتصرفون بهذا القدر من البرود وعدم الإحساس بالمسؤولية رغم حجم الكارثة".

ويراهن عدد متزايد من السياسيين الآن على أن انتعاش قطاع السياحة، وتحويلات المغتربين اللبنانيين، ومشروعات استخراج الغاز الطبيعي، سوف تنعش الاقتصاد دون القيام بإصلاحات تتطلب تضحيات كبيرة منهم.

وألقي باللوم على نطاق واسع في الانهيار المالي على القيادة السياسية التي احتفظت بالسلطة لعقود، جنبا إلى جنب مع كبار المسؤولين المصرفيين وحاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة.

ويخضع سلامة، الذي أدار المصرف لمدة 30 عاما حتى يوليو الماضي، لتحقيق في مزاعم غسل أموال واختلاس، وقد فرضت عليه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا عقوبات قبل أسبوعين.

لسنوات وقبل اندلاع الأزمة، قام مصرف لبنان بتنفيذ ما يقول البنك الدولي إنه "مخطط بونزي" (أي هرمي) لإبقاء الاقتصاد واقفا على قدميه. فأغرى مصرف لبنان البنوك التجارية بإقراضه الدولار بأسعار فائدة مرتفعة بحيث تستمر لديه السيولة المالية.

ثم قامت البنوك بجذب العملاء لإيداع مدخراتهم بالدولار بأسعار فائدة أعلى، ما أدى إلى تحقيقها الكثير من الأرباح.

وفي أواخر عام 2019، انهار المخطط عندما تباطأ تدفق الدولارات، ما أثار حالة من الذعر والتهافت على البنوك. ومنعت البنوك السحب بالدولار، وسمحت للمودعين بالسحب بالعملة المحلية فقط وبسعر أدنى كثيرا من سعر السوق الواقعي، فتبخرت مدخرات الكثيرين بالفعل.

بلغ التضخم في لبنان معدلا هائلا، ووصل سعر عملته، الليرة، الذي كان 1500 مقابل الدولار لمدة ربع قرن، الآن إلى حوالي 90 ألف ليرة في السوق السوداء.

وبسبب نقص التمويل أصبحت إمدادات الكهرباء الحكومية الآن شبه معدومة، وباتت المدارس والمستشفيات العامة، بالكاد تستطيع تحمل تكاليف الإضاءة ويستجدي المسؤولون بها مساعدات إنسانية، وكأن البلاد في حالة حرب.

وقال سامي زغيب، الخبير الاقتصادي في مؤسسة مبادرة سياسات الغد، ومقرها بيروت: "قبل الأزمة كانوا يمتصون الهواء من رئتي المجتمع، والآن بعدما مات المجتمع، أصبحوا يفترسون الجثة".

وأصبح دخل العاملين في القطاع العام ومعاشات المتقاعدين بالليرة، وهم يشكلون معا قطاعا كبيرا من السكان، عديم القيمة تقريبا. ومن أجل البقاء، يبحث اللبنانيون عن الدولارات، التي يرسلها في الأغلب أقاربهم في الخارج. ويطلب معظم الجهات الآن السداد بالدولار لكل شيء، بدءا من متاجر البقالة والصيدليات وحتى المستشفيات الخاصة وشراء مولدات الكهرباء الخاصة.

جانيت فارس (62 عاما)، عاطلة عن العمل وتعتمد على مساعدات مالية من إخوتها الذين يعانون بدورهم، نادرا ما تقود سيارتها، من طراز عام 1995، لأن الوقود بات باهظ الثمن.

وقالت للوكالة: "كلها أكاذيب. لا أستطيع حتى إصلاح الصنبور"، ووصفت حكام البلاد بـ "المافيا".

بعد نحو عامين من المحادثات توصل لبنان إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي، في أبريل من عام 2022، بشأن حزمة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار. لكن الحصول عليها يعتمد على إعادة هيكلة مالية وإصلاحات كبرى لمكافحة الفساد.

من شأن خطة صندوق النقد الدولي أن تضع الكثير من عبء تعويض خسائر النظام المالي على عاتق المساهمين في البنوك التجارية، ومنهم العديد من العائلات السياسية اللبنانية البارزة وشركاء من القطاع الخاص. وبعد عمليات تدقيق واسعة سيتعين على العديد من المصارف بيع أصولها أو الاندماج مع مصارف أخرى. وفي الوقت ذاته، سيتمكن صغار المودعين من استرداد معظم أموالهم.

كما ستساهم خطة الصندوق بفتح الباب أمام حزمة الإنقاذ ومليارات الدولارات من الاستثمارات والقروض الدولية التي تشتد الحاجة إليها لإعادة بناء قطاعات الإنتاج.

وبدون الاتفاق والإصلاحات المرتبطة به لن يحصل لبنان على أي استثمارات، وسيصبح "معتمدا على مساعدات المجتمع الدولي"، بحسب تحذير رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في لبنان، إرنستو ريغو، في يونيو.

وصرح وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال، أمين سلام، في مقابلة مع أسوشيتد برس مؤخرا بأن عددا متزايدا من مسؤولي الحكومة يعتقد أن لبنان يمكنه الاستغناء عن خطة صندوق النقد الدولي أو تحسين موقفه التفاوضي "من خلال القليل من التدابير والحسابات" في النظام المالي.

وأضاف سلام أن المسؤولين الذين التقاهم مؤخرا من دول الخليج التي كانت تضخ المليارات في لبنان أبلغوه أنهم يتفقون مع هذا الرأي.

ويراهن سلام ومسؤولون آخرون على التحويلات المالية من المغتربين التي تشكل الآن نحو 40 في المئة من الاقتصاد، كما تستقبل البلاد أعدادا قياسية من السائحين هذا الصيف، الذين ينفقون عملة صعبة على الشواطئ نهارا، قبل أن يستمروا في الإنفاق أثناء قضاء سهراتهم في النوادي الليلية حتى شروق الشمس.

وفي الوقت ذاته تعمل المصارف التجارية، التي نجت من إعادة الهيكلة، على تعويض خسائرها على حساب صغار المودعين، الذين يضطرون إلى سحب دولاراتهم المحتجزة بالليرة بمعدل 15 ألف ليرة، أي سُدس قيمتها السوقية الحالية.

بدأ لبنان مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، في مايو عام 2020، لكن بيفاني وصفها بأنها كانت "مزحة" نظرا للانقسامات في الجانب اللبناني.

وقللت الأحزاب الحاكمة والبنوك التجارية والبنك المركزي من أهمية الأزمة، زاعمة أن تقديرات الخسائر المالية البالغة 70 مليار دولار، مبالغ فيها.

ويقول الوزراء والمستشارون الإصلاحيون الذين يروجون لخطة التعافي التي يدعمها صندوق النقد الدولي إنهم واجهوا مقاومة وعداء. وقال أحد كبار المسؤولين الحكوميين السابقين إنه تلقى تهديدات إلي جانب مسؤولين آخرين،  بسبب دعوتهم لإصلاحات صارمة. وتحدث المسؤول لأسوشيتد برس شريطة إخفاء هويته خشية من الانتقام.

وقال بيفاني إن حاكم مصرف لبنان، الذي كان ضمن فريق التفاوض، تجاهل في كثير من الأحيان طلبات إرسال معلومات مهمة حول الوضع المالي وتضاؤل الاحتياطيات الأجنبية. كما لم يتعاون مع التدقيق الجنائي في المعاملات المالية المشكوك فيها لمصرف لبنان.

في غضون ذلك اقترحت المصارف خطة تضع معظم العبء المالي على عاتق الحكومة، فدعت إلى بيع أصول الدولة، أو بعبارة أخرى خطة إنقاذ حكومية. وتوقفت المحادثات خلال أسابيع، ما دفع بيفاني ومستشار وزير المالية، هنري شاول، إلى الاستقالة، في أواخر يونيو من عام 2020.

وقال شاول في بيان استقالته: "لن أشهد على هذا التقاعس الضار".

وأرجأت الحكومة المحادثات، ويتولى ملف التفاوض نائب رئيس الوزراء، سعادة الشامي، وهو خبير اقتصادي إصلاحي أمضى نحو 20 عاما في صندوق النقد الدولي، لكنه يكاد لا يحظى بأي دعم سياسي.

وقال العديد من أعضاء البرلمان لأسوشيتد برس إن لجنة المال والموازنة بمجلس النواب تجاهلت تشريعات الإصلاح، وإنها، بدلا من ذلك، ركزت في الغالب على إنشاء صندوق ثروة سيادي لعائدات النفط والغاز المأمولة، على الرغم من أن التنقيب في حقل غاز بحري لم يبدأ بعد.

خارج أماكن الحياة الليلية الصاخبة والفنادق الفاخرة، يفقد الكثير من سكان لبنان الفقراء الأمل.

فيقول فارس عن النخبة الحاكمة في البلاد للوكالة: "إنهم يعيشون في قصورهم، ولا يرون الفقراء الذين بالكاد يستطيعون الحصول على طعام".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: صندوق النقد الدولی المالی على مصرف لبنان الکثیر من فی لبنان

إقرأ أيضاً:

“صندوق الوطن” ينظم لقاءً تعريفياً ببرنامج “جسور الدولي”

 

نظم صندوق الوطن، لقاءً تعريفياً ببرنامج “جسور الدولي” في نسخته الرابعة، التي تفتح الباب أمام المتميزين من حديثي التخرج من الجامعات الإماراتية من أبناء وبنات الإمارات، للمعايشة والتدريب والعمل في كبريات الشركات الألمانية في المجالات التقنية والتكنولوجية، والهندسة الطبية، وفق أحدث البرامج العالمية.
شارك في اللقاء، الذي عقد برعاية معالي معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش ، رئيس مجلس إدارة صندوق الوطن، 25 من خريجي الجامعات والذين تم اختيارهم وفق شروط محددة للسفر إلى ألمانيا والانخراط في تجربة معايشة وعمل داخل كبرى الشركات الألمانية العاملة في المجالات التقنية والصناعية.
حضر اللقاء سعادة ياسر القرقاوي مدير عام صندوق الوطن، وعدد من الخبراء الدوليين المشرفين على المبادرة.
وقال القرقاوي إن اللقاء تضمّن ورشًا تدريبية وتثقيفية متخصصة تركز على أسلوب العيش والعمل في ألمانيا، وأهم الضوابط والإرشادات اللازمة، إضافة إلى التعريف بخطط التدريب والتوظيف داخل الشركات الألمانية، كما تضمن شرحا وافيا حول ما يتيحه برنامج جسور الدولي للمشاركين من فرص تدريبة وعمل لمدة شهرين في بيئة عمل متقدمة، وفق برنامج شامل يرعاه صندوق الوطن ويتكفل بتغطية شاملة لكافة مراحله، فضلًا عن تخصيص أحد الخبراء الدوليين للإشراف والمتابعة لكافة المشاركين خلال فترة البرنامج بألمانيا.
ونقل القرقاوي لكافة المشاركين في النسخة الرابعة من برنامج جسور الدولي تحيات معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وحرصه على متابعة ودعم هذه المبادرة التي تعد رائدة في مجال التدريب والتمكين والتوظيف للمتميزين من أبناء وبنات الإمارات.
وأكد أن “برنامج جسور الدولي” يعكس التزام الصندوق بتمكين الشباب وتأهيلهم للمساهمة الفاعلة في بناء اقتصاد معرفي مستدام، من خلال الاطلاع والمعايشة والتدريب داخل المصانع الألمانية المتطورة، حيث يعد “برنامج جسور الدولي” نموذجًا لما يقوم به صندوق الوطن من جهود لتمكين الشباب الإماراتي وتطوير إمكاناتهم، وفق الرؤية الحكيمة لحكومتنا الرشيدة التي تضع شباب الإمارات في صدارة الأولويات باعتبارهم صناع المستقبل.
وأضاف أن معالي الشيخ نهيان بن مبارك أشاد بالدعم الكبير والرعاية التي تقدمها مجموعة الرستماني لمبادرة ” جسور الإماراتية “، ما يجسد الحس الوطني للقائمين على هذه المجموعة، ويجعل منهم شركاء رئيسين لصندوق الوطن في إنجاح هذه المبادرة المهمة.
وأوضح القرقاوي أن صندوق الوطن برئاسة معالي الشيخ نهيان بن مبارك حرص كل الحرص على توفير برنامج متكامل، وبيئة تدريبية مناسبة، تتيح للمشاركين التعرف على أحدث ما توصلت إليه الصناعة الألمانية، وتمثيل ثقافتهم الوطنية أثناء تواجدهم في الخارج، مشيرا إلى أن المشاركين في البرنامج يمثلون الهوية الوطنية الإماراتية، بقيمها ومكوناتها، وأن البرنامج فرصة حقيقية لهم لإكساب مهارات مختلفة في إدارة الشؤون المالية الشخصية، وإعداد الميزانية والتكيف مع بيئات العمل الأوروبية.
وأشار إلى أن خبراء برنامج “جسور الدولي” حرصوا خلال اللقاء على تعريف المشاركين من خريجي الجامعات الإماراتية بثقافة العمل، حيث يتم تنظيم برنامج متخصص لمدة أسبوعين للتدريب داخل الشركات الألمانية العاملة بالإمارات، قبل السفر إلى ألمانيا للعمل في الشركات الأم هناك، مشيرا إلى أن البرنامج يقدّم تجربة عملية متقدمة ويمنح شباب الإمارات ميزة تنافسية في سوق العمل المحلي والعالمي، خصوصًا مع تزايد الطلب على المهارات التقنية المركبة، مؤكدا التزام صندوق الوطن بإعداد جيل من رواد التكنولوجيا الإماراتيين، عبر تمكينهم من الاطلاع على التجارب العالمية، وتحويل هذه الخبرات إلى إنجازات وطنية.
من جانبهم أعرب الطلبة المشاركون في “برنامج جسور الدولي ” عن اعتزازهم بهذه الفرصة، مؤكدين عزمهم على الاستفادة القصوى من البرنامج، واكتساب المعرفة والخبرة الألمانية المتقدمة، بما يؤهلهم للحصول على فرص مهنية واعدة في سوق العمل، مشيدين بالدعم الذي يقدمه صندوق الوطن ورعاية معالي الشيخ نهيان بن مبارك للمتميزين من أبناء وبنات الإمارات.
يذكر أن برنامج “جسور الدولي” بدأ كمبادرة من فريق العمل الإماراتي الألماني للثورة الصناعية الرابعة (4IR Taskforce)، الذي تأسس عام 2020، واعتمده صندوق الوطن رسميًا في عام 2021.
وقد شهد البرنامج تطورًا ملحوظًا على مدى السنوات، على مستوى التدريب المقدم، والأعداد المرشحة، بدءًا من الدفعة الأولى التي ضمت 13 طالبًا في عام 2022، مرورًا بدفعة الثانية والثالثة، ليصل هذا العام إلى الدفعة الرابعة التي تضم 25 مشاركًا.وام


مقالات مشابهة

  • الحكومة تتخبط اجتماعياً بفرض الضرائب.. ودعم صندوق النقد مؤجل
  • خطّة اورتاغوس للتعافي في لبنان خارج صندوق النقد.. فقّاعة أم مفاجأة سارة من ترامب؟
  • هل من ضرائب جديدة؟... وزير الماليّة يكشف
  • جابر عقد اجتماعا مع ريغو وليما تحضيرا لجلسة التفاوض الأولى مع صندوق النقد الدولي
  • «صندوق الوطن» ينظم لقاءً تعريفياً ببرنامج «جسور الدولي»
  • “صندوق الوطن” ينظم لقاءً تعريفياً ببرنامج “جسور الدولي”
  • 500 مليون دولار من صندوق النقد الدولي لأوكرانيا
  • صندوق النقد الدولي يقدم دفعة مالية لأوكرانيا
  • بشأن التعيينات والمنح الماليّة للعسكريين... إليكم قرارات مجلس الوزراء
  • الهلال الأحمر الفلسطيني يناشد المجتمع الدولي بالضغط لإدخال المساعدات لغزة دون شروط