يمكننا وصف العشر الأواخر من شهر رمضان التي تمثّل الشوط الأخير من ميدان التسابق بأنّها "المعسكر التدريبيّ المكثّف لصناعة الرّجولة".
والرجولة عماد صناعتها تقوية الإرادة وزيادة التحمل ورفع مستوى الجهد والتخلي عن العادات، وكل هذا هو ما يتمّ في الدورة المكثفة في العشر الأواخر من شهر رمضان.
ولو تأملنا الأحاديث التي جاءت في العشر الأواخر من شهر رمضان لوجدناها تحمل معالم صناعة الرّجولة، فقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره"، و"زاد مسلم: وجَدَّ وشد مئزره".
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ".
ولقد روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ". والاعتكاف هو لزوم المسجد والمكث فيه لطاعة الله تعالى.
هذه المعاني تحتاج إلى رجولة، التشمير للعبادة، والزيادة فيها، واعتزال الشهوات لأجل التفرغ للعبادة، فكل هذا تدريب عملي على صناعة الرجولة
وأمّا معالم صناعة الرجولة في العشر الأواخر من رمضان كما رسمتها الأحاديث وصاغها فعل وسلوك النبيّ صلى الله عليه وسلم، والذي هو تشريع إلهيّ ووحيٌ من عند الله يوحى إليه به فما ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه، فهي كالآتي:
المَعلَم الأوّل: إحياء الليل
وهذا يحتاج إلى الرجولة في مسارين اثنين؛ رجولة نفس ورجولة بدن، أما رجولة النفس فهي التي يغالب فيها الإنسان أهواءه وشهواته، ويتغلب فيها على الدعة والرّاحة والسكون، وينتصر فيها على رغباته في زيادة النوم وإطالة الرّاحة، فمن الشباب اليوم من يبرع في رفع الأثقال ولعب الحديد وصناعة العضلات وبناء الرشاقة في النوادي الرياضيّة، لكنه لا يستطيع رفع لحافه عنه ليقوم بين يدي الله في ساعة من الليل، وما ذلك لضعف بدنه بل لاستسلام جسده لرغبات نفسه وأهوائها.. ورجولة بدن؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورم قدماه، ويعلل ذلك عند سؤال عائشة له عن هذا الجهد وقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر؛ "يا عائشة؛ أفلا أكون عبدا شكورا؟".
ولقد تربّت الأجيال التي عاشت في مدرسة النبوّة بحق على معاني رجولة النفس والبدن معا؛ فها هو أبو مسلم الخولاني رحمه الله يقدم نموذجا تطبيقيا في هذه الصناعة؛ فقد كان حازما مع نفسه، وقد علق سوطا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفا إلى الله حتى يكون الكَلَل منك لا مني؛ فإذا فتر وكَلَّ وتعب تناول سوطه وضرب ساقه، ثم قال: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟! كلا! والله لنزاحمنَّهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالا.
المَعلَم الثّاني: إيقاظ الأهل
وصناعة الرجولة في هذا المعنى تقوم على أمرين اثنين؛ الأوّل: الشعور بالمسؤوليّة عمّن هم تحت رعايتك وولايتك، فلا يكون رجلا من يضيع مسؤوليّاته عن رعيته سواء كانت رعيته الأمة والشعب أو أسرته الصغيرة، والثاني: التطهر من الأنانيّة والخلاص الفردي بل إن من معالم الرجولة العمل للآخرين وإنقاذهم من النيران الدنيويّة والأخرويّة، وأولى الناس بذلك هم أهل المرء وخاصّته؛ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم: 6).
المَعلَم الثّالث: شدّ المئزر
يقول الإمام النووي: "اختلف العلماء في معنى "شد المئزر" فقيل: هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره، ومعناه: التشمير في العبادات، يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرت له وتفرغت، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات.
فكل هذه المعاني تحتاج إلى رجولة، التشمير للعبادة، والزيادة فيها، واعتزال الشهوات لأجل التفرغ للعبادة، فكل هذا تدريب عملي على صناعة الرجولة.
المَعلَم الرّابع: الاعتكاف
اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه
وهو معسكر مغلق داخل المسجد وانقطاع عن الناس، وهو أحد معالم صناعة الرجولة من خلال التدريب العملي على القدرة على الانقطاع عن معايش الناس ومشاغل الحياة الدنيا.
ولعلّ من أجلى التعبيرات عن تأثير الاعتكاف في صناعة الرّجولة ما قاله ابن القيّم في زاد المعاد: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفا على جمعيته على الله، ولَمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإنَّ شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى! وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثا، ويُشتته في كل واد، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه.
اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه: عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبُّه، والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسُه بالله بدلا من أنسه بالخلق، فيعده بذلك؛ لأنه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصودُ الاعتكاف الأعظم".
فهذه المعالم الأربعة لصناعة الرجولة هي التي تقوم عليها أفعال العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، فطوبى لمن خرج من هذا المعسكر التدريبي المكثف وقد حقق قسطا وافرا من صناعة الرجولة التي يحتاجها الفرد اليوم في خضم الحياة الماديّة الطاغية، وتحتاجها الأمة في ظل استنسار البغاث من الطغاة والمحتلين.
x.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه رمضان العبادات الاعتكاف رمضان اعتكاف عبادات العشر الاواخر مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العشر الأواخر من شهر رمضان صلى الله علیه وسلم على الله ر الأو
إقرأ أيضاً:
مفهوم مبدأ التعايش في الإسلام وشموليته لجميع الناس
اقتضت المشيئة الإلهية أن يكون الإسلام خاتم رسالات الله عز وجل لأهل الأرض؛ ومن ثمَّ وجب أن تعُم هذه الرسالة الخاتمة كافَّة البشر، وبهذا الاعتبار أصبح الإسلام دينًا عالميًّا، وصار الناس جميعًا أمَّةً لدعوته، مُخاطبين بهديه وشريعته، وإلى هذا المعنى يشير البيانُ القرآنيُّ الحكيم في قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28].
مبدأ التعايش السلمي في الإسلام وشموليته لجميع الناسومما يدلُّ دلالةً قاطعةً على وجود مبدأ التعايش السلمي في الإسلام؛ أنه لم ينكر الأديان السماوية التي سبقته، بل أوجب على أتباعه الإيمان بجميع كتبهم ورسلهم، وعدم التفرقة بينهم؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، كما أن تنوع الشرائع الدينية من مقتضى المشيئة الإلهيَّة التي لا تتبدل ولا تتحول؛ تصديقًا لقول الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المائدة: 48]، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].
كما إنَّ المقاصد العليا للإسلام التي تتمثل في عبادة الله عز وجل، وتزكية النفس، وعمارة الأرض، هي بمثابة الأساس الإيماني، لدعوة دائمة للتَّعايش السلمي مع غير المسلمين.
وفي هذا المعنى يقول العلامة الأستاذ الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق في كتابه "النماذج الأربعة من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التعايش مع الآخر" (ص: 6، ط. دار الفاروق): [إن الإسلام دعانا إلى التعايش السلمي مع الآخرين حتى يؤدي بدوره إلى تبادل المصالح والأفكار والمنافع وتقوية العلاقات مع الآخر، وقد كان الأمر على هذا منذ فجر الإسلام بين المسلمين وغيرهم؛ حيث جعل الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم قائمة على أُسس إيمانية مبنية على قيمة السلام، وبعيدة عن صفة العنف والطغيان] اهـ.
وإذا نظرنا إلى مفهوم التعايش من منظور الإسلام فيما يتعلق باليهود والنصارى على وجه الخصوص، نجده ينطلق من قاعدة عقائدية وجذور إيمانية، كما نلاحظ أن الإسلام يولي عناية خاصة للتعايش مع اليهود والنصارى عن سائر البشر؛ لكونهم أهل إيمان بالله عز وجل، وعلى هذا الأساس فإنَّ الإسلام بمفهومه الحضاري يستوعب كلَّ إنسانٍ ليتعايش معه، وقد طبق الصحابة رضي الله عنهم ذلك في البلاد التي قَدِموا إليها، واستطاعوا غرس هذا المفهوم بوضوح.
التعايش في الإسلام
ولعل من أبرز صور البرِّ بأهل الكتاب ما أوجبه الله تعالى على المسلمين ورغَّبهم فيه؛ قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وكذلك قوله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5]، فإن الأحكام الواردة في هاتين الآيتين الكريمتين، والتي تتعلق ببر أهل الكتاب، يظل العمل بمقتضاها ساريًا عبر العصور والأزمان؛ فمن المقرر أن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".